12- العبادة الكنسية والدموع – كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

12 - العبادة الكنسية والدموع

1 - عن ماذا تُعَبِر دموع المؤمن؟

فى حديثى عن سرّ التوبة فى الجزء الثالث من هذا العمل (الكاتيكزم)، كنت أود أن أتحدَّث عن الدموع التى تُعَبِر عن انسحاق القلب ورفض المؤمن للملذّات والشهوات الباطلة وممارسة الخطايا، غير أننى فضلت الحديث عنها هنا إذ ترتبط الدموع بالعبادة الكنسية فى ممارسة التوبة والتمتُع بفرح الروح الذى لا يُنطَق به حيث تقف النفس فى دهشة أمام حب الله العجيب ودعوته للمؤمن أن يتمتَّع بالشركة معه بعمل نعمته الإلهية فيه.

فى صلاة نصف الليل، فى الخدمة الثانية يطلب المؤمن بروح التوبة: "أعطنى يا ربّ ينابيع دموع كثيرة كما أعطيت فى القديم للمرأة الخاطئة، واجعلنى مستحقاً أن أبلل قدميك اللتين أعتقتانى من طريق الضلالة..." وفى سيرة القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك، إذ التهب قلبه حباً للرب، وترك غنى العالم وكرامته كمعلم لأولاد الملوك، انطلق إلى البرية فى مصر، وكانت دموعه لا تتوقَّف لتعبّر عن رفضه لمباهج العالم، وأيضاً عن فرحه بالارتماء فى حضن مُخَلِّصه، لهذا مع فيض دموعه التى لم تتوقَّف حتى لحظات انطلاق نفسه إلى الفردوس كان دائم الابتسامة. [قال عنه تلميذه دانيال أنه "كان دائم البشاشة وسط دموعه". وكأن صمته ووحدته ونسكه لا يحمل كبتاً بل فرحاً، ولا يخفى فراغاً بل شبعاً... كان صاحب القلب الكبير المُتَّسِع حباً لله والناس. هذا ما قد انعكس على وجهه وملامحه، فصارت صورته شهادة حق لعمل النعمة الخفية فيه أكثر من الكلام والعظات[368].].

2 - ما هى المناسبات التى وردت فى الكتاب المقدس بخصوص الدموع التى سكبها السيد المسيح؟

شاركنا كلمة الله بتجسده فى كل شيءٍ ما عدا الخطية. إذ صار طفلاً قدَّس الأطفال، ودعاهم إليه، كما دعانا أن نقتدى بهم، قائلاً: "لأن مثل هؤلاء يدخلون ملكوت السماوات" (مت 19: 14). وصام لكى يُقَدِّس أصوامنا، وصلى وهو قابل الصلوات مع أبيه لكى يُقَدِّس صلواتنا. وتألم وصُلِب ومات وقام من الأموات لكى نترنَّم مع الرسول: "مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا، بل يحيا المسيح فيّ" (غل 2: 20). وصعد إلى السماوات لكى بحقٍ نقول: "أقامنا معه وأجلسنا معه فى السماويات" (أف 2: 6).

والآن، بالنسبة للبكاء والدموع، بكى لكى يُقَدِّس دموعنا التى نسكبها، مقتدين به.

أشار الكتاب المقدس إلى موقفين بكى فيهما السيد المسيح، هما:

أولاً: سَكَبَ الدموع على أورشليم المقاومة للحق الإلهى. مُعَلِّمنا لوقا البشير: "وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها، قائلاً: إنك لو علمتِ أنت أيضاً، حتى فى يومك هذا، ما هو لسلامك! ولكن الآن قد أُخفى عن عينيك. فإنه ستأتى أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونكِ وبنيكِ فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجرٍ، لأنكِ لم تعرفى زمان افتقادك" (لو 19: 41 - 44) إنه يطلب بدموعٍ توبة أهل أورشليم حتى العاملين فى الهيكل. إنه يدعو كل مؤمنٍ أن يصلى باكياً من أجل كل رافضي الحق الإلهى، والمتهاونين فى التمتُع بالخلاص، سواء من الشعب أو رجال الكهنوت. بهذا يستطيع المؤمن أن يُصَلِّى ويبكى، وهو فى مخدعه كما وهو على سرير الموت، بروح الحب لا الإدانة من أجل كل الساقطين فى العالم. إن كان ابن سيراخ دعانا ألاَّ نعرف الخمول حتى فى شيخوختنا وفى أمراضنا، فقد علَّمنا السيد المسيح بدموعه ان نُمارِس الحب والصلاة عن كل البشرية، كما نطلب صلوات الآخرين حتى الذين رحلوا عن العالم لشعورنا بالحاجة إلى مساندة الآخرين لنا نحن الضعفاء.

ثانياً: إذ كان السيد قادماً للقاء مع أختي الميت لعازر، الذى له أربعة أيام فى القبر، وأن يقيمه من الموت وهو مربوط بملابس الدفن، لم يحتمل أن يرى الأختين تبكيان، فبكى هو أيضاً (يو 11: 35) ليُعلِن مدى حُبِّه للبشرية. إنه يشاركنا مشاعرنا! وهو عجيب فى حُبِّه لبنى البشر، لا يحتمل دموعنا، بل يقول: "حوِّلى عنى عينيكِ فإنهما قد غلبتانى" (نش 6: 5).

يقول القديس أغسطينوس أن إقامة لعازر من الأموات ليست موضوع دهشتنا بل موضوع فرحنا. فليس من المدهش أن ذاك الذى يخلق بقوته أناساً يأتى بهم إلى العالم أن يقيم ميتاً، لكنه أمر مُفرِح أنه يهبنا القيامة ويمتعنا بالخلاص[369].

جاء الفعل "بكي" (يو 11: 35) هنا فى اليونانية مختلفاً عما ورد عن بكاء مريم وجمهور المحيطين بها (يو 11: 33)، إذ بكاؤه ليس فيه عويل مرتفع مثلهم، بل انسابت الدموع من عينيه. إنها مُجَرَّد شهادة عملية لمشاعره العميقة، ومشاركة للمتألمين أمام الجموع التى لم تدرك بعد كيف تواجه الموت. وقد وجدت الجموع فى هذه الدموع شهادة حية عن محبته للعازر (يو 11: 36).

يرى القديس يوحنا الذهبى الفم أن كل ما صنعه السيد المسيح كان بحكمته الإلهية لكى تنتفع الجموع بصنع المعجزة، فمن جانب لم يتحدث مع مريم أمام الجموع بما قاله لمرثا حين التقت به منفردة، إذ تحدث عن إقامته للعازر. فلو سمعت الجموع ذلك حيث يحمل كثيرون له عداوة، لتركوه ورجعوا إلى أورشليم، ولم يروا إقامة لعازر. من جانب آخر أكد ناسوته فى تلك اللحظات، حتى لا تنفر الجموع، إن تحدث عما يخص لاهوته.

بكى فى صمتٍ، واضطراب ثم تنهَّد، وسأل عن موضع القبر. كل هذا أثار تساؤلات فى أذهان اليهود، ورغبة فى معرفة ما سيفعله دون نفورٍ من جانبهم[370].

ويقول القديس أغسطينوس: [بكى الرب نفسه أيضاً من أجل لعازر الذى سيُقِيمه إلى الحياة، بلا شك لكى يسمح لنا بمثاله أن نبكى على موتانا، وإن كان لم يعطنا وصيته بذلك، هذا مع إيماننا بأنهم يقومون إلى الحياة الحقيقية[371].] ويقول القديس جيروم: [لكى يُظهِر المُخَلِّص نفسه أن لديه مشاعر بشرية حقيقية حزن من أجل ذاك الذى سيُقيمه من الأموات[372].].

