اَلأَصْحَاحُ السَّادِسُ – سفر أخبار الأيام الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 14- تفسير سفر أخبار الأيام الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

اَلأَصْحَاحُ السَّادِسُ

بيت الرب ومباركة الجمهور.

هذا الأصحاح يُقابِل 1 ملوك 8، لكن كل من الأصحاحين يهدف إلى غاية مُعيَّنة.

في 1 مل 8، قيل إن العيد قد امتدَّ أربعة عشر يومًا، لأنه ارتبط بعيد المظال، ودُعِي "تدشين البيت" (1 مل 8: 63). في اليوم الثامن، اليوم العظيم من العيد، صرف الملك الشعب (1 مل 8: 65 - 66). أما في أخبار الأيام، فقيل إنهم عملوا في اليوم الثامن اعتكافًا (2 أي 7: 9).

يُشِير اليوم الثامن إلى الحياة الأبدية، حيث هو اليوم الأول من الأسبوع الجديد، وكأن هذا العيد يرتبط بكل من لهم نصيب في بهجة القيامة.

إذ حلَّ مجد الرب في بيته المقدس، وأعلن عن حضوره الإلهي وسط شعبه، استغلَّ سليمان الحكيم الفرصة ليطلب لشعبه بركة الرب، كما قَدَّم صلاة إلى الرب ليتمجَّد في شعبه خلال هيكله المقدس (راجع 1 مل 8).

يمكن الرجوع إلى تفسيرنا لملوك الأول الأصحاح 8 بخصوص أقوال الآباء عن "تدشين الهيكل".

1. لقاء مع الساكن في الضباب 1 - 2.

2. الملك يبارك كل الجمهور 3 - 11.

3. صلاة أمام مذبح الرب 12 - 42.

ا. مطالبة الرب بوعوده 12 - 20.

ب. الله قاضي الشعب الرحوم 21 - 23.

ج. الله قائد الجيش ومُحَرِّر الشعب 24 - 25.

د. الله قابل التوبة 26 - 31.

ه. الله المُترفِّق بكل الشعوب 32 - 33.

و. الله المُدافِع عن مؤمنيه 34 - 39.

ز. قوة الصلاة في بيته 40 - 41.

ح. اذكر مراحم داود عبدك 42.

الأعداد 1-2

1. لقاء مع الساكن في الضباب

حِينَئِذٍ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَالَ الرَّبُّ إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي الضَّبَابِ. [1].

تمَّ بناء الهيكل، ووُضِعَ كل أثاثه المقدس، عندئذ تهيَّأ الكل بكل قلوبهم للّقاء مع الله. ركع الملك على المنبر، ووقف الكهنة عند المذبح، وتهيأ اللاويون للعمل، واجتمع الشعب بروحٍ واحد، وإذا بالجميع يتمتَّعون بلحظات رهيبة مُفرِحة. فقد أعلن الله على حضوره الإلهي ومجده، إذ امتلأ البيت بالسحاب (5: 13)، وشعر سليمان بالتصاقه بالرب. ما شغله هو أن يبارك الرب كل جمهور إسرائيل.

كان سليمان مُحِبًا لشعبه، كلما التصق بالرب، ازداد حُبُّه لشعبه، واشتهى لهم فيضًا من البركات الإلهية.

حقًا كان سليمان مُتهلِّلاً ومعتزًّا بأنه بنى للرب بيتًا، يسكن فيه إلى الأبد. بناه، لا بروح التشامخ والكبرياء، ولا لأجل مجده الذاتي مثل أحشويرش الذي أقام وليمة ليُعلِنَ عن غناه ومجده وعظمة مملكته (أس 1: 4)، فتصرَّف بغير لياقةٍ. أما سليمان فقام بهذا العمل العظيم لغايةٍ رائعةٍ، أن يُعلِنَ الله سكناه الدائم في وسط شعبه.

الله نور، فلماذا يسكن في الضباب؟ يسكن الله في سماء السماوات في النور الإلهي، حيث لا تَقْدِر عين بشرية أن تطلَّع إليه. أما هنا فيسكن في الضباب أو السحاب الكثيف حتى يمكننا أن نلتقي به، عندما يعلن ذاته في أعماق نفوسنا.

يُشِير سليمان إلى كلمات الرب لموسى النبي على جبل سيناء: "ها أنا آتٍ إليك في ظلام السحاب، لكي يسمع الشعب حينما أتكلم معك، فيؤمنوا بك إلى الأبد" (خر 19: 9؛ راجع خر 19: 16؛ تث 4: 11؛ 5: 22). لم يكن ممكنًا للشعب أن يتمتَّع بالنور الإلهي، إذ قال الرب: "لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر 33: 20).

  • الرب في الضباب، هو في النور وفي الضباب أيضًا. هو في النور بالنسبة للمبتدئين الذين يتحدَّث معهم بوضوح، لكنه بالنسبة للمُتقدِّمين يُحَدِّثهم بطريقة سرائرية Mystically، فهو لا يتحدَّث مع الرسل كما مع الجماهير، إذ يتحدث مع الرسل بطريقة سرائرية. ماذا يقول؟ "من له أذنان للسمع فليسمع" (لو 8: 8). هذا هو معنى "وضباب حوله"، أي حوله أسرار. لهذا يقول في سفر الخروج إن كل الشعب كانوا واقفين أسفل، وأما موسى وحده فصعد على جبل سيناء في ضباب سحابة ثقيل، لأن كل شعب الله غير قادر على التعرُّف على الأسرار، أما موسى فكان وحده يقدر أن يفهم. لهذا يقول الكتاب: "جعل الظلمة سترة حوله" (مز 18: 11) [44].

القدِّيس جيروم.

  • "جعل الرب الظلمة سُتْرَة حوله" (مز 11: 18). من هذا يتضح أن الأفكار عن الله المتاحة أمام الفهم البشري وبالاستحقاق الشخصي، لا تتسم بالوضوح أو التأكيد. إذ يخفي الله ذاته كما في ظلمة، عن أولئك الذين هم غير قادرين على معاينته - جزئيًا - بسبب عدم نقاء عقولهم المرتبطة "بأجساد تواضعهم" (في 21: 3) الإنسانية، وجزئيًا لقدرتهم المحدودة على إدراك الله. مما جعل النبي يشير إلى عمق العقيدة عن الله، التي هي فوق متناول نفس الروح وقد "أُغلقت" (إش 22: 22) و "خُتمت" (إش 11: 29) على كتابات إشعياء. فإذا كان الروح لم "يَفِضْ" كلام الأنبياء، فالحقائق الحبيسة لا يمكن أن تُفَضْ[45].

العلامة أوريجينوس.

وَأَنَا بَنَيْتُ لَكَ بَيْتَ سُكْنَى مَكَانًا لِسُكْنَاكَ إِلَى الأَبَدِ. [2].

تكشف هذه الأصحاحات الستة الخاصة ببناء هيكل الرب عن مفهوم الهيكل في قلب سليمان:

1. بيت الرب (6: 10)، ومسكن له (6: 2). ذُكِرَت كلمة "بيت" في الأصحاحات الثلاثة (ص 5 - 7) 37 مرة.

2. بيت البركة: يبدأ سليمان حديثه بقوله: "مبارك الرب" (6: 4)، وفي نفس الوقت يُحَوِّل سليمان وجهه ويبارك كل الجمهور (6: 3). ففي بيته يلذ له أن يسكب بركاته علينا بفيضٍ.

  • آه أيها الرب يسوع، ليتك ترفع عنا الخرنوب، وتهبنا البركات، لأنك أنت المسئول في بيت أبيك!

ليتك تَقْبَلنا عبيدًا، وإن كنا قد جئنا متأخرين؛ لأنك تَقْبَل الذين يأتون في الساعة الحاديَّة عشرة، وتدفع لهم ذات الأجرة (مت 20: 9)؛ تهبهم ذات الحياة، لكن ليس نفس المجد، فإكليل البرّ لا يُحفَظ للجميع، بل للذي يستطيع أن يقول "جاهدتُ الجهاد الحسن" (2 تي 4: 7)! [46].

