33 – البابا ثاؤذسيوس الأول – Theodosius I – الأستاذ أشرف صالح


33 - البابا ثاؤذسيوس الاول

[بطاركة القرن السادس الميلادي].

33 – البابا ثاؤذسيوس الأول - Theodosius I

م536 م - 567

مقدمة

بعد نياحة تيموثاوس، إجتمع الأساقفة والشعب الأرثوذكسي، وإتفقوا بالإجماع على إختيار "ثاؤذسيوس"، للجلوس على السِدة المرقسية، وكانت رسامته بطريركاً قد تمت وقائعها في أبيب سنة 260 ش. وسنة 536 م. ولقد كان "ثاؤذسيوس"، عالماً، حَافظاً لكُتُب الكنيسة. ولكن - بعد فترة وجيزة من إرتقاءه للكرسي الباباوي، حدث أن أثار عليه عدو الخير قوماً أشرارًا من أهل المدينة، وأخذوا فاكيوس رئيس شمامسة كنيسة الإسكندرية، ورسموه بطريركاً بمعاونة يوليانوس، الذي كان البابا تيموثاوس قد حرمه لموافقته لمجمع خلقيدونية، وفي سياق حديثنا عن تاريخ البابا ثاؤذسيوس، فسوف نورد تفاصيل سيرته كاملةَ.

وقائع رفض رسامة ثاؤذسيوس بابا للكنيسة

حدث أنه بعد فترة وجيزة من جلوس "البابا ثاؤذسيوس" على الكرسي الباباوي المرقسي، أن جاء رسل الملك إلى الإسكندرية، وحال وصولهم أخبرهم الوالي وكل من نال رشوة من فاكيوس أن رسامة فاكيوس حق، وأنه هو الأولى في الرسامة. غير أن قولهم لم يثبت إذ إجتمع نحو مائة وعشرين رجلًا من الكهنة ومقدمي المدينة وكتبوا تقرير يعترفون فيه بقانونية بطريركية ثيؤدوسيوس في أبيب سنة 260 ش. وسنة 536 م. في عهد يوستنيانوس قيصر الأول.

وأجمعت كلمة الكل على صحتها، وأنه تقدمت رسامتة قيانوس بشهرين، وبينما هم يبحثون، حضر قيانوس بنفسه أمام تلك الهيئة، وإعترف بالحقيقية طالبًا الصفح عن تعديه، ووضع توقيعه مع المعترفين، وصرَّح بأنه خادم مطيع للبابا ثيؤدوسيوس وأنه يرتضى بأن يكون أرش ذياكون كما كان.

عودة البابا إلى كرسيه وحروب ما بعد العودة

أولاً - محاربة الإمبراطور الخليقدوني للبابا ثيؤذسيوس

لقد فرح شعب الكنيسة الأرثوذكسية بعودة البابا: "ثاؤذسيوس الأول" إلى كرسية البابوي فرحاً عظيماً، مُمجدين الله على نُصرته له في هذه الشدائد، وعودته سالماً إلى كنيسته ليرعاها ويقوم على خدمتها. ولكن - حدث بعد ذلك، أن شعر القيصر بالخطر على أفكاره الخلقيدونية من الإندثار والزوال، وقال في نفسه: "هوذا أنا سلمت كرسي الإسكندرية لثيؤدوسيوس، ولكني لا أضمن مساعدته لي على تعميم عقيدتي، وماذا لو أضيفت إلى كرسيه جميع ولايات أفريقية"؟!. وفي الحال - أملى عليه الشيطان كتابًا لوالى الإسكندرية وقسيسيها وللبابا ثيؤذوسيوس ليجتذبه إلى إعتقاد مجمع خلقيدونية، وطومس لاون ويساعده على نشره. ووعده مكافأة على ذلك أن يمنحه كرسي البطريركية والولاية في مصر، ويكون جميع أساقفة أفريقية تحت طاعته.

