اَلأَصْحَاحُ التَّاسِعُ عَشَرَ – سفر أخبار الأيام الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 14- تفسير سفر أخبار الأيام الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

اَلأَصْحَاحُ التَّاسِعُ عَشَرَ

عودة إلى أورشليم.

ما ورد في هذا الأصحاح لم يرد في الأسفار الأخرى، بما فيه لقاء يهوشافاط مع ياهو النبي [1 - 3]، وإصلاحاته القضائية، بجانب تعليم الشعب شريعة الرب بواسطة اللاويين تحت إشراف رئيس الكهنة.

لم يذكر أخبار الأيام العمل الثاني الخطير في عدم أمانته، فبعد اتحاده مع أخآب ضد آرام، يعود فيتَّحِد مع يهورام بن أخآب ضد موآب (2 مل 3).

يا له من قلب أمين ليهوشافاط، فقد طلب أن يستشير الله بعد ما سلك حسب إرادته الذاتية في تحالفه مع أخآب ومصاهرته له دون استشارة الرب.

حلَّ الغضب على يهوشافاط، لكنه في حُبِّه لشعبه لم يرد أن يحلَّ الغضب عليهم. هذا يُذَكِّرنا بكلمات داود النبي عند بيدر أرونا اليبوسي (1 أي 21: 17).

1. رجوعه بسلام إلى أورشليم 1.

2. توبيخه على تحالفه مع أخآب 2 - 3.

3. اهتمامه بإصلاح المملكة 4.

4. تعليماته للقضاة في المحاكم الصغرى 5 - 7.

5. تعليماته للقضاة في المحاكم العليا 8 - 11.

العدد 1

1. رجوعه بسلام إلى أورشليم

وَرَجَعَ يَهُوشَافَاطُ مَلِكُ يَهُوذَا إِلَى بَيْتِهِ بِسَلاَمٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ. [1].

إن كان يهوشافاط قد أخطأ، لأنه صاهر أخآب الشرير، وتحالف معه، فقد أَدَّبه الرب، وتَعَرَّضت حياته للخطر، لكن الله تعطَّف عليه، ورَدَّه إلى أورشليم سالمًا. لقد حدث له أفضل مما كان يتوقَّع، لأجل نقاوة قلبه، وشوقه الحقيقي للالتصاق بالرب، وجهاده من أجل خلاص شعبه.

هكذا يليق بنا بالرغم من ضعفاتنا أن نشتهي اللقاء مع الله، ونطلب منه أن يجعل الخطية مُرَّة في فمنا حتى بالتأديبات الصادرة عنه كمحبٍ لخلاصنا ومجدنا، فتقود قلوبنا إلى أورشليم العليا في سلامٍ حقيقيٍ، تمارس عربون السماء.

من يقدر أن يصف مشاعر يهوشافاط وقد عاد إلى أورشليم مدينة الله، حاسبًا إيَّاها مدينته وبيته.

يشتهى الله أن يُقِيمَ من أعماقك، ليس فقط فردوسًا سماويًا، وإنما مدينة مُقَدَّسة له، وهيكلاً خاصًا به، فيجعل من أعماقك أورشليم جديدة، بها هيكل ليس من صُنْعِ يدٍ بشريةٍ، بل من عمل يديه هو.

في كل العصور صارت زيارة أورشليم والأراضي المقدسة التي سار فيها السيد المسيح وتَمَّم عمله الخلاصي شهوة قلب المؤمنين، غير أن القديس جيروم، وهو لا يُقَلِّل من قُدْسِية هذه الأماكن المقدسة ينطلق بأنظارنا نحو أورشليمنا الداخلية.

أنطونيوس وطغمات رهبان مصر وما بين النهرين وبنطس وكبادوكية وأرمينيا لم ينظروا أورشليم، لكن انفتح لهم باب الفردوس.

الطوباوي هيلاريون مع كونه من مواطني فلسطين وسكانها لم ينظر أورشليم سوى يومًا واحدًا، إذ لم يرغب وهو قريب من الأماكن المقدسة أن يتجاهلها، وفي نفس الوقت لم يرد أن يحصر الله بحدود مكانية محلية[171].