القدِّيس أمبروسيوس.

3. بيت الشهادة، هذا الذي يضم تابوت الشهادة أو العهد المقام بين الله وشعبه (6: 19).

4. بيت الصلاة (6: 12 - 42): أعلن الرب نفسه على لسان إشعياء النبي أنه يفتح بيته لكل الشعوب للصلاة. "آتي بهم إلى جبل قدسي، وأفرحهم في بيت صلاتي، وتكون مُحرَقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي، لأن بيتي بيت الصلاة يُدعَى لكل الشعوب" (إش 56: 7).

وحينما أساء اليهود استخدامه، قال الرب: "مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعَى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" (مت 21: 13؛ لو 19: 46).

5. بيت التسبيح (7: 1 - 3).

الأعداد 3-11

2. الملك يبارك كل الجمهور

كان معطيًا وجهه غالبًا نحو قدس الأقداس، الآن وقد ملأ السحاب بيت الرب حوَّل وجهه نحو الشعب. أعطاهم وجهه، وفي نفس الوقت تحدَّث مع الله، لكي يتمجَّد الله بمباركته لشعبه.

وَحَوَّلَ الْمَلِكُ وَجْهَهُ،.

وَبَارَكَ كُلَّ جُمْهُورِ إِسْرَائِيلَ،.

وَكُلَّ جُمْهُورِ إِسْرَائِيلَ وَاقِفٌ. [3].

عادة يبارك الكاهن الشعب (عد 6: 22 - 27)، ولكن في ظروف خاصة مثل هذه الظروف يستطيع الملك أن يبارك كما فعل داود (2 صم 6: 18، 20). بارك سليمان الاجتماع كله، ومن خلالهم بارك كل الأمة.

نرى سليمان على منبره، الذي قام على صورة المذبح في البرية، يُصَلِّي عن الشعب، ويُسَبِّح الله كنائبٍ عنهم، شفيعًا ومحاميًا عن شعبه أكثر من كونه ملكًا يصدر أوامر يطيعها الشعب.

لقد جثا على ركبتيه على المنبر وبسط يديه نحو السماء، وصَلَّى من أجل شعبه. إنه رمز للشفيع الإلهي الذي قيل عنه: "إن أخطأ أحد، فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 1 - 2).

يليق بكل مؤمنٍ حقيقيٍ، حتى إن كان طفلاً صغيرًا، أن يُصَلِّي من أجل كل البشرية، لأنها محبوبة لديه جدًا، ويطلب لهم البركات السماوية. إنه يحمل روح إلهه "الذي يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4).

وَقَالَ: مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَلَّمَ بِفَمِهِ دَاوُدَ أَبِي،.

وَأَكْمَلَ بِيَدَيْهِ قَائِلاً: [4].

يرى البعض أن أفضل ترجمة لتعبير "مبارك الرب" هنا هو "الشكر للرب". قَدَّم الشكر لله على اختياره أورشليم مدينة الله، واختياره داود، واختياره له (سليمان) أن يبني بيت الرب[47].

يعترف سليمان في صلاته لمباركة شعبه، أن هذا العمل العظيم هو عطية إلهية، لا فضل له فيها، إذ يقول: "مبارك الرب إله إسرائيل الذي كلم بفمه داود أبي" [4]. هو عطية إله إسرائيل لأبيه. في تواضعٍ يؤكد أن الفضل الأول هو لله واهب هذه العطية لا أبيه. وأن أباه أَعَدَّ العمل ودبَّر الكثير، وكأنه الغارس، وسليمان سقى ما غرسه أبوه.

يتمسَّك المؤمن بوعود الله التي لن تخيب مُطلَقًا، إذ هو أمين (1 يو 1: 9). لقد كان مع إبراهيم خلال حياته، ووعد أن يكون مع إسحق (تك 26: 3؛ 24)، ومع يعقوب (تك 28: 15؛ 31: 3؛ 46: 1 - 4).

جَدَّد الوعد مع موسى (خر 3: 12؛ 33: 14). وكَرَّر ذلك مع يشوع (يش 1: 5 - 9؛ 3: 7؛ 6: 27).

ووعد أيضًا جدعون (قض 6: 15 - 16)، وكَرَّر صموئيل الوعد للأمة (1 صم 12: 22). شَجَّع داود ابنه سليمان بهذا الوعد عندما سَلَّمه مسئولية بناء الهيكل (1 أي 28: 20) [48].

حسن بالمؤمن ألا يتجاهل فضل السابقين واللاحقين له، فيقول مع الرسول بولس: "أنا غرستُ وأبولُّس سقى، والله هو الذي ينمي" (1 كو 3: 7).

"الذي كلَّم بفمه داود أبي": يرجع سليمان إلى التاريخ في حديثه مع شعبه كما في صلاته لله، فالماضي بالنسبة له أساس حي يبني عليه إيمانه بالله وعلاقته به.

هكذا يليق بنا نحن كمؤمنين أن نحسب اختيار الله لإبراهيم أبًا لأممٍ كثيرة وموسى كمُستلِم للشريعة وداود كملكٍ لشعبه وسليمان كبانٍ لبيت الله، إنما من أجلنا ولحسابنا. اختارنا نحن أيضًا أبناء له، يُسَر بدخولنا في عهدٍ معه أو تجديد العهد معه، والتعرُّف على الرسالة التي أَعَدَّها لكل شخصٍ منّا.

مُنْذُ يَوْمَ أَخْرَجْتُ شَعْبِي مِنْ أَرْضِ مِصْرَ،.

لَمْ أَخْتَرْ مَدِينَةً مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ لِبِنَاءِ بَيْتٍ لِيَكُونَ اسْمِي هُنَاكَ،.

وَلاَ اخْتَرْتُ رَجُلاً يَكُونُ رَئِيسًا لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ. [5].

بَلِ اخْتَرْتُ أُورُشَلِيمَ لِيَكُونَ اسْمِي فِيهَا،.

وَاخْتَرْتُ دَاوُدَ لِيَكُونَ عَلَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. [6].

ما عمله سليمان لا فضل له فيه، فقد سار العمل حسب اختيار الله وخطّته الإلهية ومعونته لأبيه وله. لقد سُرَّ الله أن تكون أورشليم مدينته، وداود ملكًا على شعبه.

وَكَانَ فِي قَلْبِ دَاوُدَ أَبِي أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لاِسْمِ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ [7].

فَقَالَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ أَبِي:

مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِكَ أَنْ تَبْنِيَ بَيْتًا لاِسْمِي،.

قَدْ أَحْسَنْتَ بِكَوْنِ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ. [8].

جاءت شهوة قلب داود أن يبني بيتًا للرب تتناغم مع إرادة الله، لكن الذي يتمم هذه الشهوة هو سليمان بن داود.

إِلاَّ أَنَّكَ أَنْتَ لاَ تَبْنِي الْبَيْتَ، بَلِ ابْنُكَ الْخَارِجُ مِنْ صُلْبِكَ،.

هُوَ يَبْنِي الْبَيْتَ لاِسْمِي. [9].

وَأَقَامَ الرَّبُّ كَلاَمَهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ،.

وَقَدْ قُمْتُ أَنَا مَكَانَ دَاوُدَ أَبِي،.

وَجَلَسْتُ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ،.

وَبَنَيْتُ الْبَيْتَ لاِسْمِ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ. [10].

وَوَضَعْتُ هُنَاكَ التَّابُوتَ الَّذِي فِيهِ عَهْدُ الرَّبِّ،.

الَّذِي قَطَعَهُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. [11].

3. صلاة أمام مذبح الرب

ركَّزَت هذه البركة على وعد الله لداود بخصوص هيكله [7، 9، 10].