يطلب القدِّيس أمبروسيوس منا أن نسأل السيد المسيح أن يبكى علينا، قائلاً:

[لتهب لى يا رب أن تأتى إلى قبري، فتسكب الدموع عليّ، حيث جفّت عيناى ولم تعودا قادرتين على سكب دموعٍ كهذه من أجل معاصي. إن بكيت يا رب عليّ (كما على لعازر) فسأُنقذ... أنت تدعونى من قبر جسدى هذا، قائلاً: "هلم خارجاً" (يو 11: 43)، حتى لا يعود تفكيرى ينحصر فى حدود جسدى هذا الضيق، بل يخرج نحو المسيح ويحيا فى النور، فلا أعود أُفَكِّر فى أعمال الظلمة بل فى أعمال النور...

ناد يا رب خادمك، رغم ربطه بسلسلة الخطايا، وتقييد قدميه ويديه، فإنه الآن مدفون فى قبر الأفكار والأعمال الميتة. لكن عندما تدعونى أقوم حراً، وأصير أحد الجالسين فى وليمتك وتفوح فى بيتك رائحة طيب ذكية.

إن كنت قد وهبت لأحد أن يخلص، فإنك تحافظ عليه أيضاً، فيقال عنى: "أنظر! إنه لم يحضر وسط الكنيسة، ولا تأدَّب منذ طفولته، بل كان هارباً من الحكم. فجُذِب من أباطيل العالم، ودخل فى صفوف المرتلين، بدلاً من أن يكون بين المولولين، وقد ثابر فى كهنوته لا بقوته الخاصة بل بنعمة المسيح، وصار جالساً بين المدعوين فى الوليمة السمائية".

احفظ أيها الرب عملك، واحرس عطاياك التى وهبتها حتى لذاك الذى هرب منها. فإننى أعلم إننى لم أكن مستحقاً أن أدعَى أسقفاً، لأننى انشغلت بهذا العالم، لكن نعمتك جعلتنى على ما أنا عليه. وفى الحقيقة إننى أصغر جميع الأساقفة، وأقلهم استحقاقاً. ومع ذلك فقد تعهَّدت ببعض الأعمال الخاصة بكنيستك المقدسة، وسهرت على هذه الثمرة، وإذ اخترتنى للكهنوت وأنا مفقود، لا تسمح بعد أن أكون مفقوداً وأنا كاهن. إن أول عطية هى أن أعرف كيف أحزن حزناً عميقاً مع أولئك الذين يخطئون، لأن هذه هى أعظم فضيلة.].

3 - ما هى غاية البكاء والدموع عند أناس الله الباكين؟

يحدثنا الله عن الدموع والبكاء من خلال المؤمنين الباكين الذين كشفوا عن غاية الدموع عملياً:

أولاً: كشفوا عن سمات الدموع المقبولة لدى الله، والتى يعتزّ بها، وأيضاً سمات الدموع المرفوضة منه.

ثانيا: كشفوا عن سمات الدموع المرضية عند الربّ. يسأل داود الرب ألا أن يُبَكِّته بغضبه (مز 6: 1). فإنه لم يُصِلّ: "يا رب لا تبكتنى". وإنما قال: افعل هذا كأب يُسَرّ بابنه. يقول إرميا: "أَدِّبني يا رب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنينى" (إر 10: 24). ويسأل داود أن تكون أحزانه تأديبات ابن لا عقاب إنسان منبوذ. فإن غضب الرب يُفني، أما حُبّه الأبوى فيُصلح ويُجبر ويُخَلِّص. يسأل داود الله أن يُبَكِّته فى رحمة وصلاح وليس بغضبه، لأن من يصب الله غضبه عليه يهلك، إذ لله قضيبان، واحد للرحمة والآخر للغضب المروّع. يتحدَّث القديس بولس عن الأخير قائلاً: "تذخر لنفسك غضباً فى يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة" (رو 2: 5).

ثالثاُ: كان داود نبياً باكياً مثل إرميا النبى. كان داود أعظم من أن يحزن بسبب ضيقةٍ خارجية، لكن عندما ثقلت الخطية جداً على كاهل ضميره رفض أن يتعزَّى[373]، منتظراً مراحم الله، الطبيب الحقيقى. إذ يصرخ إليه، قائلاً: "يارب لا تبكتنى بغضبك، ولا تؤدبنى بسخطك. ارحمنى يارب فإنى ضعيف، أشفنى يارب لأن عظامى قد رجفت... أعوم فى كل ليلة سريرى" (مز 6: 1 - 6، 2). هذه الصرخة ليست إلا اعترافاً بضعفنا الكامل وعجزنا عن خلاص أنفسنا وما رجاؤنا فى أى صلاح إلا فى المراحم الإلهية!

رابعاً: أوضح الرب أن المؤمنين لا يخجلون من أن يُقَدِّموا دموعهم للربّ علانية حتى الملوك والأنبياء والنساء والزناة وأيضاً الشعوب مثل أهل نينوى وإسرائيل كعلامة على صدق توبتهم ومحبتهم للرب ورغبتهم فى الرجوع إلى الرب مع كراهيتهم للخطية والفساد.

خامساً: أوضحوا كيف أمتدّ عمل دموعهم إلى أبنائهم وأحفادهم بل وصارت دموعهم بركة ودرساً لشعوب جاءت بعد انتقالهم من العالم.

سادساً: لم يوجد بين أناس الله والخطاة والتائبين من يكشف عن كل جوانب حياة الدموع، إنما كشف كل واحدٍ منهم عن جانب أو عدة جوانب. لكى نتعلَّم ونطلب حياة الدموع بما يناسب حياتنا وسلوكنا وظروفنا.

سابعاً: لم يوجد من بين البشر حتى العظماء والقديسين من لا يحتاج إلى الندامة والبكاء من أجل تمتُعهم بعمل النعمة الإلهية فيهم.

والآن أرجو أن أبرز جوانب حياة الدموع من خلال بعض الأشخاص والشعوب فى العهدين القديم والجديد، ومن نوعيات متباينة.

4 - ماذا قَدَّم داود النبى عن فاعلية الدموع المقبولة لدى الله؟

كشفت حياة داود النبى والملك ومزاميره (وأيضاً مزامير المرتلين الأخرين) عن تقدير الله واهتمامه بدموع مؤمنيه، وكيف يُحَوِّل أحزان الباكين إلى أفراح، وكيف تمتد فاعلية الدموع المصحوبة بالحب والتواضع والصلاة فى حياة أجيال مُقبِلة فى المستقبل.

أولاً: لقد أدرك داود أن الله يحفظ دموع أولاده كما فى زقٍ ثمين. كأن الدموع المقدسة الصادقة تسجل اسم المؤمن فى سفر الحياة الأبدية. قيل إنه كانت هناك عادة قديمة أن يضع الإنسان زقاً أو وعاءً تحت عينيه، يجمع فيه دموعه فى أوقات الحزن والضيق، ويقوم بختمها، وحفظها فى بيته. وعند موته تدفن معه هذه الأوعية بكونها تحتوى أقدس ممتلكاته. كانت هذه الأوعية من زجاج رقيق، مختلفة الأحجام من 3 إلى 6 بوصات فى الطول.

عندما كان داود يقول: "خطيتى أمامى فى كل حين" (مز 51: 3) ربما كان يضع أوعية دموعه أمام ذهنه، هذه التى تحتوى على دموع توبته التى كان يعَّوم بها سريره كل ليلة[374]. إذ يقول "تعبت فى تنهدي أعوم فى كل ليلة سريرى بدموعى أذوب فراشي" (مز 6: 6). كما يقول: "تيهاني راقبت اجعل أنت دموعى فى زقك، أما هى فى سفرك؟!" (مز56: 8).