  • تأمل كيف أن هذا الهيكل هو مثال للهيكل السماوي، لأن نجمًا يفضل عن نجمٍ في المجد، هكذا أيضًا في القيامة من الأموات (1 كو 15: 41، 42). طوبى للإنسان الذي يستحق أن يوجد على الدرجة الخامسة عشرة في أورشليم السماوية في الهيكل، فإن هذا العلو سام، أظنه هو موضع الرسل والشهداء.

إذن لنُصَلِّ لكي نتأهَّل فنوجد على الأقل على أقل درجات هيكل الرب.

إنهم يقفون على درجات الهيكل المختلفة لكي يترنموا معًا في وحدة بمزمورٍ واحدٍ وتشكراتٍ واحدة للرب.

الأماكن مختلفة، لكن تسبيح الرب (تمجيده) واحد.

هذا بخصوص أورشليم السماوية، أما بالنسبة للحاضر، فإننا قد وُجِدنا في هذا العالم لكي نتأدَّب كما أظن كل يومٍ من أيام حياتنا.

يوجد أحدنا على الدرجة الأولى، فليتشجَّع ليبلغ الدرجة التالية. يوجد آخر على الدرجة الثانية، لا يفقد رجاءه في بلوغ الدرجة الثالثة!

طوبى للشهداء الذين تأهَّلوا أن يصعدوا أعلى الدرجات في القمة عينها، أما نحن إذ نعيش في هذا العالم لا نقدر أن نصعد كل الدرجات دفعة واحدة من أسفل الدرجات إلى أعلاها، إنما يليق بنا ألا نتوقَّف عند البقاء على الدرجة الأولى، بل لنصارع لنبلغ الدرجات العليا...

أظن هذا هو معنى سلم يعقوب الذي رآه حينما هرب يعقوب من عيسو أخيه[172].

القديس جيروم.

  • أغلقي أبوابك يا أورشليم، وليبقَ عريسك في داخلك.

سدِّي نوافذك، لتستمر رائحة أطيابه.

عندما تُفتَح أبوابكِ وتنظرين إلي هنا وهناك، تطلبينه وليس هو (نش 3: 2). تصبغين وجنتيك بالدموع فلا تجدينه...

احرسي أبوابك باحتراز، لئلا يعرض لكِ ثانيةً ما حلَّ بكِ سابقًا (يو 19: 17). فإن لم تفعلي هذا تُسَلِّميه إلي أيدي الوقحين[173].

  • طوبي لمن كان مذبحه في ذاته، وقدس أقداسه في داخله؛ هناك يسمع الله الذي يخيف كل العصاة بحركة منه ويرعبهم.

هناك يُرَي الغمام ذو النور الوفير الإشراق. ففيه هو مختبئ عن كل رؤية وعن كل الناظرين.

ذاك هو البلد المقدس، حيث يُرَي قدوس القديسين أحيانًا بإشراق إشعاعاته، ويخفي رؤيته أحيانًا في ظلمة مجده بتلك الرؤية التي هي أرفع من كل رؤية ومعرفة[174].

الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي).

الأعداد 2-3

2. توبيخه على تحالفه مع أخآب

وَخَرَجَ لِلِقَائِهِ يَاهُو بْنُ حَنَانِي الرَّائِي،.

وَقَالَ لِلْمَلِكِ يَهُوشَافَاطَ:

أَتُسَاعِدُ الشِّرِّيرَ، وَتُحِبُّ مُبْغِضِي الرَّبِّ؟

فَلِذَلِكَ الْغَضَبُ عَلَيْكَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. [2].

إن كان يهوشافاط قد أخطأ بمصاهرته لأخآب الذي يُوصَف بأنه عدو الله، فإن ياهو النبي مُصَمِّم أن يَرُدَّه للسلوك بحكمةٍ وتقوى. لقد أَكَّد له النبي أن الغضب الإلهي سيحلُّ ببيته بسبب تحالفه مع أخآب الشرير.

لماذا لم يرسل الله ياهو للملك يهوشافاط قبل أن يصاهر أخآب ويلتصق به؟ لكي يؤكد لنا أنه يقدس حرية إرادة الإنسان، ولكي بتذوقه مرارة الالتصاق بالأشرار يتعلَّم درسًا، ويكون مثالاً للشعب. هذا وأراد الله أن يؤكد أن رجال الله مثل يهوشافاط لهم أخطاؤهم.