يرتبط هذا الهيكل أو بيت الرب بثلاثة عهود:

العهد الأول مع إبراهيم، أُشِيرَ إليه باختيار جبل المريّا، حيث قَدَّم إبراهيم ابنه مُحرَقة ليكون موقع الهيكل (تك 17: 1).

العهد الثاني مع موسى على جبل سيناء في فترة الخروج، يشهد له تابوت العهد [11].

العهد الثالث مع داود النبي [10]، يشهد له قيام سليمان بن داود ببناء الهيكل. كثيرًا ما ربط السفر بين تابوت العهد وعرش داود. حتى في السبي البابلي حينما دُمِّرَ الهيكل وعانى تابوت العهد، دُمِّرَ عرش داود وعانى بيت داود الكثير.

الأعداد 12-20

أ. مطالبة الرب بوعوده

صنع سليمان منبرًا من النحاس، وجعله في وسط الدار، له ذات أبعاد المذبح النحاسي في خروج 27: 1. وقف سليمان على المنبر، ثم جثا على ركبتيه تجاه كل جماعة إسرائيل، بسط يديه نحو السماء وصلى (2 أي 13: 6 الخ).

كأن هذا المنبر قد ارتبط بمذبح البرية أو مذبح الخيمة، حيث يتمجد سليمان كرمزٍ للسيد المسيح.

مذبح الكفارة يشير إلى الصليب، حيث يحمل المسيح خطايا العالم ويكفر عنها، والمنبر هنا يشير إلى الجانب الآخر من الصليب، حيث يملك المصلوب في القلب، ويُعلِنُ مجد ملكوته فيه. يمكن أيضًا القول بأن مذبح البرية يشير إلى الصليب العامل في البشرية، حامل آثامهم، لكي يرفعهم إلى الأمجاد الأبدية، أما المنبر فيشير إلى عمل المصلوب القائم من الأموات، حيث لا حاجة هناك إلى مغفرة، إذ لا يرتكب أحد في السماء خطية أو إثمًا أو معصية ضد الله. بهذا فإن المذبح الذي خلاله ننال المغفرة من الله يصير عرشًا لله يملك بالبرِّ على قلوبنا.

وَوَقَفَ أَمَامَ مَذْبَحِ الرَّبِّ تُجَاهَ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ،.

وَبَسَطَ يَدَيْهِ. [12].

سجد أمام المذبح وبسط يديه [12 - 21] يطالب بحفظ الله وعده لداود. وأن يفتح الرب عينيه على هذا البيت نهارًا وليلاً.

"بسط يديه": كثيرًا ما تحدث الكتاب المقدس عن بسط اليدين، لكننا لا نجد صلاة واحدة في الكتاب المقدس بضمِّ اليدين.

بسط اليدين يحمل معانٍ كثيرة منها:

1. دعوة للالتقاء مع الغير. ففي عتاب الله لشعبه الذي أعطاه القفا لا الوجه (إر 32: 33)، يقول: "بسطت يديّ طول النهار إلى شعب مُتمرِّد" (إش 65: 2؛ رو 10: 21).

2. الشعور بأن الإنسان فارغ اليدين يترقَّب عطايا الله وبركاته. هذه مشاعر عزرا الكاهن، القائل: "وعند تقدمة المساء، قمتُ من تذلّلي وفي ثيابي وردائي الممزقة جثوت على ركبتيّ، وبسطت يديّ إلى الرب إلهي" (عز 9: 5). كما قيل:

"إن أعددت قلبك، وبسطت إليه يديك" (أي 11: 13).

"بسطت إليك يدي، نفسي نحوك كأرضٍ يابسة" (مز 143: 6).

"عينيّ ذابت من الذل، دعوتك يا رب كل يومٍ، بسطت إليك يدي" (مز 88: 9).

3. يبسط الرب يديه ليعلن عن حنوِّه ورحمته: "كما يُحَرِّك النسر عشَّه، وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه، ويأخذها ويحملها على منكبيه" (تث 32: 11).

4. التشبُّه بالسمائيين خاصة الكاروبين الذين يبسطون أجنحتهم (1 مل 6: 27؛ 8: 7).

5. يُستخدَم تعبير بسط اليدين أيضًا حينما يمدُّ كائن ما يده ليؤدب أو يؤذي آخر (مرا 1: 10).

6. بسط اليدين يحمل أيضًا رمزًا للمصلوب باسط يديه ليهب البشرية قوة الخلاص، حيث يضمُّ المؤمنين من كل الأمم، ويحملهم إلى حضن الآب. يهب النصرة على إبليس وكل قواته، كما بسط موسى يديه، ووهب إسرائيل النصرة على عماليق. قيل: "وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب، وإذا خفض يده أن عماليق يغلب" (خر 17: 11). وقف إسرائيل وعماليق في دهشةٍ حين صعد موسى على الجبل وبسط يديه، إذ نظرا معركة غريبة وفريدة. تطلَّعا إلى موسى رمز المصلوب، فاشتمَّ المؤمنون فيه رائحة الحياة، واشتمَّ العمالقة فيه رائحة الموت. وكما يقول الرسول بولس: "فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المُخلَّصين فهي قوة الله" (راجع 1 كو 1: 18). لقد ترك موسى الفريقيْن، لا ليصدر أمرًا لشعبه بالهجوم، بل يبسط يديه في صمتٍ.

يصوِّر لنا القديس مار يعقوب السروجي فاعلية بسط موسى يديه في المعركة، قائلاً:

  • أيها الجسور انتظر النهاية! لماذا تلوم؟ انتظر كمال الأمر وبعدئذ عاتب (موسى).

لا تنظر فقط إلى تركه الحرب وصعوده، بل إلى بسطه يديه، وإعطائه النصرة.

دعا تلميذه، وأمره أن يصطفَّ مُقابِل الشعب، وصعد إلى جبلٍ عالٍ ليرسم سرًّا.

أخذ المتواضع هرون وحورًا وصعدا معه (عد 12: 3)، لكي يُمَثِّلَ الصلبان الثلاثة على الجلجثة (مر 15: 27).

وضع صليبَ البأس على صدره، وبسط يدَيه، ليُصَوِّر الابنَ في فعله بأشكالٍ جليَّة.

وضع راية الصليب على الأكمة، فسقطت الشعوب، وأمال ظل (الصليب) بين الصفوف فأَرْبَكها.

كبَّت الخيول السريعة، وانهزم الرماة، وسقط الجبابرة، واندحر الفرسان، وتُعَطِّل المشاة، وقُهِرَ السلاح.

ديسَت السهام، واُحتُقِرَت السيوف، وكُسرت الرماح، وأُلقيت الدروع والمجان والتروس مع الأقواس.

لم يُصَوِّب الرماة السهام من أوتارهم، ولم يقدر الفرسان أن يهربوا على خيولهم السريعة.

لم تستر الدروع الأجسام من الضربات، ولم تنتفع الأجساد اللابسة دروع مصاغة.

أُسِرَت العجلات بقوَّادها بعجبٍ عظيمٍ، وأُصيبَتْ بالشلل مسيرة الخيول القوية بفرسانها.

شُلًّت أيادي المحاربين عن المعركة، وحلَّ السكوت مع الحيرة بين الصفوف.

رماتهم اضطربوا، وألقوا (السهام) بدون تصويب هدف، وخيولهم مطاردة وهاربة بلا نجاةٍ.

لم تحمهم تروسهم من السهام، ولا ردت مجانهم عنهم رماح محاربيهم.

لم يستفيدوا من الخوذة التي على رؤوسهم، ومن ورائهم لم يستتروا بدروعهم المُصَفَّحة.

ولم يتشجَّعوا بأفواج حاملي القلاع، ولم يتشدَّدوا ببواسل جيوشهم.

لم يعرف عماليق الشقي أين يحارب، فقد كان الصليب ضده، وهو في جنون كي ينتصر! [49].

القديس مار يعقوب السروجي.