أدرك داود أنه بينما يراقب الأشرار خطوات الصديق للتخطيط لأذيته، إذا بالله يراقب الصديق وهو فى هروبه، ليجمع دموعه كرصيد مجدٍ يُعد له. يهتم الأشرار بالبار للخلاص منه، ويهتم الله به لخلاصه. "أليس هو ينظر طرقي، ويحصي جميع خطواتى: (أي 31: 4)." وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعاً محصاه "(مت 10: 30). ويسجل الله متاعب مؤمنيه ودموعهم فى كتابه، كأحداث تشغل قلبه، تعلن دموعهم عن إخلاصهم وحبهم، فيعتز بها ويكافئهم عليها. إنه يحفظ دموعهم كما فى زقٍ. لقد تشبَّه الرسول بولس بسيده فكتب لتلميذه المحبوب لديه جداً:" مشتاقاً أن اراك، ذاكراً دموعك لكى أمتلئ فرحاً "(2تى 1: 4).

ثانياً: إن كان داود الملك والنبى التقي يشعر بحاجته للتوبة بدموع، يليق أن ندرك أن الكل محتاجون إلى دموع التوبة. عُرِف داود منذ صباه أنه الشخص النقى القلب، إذ قال الرب وجدتُ داود بن يسى رجلاً حسب قلبى الذى سيصنع كل مشيئتى (أع 13: 22)، تحدث الكتاب المقدس بكل وضوح عن سقطاته، حتى نتعلَّم أننا مادمنا فى هذا الجسد لا نأتمنه مهما كان ماضينا نقياً، ومهما بلغ عمرنا، ومهما كان مركزنا الكنسي أو الاجتماعى. لم يسقط داود فى شبابه فى خطية الزنا، وللأسف سقط وهو بالغ السن ومتزوج وكان ملكاً. يقول القدّيس أغسطينوس: [أطفئ لهيب الخطيئة بدموعك، وابْكِ أمام الرب! اِبكِ مطمئناً أمام الله الذى صنعك، والذى لا يحتقر ما صنعته يداه.].

ثالثاً: داود رجل التسبيح الذى كان يفتتح يومه بالتسبيح بالمزامير حتى وهو هارب من وجه شاول الملك، ولا ينام بالليل ما لم يُسَبِّح أيضاً. فلا يظن إنسان مهما كانت صلواته وتسابيحه وخدمته أنه معصوم من الخطأ.

رابعاً: لم يخجل داود الملك من وضع مزامير كثيرة عن التوبة، كما يعلن أنه وهو ملك يُعَوِّم كل ليلة سريره بدموعه. يرى البعض أنه بدموعه الغزيرة أشار إلى فاعلية المعمودية، إذ كان يُعَوِّم كل ليلة سريره بدموعه. يقول القديس غريغوريوس النزينزى: [توجد معمودية (خامسة) وهى عاملة بالأكثر، معمودية الدموع حيث كان داود يُعَوِّم كل ليلة سريره، ويغسل فراشه بدموعه[375].].

خامساً: أن حياة الدموع ليست خاصة بالرهبان والنُساك وحدهم مثل القديس أرسانيوس مُعَلِّم أولاد الملوك، وإنما يليق بكل مؤمنٍ أن يطلبها. ليقل الكل: "أعطنى ياربّ ينابيع دموع كثيرة كما أعطيت المرأة الخاطئة" (طلبة نصف الليل الخدمة الثانية).

سادساً: ما دفعه على الدموع شعوره أنه غريب على الأرض. إذ يصرخ، قائلاً: "استمع صلاتى يارب، واصغ إلى صراخى. لا تسكت عن دموعى، لأنى أنا غريب عندك، نزيل مثل جميع آبائى" (مز 39: 12). وكما يقول القديس أغسطينوس: [حَرِّرنى من خطاياى قبل أن أرحل حتى لا أذهب بآثامى. إنه يشير إلى مجال البركة، إلى المدينة السعيدة، إلى البيت السعيد، حيث القديسون شركاء الحياة الأبدية، شركاء الحق الذى لا يتغيَّر.] يختتم المرتل المزمور (39) بتوسل إلى الله كى يستجيب صلاته، مُقَدِّماً هذا التوسل مشفوعاً بدموعه التى لا تجف، وباعترافه بتغرَّبه واشتياقه إلى اجتياز العالم كأرض غربة مُتمتِّعاً بغفران خطاياه. "استمع صلاتى وتضرعى، وانصت إلى دموعى ولا تسكت عنى" (مز 39: 12). بدأ الصلاة، وإذ اشتدَّت الضيقة امتلأ قلبه تنهُّدات فصرخات، وأخيراً صارت دموعه تتحدث بلغة يعجز اللسان أن ينطق بها. يُعَلِّق القديس يوحنا الذهبى الفم، قائلاً: [كان القديسون غرباء ونزلاء فى هذا العالم... عاش إبراهيم فى كل أموره ينتمى للمدينة الباقية. لقد أظهر كرماً ومحبة أخوية ورحمة وطول أناة، وزهداً فى الثروة وفى المجد الزمنى وفى كل شيء.] [لنكن غرباء كى لا يخجل الله من أن يُدعَى إلهنا، لأنه من الخزى لإلهنا أن يُدعَى إله الأشرار! إنه يخجل من الأشرار، ويتمجَّد إذا ما دُعِي إله الأبرار والرحماء والنامين فى الفضيلة[376].].

سابعاً: دموعه المقدسة تزداد بلا توقُفٍ. لأنها تُعَبِّر عن شوقه لله المتزايد بلا توقُفٍ، إذ يقول: "لأن دموعى صارت لى خبزاً النهار والليل، إذ قيل لى كل يوم: أين هو إلهك؟" (مز 42: 3).

يرى القديس أغسطينوس [لم يقل المرتل "لأن دموعى صارت لى شراباً" بل "خبزاً"، لأن الظمآن إن أكل خبزاً يزداد ظمأ... فدموع الاشتياق نحو اللقاء مع الله لا تروينا بل تلهب بالأكثر عطشنا إليه. كما يقول: [لم تكن دموعى مرارة لى بل "خبزى". هذه الدموع عينها كانت حلوة بالنسبة لى، وذلك لعطشى إلى الينبوع. وبقدر عجزى عن الشرب منه، فى لهفة جعلت دموعى طعاماً].

دموعه لم تجف نهاراً ولا ليلاً، إذ لا تستطيع الانشغالات اليومية مهما كانت أهميتها أن تشغله عن طلب إلهه بدموعه، ولا راحة الليل تهدئ من هذا الحنين. إنه لا يخجل من أن يبكى بدموع فى النهار علانيةً، مُعلِناً ارتباطه بإلهه كما يرتبط الرضيع بأمه، ولا يقدر على الاستغناء عنها، كما يلذ له أن يبكى فى الليل خفيةً ليُعلِن أعماق محبته لله. يشير النهار أيضاً لحالة الفرج أو الفرح، والليل إلى حالة الضيق والألم؛ وكأن المرتل يُعلِن أن دموعه لا تجف وسط أفراحه أو أحزانه، إذ تحت كل الظروف ليس ما يشغله إلا حنينه نحو الله!

فى كبرياء وتشامخ وبسخرية يقول له الأعداء: أين هو إلهك؟ حسبوا طول أناة الله ضعفاً! أرادوا أن يُحَطِّموا رجاءه فى الله، كأنه قد تركه، ولم يدركوا إنه سيد التاريخ وضابطه، إنه يتمهَّل ويطيل الأناة منتظراً توبتهم ورجوعهم، أو ينتظر حتى يمتلئ كأس شرّهم.

5 - ماذا يعنى المرتل بقوله: "قد أطعمتهم خبز الدموع وسقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5)؟

إننا نسمع المرتل أساف أيضاً يقول على لسان الرب: "قَدْ أَطْعَمْتَهُمْ خُبْزَ الدُّمُوعِ، وَسَقَيْتَهُمُ الدُمُوعَ بِالْكَيْلِ (مز 80: 5). ويرى البعض أن كل المزامير المنسوبة لأساف هى لداود قام بتلحينها أساف. ما يشغلنا المقارنة ما بين ما ورد فى المزمور 42: 3، وما ورد فى المزمور 80: 5. المزمور الأول يتحدث عن جوع وعطش المرتل داود للشوق لله والمتزايد بلا انقطاعٍ، أما المزمور 80 فيُصَوِّر مرارة النفس المنكسرة حين تنهمر الدموع على الخبز بسبب شدة الحزن، فتصير الدموع طعاماً أو شراباً لها.