وَبَّخ حناني والد ياهو الملك آسا (16: 10)، فأمر الملك بسجنه، ورأى ياهو أباه في السجن، ومع هذا لم يخف أن يوبخ يهوشافاط الملك، فكلمة الله لا تُقَيَّد. سمع الملك له، لكنه شرب من مصاهرته لأخآب.

  • "المُساير الحكماء يصير حكيمًا، ورفيق الجهال فيُعرف (يُضر)" (أم ١٣: ٢٠). إذ يليق بنا ألا نجري مع لصٍ، ولا نجعل نصيبًا مع زانٍ، إذ يقول داود: "ألا أبغض مبغضيك يا رب، وأمقت مقاوميك، بغضًا تامًا أبغضتهم، صاروا لي أعداء" (مز ١٣٩: ٢١، ٢٢). يُوَبِّخ الله يهوشافاط لصداقته مع أخآب، وتحالفه معه ومع أخزيا بواسطة ياهو النبي: "أتساعد الشرير وتحب مبغضي الرب، فلذلك الغضب عليك من قبل الرب" [175].

الدسقولية.

للأسف لم يقطع يهوشافاط علاقته بأخآب وأهل بيته. لقد كشف لنا سفرا الملوك ما حَلَّ بأخآب وكل أهل بيته.

غَيْرَ أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيكَ أُمُورٌ صَالِحَةٌ،.

لأَنَّكَ نَزَعْتَ السَّوَارِيَ مِنَ الأَرْضِ،.

وَهَيَّأْتَ قَلْبَكَ لِطَلَبِ الله. [3].

حقًا لقد أخطأ يهوشافاط، لكن ليس لنا أن ندين، فقد رجع يهوشافاط عن خطئه، وضاعف جهاده لخدمة الرب.

يُحَذِّرنا الرسول بولس من إدانة الساقطين، قائلاً: من أنت الذي تدين عبد غيرك. هو لمولاه يثبت أو يسقط، ولكنه سيثبت، لأن الله قادر أن يثبته "(رو 14: 4).

كما انتفع يهوشافاط من توبيخ النبي، انتفع أيضًا من مدحه له، فازداد في عمل الإصلاح.

بالرغم من أن الله لم يُسرّ بما فعله يهوشافاط، غير أنه لم يطرحه خارجًا، إذ يذكر له أنه أزال العبادة الوثنية بقلبٍ ملتهبٍ غيرة على عبادة الله، وأنه طلب الله.

  • الله وحده يدين، له أن يُبَرِّرَ وله أن يدين، هو يعرف حال كل واحدٍ منا، وإمكانياتنا وانحرافاتنا ومواهبنا وأحوالنا واستعداداتنا، فله وحده أن يدين حسب معرفته الفريدة. إنه يدين أعمال الأسقف بطريقةٍ، وأعمال رئيسٍ بطريقةٍ أخرى، يحكم على أب دير أو تلميذ له بطريقة مغايرة، الشخص القديم (الذي له خبراته ومعرفته) غير طالب الرهبنة، والمريض غير ذي الصحة السليمة. من يقدر أن يفهم كل هذه الأحكام سوى خالق كل شيءٍ والعارف بكل الأمور؟

الأب دوروثيؤس.

  • سيحكم الله في الوقت المناسب. فإن القاضي يُهَان متى نطق خادم بحكم قبل معرفة قرار الحكم الذي للقاضي[176].
  • ابسط رداءك على المُذنِب واستره، إن كنت لا تقدر أن تحتمل وتضع أوزاره على نفسك.

مار إسحق السرياني.

  • جلب حام بن نوح على نفسه اللعنة، لأنه ضحك عندما رأى عورة أبيه. أما اللذين سترا عورة أبيهما فنالا البركة[177].

القديس أمبروسيوس.

العدد 4

3. اهتمامه بإصلاح المملكة

لم يُسَجِّل لنا السفر رد فعل يهوشافاط للتحذير النبوي، غير أن يوسيفوس يعتقد بأن إصلاحاته الأخيرة تُعلِن إيجابيًا عن قبوله للتحذير، ومحاولة إصلاح ما سقط فيه. يقول يوسيفوس [عندئذ لجأ الملك إلى تقديم الشكر وذبائح لله، كما انطلق إلى كل البلاد التي تحت سلطانه، وعَلَّمَ الشعب الشرائع التي أعطاها الله لموسى، وأيضًا العبادة الواجب تقديمها لله[178].].