في الحديث عن ملامح الأيقونات القبطية تحت عنوان "أيقونات تُمَثِّل رجال الصلاة[50]"، أشرتُ إلى اهتمام الفنان القبطي بتصوير بعض القديسين باسطين أياديهم للصلاة، وقَدَّمت خمسة أمثلة لذلك، كما ذكرت:

[يقول واسل إن الفنان القبطي إذ يصور قديسين، يستخدم هذه الاتجاه، أي الصلاة، فيظهرون رافعين أياديهم للصلاة لله "Orant"، كأنهم يُعلِنون أن الصلاة هي سرّ قداستهم.

نُقل هذا الاتجاه عن وضع السيد المسيح على الصليب، ويُعتبَر من أهم الحركات الطقسية للكاهن أثناء خدمة الليتورجيا. وهو الوضع الذي يفضله الشهداء والقديسون في لحظات انتقالهم إلى الفردوس، كما استخدمته الكنيسة الأولى في الصلاة، إذ يقول العلامة ترتليان: [ينظرون إلى فوق، بأيد منبسطة مفتوحة، ورأس مكشوف.].

(لأَنَّ سُلَيْمَانَ صَنَعَ مِنْبَرًا مِنْ نُحَاسٍ،.

وَجَعَلَهُ فِي وَسَطِ الدَّارِ طُولُهُ خَمْسُ أَذْرُع،.

وَعَرْضُهُ خَمْسُ أَذْرُعٍ، وَارْتِفَاعُهُ ثَلاَثُ أَذْرُعٍ،.

وَوَقَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ تُجَاهَ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ،.

وَبَسَطَ يَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ) [13].

إذ تمَّ بناء بيت الرب، لم يدعُ سليمان الملوك وقواد الجيوش والعظماء في الدولة الصديقة له ليتحدَّث عن عظمة المباني وتكلفتها، والمجهودات الضخمة التي بذلها، إنما دعا جمهور الشعب مع الكهنة والقادة لينحني ويركع ويبسط يديه، ويكشف عما في قلبه أن كل ما صُنِعَ لا يليق بعظمة الله القدير الذي لا تسعه السماوات والأرض.

لم يكن احتفاله استعراضًا لما حقَّقه من مشروعات، وما يُحَقِّقه في السنوات القادمة، إنما التقاء مع الجمهور بروح التواضع للتمتُّع بالحضرة الإلهية، وتجديد العهد مع الله الذي في تواضعه أقام عهدًا مع أبينا إبراهيم ونبيّه موسى ومرتل إسرائيل الحلو داود!

وقف على المنبر وركع وبسط يديه ليحمل رمز السيد المسيح المصلوب باسط يديه بالحب ليُحَقِّقَ المصالحة بين الآب والبشرية، ويحمل المؤمنين من كل الشعوب إلى الحياة السماوية.

وَقَالَ: أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ لاَ إِلَهَ مِثْلُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ،.

حَافِظُ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِعَبِيدِكَ السَّائِرِينَ أَمَامَكَ بِكُلِّ قُلُوبِهِمْ. [14].

لا يُضاهي الله في الكمال. كل الخلائق لها نظيرها وإخوتها من المخلوقات، أما الخالق فليس له نظير. هو فوق الجميع على الإطلاق، وعمومًا "الله مبارك إلى الأبد".

إنه أمين في وعوده ومخلص، جميع الذين يسيرون أمامه بكل قلوبهم يجدونه حافظًا للعهد معهم، ويريهم رحمة.

الَّذِي قَدْ حَفِظْتَ لِعَبْدِكَ دَاوُدَ أَبِي مَا كَلَّمْتَهُ بِهِ، فَتَكَلَّمْتَ بِفَمِكَ،.

وأَكْمَلْتَ بِيَدِكَ كَهَذَا الْيَوْمِ. [15].

وَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ احْفَظْ لِعَبْدِكَ دَاوُدَ أَبِي مَا كَلَّمْتَهُ بِهِ قَائِلاً:

لاَ يُعْدَمُ لَكَ أَمَامِي رَجُلٌ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ،.

إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ طُرُقَهُمْ حَتَّى يَسِيرُوا فِي شَرِيعَتِي،.

كَمَا سِرْتَ أَنْتَ أَمَامِي. [16].

وَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ،.

فَلْيَتَحَقَّقْ كَلاَمُكَ الَّذِي كَلَّمْتَ بِهِ عَبْدَكَ دَاوُدَ. [17].

لأَنَّهُ هَلْ يَسْكُنُ الله حَقًّا مَعَ الإِنْسَانِ عَلَى الأَرْضِ؟

هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُكَ،.

فَكَمْ بِالأَقَلِّ هَذَا الْبَيْتُ الَّذِي بَنَيْتُ! [18].

كان سليمان مغمورًا بالمشاعر، إذ يرى أن كل ما فعله يُحسَب كلا شيء وتافه! لا يليق بعظمة الله. كيف يُمكِن للقدير أن يسكن في بيت تبنيه الأيدي البشرية؟! هذه الحقيقة أشار إليها حين كتب لحيرام (2: 6)، وها هو يُعلِنها حتى في صلاته لله.

يقول الرب: "السماوات كرسيّ، والأرض موطئ قدميّ. أين البيت الذي تبنون لي؟ وأين مكان راحتي؟" (إش 66: 1). وقد أشار إستفانوس في خطابه لليهود عن ما ورد هنا على لسان سليمان وعلى لسان إشعياء النبي (أع 7: 47 - 50). وأَكَّد بولس الرسول هذه الحقيقة في كرازته للأمم (أع 17: 24).

لقد تحقق كل من سليمان وإشعياء وإستفانوس وبولس أن رغبة الرب في السكنى وسط شعبه، إنما من قبيل حُبِّه ونعمته وتواضعه.

فَالْتَفِتْ إِلَى صَلاَةِ عَبْدِكَ وَإِلَى تَضَرُّعِهِ، أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهِي،.

وَاسْمَعِ الصُّرَاخَ وَالصَّلاَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا عَبْدُكَ أَمَامَكَ. [19].

لِتَكُونَ عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ نَهَارًا وَلَيْلاً،.

عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قُلْتَ إِنَّكَ تَضَعُ اسْمَكَ فِيه، ِ.

لِتَسْمَعَ الصَّلاَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا عَبْدُكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [20].

تَطَلَّع يونان نحو الهيكل وصَلَّى، والرب غفر له (يون 2: 4)، ودانيال في أرض السبي تَطلَّع إلى أورشليم نحو الهيكل وصَلَّى من أجل الشعب (دا 6: 10).

الأعداد 21-23

ب. الله قاضي الشعب الرحوم

وَاسْمَعْ تَضَرُّعَاتِ عَبْدِكَ وَشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ،.

وَاسْمَعْ أَنْتَ مِنْ مَوْضِعِ سُكْنَاكَ مِنَ السَّمَاءِ،.

وَإِذَا سَمِعْتَ فَاغْفِرْ. [21].

  • الله موجود في كل مكان، لكنه يحب الذين يسعون إليه، ويأتون لبيته، وبالأخص الذين يتحمَّلون أتعابًا كثيرة في سبيل ذلك.

وهو في بيته مستعد لكي يسمع صلوات المحتاجين.

حنة أخذت الوعد بميلاد صموئيل النبي وهي قائمة تُصَلِّي في الهيكل.

وحنة النبية بنت فنوئيل التي مكثت نحو 84 سنة لا تُفارِق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهارًا، هذه وقفت في الهيكل تُسَبِّح الرب، وتنبأت عن ميلاد المسيح (لو 2: 36 - 38).

كذلك سمعان الشيخ أتي بالروح إلى الهيكل، وهناك رأى يسوع مع أمه، فأخذه على ذراعيه وتبارك منه قبل أن يموت (لو25: 2 - 32).