يرى البعض أن المعنى هنا إما أن جيراننا يصارعون ضدنا، أو يصارعون فيما بينهم بسببنا. وفى كلا الحالتين نصاب بالكثير من الأذى.

يرى القديس أمبروسيوس أنه يلزم أن تكون الدموع بكيلِ، أى فى حدود معينة لا نتعدها، لئلا تصير هذه الدموع مهلكة للنفس. فقد خشي القديس بولس لئلا يهلك الزانى التائب من فرط الحزن (2كو 2: 7). ويقول العلامة أوريجينوس: [سيعطينا الله "خبز الدموع" ويسقينا "الدموع بالكيل"، هذا الكيل يكون حسب أخطاء كل واحد[377].] كما يقول الأب أنسيمُس الأورشليمى: [حتى خبزنا نأكله بالبكاء، وكأسنا تمتلئ بالدموع، كأنها ملء كيل؛ بمعنى أن دموعنا مُكالة وتقَّدر بآثامنا.].

ويقول القديس أغسطينوس: [ما هو الكيل؟ اسمع الرسول: "الله أمين، الذى لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1كو 10: 13). الكيل هو حسب قدرتكم. الكيل هو أن تتدربوا لا أن تتحطموا [378].].

6 - هل تغني دموع الشوق لله عن دموع الحزن بسبب الضيق أو العكس؟

يقول القديس ديديموس الضرير: [مادام البكاء له معانٍ مختلفة، فإن الضحك يلزم أن يُفهَم تبعاً لهذا. فالبكاء ليس له معنى واحد، ولا أيضاً الضحك. أحياناً يُمدَح الضحك، وأخرى يُوبخ. هكذا أيضاً يلزمنا أن نفهم البكاء بنفس الطريقة، فالضحك الممتدح يتطابق مع الحزن الممتدح، وبنفس الطريقة بالنسبة للضحك المذموم والبكاء. غالباً الحياة التى تنكب بالأكثر على الشهوة، أكثر من محبة الله هى ضحك بطريقةٍ يصير بها الضحك نفسه إلهاً. كما يحسب البعض بطونهم آلهة، وآخرون محبة المال، فإنه يوجد من يحب التسلية ويود أن يكون فكاهياً. وبهذا يبنى مذابح للضحك حاسباً إياه إلهاً، مقدماً ذبائح له... على أى الأحوال يوجد ضاحك يستحق المديح. يقول الله: "يملأ فاك ضحكاً" (أي 8: 21) (بلا شك) بواسطة ضاحك مستحق المديح. هذا يطابق ثمر الروح الذى هو الفرح، لأن "ثمر الروح هو محبة، فرح، سلام" (غل 5: 22). الضاحك الذى يطابق الضحك بالفرح ممتدح. أى حزن يضاد هذا النوع من الضحك، ويقاوم فرح الروح القدس مستحق للذم. مثل هذا الحزن لن يسند أورشليم (لو 19: 41؛ 23: 28)... ولماذا الأمر هكذا؟ لأنه لا يتوب فى الوقت اللائق بالتوبة[379].

ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [يعلمنا بولس الرسول ألا نهجر أولئك الذين ارتكبوا خطية للموت، إنما نلزمهم بخبز الدموع (التى للتوبة)، لكن ليكن حزنهم معتدلاً. وهذا هو ما تعنيه عبارة: "سقيتهم الدموع باكيل" (مز 80: 5). فحزنهم يجب أن يكون بكيلٍ، لئلا يبتلع التائب من فرط الحزن (2كو 2: 7). وذلك كما قال لأهل كورنثوس: "ماذا تريدون، أبعصا آتي إليكم، أم بالمحبة وروح الوداعة؟!" (1كو 4: 21). إنه يستخدم العصا، لكن بغير قسوةٍ، إذ قيل: "تضربه أنت بعصا، فتنقذ نفسه من الهاوية" (1مل 23: 14) [380].].

ويقول الأب غريغوريوس (الكبير): [ينبغى أن نعظ الذين يحزنون بسبب أفعالهم الشريرة بطريقةٍ، أما الذين يبكون على خطايا الفكر فبطريقة أخرى. على الذين يبكون الأفعال الشريرة أن يتطهروا بحزنٍ كاملٍ وحقيقىٍ، لئلا يتورطوا ويصيروا مدينين بالأكثر بفعل الشرور، وكذلك بسبب شح دموع الندم. يقول الكتاب: "وسقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5) [381]، بمعنى أنه ينبغى على الروح أن تشرب فى ندمها على الشهوة دموعاً بنفس النسبة التى تحوَّلتْ بها عن الله، فأصابها الجفاف بسبب الخطيئة[382].].

7 - ماذا يعنى المرتل بقوله: "إنى قد أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابى بدموع (مز 102: 9)؟

فى المزمور 42: 3 رأينا أن دموع داود المقدسة تعلن عن جوعه وعطشه لله بلا توقُف، وفى المزمور 80: 5 قيل: "قَدْ أَطْعَمْتَهُمْ خُبْزَ الدُّمُوعِ، وَسَقَيْتَهُمُ الدُّمُوعَ بِالْكَيْلِ" يصور مرارة النفس المنكسرة حين تنهمر الدموع على الخبز بسبب شدة حزن النفس، فتصير طعاماً أو شراباً لها. اما فى المزمور 102: 9 فيبرز أن الحزانى يضعون رماداً على رؤوسهم وثيابهم، فإن اضطروا حتى إلى الأكل بسبب شدة الجوع، يتلوث طعامهم بالرماد المتطاير من جسمهم وثيابهم. أما المرتل فيأكل الرماد نفسه!

من العادات القديمة أن يكف الإنسان فى حزنه عن الطعام، خاصة فى حالة وفاة أحد أقربائه أو أصدقائه، ويلبس مسوحاً. هنا يُعَبِّر المرتل عن أقسى حالات الحزن، فلا يكف عن الطعام والشراب فحسب، إنما يكون كمن يأكل رماداً يُحَطِّم جسمه، ويزيده عطشاً، وتنسكب دموعه بغزارة، وتتسلل إلى فمه كأنها شراب له.

يرى الأب أنسيمُس الأورشليمى أن المصائب التى وردت فى هذا المزمور تشير إلى ما أصاب اليهود بعد صلبهم المسيح الإله. صارت معيشتهم كالرماد الذى يبقى عن الذبائح التى كانوا يحرقونها، وامتزج شراب سرورهم بدموعهم. وصارت أيامهم كالظل، لأنهم يخدمون الشريعة التى هى ظل ورسم للشريعة الإنجيلية. فيبسوا مثل القش، وصاروا مأكلاً للبهائم ووقوداً للنار.

صار المرتل فى حالة هزال شديد بسبب القلق أو الأرق، مُنهَك القوة تماماً. فَقَدَ كل عضلات جسمه فصارت عظامه مغطاة بالجلد وحده. يقول القديس أغسطينوس: [كثيرون يتنهَّدون، وأنا أيضاً أتنهَّد، فإننى أتنهَّد لأنهم يتنهَّدون بسبب خاطئ. هذا الإنسان فَقَدَ قطعه مال، إنه يتنهَّد... إنه يرتكب غشاً ويفرح... إننا نود إصلاحهم، وإذ لا نستطيع نتنهَّد، وعندما نتنهَّد لا ننفصل عنهم[383].].

8 - ماذا يعنى المرتل بقوله: "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج، الذَّاهِبُ ذهاباً بِالْبُكَاِء، حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ، مَجِيئاً يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ، حَامِلاً حُزَمَهُ" (مز 126: 5 - 6)؟

يقف المؤمن فى دهشة، يمتلئ قلبه بالفرح السماوى، فيشعر كأن السماء قد احتلت قلبه، أو ارتفع إلى السماء. وتنهار الدموع فى أعماقه لا لتُحَطِّم الفرح أو تحجبه، بل لترويه وتغذيه. تُرَى هل تحوَّل القلب إلى سماء متهللة أم نهر دموع يسقي مدينة الله التى فى داخله. إن ضحك العالم يتعارض مع الدموع، أما الضحك الروحى، فيتناغم مع الدموع الروحية، يعملان معاً كأختين شقيقتين!