وَأَقَامَ يَهُوشَافَاطُ فِي أُورُشَلِيمَ.

ثُمَّ رَجَعَ وَخَرَجَ أَيْضًا بَيْنَ الشَّعْبِ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ إِلَى جَبَلِ أَفْرَايِمَ،.

وَرَدَّهُمْ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِ آبَائِهِمْ. [4].

تلامس يهوشافاط مع حنو الله عليه بالرغم من أخطائه، لذلك قَبِلَ التوبيخ برضى، ولم يتذمر ولا قاوم الله كما فعل أبوه، بل حسب تأديب الرب وتوبيخه له نوعًا من الرحمة الإلهية، لهذا عاد إلى أورشليم، ثم خرج إلى الشعب وردهم إلى الرب إله آبائهم. انطبق عليه قول سليمان الحكيم: "وَبِّخْ حكيمًا فيزداد حكمه، ويقبل التحذير" (أم 9: 8 - 9). إن كان قد طلب من الكهنة واللاويين والرؤساء تعليم الشعب، فقد خرج بنفسه ليطمئن أن العدالة تُطَبَّق عمليًا في كل مكانٍ. انطلق من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال.

لعله بذل كل جهده أن يرد الشعب من بئر سبع في الجنوب إلى جبل أفرايم في الشمال إلى الرب إله آبائهم، وحسب ذلك تكفيرًا عن زيارته لأخآب.

ربما تَعثَّر الشعب من مصاهرة يهوشافاط الصالح لأخآب الشرير، فانحرف البعض إلى عبادة الأوثان، لذلك وضع في قلبه أن يضاعف مجهوداته لإرجاعهم للرب. هكذا يليق بنا إن سبَّبنا عثرة لأحدٍ أن نبذل كل الجهد لإصلاح هذا الخطأ.

  • إنه يحثنا ألا نترك الأمر كله للصلوات المُقَدَّمة عنا دون أن نساهم نحن في شيءٍ من جانبنا.

انظروا كيف يبرز دوره هو، ألا وهو الرجاء مصدر كل صلاح. وكما يقول النبي: “لتكن رحمتك يا رب علينا، إذ نترجاك "(مز 33: 22). وكتب في موضع آخر: “اعتبروا الأجيال القديمة وانظروا، هل تَرَجَّى أحد الرب فخزي؟ (ابن سيراخ 2: 10). مرة أخري يقول الطوباوي نفسه: “الرجاء لا يخزى" (رو 5: 5). هذا هو رجاء بولس، الرجاء الذي لن يخزى قط!...

ألا تنظروا عظمة الرجاء في الله؟ يقول: مهما حدث لن أخزى، فإنهم لن يسودوا عليٌ، بل بكل جرأة كما في كل حينٍ كذلك يتعظَّم المسيح في جسدي ".

حقًا لقد توقَّعوا أن يُسقِطوا بولس في هذا الفخ، وأن يُطفِئوا كرازة الإنجيل كما لو كان لمكرهم أية قوة[179].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم.

الأعداد 5-7

4. تعليماته للقضاة في المحاكم الصغرى

وَأَقَامَ قُضَاةً فِي الأَرْضِ فِي كُلِّ مُدُنِ يَهُوذَا الْمُحَصَّنَةِ،.

فِي كُلِّ مَدِينَةٍ فَمَدِينَةٍ. [5].

سبق أن أرسل يهوشافاط مُعَلِّمين للشعب من رؤسائه كما من الكهنة واللاويين (17: 7 - 9)، الآن أقام قضاة جددًا، ربما بسبب وجود عجز في عددهم، وأرسل هيئات قضائية ثابتة في المدن الصغيرة والقرى، وأيضًا في أورشليم والمدن الكبيرة. غاية هذه الهيئات، الإشراف على تنفيذ الشرائع التي تَعَلَّمها الشعب، وردع فاعلي الإثم.