ثم هدده بأنه إذا لم يطع، ولم يرضى فليخرج من البيعة ليمضى إلى حيث يشاء، فلما قرأ البابا المجاهد البطريرك ثيؤدوسيوس كتاب القيصر هتف أمام رسل الملك والوالي والجمع المحتشد قائلا: إن إبليس أخذ السيد المخلص وأصعده على الجبل العالي، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: "هذا أعطيك إذا أن سجدت لي". هكذا أنتم أتيتم تعدوني بأن أصير غريبًا عن السيد المسيح الملك الحقيقي حُبا في مجد الدنيا الباطل، ثم رفع يديه أمام الجميع، ثم قال للوالي ولجميع الجيش الخاص بالقيصر: "ليس لمولاكم سلطان إلا على جسدي الفاني، ولكن نفسي في يد مخلصي. والآن هوذا البيعة وكل ما فيها أمامكم ومهما أمرتم، فإفعلوه، أما أنا، فتابع لإيمان الذين تقدموني: أثناسيوس وكيرلس وديسقوروس وغيرهم، الذين صرت أنا نائبًا لهم بغير إستحقاق". ثم قام وخرج قائلًا: "مَنْ يحب الله فليتبعني"، فخرج وراءه الأرثوذكسيين، ولم يشأ الوالي أن يقبض عليه، بل تركه يذهب إلى حيث يشاء كأمر القيصر. فخرج من المدينة وقوة السيد المسيح ترشده، بل أن الوالي نفسه اهتم بأمره وأعد له كل ما يحتاج إليه، وحمله في مركب إلى صعيد مصر، حيث أقام أربع سنين يُعَلِّم الشعب والكهنة والرهبان في الديارات ويثبتهم على الأمانة الأرثوذكسية، ويصبرهم على احتمال الاضطهاد حتى الموت.

أما رسل القيصر، فرجعوا إليه، وأعلموه بالخبر، فإندهش هو وجميع رجال بلاطه من ثبات ثيؤدوسيوس على أمانته ورفضه كل تلك الهبات.

ثانياً - نفي البابا تجليس بطريركاً خلقيدونياً للكنيسة القبطية

وأقام القيصر رجلا يدعى بولس النيسي عوضا عنه، وكان هذا الرجل أجنبياً عن مصر من شباودب في طرسوس، وبدون أن يعلم المصريون عن أصله شيئًا، رسمه القيصر في القسطنطينية، فصار هذا الرسم قاعدة البطاركة الملكيين أن يرسموا بالقسطنطينية ويسيروا للإسكندرية، وقد تم هذا كله سنه 541 م. وجاء بولس إلى الإسكندرية تحرسه قوة عسكرية هائلة، ولكن المصريون لم يقبلوه ولم يحبوا وجوده بطريركا عليهم، وكانوا يلقبونه (يهوذا الثاني)، ولم يكونوا يعرفون لهم بطريركا أخر سوى ثيؤدوسيوس المنفي الذي كانوا يطيعونه ويخضعون لأوامره التي كان يرسلها إليهم.

ثالثاً - فترة ضيق الأقباط بسبب الكرسي الباباوي المُغتصب

لقد تضمنت فترة الضيق هذه مايلي من أحداث مؤسفة عاشتها الكنيسة القبطية: 1 - إغلاق الكنائس الأرثوذكسية في عموم مصر لقد أستمر بولس سنة على هذا المنوال، حتى إضطر أخيرًا أن يخبر القيصر بأن المصريين يهربون منه، كما يهرب الحمل من الذنب، فرد عليه القيصر بكتاب يأمره فيه أن يغلق أبواب البيعة التي بمدينة الإسكندرية، ويختم عليها حراساً حتى لا يدخلها أحد مطلقاً. 2 - بناء كنائس خلقيدونية.

في إطار الإضطهاد الخلقيدوني للكنيسة القبطية، والذي وصل إلى ذروته في فترة جلوسا البابا "ثيؤدوسيوس الأول"، أمر الإمبراطور بإغلاق الكنائس الأرثوذكسية، حتى يخضعوا للبطريرك الذي عينه الملك، فبني المؤمنون كنيسة علي إسم القديس مرقس خارج المدينة، وأخري علي إسم القديسين قزمان ودميان، وكانوا يتقربون فيهما ويعمدون أولادهم.