مسيحنا مصدر الفرح الحقيقى يقودنا فى طريق الدموع ليعبر بنا إلى فرحه السماوى. لقد بكى السيد المسيح على لعازر كما على أورشليم وأيضاً فى بستان جثسيمانى. لقد وعدنا: "ستحزنون، ولكن حزنكم سيتحوَّل إلى فرحٍ" (يو 16: 20). هذا هو حصاد الدموع المقدسة. يقول إرميا النبى: "يا ليت رأسي ماءً، وعينيَّ ينبوع دموع، فأبكى نهاراً وليلاً" (إر 9: 1).

يقول القديس غريغوريوس النزينزى: [هذه الدموع هى مجارى المياه التى تفرح مدينة الله (مز 46: 4).] كما يقول: [لنزرع بالدموع كى نحصد بالفرح. لنظهر أنفسنا شعب نينوى، لا شعب سدوم (تك 19: 17، 23). لنصلح شرنا حتى لا نهلك. لننصت إلى كرازة يونان لئلا تكتنفنا النار والكبريت[384].].

ويقول القديس باسيليوس الكبير: "وعند المساء يبيت البكاء... وفى الصباح ترنم" (مز 30: 6). تذكر أوقات الآم الرب... لتفهم ما أقول... فى المساء بكى تلاميذ الرب عندما رأوه معلقاً على الصليب... وفى الصباح تعالت أصوات الفرح بعد القيامة... ركضوا فى فرح يبشرون بعضهم البعض بالبشارة المفرحة... لقد رأوا الرب. وإذ تكلمنا بصفة عامة... يشير المساء إلى الحياة فى هذا العالم... فالذين يبكون... بالفرح يتعزون حينما يأتى الصباح "طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون" (مت 5: 4). طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون "(لو 6: 21) والذين أمضوا حياتهم... التى اقتربت من نهايتها... واقترب غروب شمسها... يقاومون الخطية بدموعٍ... سيفرحون عندما يأتى الصباح الحقيقى..." الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج "(مز 126: 5) فى المستقبل[385].].

ويقول القدِّيس أغسطينوس: [هذا المزمور الذى يتحدث إلى روح المصممين على الاستمرار فى الرحلة الروحية إلى الله، يناسب تماماً ليعيننا فى أوقات الحزن والكآبة. هذا العالم هو دون شك وادى الدموع الذى فيه يزرع الإنسان وهو باكٍ. إنه يسندك لتستمر فى إيمانك. على أى الأحوال، إن شرحت ما يعنيه هذا السفر بالبذور التى نزرعها الآن. هذه البذور هى الأعمال الصالحة التى خلقها الله لكل واحدٍ منا أن يفعلها (أف 2: 10). وقد خطَّط لنا أن نقمها بقوة روحه فى وسط أتعاب هذه الحياة المضطربة. من يتعلَّم أن يمارس عمل الله فى هذا العالم – وادى الدموع والأتعاب هذا – يصير متهللاً مثل المزارع المُجِدْ الذى يزرع البذار حتى فى موت الشتاء، فهل تقدر الرياح الباردة والجو القاسى أن يمنعه عن العمل؟ حتماً لا! هكذا يليق بنا أن نتطلع إلى متاعب هذه الحياة. تُلقى الملاهى فى طريقنا بواسطة الشرير، بقصد أن نَحِد عن الأعمال الصالحة التى خُلقنا لكى نعملها. تطلعوا ماذا يقول المرتل: "من يخرج باكياً..." بالحق يجد علة للبكاء، يجد كل واحدٍ منا ذلك. ومع هذا يلزمنا أن نسير، ممارسين أعمال الله الصالحة فى طريقنا. كم نكون بائسين إن كنا قد دُعِينا للعمل بجديةٍ لكى نبكى فقط دون التطلع إلى أية ثمرة لعملنا. يا لنا من بائسين إن كنا لا نجد أحداً يمسح دموعنا. لكننا نعرف أن الروح القدس يعمل لكى نستمر فى الغرس وسط دموعنا. لأن الروح يعدنا خلال المرتل أننا نعود مندهشين بالفرح! نحمل ثمر تعبنا كتقدمة له[386].] كما يقول: [إن هذه الدموع تسقى بذرة الإيمان التى فى قلوبنا.] كما يقول: [فى هذه الحياة المملوءة بالدموع، لنزرع. ماذا نزرع؟ الأعمال الصالحة. أعمال الرحمة هى بذورنا. عن أية بذور يتحدث الرسول؟ "فلا نفشل فى عمل الخير لأننا سنحصد فى وقته إن كنا لا نكل" (غل 6: 9)... ليس من حقلٍ متسعٍ أكثر من المسيح، يمكننا أن نزرع فيه، هذا الذى أراد منا أن نُغرس فيه. تُربتك هى الكنيسة، اغرس فيها قدر ما تستطيع. لكن ليس لديك القدرة الكافية لتحقيق ذلك. هل لك الإرادة الصالحة؟ فإن كل ما تفعله يُحسَب كلا شيء ما لم يكن لديك الإرادة الصالحة، لا تكتئب إن كان ليس لديك ما تود أن تفعله مادام لك الإرادة الصالحة. ما هو الذى تغرسه؟ الرحمة! وما الذى تحصده؟ السلام! هل قالت الملائكة: "وعلى الأرض السلام للأغنياء"؟ لا، بل قالت: "على الأرض السلام للناس الذين لهم إرادة صالحة" (راجع لو 2: 14). كان لزكا إرادة صالحة، وكانت له محبة عظيمة (لو 19: 8) [387].] يرى القديس أغسطينوس فى مثل السامرى الصالح الذى يرمز للسيد المسيح بكونه الحارس الصالح، صورة واقعية للمؤمن الذى كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوصٍ، عروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حيّ وميت (لو 10: 30 الخ). لقد تحنَّن عليه السامرى الصالح وصعد به إلى الفندق (غالباً فى أورشليم) واعتنى به. يطالبنا القديس أغسطينوس ألا نرتبك بسبب نزولنا وسقوطنا بين أيدى اللصوص، فإن مسيحنا يود أن يحملنا ويصعد بنا إلى كنيسته المقدسة. فى صعودنا معه ننسى جراحاتنا وتتهلل نفوسنا وتُسَبِّح وتشكر، وتتقدَّم روحياً، وتستقر فى الفندق السماوى! كما يقول [ليتنا لا نفشل فى غرس بذورنا وسط المتاعب. فإننا وإن كنا نزرع بالدموعٍ فسنحصد بالفرح... إن كنا قد نزلنا وجُرِحنا، فلنصعد (مع السامرى الصالح)، ولنغنِ، ونتقدَّم، حتى نصل إلى الموقع (أورشليم) [388].].

ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [يلزمنا أولاً أن نتعب ونجاهد وعندئذ نطلب الراحة. إنكم تجدون هذا يحدث فى كل موضعٍ حتى فى أمور هذه الحياة. لذلك يركز المرتل على هذه الأمور: الغرس ثم الحصاد. فكما أن الغارس يحتاج أن يبذل جهداً وعرقاً ودموعاً... هكذا من يمارس الفضيلة. ليس شيء غير لائقٍ مثل التهاون بالنسبة للإنسان. لذلك جعل الله هذا الطريق ضيقاً وكرباً، ليس فقط فى ممارسة الفضيلة، بل وحتى فى شئون هذه الحياة، فقد جعلها متعبة، بل فى الواقع أكثر من هذا. أقصد أن الغارس والبناء والمسافر والنجَّار والفنان، كل شخص فى ذهنه يود أن يقتنى ربحاً، يلزمه أن يتعب ويقدم جهداً. كما تحتاج البذور إلى مطرٍ، هكذا نحتاج نحن إلى دموعٍ، وكما أن الأرض تحتاج إل حرثٍ وحفر هكذا تحتاج النفس إلى متاعب، عوض المجرفة التى تُعزق بها التربة، حتى لا يوجد بها أعشاب مؤذية، ويتحول جمود الأرض إلى اللين... التربة التى لا تُعامل بالتعب لا تقدم شيئاً صالحاً[389].] كما يقول: [هل ترون أيها الأعزاء المحبوبون عظمة المنفعة الصادرة عن التجارب التى تحل (بالبار)؟ ألا ترون عظمة مكافأة احتماله؟ ألا ترون الرجل وزوجته المتقدمين فى العمر، فمع كونهما هكذا يشهدان عن احساسهما الصالح، وشجاعتهما ومحبتهما الواحد للآخر. ما هو مثل هذا الرباط من الحب؟ لنتمثل نحن جميعاً بهذا ولن يحل بنا إثباط الهمة أو نحسب أن حلول الضيقات علامة على ترك الله لنا أو دليل على الاستخفاف بنا. بالحري ليتنا نتعامل معها كأوضح دليل على العناية الإلهية من نحونا[390].].

يقول القديس مار اسحق السريانى: [اَلام الزمان الحاضر التى تحدث من أجل الحق، لا يمكن أن تُقاس بالمجد العتيد المهيأ للذين يجتهدون فى الأعمال الصالحة (رو 8: 18). وكما إن حزم الفرح (أشبه بحزم القمح) هى من نصيب الذين يزرعون بالدموع، هكذا الفرح يتبع الذين يتألمون من أجل الله. كما أن الخبز الذى يُقتنَى بعرقٍ كثيرٍ يبدو حلواً للزارع، هكذا عذبة هى الأعمال من أجل البرَ فى قلوب الذين نالوا معرفة المسيح[391].].

ويقول القديس ديديموس الضرير: [حينما ترون نفساً نُفلَّح حسناً، فتزرع بالدموع وتستعد للحصاد بصرخات الفرح (مز 126: 5)، فإن هذا الحقل المُفلَّح له ملك، اللوغوس، الذى يقود ويحكم ويملك[392].].

يقول القديس أمبروسيوس: [حقاً أشرقت نعمة الله على يُوسفَ حتى فى صباه. لأنه حَلَم حُلماً: أنه بينما كان يحزم حُزماً مع إخوته (فى الحقل). قد رأى فى الرؤيا أن حزمته قامت فانتصبت بينما انحنت حُزَمُ إخوته وسجدت لها (تك 37: 5 - 8). وهكذا استعلنت له قيامةُ المسيح العتيدة، فعندما رأوه فى أورشليم، انحنى له الأحدُ عشر تلميذاً وكل القديسين، وحينما يقومون، ينحنون حاملين ثمار أعمالهم الصالحة، كما هو مكتوب "مجيئاً يجيئون بالفرح (الترنم) حاملين حُزمَهم" (مز 126: 6). وبالرغم من أن إخوته ازدروا بالحلم، وأنكروا واقعيته، بدافعٍ من حسدهم، إلا أنهم عبَّروا عن تفسيره له بكلامهم حينما أجابوا: "ألعلك تملك علينا ملكاً؟" (تك 37: 8)؛ لأن تلك الرؤيا حدَّدت الملِكَ الآتى، وقداّمه يسجد كلُ ذى جسدٍ بشرىٍ بركبٍ منحنيةٍ (راجع في 2: 10) [393].].

ويقول الأب قيصريوس أسقف آرل: [ليته لا يخدع أحد نفسه يا إخوة ليس من وقت للضحك فى هذا العالم. أنا أعلم أن كل أحدٍ بالحقيقة يريد أن يفرح، لكن ليس الكل يطلب الفرح فى الموضع الذى يليق به[394].] ويقول [ "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح". قد يقول قائل: من المجحف أن نبكى، ومن الصعب تحمل الحزن. إن قيل هذا فى وسطكم، فإنكم تدركون بصبر القلب الجمال الباهر الناتج عن الحقول تماماً. فإن تأملتم بما فيه الكفاية فى هذا لبدا لكم أنه ينشىء قبحاً، لكنه يثمر فيما بعد ثماراً كثيرة. لهذا يليق بنا أن نراعى باجتهاد ألا نذرف دموعنا على الخسائر الأرضية، بل فى اشتياق إلى الحياة الأبدية[395].] كما يقول [إذ نفكر فى حال ضعفنا وكثرة التجارب وزحف الخطايا ومقاومة الشهوة وقوة الشهوات المدمرة التى تثور دائماً ضد الأفكار الصالحة، نحزن على الدوام ونتأوَّه. حينئذ نتأهَّل أن نتهلل إلى الأبد فى زمن الفرح والراحة والسعادة والحياة الأبدية القادمة[396].].

9 - ماذا يقول الآباء عن الدموع المقدسة ودموع المتألمين؟

أولاً: الدموع هبة إلهية لمحبى القداسة. يقول القديس أغسطينوس: [بالحقيقة كلما كان الإنسان مقدساً ومملوءً بالرغبة المقدسة تزداد بالأكثر دموع طلبته. أليس هذا هو قول مواطن أورشليم السماوية: "صارت دموعى طعاماً نهاراً وليلاً" (مز 42: 3)، "وأعوم سريرى، وأبلل مضجعى"، و "تنهداتى لا تتوقَّف" (مز 6: 6) [397].] ويقول القديس يوحنا التبايسي: [كثرة حزن الدموع هى موهبة من الله، تُعطِى باجتهاد طلبات السائل[398].].

ثانياً: من يبكى بحكمة يقتنى الفرح العظيم والمجد الأبدى. يقول القديس أمبروسيوس: [من يقتنى فرحاً عظيماً إلا ذاك الذى يبكى كثيراً، وكأنه ينال نعمة المجد العتيد بثمن دموعه؟! [399]] كما يقول: [من أجلى حوَّلت نوحى إلى فرحٍ لى، مزقت مسحي، ومنطقتني بالفرح "(مز 30: 11). فرح الله لا يستقر فى كل النفوس، بل فى تلك النفوس التى بكت على خطاياها بدموعٍ مستمرةٍ، كمن مات لها عزيز لديها. مثل تلك النفس يُحَوِّل الله نوحها إلى فرح، والحزن نافع هنا... يبكى الأنبياء علينا، ويدعوننا لنبكى حتى نكتشف أخطاءنا فى ضوء كلماتهم النبوية، عندئذ نبكى على هلاكنا، ونقمع جسدنا بالجهاد والتأديب. الإنسان الذى يسلك مثل هذا الطريق، تُمَزَّق مسوحه، ويلبس لباس العُرْس المُزيَّنة حتى لا يخرج خارج العُرْسِ (مت 22: 11 - 13) [400].].

ثالثاً: الفرح المُطّوب عطية للباكين. يقول العلامة أوريجينوس: [البكاء وحده يقود للضحك المطوّب! [401].] ويقول القدّيس يوحنا الدرجى: [الشخص الذى يطوى طريقه فى حزن وأنين مستمر من أجل حب الله، هذا لا ينقطع عن السعادة والفرح كل يوم[402].].

رابعاً: الدموع المقدسة هى الخبز السماوى. يقول القديس مقاريوس الكبير: [الدموع التى تسكب حقاً من حزنٍ شديدٍ، وكآبة قلب، وبمعرفة للحق، واحتراق فى الداخل، إنما هى طعام للنفس، يأتيها من الخبز السماوى الذى سبقت مريم وأخذت منه، عندما جلست عند قدميّ الرب، وسكبت بحسب ما شهد لها المخلص نفسه. إذ قال: "لقد اختارت مريم النصيب الصالح الذى لن يُنزع منها" (لو 10: 42). فما أثمن الدرر التى تتساقط مع انسكاب وفيض الدموع المغبوطه! [403]].