ربما وُجِدَ قبل ذلك قضاة، لكنهم أهملوا واجباتهم، أو استخف الشعب بهم، لذلك وضع نظامًا جديدًا للقضاء بمهامٍ جديدةٍ. فكانت مسئولية القضاة:

أ. حِفْظُ الشعب في عبادة الله.

ب. معاقبة الذين يكسرون الشريعة والقوانين.

ج. فض النزاعات بين الشعب.

وَقَالَ لِلْقُضَاةِ: انْظُرُوا مَا أَنْتُمْ فَاعِلُونَ،.

لأَنَّكُمْ لاَ تَقْضُونَ لِلإِنْسَانِ بَلْ لِلرَّبِّ،.

وَهُوَ مَعَكُمْ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ. [6].

حَذَّر الملك القضاة من الحُكْمِ حسب هواهم، وليس حسب الرب: "انظروا ما أنتم فاعلون، لأنكم لا تقضون للإنسان بل للرب، وهو معكم في القضاء".

طلب منهم أن يسلكوا بروح التقوى: "لتكن هيبة الرب عليكم". كما طلب منهم العدالة، فليس عند الرب ظلم ولا محاباة ولا رشوة. أَكَّد لهم الملك الالتزام بالأمانة وذلك للآتي:

أ. إنهم مُفوَّضون من الله لا الناس، فهم خُدَّامه [6].

ب. عَين الرب عليهم، وهو معهم في أمر القضاء [6].

ج. الله هو قائدهم، ومثلهم الأعظم في العدالة، فليس عنده ظلم ولا محاباة ولا رشوة [7].

د. كل خطأ يرتكبونه في القضاء، يُحسَب إثمًا ضد الرب نفسه [10].

وَالآنَ لِتَكُنْ هَيْبَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمُ.

احْذَرُوا وَافْعَلُوا.

لأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ الرَّبِّ إِلَهِنَا ظُلْمٌ وَلاَ مُحَابَاةٌ وَلاَ ارْتِشَاءٌ. [7].

اختبر يهوشافاط كيفية التعامُل مع الله. فإن من يكرم الرب يكرمه الرب، ومن يهابه يعطيه مهابة أمام الآخرين. ومن يقرض الرب خلال المساكين يرد له القرض مضاعفًا. بهذا المبدأ طلب الملك من القضاة أن يسلكوا بمهابةٍ، لا باستخدام سلطانهم البشري وإصدار أوامر مُشَدَّدة، إنما إذ يخافون الرب تحلُّ مهابة الرب عليهم.

يكشف حديث الملك للقضاة عن قلبه المملوء حبًا وإخلاصًا للرب مع مخافة الرب.

  • تحوي مخافة الرب كل تلك المتطلبات (للفرح المستمر). لأن الإنسان الذي يخاف الرب كما يليق، ويثق فيه، يجمع كل مصادر السعادة، ويقتني الينبوع الكامل للبهجة. كما أن نقطة ماء تسقط في محيط مُتَّسِع سرعان ما تختفي، هكذا مهما حلَّ بمن يخاف الرب يتبدد ويزول في محيط الفرح الهائل. حقًا إنه لأمر عجيب للغاية، فإنه مع وجود ما يُسَبِّب الحزن، تجد الإنسان متهللاً. فإنه إذ لا يوجد شيء ما يجلب حزنًا، فإن هذا المُرّ يكون بلا قيمة عنده مقابل تمتعه بالفرح الدائم[180].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم.

  • لأن قايين لم يخف الله طوعًا،.

ملكت المخافة عليه كرهًا،.

وأصبح مرتعبًا، هائمًا على وجه الأرض،.

وتحت عذاب الخوف، كان يرجو الله أن يسمح لأي إنسان يقتله،.

لكي يتخلَّص من هذه الحياة المملوءة خوفًا ورعبًا!

القديس مار فيلوكسينوس.

الأعداد 8-11

5. تعليماته للقضاة في المحاكم العليا

وَكَذَا فِي أُورُشَلِيمَ، أَقَامَ يَهُوشَافَاطُ مِنَ اللاَّوِيِّينَ وَالْكَهَنَةِ،.

وَمِنْ رُؤُوسِ آبَاءِ إِسْرَائِيلَ لِقَضَاءِ الرَّبِّ وَالدَّعَاوِي.

وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. [8].

أقام الملك محكمة عليا في أورشليم العاصمة، تُرفَع إليها الحالات المستعصية أو من يشعر بظلمٍ أو جورٍ حَلَّ به في محكمة صغرى. أقامها في أورشليم حتى يمكنه التدخُّل بنفسه فيها إن كان الأمر خطيرًا.

يُمَيِّز الملك بين "قضاء الرب" و "الدعاوي"؛ ولعلَّه يقصد بالأولى الأمور الخاصة بشريعة الرب مباشرة، والثانية تخص الخلافات بين الأفراد.

وَأَمَرَهُمْ: هَكَذَا تَفْعَلُونَ بِتَقْوَى الرَّبِّ بِأَمَانَةٍ وَقَلْبٍ كَامِلٍ. [9].

مع اهتمام الملك بانتشار العدل في مملكته، ورفع كل ظلمٍ ومحاباةٍ، رَكَّز في حديثه مع القضاة على التقوى بأمانة ونقاوة القلب أو كماله.

مع سقوط الملك في ضعفات خطيرة، مثل مصاهرته لأخآب ملك إسرائيل الشرير، غير أن تصرُّفاته وأحاديثه مع القضاة تكشف عن سمو حياته الروحية واستقامة مفاهيمه ونقاوة قلبه.

  • إنه ليس دنس الجسد بل دنس النفس الذي ينفر الله منه. إذ يقول: "طوبى للأنقياء"، فهل يقول هذا عن الجسد؟ لا بل "أنقياء القلب، فإنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). وماذا يقول النبي: "قلبًا نقيًا أخلقه فيّ يا الله" (مز 51: 10). وأيضًا: "أغسل قلبي من الشر" (إر 4: 14) [181].
  • إني أرى كثيرين يقرعون صدورهم قائلين: أخطأنا، ويظنون أن قلوبهم تنطق معهم بهذا اللفظ. أقول لهم ولأمثالهم: إنه ليس كل من يقول أخطأت، أخطأت، ينال الغفران، كما أنه ليس كل من يقول يا رب يا رب يرث ملكوت السماوات (مت 7: 21).

لأني أرى في الكتاب المقدس أن يهوذا قال أخطأت أمام كهنة اليهود وشيوخهم (مت 27: 3). كما قالها شاول الملك أمام صموئيل (1 صم 15: 24 - 34)، وقالها أيضًا داود النبي أمام ناثان، إلا أن واحدًا من هؤلاء فقط سمع الجواب الصريح بالغفران وهو داود (2 صم 12: 13). وذلك لأن داود قالها من القلب حقًا (مز 51: 1)، وهو ثابت في صلواته ونسكه كما هو واضح في سفر المزامير.

  • "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 8: 6). لاحظوا هنا أيضًا أن المكافأة روحية، فهو يدعو من بلغوا قمة الفضائل ولم يُضمِروا في نفوسهم أي شر "أنقياء"، وكذلك من يضبطون أنفسهم في كل شيءٍ، ويَتَعَفَّفون عن الشهوات. لأنه ما من شيءٍ نحتاج إليه بالأكثر لنُعَاين الله مثل هذه الفضيلة الأخيرة. حيث يقول القديس بولس الرسول أيضًا: "اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14) [182].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم.

  • لا تجعل فمك مستعدًا، بل قلبك... إذ نقبله نعرف ما نفكر فيه. نقبل فقط القليل، وننتعش في القلب. ما يقوتنا ليس ما نراه بل ما نؤمن به. لهذا فنحن لا نطلب ما يمسُّ حواسنا الخارجية، ولا نقول: "ليؤمن الذين يرون بأعينهم ويلمسون بأيديهم الرب نفسه بعد قيامته إن كان ما يُقَال هو حق إننا لم نلمسه، فلماذا نؤمن؟" [183].
  • غَيّرْ القلب، فتتغيّر الأعمال! اقتلع الشهوات واغرس المحبَّة، فكما أن الشهوة (محبّة المال) أصل كل الشرور (1 تي 6: 10) هكذا المحبّة أصل الصلاح[184].

القديس أغسطينوس.

  • قلب الإنسان ليس بالأمر الصغير؛ فإنه يقدر أن يحتضن هذا كله.