وقد أخذ بولس من الرئاسة بوضع يده على الكنيسة الكبرى، المُسماة بالكنيسة القيصرية، ثم إستحوذ بمساعدة الجيش على عدة كنائس مهمة غيرها. أما المسيحيون - فلما سمعوا بأمر إغلاق الكنائس، حزنوا حزنًا مفرطًا ومكثوا سنه كاملة بدون أن يصلوا في الكنيسة! ولم يكن يعزيهم سوى كتب بطريركهم المنفي التي كانت تَرِد إليهم بين آن وآخر. ولما زاد قلقهم إجتمعوا، وتشاوروا على بناء بيعة، فتم لهم ذلك وبنوها بقوة السيد المسيح غربي الإسكندرية، ثم بنوا كنيسة أخرى غربي الأعمدة على إسمي قزمان ودميان. وبنوا كنائس أخرى سموا إحداها الكنيسة الملائكية كما في الكنيسة القيصرية، فلما علم بذلك القيصر فتح جميع الكنائس وجعلها تحت سلطان الخلقيدونين. فلما علم البابا ثيؤدوسيوس، ناح وبكى وطلب الرب من أجل ثبات أمانة شعبة. وكان يصلى ويقول: "يا ربى يسوع المسيح أنت اشتريت هذا بدمك الشريف، وأنت الملهم بهم فلا تتخلَّ عنهم، بل لترعهم عنايتك".

ولما سمع الملك بذلك، عاد، فأمر بفتح الكنائس، فلما سمع البابا ثيؤدوسيوس بهذا الأمر، خشي أن يكون الملك قد قصد بذلك أن يستميلهم، فكتب لهم رسالة يثبتهم علي الإيمان المستقيم ويحذرهم من خداع ذلك المخالف.

3 - إضطهاد البطريرك الدخيل "بولس" للأقباط في مصر

ولم يكن بولس البطريرك الدخيل مبغوضًا من المصرين، فقط بل من بعض الرومانيين أيضًا بالنسبة لدناءة أعماله. إيلياس.

ولما رأى قوة القوم تحت يده فشرع في أن ينتقم من الجميع، فنقل إيلياس قائد جنود الوجه القبلي إلى مكان آخر حتى يضعف من قوة الأقباط في الصعيد، فشعر بيؤس أحد شمامسة الكنيسة الإسكندرية بالأمر، فأرسل كتابا لايلياس يخبره به، فوقع الكتاب في يد أحد اتباع بولس فجاءه به.

4 - عدالة السماء تقتص من أعداء الكنيسة القبطية

ولذلك أمر بولس بالقبض على الشماس المسكين متهمًا إياه بإهمال مصلحة الكنيسة، وتبذير إيرادها، وسلمه إلى عهدة درون والي مصر، فأستمر يعذبه إلى أن اسلم روحه، فرفع أقرباء الشماس بيؤس دعواهم إلى القيصر، فأمر بعزل درون الوالي، وعين بدله ليهريوس الذي أمر بالتحقيق في قضية بيؤس، فأسفر التحقيق عن إدانة بولس ودرون الوالى فحُكِمَ بالإعدام على درون، وبالنفي لبولس. وحكم عليه بالعزل والحِرمان من بطريركيتي إنطاكية وأورشليم.

وعين القيصر عوضه رجلًا يدعى زيلوس، ولم يكن لهذا البطريرك أي اعتبار وعاملة الأقباط بنفس معاملة بولس غير معترفين بأحد رئيسًا عليهم سوى ثيؤدوسيوس. وحيث أن يوستينوس قيصر توفي وملك عوضه يوستنيانوس، وكان أشد كرهًا للأرثوذكسيين، غير أنه في مبدأه نهج منهجًا يختلف عن خطة سلفه، وأظهر لينًا نحوهم، وأمر بإستحضار ثيؤدوسيوس من منفاه، وترك له نوع من الحرية. وإذ خاف لئلا يؤول ذلك إلى تعميم للأرثوذكسية، تظاهر بأنه يريد عقد مجمع بالقسطنطينية ينهى فيه القضايا، ووعد البابا بأن لا يلحقه أذى، وأوصى حامل الرسالة أن ينطلق به حتى تقدمه إلى العاصمة.