خاًمساً: الدموع تقودنا إلى مدينة السلام. يقول القديس مقاريوس الكبير: [اجتهد للسير فى الطريق الضيق لتدخل مدينة السلام، أورشليم المهيَّأة كعروسٍ لعريسها! ولكن الطريق إليها تعوزه دموع تُذرف ليلاً ونهاراً.

  • أعوّم كل ليلة سريرى بدموعى أبل فراشى! (مز 6: 6).
  • صارت لى دموعى خبزاً نهاراً وليلاً! (مز 42: 3).
  • قد أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابى بدموعٍ! (مز 102: 9).
  • يا رب لا تسكت عن دموعى، لأنى أنا غريب عندك! (مز 39: 12).
  • يا رب اجعل دموعى فى زق عندك، أما هى فى سِفْرِك؟ (مز 56: 8).].

سادساً: الدموع مصدر تعزيات. يقول الأب أنسيمُس الأورشليمى: [أنت ترى دموعى كأنها تجاه عينيك، يا من تَعْلَم الخفيات، وحققت ما قد وعدت به قائلاً: "طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون" (مت 5: 4).] ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ما من شيءٍ أحلى من تلك الدموع. أنها أحلى من الضحك، إن الذين يعترضون عليه لا يعرفون مدى التعزية التى لها، لا تظنوا أننا نزعم أن هذا الأمر مستنكر، بل هو أمر يجب الصلاة لأجله كثيراً، لا لكى يخطىء الآخرون، بل، لكى حينما يخطئون، نحزن بانكسار قلب لأجلهم.] كما يقول القدّيس أغسطينوس: [إن من يبكى ههنا يلقى تعزيته حيث يخشى أن يبكى من جديد!] أيضاً يقول: [لتكن الدموع نصيبى الآن حتى تتعرَّى نفسى من أوهامها ويلبس جسمى الصحّة الحقّة التى هى الخلود. ولا يقل لى أحد: أنت سعيد؛ لأن من يقول لى أنت سعيد يريد أن يغوينى! [404]] [سفر طويل بدون دموع لا يكشف عن الرغبة فى رؤية الوطن. إن كنت ترغب فيما لست فيه فأسكب دموعك. وإنى أسألك أن تقول لله: لقد وضعت دموعى أمام وجهك (راجع مز 56: 8). وقول له: أصبح دمعى خبزى ليلاً ونهاراً! أصبح دمعى خبزاً لى: تعزّيت به حين انتحبت، وغتذيت منه حين جُعتُ. وأى بار خلا من هذه الدموع؟ إن من لم تكن له هذه الدموع لا يكتئب على غربته.].

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [أدرك إرميا أن الندامة علاج عظيم، فاستخدمها لأجل أورشليم فى مراثيه، وتقدم بأورشليم كتائبهٍ: عندما قال: "تبكى فى الليل بكاءً، ودموعها على خديها. ليس لها معزٍ من كل محبيها... طرق صهيون نائحة" (مرا 1: 2، 4). بل وأكثر من هذا قال: "على هذه أنا باكية، ليت عينى تسكب مياهاً، لأنه قد ابتعد عن المُعزى، رادُّ نفسى" (مرا 1: 16). فكر إرميا أن يضيف هذه العبارة المُرَّة، لأنه وجد أن من يُعَزِّي الحزانى قد أُبعد عنه. فكيف تستطيع أن تنال راحة برفضك للتوبة رجاء الغفران؟

لكن ليت هؤلاء الذين يتوبون، يعرفون كيف يُقَدِّمون التوبة، بأية غيرة، وبأية مشاعر، وكيف تبتلع كل تفكيره، وتهز أحشاءه الداخلية، وتخترق أعماق قلبه، إذ يقول إرميا النبى: "انظر يارب فإنى فى ضيق. أحشائى غلت، ارتد قلبى فى باطنى" (مرا 1: 20)... ويقول: "شيوخ بنت صهيون يجلسون على الأرض ساكتين، يرفعون التراب على رؤوسهم، يتنطقون بالمسوح. تحنى عذارى أورشليم رؤوسهن إلى الأرض. كلت من الدموع عيناى، غلت أحشائى، انسكبت على الأرض كبدى" (مرا 2: 10، 11).].

سابعاً: الينبوع الداخلى يفيض بالدموع المقدسة. يقول ابن سيراخ: "من ينخس عينه يسيل الدموع، ومن ينخس القلب يبرز مشاعره (سيراخ 22: 24). جاءت هذه العبارة فى كتابات العلامة أوريجينوس أن العين والقلب هنا الحياة الداخلية. يليق بالمؤمن أن يشرب من ينابيعه الداخلية، أى من بصيرته وعواطفه. إن كان كلمة الله بتجسده حلّ فى وسطنا، ليُقيم ملكوته فينا (لو 17: 21)، فقد وجَّه أنظارنا إلى أعماقنا، لنراه عاملاً فينا. جاء لا مستخَفاً بنا، بل مكرّماً إيَّانا باتحادنا، وتمتُعنا بأعماله الفائقة. ويدعونا أوريجينوس[405] أن نضرب العين والقلب بالصلاة بإيمان؛ نطلب عمل الله فينا، كما نطلب المزيد من عطاياه. وكما جاء فى المزامير:" افتح فاك وأنا أملأه "(مز 81: 10).

فى حديث العلامة أوريجينوس عن عمل الروح القدس فى الإنسان، يسألنا أن نشرب المياه الحية من ينابيعنا وآبارنا الداخلية. إنه يقول: [دعونا نعمل حسب نصيحة الحكمة لنا القائلة: "اشرب مياهاً من جبَّك، ومياهاً جارية من بئرك. ولتكن لك..." (أم 5: 15، 17). تأكد أيها القارئ أن لك بئرك وينبوعك، حتى إذ تمسك الكتاب المقدس، تبدأ تعبِّر خلال تعليمك النص، وذلك بانسجام مع ما تعلَّمته من الكنيسة، وأيضاً تحاول أن تشرب من مصدرك الداخلى الروحى. فى داخلك ينبوع مياه حيّة (تك 26: 19)، شرايين دائمة، وفيض غزير جارٍ، مع فهم عقلى مادام لا يصطدم بالأرض ومخلفات الصخور. لتستمر عاملاً لحفر أرضك وتنقيتها من الدنس، فتزيل الكسل عن نفسك، وتطرد الخمول من قلبك. اسمع ماذا يقول الكتاب المقدس: "اضرب العين فتسيل الدموع، واضرب القلب فينتج فهماً" [19]. يلزمك أيضاً أن تُطَهِّر روحك، فتشرب من ينابيعك الحيّة. بالحقيقة إن قبلت كلمة الله فى داخلك، يصير فيك ينبوع مياه يفيض حياة أبدية[406].].

ثامناً: يتطلَّع الرب إلى دموع الفئات المظلومة وصراخهم. أبرز ابن سيراخ اهتمام الله برعاية الفئات المظلومة. أُذناً الرب تنصتان إلى تضرَّعات الأيتام والأرامل ودموعهم وصرخاتهم. "أليست دموع الأرملة تسيل على خديها، وتصرخ ضد من تسبَّب فيها؟ (سى 35: 18). يقول الأب فلجنتيوس: [هكذا نغلب الخصم، إن كنا نحارب بالدموع والصلوات والقلب المنكسر على الدوام. مكتوب:" صلاة المتواضع تخترق السحب... ولا يكف حتى يفتقده العليّ ". لذلك بكاء المتواضع يساهم بقوة عظيمة فى تدمير الشهوة الجسدانية. الدموع الصادرة من وخز القلب تهزم العدو وتقتنى لحسابنا عطية السعادة الغالبة[407].].

تاسعاً: الدموع تُعد ملابس العُرْس. يقول القدّيس يوحنا الدرجى: [الإنسان المتسربل بثوب الأنين المقدّس الذى أنعم به الله عليه، يكون كمن ارتدى ملابس العُرْس ويعرف فرح النفس الروحى.].