العلامة أوريجينوس.

وَفِي كُلِّ دَعْوَى تَأْتِي إِلَيْكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمُ السَّاكِنِينَ فِي مُدُنِهِمْ بَيْنَ دَمٍ وَدَمٍ.

بَيْنَ شَرِيعَةٍ وَوَصِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ فَرَائِضَ أَوْ أَحْكَامٍ حَذِّرُوهُمْ.

فَلاَ يَأْثَمُوا إِلَى الرَّبِّ، فَيَكُونَ غَضَبٌ عَلَيْكُمْ وَعَلَى إِخْوَتِكُمْ.

هَكَذَا افْعَلُوا فَلاَ تَأْثَمُوا. [10].

أعطى اهتمامًا خاصًا بالحكم في قضايا القتل، أو سفك الدم لخطورتها.

لا يقبل الله سفك دم إنسان، خاصة إن كان بريئًا. فإن من يسفك دم أخيه في البشرية، يكون كمن أساء إلى قلب خالقه مُحِب البشرية.

لا يطيق الله أن يرى الدم البريء مسفوكًا بلا ذنبٍ، إذ يقول لقايين: "صوت دم أخيك صارخ من الأرض" (تك 4: 11)، ولا يحتمل حتى سفك دم الشرير، إذ يقول: "كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه، وجعل الرب لقايين علامة، لكي لا يقتله كل من وجده" (تك 4: 14 - 15). تظهر كراهيته لسفك الدم قوله لداود النبي المحبوب لديه: "قد سفكت دمًا كثيرًا وعملت حروبًا عظيمة، فلا تبني بيتًا لاسمي" (أي 22: 8).

في شريعة مدن الملجأ (عد 35: 29 - 34) أراد الله حماية من يتسبَّب في قتل إنسانٍ عن غير عمدٍ، وهذا لا يعني التهاون مع جريمة القتل، لذلك أوضح جريمة القتل وخطورتها.

  1. إن جريمة القتل لا تثبت بشهادة إنسانٍ واحدٍ، بل أكثر من شاهد، وعقوبتها الإعدام.
  2. لا يمكن قبول فدية عن نفس القاتل المُذنِب للموت، حتى لا يظن الغني بأمواله قادر أن يقتل ويدفع فدية، إنما من يَقتِل يُقتَل.
  3. التهاون في عقاب القاتل، يُحسَب تدنيسًا للأرض التي يقيم فيها، والرب نفسه ساكن في وسطها.

وَهُوَذَا أَمَرْيَا الْكَاهِنُ الرَّأْسُ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ أُمُورِ الرَّبِّ،.

وَزَبَدْيَا بْنُ يَشْمَعِئِيلَ الرَّئِيسُ عَلَى بَيْتِ يَهُوذَا فِي كُلِّ أُمُورِ الْمَلِكِ،.

وَالْعُرَفَاءُ اللاَّوِيُّونَ أَمَامَكُمْ.

تَشَدَّدُوا وَافْعَلُوا،.

وَلْيَكُنِ الرَّبُّ مَعَ الصَّالِحِ. [11].

أقام رئيس الكهنة رئيسًا للمحكمة العليا، غالبًا في الشرائع الدينية وأمور العبادة، ورئيس الوزراء زبديا في الأمور الخاصة بالملك.

من السمات الجميلة التي تَزيَّن بها يهوشافاط، تشديد النفوس وتشجيعها للعمل بروح القوة والرجاء في الله الصالح العامل فيهم وبهم.

لقد تَعَلَّم من الرب نفسه أن يسند العاملين معه بقوله: تشدَّدوا، اعملوا، فإن الرب الصالح يعمل بكم. حديثه هذا يحمل دعوة الرب ليشوع، قائلاً له: "تَشدَّد وتَشَجَّع لا ترهب ولا ترتعب، لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب" (يش 1: 9).

وبنفس الروح يقول لإرميا النبي: "لا تَقُل إني وَلَد... لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب... فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 7 - 8، 19). بقدر ما يختفي الخادم في الله لا يخاف غيره، إذ يبقى مطمئنًا فيه، وكما يقول القديس يوحنا الدرجي: [الذي صار خادمًا لله يخاف سيده وحده، أما من لا يخاف سيده، فغالبًا ما يخاف حتى من خياله[185].].