وقائع النفي والنياحة في المنفى

لما رُسِمَ فاكيوس، نفوا البابا ثاؤدسيوس إلى جرسيمانوس، وكان القديس ساويرس الأنطاكي يقيم في سخا من بلاد مصر، وكان يعزيه ويصبره ذاكرا له ما جرى للرسل وليوحنا ذهبي الفم. وبعد ستة أشهر من نفيٌه، ذهب إلى مليج، وأقام بها سنتين وبعد ذلك تقدم أهل الإسكندرية إلى الوالي، وطلبوا منه أن يأمر بإعادة راعيهم الشرعي وطرد فاكيوس الدخيل، ووصل الخبر إلى الملك يوستينيانوس والملكة المحبة للإله ثاؤذورا. فأرسلت تسأل عن صحة رسامة البابا ثاؤذسيوس حتى إذا كانت طبق القانون يتسلم كرسيه، فعقدوا مجمعا من الشعب ومائة وعشرين كاهنًا، وأجمعوا علي أن ثاؤدسيوس رسم باتفاق الأساقفة والشعب وفقًا للقانون. وكان فاكيوس حاضرًا في المجمع فوقف معترفًا بأنه هو المعتدي، وطلب مسامحته علي أن يبقي رئيس شمامسة كما كان قبلا وأرسلوا للملكة بذلك غير أنه لما كان الملك موافقا علي المُعتقد غير الصحيح، فكتب إلى نائبه في الإسكندرية يقول: "إذا اتفق معنا البطريرك ثاؤدسيوس في الإيمان فتضاف إليه مع البطريركية الولاية علي الإسكندرية وإذ لم يوافق يخرج من المدينة"، فلما سمع البطريرك هذا القول قال: "هكذا الشيطان قال للسيد المسيح بعد ما أراه جميع مماليك العالم ومجدها أعطيك هذه جميعها أن خررت وسجدت لي" (مت 4: 8 و9)، ثم خرج من المدينة ومضي إلى الصعيد، وأقام هناك يثبت المؤمنين. ثم إستدعاه الملك إلى القسطنطينية، فذهب إليها مع بعض الكهنة العلماء، فتلقاه الملك بإكرام عظيم، وأجلسه في مكان ممتاز وأخذ يتملقه ويخاطبه بلطف لكي يوافق علي معتقد مجمع خلقيدونية وإذ لم يوافقه نفاه إلى صعيد مصر، وأقام عوضاً عنه شخصًا يسمي بولس فلما وصل هذا إلى الإسكندرية، لم يقبله أهلها، ولبث سنة لم يتقرب إليه إلا نفر قليل. فعزم البطريرك على مقابلة القيصر وإستعان بقوة السيد المسيح، ولما دخل إلى القيصر وإمرأته، وعاينوا سكينته وتواضعه وفضله، إستقبلوه حسنا. ثم كلمة بكل رقة ليستميله إلى جانب مجمع خلقيدونية ولكنه لم يفلح في تغيير عقيدته. ولما تقابل معه البطريرك الثالث دفعه وأخذ يَعِدْهُ بالكرامة أن هو أطاع رأيه، فقال له "لا حياة ولا موت ولا غلاء ولا سيف يصد قلبي عن أمانة آبائي"، فغضب عليه الملك وألقاه في السجن بالقسطنطينية مرة أخرى، وبعد ذلك نفاه. وقد إستمر في المنفي حتى أدركته المنية، فرقد في الرب بعد أن قضى مدة أثنين وثلاثين سنة بطريركًا، صرف منها 28 سنة في أماكن النفي ووضع من المقالات والتعليم في مدة بطريركيته الشيء الكثير.


الموضوع الأصلي متاح من خلال موقع المؤلف هنا https://kingdomoftheearth.blogspot.com/

التاريخ القبطي عبر العصور - الأستاذ أشرف صالح
التاريخ القبطي عبر العصور - الأستاذ أشرف صالح