في الكنيسة تُقَدَّم ذبيحة المصالحة، حيث يجتمع الشعب، وحيث يأتي الرب حسب وعده، ليحلَّ في وسطهم.

فإذا كنت قد أغضبت الله في شيءٍ، ففي الكنيسة تتصالح معه، لأن هناك تشفع فيك أرواح القديسين، وربما أحد المؤمنين الأحياء أيضًا.

لذلك حينما تقف في الكنيسة لا تنسَ قط أنه يوجد معك من يُصَلِّي من أجلك دون أن تدري، وإذا كنت تشعر بضعف صلاتك، فتشجَّع وخُذْ لك أحد القديسين ليشفع فيك.

كثيرًا ما ندخل الكنيسة وقلوبنا باردة من جهة الصلاة، وهناك فجأة نشعر بحرارة العبادة وقوة الصلاة وما ذلك إلا معونة من القديسين ومن صلوات الكاهن أو من أحد المؤمنين المتواضعين.

وكثيرًا ما وقفنا جامدين غير مكترثين، وفجأة تلمح عيوننا أحد المُصَلِّين وقد انسكب سكيبًا في الصلاة أمام الله، فتلتهب قلوبنا بغيرةٍ مقدسةٍ، وتسري فينا حرارة الصلاة.

القديس الأسقف بوتين.

إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ إِلَى صَاحِبِهِ،.

وَوُضِعَ عَلَيْهِ حَلْفٌ لِيُحَلِّفَهُ،.

وَجَاءَ الْحَلْفُ أَمَامَ مَذْبَحِكَ فِي هَذَا الْبَيْتِ [22].

يتطلع الحكيم إلى بيت الله كمحكمةٍ مهوبةٍ، فتُعرَض القضايا بين الأشخاص فيه، فإن وقَّع إنسان حلفًا أمام المذبح، يلتزم بأن يكون صادقًا.

بدأ سليمان حُكْمَه بأن قضى بالعدل بين الزانيتين (3: 6: 16 - 28)، لكنه يستحيل أن يستلم كل القضايا التي لشعبه.

يصعب على القضاء بكل أجهزته التدخُّل في كل كبيرة وصغيرة في المشاكل القائمة في الدولة، ويصعب على الإنسان أن يتعرَّف على الحقيقة، لذا يطلب سليمان من الله الفاحص للقلوب والعارف الأمور الخفيّة أن يتدخل من أجل تحقيق العدالة ورفع الظلم عن بلده وأرضه.

فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ،.

وَاعْمَلْ وَاقْضِ بَيْنَ عَبِيدِكَ،.

إِذْ تُعَاقِبُ الْمُذْنِبَ، فَتَجْعَلُ طَرِيقَهُ عَلَى رَأْسِهِ،.

وَتُبَرِّرُ الْبَارَّ، إِذْ تُعْطِيهِ حَسَبَ بِرِّهِ. [23].

يطلب سليمان من الرب القدوس البار أن يتطلَّع إلى ما يحلُّ على الصدّيقين من ظلمٍ وجورٍ، ويقضي لهم بالحق.

الأعداد 24-25

ج. الله قائد الجيش ومُحَرِّر الشعب

يتطلع سليمان إلى تاريخ شعبه منذ خروجهم من مصر إلى آخر أيام أبيه داود، فيرى وراء كل نصرة يدّ الله القديرة، ووراء كل هزيمةٍ سقوط في الخطية وانحراف عن الحق الإلهي. غاية الهزيمة هي رجوع شعبه إلى الحق وبنيان حياتهم.

هذا العمل الإلهي لا يلغي دور الرئيس أو الملك في الاهتمام بالأمور العسكرية، وإقامة قادة حكماء وأصحاب خبرة، فإن الله لا يعمل مع المتراخين والكسالى.

من جانب آخر، فإن الله يهب النصرة، ويسمح أحيانًا بالهزيمة، ليحثّنا على إدراك المعركة الخفية بين الإنسان وإبليس.

وَإِنِ انْكَسَرَ شَعْبُكَ إِسْرَائِيلُ أَمَامَ الْعَدُوِّ،.

لأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَيْكَ ثُمَّ رَجَعُوا،.

وَاعْتَرَفُوا بِاسْمِكَ وَصَلُّوا وَتَضَرَّعُوا أَمَامَكَ نَحْوَ هَذَا الْبَيْتِ [24].

تَوَقَّع سليمان الحكيم أنه ستمر أيام صعبة على الشعب، لأنهم يسقطون في خطايا، ويحتاجون إلى تأديبٍ إلهيٍ، حتى يرجعوا إلى الله من الخطية. يطلبون الله في وقت الشدة بجدّية ويتضرعون إليه [24، 26، 28].

فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ،.

وَاغْفِرْ خَطِيَّةَ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ،.

وَأَرْجِعْهُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا لَهُمْ وَلآبَائِهِمْ. [25].

يُكَرِّر الحكيم طلبته من الله أن يرحم شعبه متى رجعوا إليه بالتوبة.

  • لنتوسل إلى مُخَلِّص نفوسنا لكي ما يُحَطِّم رباطاتنا، وينزع عنا سجننا القاسي هذا، ويهبنا التحرُّر من ثقل تلك القيود الحديدية، ويجعل أرواحنا خفيفة أكثر من أي جناح. إذ نتوسل إليه علينا أن نساهم من جانبنا بغيرةٍ متقدةٍ ساميةٍ لها اعتبارها، فإننا بهذا يمكننا في وقتٍ قصيرٍ أن نتحرر من الشرور التي تضغط علينا، وندرك حالنا الذي كنا عليه سابقًا، ونتمسك بالحرية التي صارت لنا، والتي ننالها كهبةٍ من الله، بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته للبشر، الذي له المجد والسلطان إلى الأبد. آمين[51].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

الأعداد 26-31

د. الله قابل التوبة

بفكر إنجيليٍ عمليٍ، يود القديس يوحنا الذهبي الفم ألا يُرَكِّز الإنسان على خطاياه، بل بالأكثر على واهب الملكوت، واهب الغفران. انشغال المؤمن بالسماء يرفع كل كيانه الداخلي كما بجناحي الروح القدس، فيتعرَّف على المجد المُعَد له، كما يدرك حقيقة نفسه وضعفاته. يتعرَّف على نعمة الله القادرة أن تُحَوِّل القلب من الفساد إلى عدم الفساد. بل وتُقِيِم من القلب الترابي سماءً جديدة، ومن البشر شِبْه ملائكة.

إِذَا أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَطَرٌ، لأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَيْكَ،.

ثُمَّ صَلُّوا فِي هَذَا الْمَكَانِ،.

وَاعْتَرَفُوا بِاسْمِكَ، وَرَجَعُوا عَنْ خَطِيَّتِهِمْ،.

لأَنَّكَ ضَايَقْتَهُمْ [26].

فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ،.

وَاغْفِرْ خَطِيَّةَ عَبِيدِكَ وَشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ،.

فَتُعَلِّمَهُمُ الطَّرِيقَ الصَّالِحَ الَّذِي يَسْلُكُونَ فِيهِ،.

وَأَعْطِ مَطَرًا عَلَى أَرْضِكَ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا لِشَعْبِكَ مِيرَاثًا. [27].

"ويا بني صهيون، ابتهجوا وافرحوا بالرب إلهكم، لأنه يعطيكم المطر المبكر على حقه، وينزل عليكم مطرًا مبكرًا ومتأخرًا في أول الوقت" (يؤ 2: 23).

"فتأنوا أيها الإخوة إلى مجيء الرب، هوذا الفلاح ينتظر ثمر الأرض الثمين، متأنيًا عليه حتى ينال المطر المبكر والمتأخر" (يع 5: 7).