من وحي 2 أي 19.

رُدِّني إلى أورشليم العليا!

  • كم تهلَّلتْ نفس يهوشافاط حين رجع إلى مدينتك المقدسة،.

حسب مدينتك أورشليم بيتًا له، يستريح فيه.

فإنه لن يستريح إلا في أحضانك.

في غباوة صاهر أخآب الشرير.

تُرَى هل أَغْرَته انتصاراته، أم أراد اتِّحاد المملكتين؟!

صداقته مع الشرير كادت تقضي عليه.

لكن من أجل بساطته ونقاوة قلبه أَنقذتَه،.

وعاد إلى أورشليم سالمًا!

  • من أجل محبتك له ولأجل خلاصه،.

أرسلت إليه ياهو بن حناني يُوبِّخه،.

في تواضعٍ سمع له، لأنه إنسان الله.

بذل كل الجهد، لنزع السواري من البلاد.

وسَلَّمك قلبه، لكي تُهَيّئه، فيطلبك!

  • أقام قضاة، لا ليُنَفِّذوا أوامره،.

إنما ليقضوا لك وليس لإنسانٍ ما.

دعاهم إلى مخافتك المقدسة،.

ليَتَمتَّعوا بهيبتك عليهم!

سألهم أن يقتدوا بك، يا أيها العجيب في برِّه!

فلا يظلموا أحدًا، ولا يُحابِوا ولا يَقْبَلوا رشوة!

  • سألهم أن يسلكوا بالتقوى والأمانة وكمال القلب.

فتعمل أنت فيهم وبهم، وتسود مخافتك وسط الشعب.

شدَّد عليهم أن يحفظوا شريعتك،.

ودعاهم للطاعة لوصيّتك.

وحَذَّرهم من الإثم والمعصية!

  • كما شدَّدت يشوع ودعوته ألا يرهب إنسانًا.

أعلنت له مَعِيَّتك أينما ذهب.

هكذا شدَّد يهوشافاط العاملين معه.

أَكَّد لهم أنك تشتاق أن ترافقهم يا أيها الصالح!

  • هَبْ لي يا رب قلبًا نقيًّا كداود وحفيده يهوشافاط.

ليعمل روحك فيَّ، فأشتهي أن يكون الكل قادة.

تملأ قلبي رجاءً وفرحًا وسلامًا،.

فأُقدِّم مما لك لإخوتي!

  • أعمالك يا سيدي عجيبة.

تُقِيم من الخطاة قدّيسين،.

ومن الضعفاء جبابرة بأس.

وترفعهم من المزبلة، ليجلسوا مع أشراف أشراف شعبك.

  • لك المجد يا من تعمل في كل الأجيال،.

لتُقِيم بقية مُقدَّسة تشهد لك.

وسفراء لك يسلكون بروحك القدوس!

لك المجد يا من أَعدت يهوشافاط إلى أورشليم سالمًا!

هَبْ لقلبي أن يرجع إلى أورشليمك العليا نقيًا!


[171] Epistle 58: 3.

[172] On Ps. hom 41.

[173] رسالة 4: 36.

[174] رسالة 6: 36.

[175] Constitutions of the Holy Apostles, Book 6: 3: 18.

[176] CSEL.

[177] للمؤلف: الحب الرعوي، إدانة أبي الكاهن.

[178] Antiq. 9: 1: 1.

[179] Homilies on Philippians, homily 3.

[180] Concerning the Statues, homily 18.

[181] Homilies on 2 Timothy, 6.

[182] Sermon On the Mount. تعريب: دكتور جرجس كامل يوسف.

[183] Sermons on N. T. Lessons, 62: 5.

[184] Ser. on N. T. hom 22.

[185] Ladder.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

اَلأَصْحَاحُ الْعِشْرُونَ - سفر أخبار الأيام الثاني - القمص تادرس يعقوب ملطي

اَلأَصْحَاحُ الثَّامِنُ عَشَرَ - سفر أخبار الأيام الثاني - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير أخبار الأيام الثاني الأصحاح 19
تفاسير أخبار الأيام الثاني الأصحاح 19