هذا هو المطر الذي وعد السيد المسيح تلاميذه أن يرسله إليهم من عند الآب علامة حُبِّه لهم واهتمامه بهم، وكما جاء في الأمثال: "في نور وجه الملك حياة، ورضاه كسحاب المطر المتأخر" (أم 16: 15). ويقول هوشع النبي: "خروجه يقين الفجر، يأتي علينا كالمطر، كمطرٍ متأخر يسقي الأرض" (هو 6: 3). ويسألنا زكريا النبي أن نطلب هذا المطر المتأخر ليعمل في حياتنا: "اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر، فيصنع الرب بروقًا، ويعطيهم مطر الوابل، لكل إنسانٍ عشبًا في الحقل" (زك 10: 1). هذه هي عطية الله العظمى: "لنخف الرب إلهنا، الذي يعطي المطر المبكر والمتأخر في وقته، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة" (إر 5: 24).

  • يُعطِي القدير مطرًا على الأرض، عندما يروي قلوب الأمم الجافة بنعمة الكرازة السماوية، ويرسل المياه على كل الأشياء، إذ بملء الروح يُحَوِّل عقم الإنسان المفقود إلى الإثمار، كما يقول الحق نفسه بشفتيه: "من يشرب من الماء الذي أنا أعطيه لن يعطش" (يو 14: 4).

البابا غريغوريوس (الكبير).

  • المطر واحد بعينه ينزل على كل العالم، لكنه يصير أبيض في السوسنة، وأحمر في الوردة، وأرجواني في البنفسج والزنابق الأرجوانية اللون، يصير ألوانًا كثيرة متباينة في أطياب متنوعة.

هو في النخلة شيء، وفي الكرمة شيء آخر، وهو الكل في كل الأشياء...

يشكل نفسه حسب ما يستقبله، ويصير مناسبًا لكل زرعٍ.

هكذا الروح القدس، مع أنه واحد له طبيعة واحدة غير منقسم، يهب كل واحدٍ نعمته حسب مشيئته.

عندما تُروى الشجرة الجافة تُصدِر براعم. هكذا أيضًا النفس وهي في الخطية، إذ تتأهَّل بالتوبة لنعمة الروح القدس تزهر في برٍ.

خلال الروح الواحد في طبيعته، لكن بمشيئة الله وباسم الابن يقدم ثمارًا فاضلة متنوعة.

فيستخدم لسان شخص للحكمة، وينير نفس شخص آخر بالنبوة، ويهب آخر قوة إخراج الشياطين، وآخر عطية التفسير للأسفار المقدسة.

إنه يسند ضبط النفس لشخصٍ، بينما يعلم آخر العطاء، وآخر الصوم والتواضع، وآخر الاستخفاف بأمور الجسد، يهيئ آخر للاستشهاد.

إنه يعمل بطرقٍ مختلفةٍ في أشخاص مختلفين، مع أنه هو نفسه ليس فيه اختلاف[52].

القديس كيرلس الأورشليمي.

  • ليت نفوسنا تبارك الرب، وليباركنا الرب.

فعندما يباركنا الرب ننمو نحن، وعندما نبارك الرب ننمو نحن أيضًا، وفى كليهما نستفيد نحن (لا الله).

أولاً لتكن فينا بركة الرب، وعندئذ نباركه نحن، فهذا هو المطر (أي بركته لنا) وهي ذاتها الثمرة (أي نباركه بالبركة التي باركنا بها). إن المطر يرتد كثمرٍ لله صاحب الأرض الذي أمطر علينا وأفلحنا.

لنتغنَّى بهذه الكلمات، بعبادة مُثمِرة، وكلمات غير جوفاء، وبقلبٍ حقيقيٍ. فإنه من الواضح أن الله الآب قد دُعي كرَّامًا (يو 15: 1)، والرسول يقول: "أنتم فلاحة الله، بناء الله" (1 كو 3: 9). كأنه يقوم بفلاحة حقله. فالله الآب كرَّام له حقل، يقوم بفلاحته وينتظر منه ثمرًا.

ويقول الرب يسوع نفسه أنه "غرس كرمًا... وسَلَّمه إلى كَرَّامين"، هؤلاء مُلزَمون بتقديم الثمار في أوانها.

  • الأراضي المنخفضة تمتلئ، والأراضي المرتفعة تجفُّ.

النعمة هي مطر، فلماذا تتعجَّبون إذن إن كان الله يقاوم المُتكبِّرين، ويعطي نعمة للمتواضعين (يع 4: 6)؟ لذلك القول: "بخوفٍ ورعدة" يعني بتواضعٍ.

"لا تستكبر بل خفْ" (رو 11: 20). خفْ حتى تمتلئ. لا تستكبر لئلاّ تجف! [53].

القديس أغسطينوس.

  • كما أن الأرض القفر لا تقدر أن تأتي بثمرٍ ما لم تستقبل ماءً، هكذا نحن الذين كنا قبلاً خشبًا جافًا، ما كان يمكننا أن نحمل ثمر للحياة بدون المطر الفياض الذي من العلا. لأن أجسادنا تتقبَّل الاتحاد مع عدم الفساد خلال غسل المعمودية، وأما نفوسنا فخلال الروح. هذا وذاك ضروريان لأجل هذا السبب، لأنهما يساهمان في الحياة الإلهية[54].

القديس إيريناؤس.

إِذَا صَارَ فِي الأَرْضِ جُوعٌ،.

إِذَا صَارَ وَبَأٌ أَوْ لَفْحٌ أَوْ يَرَقَانٌ أَوْ جَرَادٌ أَوْ جَرْدَمٌ،.

أَوْ إِذَا حَاصَرَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ فِي أَرْضِ مُدُنِهِمْ.

فِي كُلِّ ضَرْبَةٍ وَكُلِّ مَرَضٍ [28].

كثيرًا ما نُعانِي من الضيقات، حتى نحسب أننا فقدنا كل شيءٍ. بالتوبة نرجع إلى الرب، فنرتفع كما إلى السماء عينها.

  • هنا عمل الطبيب، إنه ليس في محكمة، ولا في موضعٍ من يعاقب على خطية، إنما يهب غفران الخطية[55].
  • بعد أن عانى (الابن الضال) في كورة غريبة مما يستحقه الأشرار، فسقط تحت المصائب التي حَلَّت به، أي الجوع والعوز، أحسَّ بهلاكه، مُدرِكًا أنه بإرادته ألقى بنفسه في أيدي الغرباء بعيدًا عن أبيه، فصار في منفى عوض بيته، وفي عوزٍ عوض الغِنَى، وفي مجاعة عوض الخيرات والترف؛ هذا هو ما عناه بقوله: "وأنا أهلك جوعًا" (لو 15: 17).

كأنه يقول: إني لستُ غريبًا، بل ابن لأب صالح، وأخ لأخ مُطِيع. أنا هو الحُر النبيل، قد صرت أقوى من العبيد الأجراء، سقطت من الرتبة العالية السامية إلى أحط درجة! [56].

  • لقد فقدتم الفردوس، لكن الله وهبكم السماء، حتى يؤكد حنوه، وأنه يهزم إبليس، مُظهِرًا أنه حتى إن دبَّر عشرات الألوف من الخطط ضد الجنس البشري، فإنها لن تفيده، حيث يقودنا الله دائمًا إلى كرامة أعظم.

أنتم فقدتم الفردوس (جنة عدن)، والله فتح السماء لكم.

لقد سقطتم تحت الدينونة بالتعب إلى حين، وقد كُرِّمتم بالحياة أبديًا.

يأمر الله الأرض أن تنبت شوكًا وحسكًا، أما تربة الروح، فتنبت لكم ثمرًا. ألا ترون أن الربح أعظم من الخسارة؟ [57].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

فَكُلُّ صَلاَةٍ وَكُلُّ تَضَرُّعٍ تَكُونُ مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ كَانَ،.

أَوْ مِنْ كُلِّ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ كُلُّ وَاحِدٍ ضَرْبَتَهُ وَوَجَعَهُ،.

فَيَبْسُطُ يَدَيْهِ نَحْوَ هَذَا الْبَيْتِ [29].

فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ، مَكَانِ سُكْنَاكَ، وَاغْفِرْ،.

وَأَعْطِ كُلَّ إِنْسَانٍ حَسَبَ كُلِّ طُرُقِهِ كَمَا تَعْرِفُ قَلْبَهُ.

لأَنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ تَعْرِفُ قُلُوبَ بَنِي الْبَشَرِ. [30].

الله وحده العارف قلوب بني البشر، فكل أفكار الإنسان وأغراضه وميوله مكشوفة أمامه. مهما كانت تخيُّلات قلوبنا ونيَّاتها مَخفيّة عن البشر والملائكة والشياطين، لا يمكن أن تُخفَى عن الله الذي يعرف ليس فقط ما في القلب، بل يعرف القلب ذاته ونبضاته.

  • قيل: "وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يُجَدِّف. فعلم يسوع أفكارهم، فقال: لماذا تُفَكِّرون بالشرِّ في قلوبكم؟" (مت 4: 3 - 4). ولكن هذا يخص الله وحده، أي معرفة سرائر الناس. اسمع ماذا يقول النبي: "أنت وحدك تعرف القلوب" [30]. "فإن فاحص القلوب والكلى الله" (مز 7: 9). ويقول أيضًا إرميا: "القلب أخدع من كل شيءٍ، وهو نجيس، من يعرفه؟" (إر 17: 9). وهكذا بنصوص كثيرة نرى أن معرفة ما في الذهن تخص الله وحده[58].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

لِيَخَافُوكَ وَيَسِيرُوا فِي طُرُقِكَ كُلَّ الأَيَّامِ،.

الَّتِي يَحْيُونَ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتَ لآبَائِنَا. [31].

الأعداد 32-33

ه. الله المُترَفِّق بكل الشعوب

وَكَذَلِكَ الأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مِنْ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ،.

وَقَدْ جَاءَ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ الْعَظِيمِ،.

وَيَدِكَ الْقَوِيَّةِ وَذِرَاعِكَ الْمَمْدُودَةِ،.

فَمَتَى جَاءُوا وَصَلُّوا فِي هَذَا الْبَيْتِ [32].

فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ مَكَانِ سُكْنَاكَ،.

وَافْعَلْ حَسَبَ كُلِّ مَا يَدْعُوكَ بِهِ الأَجْنَبِيُّ،.

لِيَعْلَمَ كُلُّ شُعُوبِ الأَرْضِ اسْمَكَ،.

فَيَخَافُوكَ كَشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ،.

وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ اسْمَكَ قَدْ دُعِيَ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتُ. [33].

توقَّع سليمان أن بعضًا من الأمم الغرباء سيأتون إلى هيكل الرب من أرض بعيدة، ويخضعون للإله الحي، عندما يكتشفون بطلان الأصنام والأوثان، ويُدرِكون أن الله هو سيد أرض كلها.

  • هنا حنو الله، إنه لن يدير وجهه عن توبة صادقة، فحتى إذا كان الإنسان قد اندفع إلى أقصى حدود الشر، فعندما يعود إلى طريق الفضيلة سيَقْبَله الله ويُرَحِّب به، ويصنع معه كل شيءٍ إلى أن يُعِيده إلى حالته الأولى.

الله يعمل إلى أقصى حدود الرحمة، حتى ولو لم يُظهِرْ الإنسان توبته كاملة، فهو لا يتجاهل أمرًا صغيرًا، أو زهيدًا، بل يعطي عن هذا جزاءً عظيمًا، ويظهر ذلك من قول النبي إشعياء: "من أجل إثم مكسبه، غضبت وضربته، استترت وغضبت، فذهب عاصيًا في طريق قلبه، رأيت طرقه وسأشفيه وأقوده، وأرد تعزيات له ولنائحيه" (إش 57: 17 - 18) [59].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

الأعداد 34-39

و. الله المدافع عن مؤمنيه

إِذَا خَرَجَ شَعْبُكَ لِمُحَارَبَةِ أَعْدَائِهِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي تُرْسِلُهُمْ فِيهِ،.

وَصَلُّوا إِلَيْكَ نَحْوَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَرْتَهَا،.

وَالْبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتُ لاِسْمِكَ [34].

فَاسْمَعْ مِنَ السَّمَاءِ صَلاَتَهُمْ وَتَضَرُّعَهُمْ، وَاقْضِ قَضَاءَهُمْ. [35].

إِذَا أَخْطَأُوا إِلَيْكَ (لأَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ لاَ يُخْطِئُ) وَغَضِبْتَ عَلَيْهِمْ،.

وَدَفَعْتَهُمْ أَمَامَ الْعَدُوِّ،.

وَسَبَاهُمْ سَابُوهُمْ إِلَى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ أَوْ قَرِيبَةٍ. [36].

ليس على الأرض إنسان كامل بلا خطية، هذا أعلنه الحكيم أيضًا في سفر الجامعة (7: 20).

فَإِذَا رَدُّوا إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُسْبَوْنَ إِلَيْهَا،.

وَرَجَعُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ فِي أَرْضِ سَبْيِهِمْ قَائِلِينَ:

قَدْ أَخْطَأْنَا وَعَوَّجْنَا وَأَذْنَبْنَا. [37].

وَرَجَعُوا إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ،.

وَمِنْ كُلِّ أَنْفُسِهِمْ فِي أَرْضِ سَبْيِهِمِ الَّتِي سَبُوهُمْ إِلَيْهَا،.

وَصَلُّوا نَحْوَ أَرْضِهِمِ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا لآبَائِهِمْ،.

وَالْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَرْتَ،.

وَالْبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتُ لاِسْمِكَ [38].

فَاسْمَعْ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَكَانِ سُكْنَاكَ صَلاَتَهُمْ وَتَضَرُّعَاتِهِمْ،.

وَاقْضِ قَضَاءَهُمْ، وَاغْفِرْ لِشَعْبِكَ مَا أَخْطَأُوا بِهِ إِلَيْكَ. [39].

الأعداد 40-41

ز. قوة الصلاة في بيته

الآنَ يَا إِلَهِي، لِتَكُنْ عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ وَأُذُنَاكَ مُصْغِيَتَيْنِ،.

لِصَلاَةِ هَذَا الْمَكَانِ. [40].

اشتهى سليمان أن تكون عينا الرب مفتوحتين، وأذناه مصغيتين للصلاة التي تُقَام في هذا الهيكل. أما الآن فقد حلَّ الرب بيننا، وصار كواحدٍ منَّا، قريبًا إلينا جدًا. صار لنا حق الدخول إلى أحضان الآب، وكل ما نطلبه باسم المسيح يُستجَاب لنا.

جاء في كتاب حياة الصلاة: "كان أحد الرهبان يُهمِلُ حضور الصلوات بالرغم من وجوده في المجمع، وفي ذات ليلة بينما هو واقف يُصَلِّي رأى عمود نورٍ مرتفعًا نحو السماء في المكان الذي يجتمع فيه الإخوة، وبجوار العمود النوراني، رأى نقطة من نور صغيرة تلمع بضياءٍ، ومَرَّة يخبو نورها فلا تُرَى. وبينما هو يتأمل في المنظر متعجبًا، إذا بصوت الرب، قائلاً:" لماذا تتعجب؟ هوذا عمود نور صلاة الإخوة الذين يجتمعون معًا بصلاة نقية، أما هذه النقطة الصغيرة فهي صلاة الذين يعيشون في المجمع ويتخلَّفون عن صلواته. والآن إذا كنت تريد أن تعيش في وسط المجمع، فتمم كل قوانينه واجتماعاته المفروضة، وعندما تتقوَّى وتستطيع أن تحيا بمفردك بعيدًا عن المجمع وتنقطع لصلاة فافعل ذلك. ".

وَالآنَ قُمْ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ إِلَى رَاحَتِكَ أَنْتَ وَتَابُوتُ عِزِّكَ.

كَهَنَتُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ يَلْبِسُونَ الْخَلاَصَ،.

وَأَتْقِيَاؤُكَ يَبْتَهِجُونَ بِالْخَيْرِ. [41].

يختم سليمان صلاته هذه بعبارات استعارهما من أبيه الصالح داود عن سفر المزمور (132: 8 - 10). لم يذكر سفر الملوك ما ورد هنا في نهاية صلاة سليمان.

"يلبسون الخلاص" أي ليس فقط يتمتَّعون بالخلاص، إنما يصيرون أداة لخلاص الآخرين بتقديم ذبائح البرِّ.

"وأتقياؤك يبتهجون الخير"، فتصير خدمة الهيكل مصدر فرحٍ وبهجةٍ لكل الشعب، ويتمتَّعون بخيرات بيتك (مز 65: 4).

العدد 42

ح. اذكر مراحم داود عبدك

أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ لاَ تَرُدَّ وَجْهَ مَسِيحِكَ.

اذْكُرْ مَرَاحِمَ دَاوُدَ عَبْدِكَ. [42].

جاءت خاتمة الصلاة في الملوك تشير إلى موسى والخروج من عبودية فرعون، أما هنا فتشير إلى مراحم الله لداود عبده، ما يشغل سفر الملوك التحرر من عبودية فرعون وجنوده (إبليس وقوات الظلمة)، أما هنا فما يشغله هو قيام مملكة ابن داود، رب الأرباب وملك الملوك في كنيسة العهد الجديد.

يختم صلاته بطلبتيْن:

1. إن كان الله قد مسحه ملكًا على شعبه، فإنه لن يستطيع أن يمارس هذه الرعاية إن صرف الله وجهه عنه. فممارسته للرعاية الملوكية، مصدرها ملك الملوك، الراعي الأعظم، بدونه يفشل في رسالته.

2. إذ يذكر الله مراحم داود عبده. يشعر سليمان أنه يعتمد على وعود الله لأبيه داود، التي تحمل رحمة وعونًا وتعزية، هذه التي يشتهي الله أن يهبها لكل بشرٍ.

  • علينا دائمًا أن نكرز عن رحمة الله! علينا أن نخبركم عن بحر محبته الفائقة الذي لا يُحَد، لأننا نعيش ونحيا ونوجد برحمته[60].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

من وحي 2 أي 6.

أجثو وأبسط يديّ نحوك!

  • وضع سليمان في قلبه أن يبني لك بيتًا.

كَرَّس كل طاقاته، بل وكل طاقات الدولة لهذا العمل المجيد.

وعندما تَمَّ بناء الهيكل، انسحقت نفسه في داخله، مُفَكِّرًا:

أيً مبنى يليق بمن لا تسعه الأرض والسماواتّ؟!

  • لم يستعرض ما حققه أمام الملوك والعظماء.

إنما انطلق مع جمهور الشعب إلى بيتك.

انحنى وبسط يديه نحوك،.

يوَّد أن تعلن حلولك في وسط شعبك.

امتلأ البيت من السحاب والضباب،.

وحَلَّت مخافتك على الجميع، مع فرحٍ مجيدٍ لا يُنطَق به.

  • فتح فمه ليباركك من أجل حبك وتنازلك.

ترى هل أَدرَك أن ببسط يديه صار رمزًا لك،.

يا من صعدتَ إلى جبل الجلجثة،.

وبسطت يديك الطاهرتين،.

فسحقت التنّين تحت أقدام أولادك،.

وفتحت أبواب السماء،.

ليتهلل السمائيون بخلاص البشرية.

  • شارك سليمان موسى العظيم في الأنبياء مُستلِم الشريعة.

الذي صعد على التل، وبسط يديه، لتقود المعركة بنفسك.

كلما بسط يديه تَمَتَّع شعب الله بالنصرة،.

وانسحق عماليق وتَحَطَّم.

هَبْ لي أن أجثو وأبسط يديّ نحوك، فأصرخ قائلاً:

مع المسيح صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ!

أختفي فيك أيها المصلوب مُخَلِّص العالم.

فيلتهب قلبي بالإيمان والرجاء والمحبة.

أرى السماوات مفتوحة، تستمع إلى أنّات قلبي.

أطلب من أجل كل تائهٍ عن الطريق الحق.

وأسألك يا أيها الطبيب السماوي أن تشفي كل مريضٍ.

ويئن قلبي مع كل عريانٍ وجائعٍ ومحتاجٍ.

  • بصليبك تفتح أبواب مراحمك، وتسكب علينا بركاتك!

بصليبك تسترنا من عار الخطية، وتُبَدِّد كل ظلمة فينا!

بصليبك نتحدَّى إبليس والخطية وشهوات العالم وإغراءاته!

بصليبك تسحق رؤوس إبليس تحت أقدامنا!

بصليبك نمارس بنوّتنا لأبيك ونصير سُفراء لك.

بصليبك تَتَشكَّل فينا، ونصير أيقونة حيَّة لك!

بصليبك تجمعنا معًا، فنكون العروس الواحدة المقدسة!

بصليبك تتحوَّل وصاياك إلى حُليّ يُزَيِّن قلوبنا!

بصليبك تُحَوِّل قلوبنا الترابية إلى سماءٍ جديدة!

بصليبك ترفع قلوبنا إلى السماء، فلا نتلوَّث بأدناس العالم!

بصليبك لن تتسلل كراهية إلى قلوبنا حتى نحو أعدائنا.

نشتهي أن يُعلِنَ خلاصك حتى لمُقاوِمي الحق!

بصليبك يُجَدِّد روحك القدوس أعماقنا بلا انقطاع!

بصليبك تهبنا نعمةً فوق نعمةٍ، ومجدًا فوق مجدٍ!

بصليبك تكشف لنا أسرارك الإلهية المحيية!

بصليبك تنطلق بنا في رحلة مُمتِعة إلى سماواتك!

بصليبك ننعم بالفرح السماوي والسلام الداخلي!

بصليبك ننتظر مجيئك على السحاب، لننطلق إليك!

بصليبك ننضم إلى خورُس الطغمات السماوية!

بصليبك نصير كالشاروبيم، نطير نحو السماء، ونستقر في أحضانك!

لك المجد يا أيها المصلوب واهب القيامة والمجد!


[44] St. Jerome: On Psalms, hom 24.

[45] Contra Celsus 6: 17.

[46] In Luc 15: 11 - 32.

[47] Celline Mangan: 1 - 2 Chronicles, Ezra, Nehemiah, Ezra, p. 85 - 86.

[48] The Wiersbe Bible Commentary: Old Testament, Colorado, 2oo7, p. 630.

[49] راجع الميمر 158 الدكتور بهنام سوني؛ الخوري بولس الفغالي، ص 163 - 165.

[50] راجع كتاب "الكنيسة بيت الله"، فصل: "الأيقونات القبطية".

[51] Homilies on Matthew, homily 14: 6.

[52] Catechesis 14: 12.

[53] Sermons on N. T. Lessons, 81: 3.

[54] Adv. Haer. 3: 17: 2 PG 7: 903 A.

[55] Homilies on Penance 3: 4.

[56] De Patre et duobus filiis.

[57] Sermon in Gen. 7, PG 5: 614 C –D.

[58] St. John Chrysostom: Homilies on St. Matthew, Hom. 29: 2.

[59] للمؤلف: ستعود بقوةٍ أعظم للقدِّيس يوحنا الذهبي الفم، 2000م، ص 16.

[60] عن الابن الضال: ترجمة مار ملاطيوس برنابا.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

اَلأَصْحَاحُ السَّابِعُ - سفر أخبار الأيام الثاني - القمص تادرس يعقوب ملطي

اَلأَصْحَاحُ الْخَامِسُ - سفر أخبار الأيام الثاني - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير أخبار الأيام الثاني الأصحاح 6
تفاسير أخبار الأيام الثاني الأصحاح 6