عاشراً: الدموع المقدسة لا تبعث الكبرياء فينا. يقول الأب نيلس السينائى: [عندما تسكب فيضاً من الدموع أثناء الصلاة لا تفتخر بذلك، ظاناً فى فكرك أنك أفضل من آخرين، بل إن اعترافك بخطاياك وهبك دموعاً استجلبت حنان الله[408].].

حادى عشر: دموع الحكمة السماوية. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [حينما نعامل إنساناً خاطئاً، يجب أن نبكى حزانى ومتنهدين، وإذا ما نصحنا أحداً ولم يستجب، بل يمضى إلى الهلاك، يجب أن نبكى. فهذه هى دموع الحكمة السماوية، وحينما يكون إنسان فى فقرٍ، أو فى مرض جسمانى، أو ميتاً، لا نبكى، لأن تلك أمور لا تستحق الدموع.].

ثانى عشر: تنسكب الدموع من العينين الجسديتين لكنها تُحسَب بنت النفس. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ما من شيء أحلى من الدموع، لأنها هى أشرف عضو تعرفه وأجمل الأعضاء وهى بنت النفس. لهذا ننحنى لها، كأننا رأينا النفس ذاتها تنوح[409].].

ثالث عشر: حاجتنا أن يتطلع الرب إلينا فنتمتع بالدموع المقبولة. يقول القديس أمبروسيوس: [أنظر إلينا يا ربنا يسوع لنعرف البكاء على خطايانا[410].] كما يقول: [حسنة هى الدموع التى تغسل الخطية! من يلتفت إليهم الرب وينظرهم يبكون، فإن بطرس أنكر أولاً ولم يبكِ، لأن الرب لم يلتفت ولا نظر إليه. أنكر للمرة الثانية ومع هذا لم يبكِ... وفى المرة الثالثة أنكر أيضاً، وإذ التفت إليه يسوع ونظره عندئذ بكى بمرارة... لا نستطيع القول بأنه (مجرد) التفت إليه بعينيه الجسديتين ونظر إليه فى عتاب منظور واضح، إنما تحقق هذا داخلياً فى الذهن والإرادة... تلامس معه الرب برحمته فى صمت وسرية. فذكره بنعمته الداخلية، مفتقداً بطرس وحاثاً إياه، مقدماً له دموعاً ظاهرة تُعَبِّر عن مشاعر الإنسان الداخلى. أنظر بأية طريقة الله حاضر بمعونته ليسندنا فى الإرادة والعمل، يعمل فينا أن نريد وأن نعمل[411].].

رابع عشر: حاجتنا إلى دموع الكنيسة. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [نؤمن أن الأحشاء الإلهيّة تُحَرِّكها دموع أم أرملة أضناها الألم لموت وحيدها وهى أرملة. مشاركة الجموع لها فى آلامها لم يسد الفراغ الذى تركه موت ابنها وحرمانها من الأمومة... لكنها ببكائها نالت قيامة ابنها الشاب، الابن الوحيد[412].] يرى القدِّيس أمبروسيوس فى هذا المنظر صورة حيّة للكنيسة الأم التى لا تتوقَّف عن البكاء من أجلنا متضرِّعة إلى مسيحها ليردّ لها وحيدها ينطق بكلمة الحياة، إذ قيل "فجلس الميِّت، وابتدأ يتكلَّم، فدفعه إلى أُمّه" (لو 7: 15).

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [إن أخطأت خطيّة مُميتة لا تستطيع أن تغسلها بدموعك، فاجعل أمَّك تبكى عليك، التى هى الكنيسة، فإنَّها تشفع فى كل ابن لها كما كانت الأرملة تبكى من أجل ابنها الوحيد. إنها تشترك فى الألم بالروح، وهذا أمر طبيعى بالنسبة لها حينما ترى أولادها يدفعهم الموت فى الرذائل المُهلكة، فإنَّنا نحن أحشاء رأفتها. حقاً توجد أحشاء روحيّة كتلك التى لبولس القائل: "نعم أيها الأخ ليكن لى فرح بك فى الرب، أرحْ أحشائى فى الرب" (فل 20). نحن أحشاء الكنيسة، لأننا أعضاء جسدها من لحمها وعظامها. لتبكِ إذن هذه الأم الحنون ولتشاركها الجموع لا الجمع وحده، حينئذ تقوم أنت من الموت وتخرج من القبر. يتوقَّف حاملوا الموت الذى فيك وتنطق بكلمات الحياة، عندئذ يخاف الجميع ويرجع الكل وهم يباركون الله الذى قدَّم لنا مثل هذا الدواء الذى يخلصنا من وطأة الموت[413].].

خامس عشر: الدموع والثمر الروحى. يقول القدّيس مقاريوس الكبير: [كما أنه إذا سقط المطر على الأرض أنبتت وأنتجت الثمار، وفى ذلك راحة وفرح للناس، كذلك الدموع إذا ما وقعت على قلب أثمرت ثماراً روحيّة وراحة للنفس والجسد معاً[414].].

10 - هل لدموع الحزانى على ميت حدود معينة؟

يقول الرسول بولس: "لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين، لكى لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم" (1تس 4: 13). يقول الأب أفراهاط: [الخاطي وهو حى ميت لله، أما البار فإنه وهو ميت حى لله. مثل هذا الموت يحسب رقاداً، وكما يقول داود: "أنا اضطجعت ونمت. ثم استيقظت" (مز 3: 5). ويقول إشعياء: "استيقظوا يا سكان التراب" (إش 26: 19). ويقول الرب عن ابنة رئيس المجّمع: "الصبية لم تمت ولكنها نائمة" (مت 9: 24). وعن لعازر يقول لتلاميذه: "لعازر حبيبنا قد نام، لكنى أذهب لأوقظه" (يو 11: 11) [415].] إنه يدعو الأموات بالراقدين، لأن نفوسهم قد تمتعت بالقيامة من الأموات خلال دفنهم مع السيد المسيح فى المعمودية، فلا سلطان للموت عليها.

ما دام الموت رقاداً، يليق بنا ألا نحزن بلا رجاء من جهة الراقدين كمن هم بلا إيمان. لقد بكى السيد المسيح عندما خرت مريم عند قدميه قائلة: "يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخى!" (يو 11: 32)، حتى "قال اليهود: أنظروا كيف كان يحبه" (يو 11: 36).

يقول القديس أمبروسيوس: [ليس كل بكاء ينبع عن عدم إيمان أو ضعف. فالحزن الطبيعى شيء، وحزن عدم الثقة شيء آخر. هناك فارق كبير بين الاشتياق إلى ما فقدناه والنحيب (بيأس) على ما فقدناه. هذا ويلاحظ أنه ليس الحزن فقط يسبب دموعاً وإنما للفرح أيضاً دموعه[416].] وكتب القديس باسيليوس الكبير إلى كنيسة بارنوسيوس شمال كبادوكية مؤكداً لهم أن الرسول لم ينزع عنا بكلماته هذه مشاعرنا نحو الراقدين، إنما يحذرنا من الاستسلام للحزن، إذ يقول: [لست أعني بهذا أننا نكون بلا إحساس نحو الخسارة التى لحقت بنا وإنما ألا نستسلم لحزننا[417].].

يقول ابن سيراخ: "ابكِ بمرارة، وارثِ بحرارة، وأقم المناحة بحسب منزلته يوماً أو يومين تجنباً للافتراء، ثم تعزَّ عن حزنك. فإن الحزن يؤدّى إلى الموت، وحزن القلب يُنهِك قوَّتك. أيضاً يمكث الحزن فى المحنة، وحياة المسكين تُرهِق قلبه. لا تُسَلِّم قلبك إلى الحزن، بل اصرفه متذكِّراً نهاية الحياة. لا تنسَ، أنه لا عودة (من هناك)، ولن تنفع الميت بالحزن، وإنما فقط تؤذى نفسك (سى 38: 17 - 21). البكاء المُرّ هنا يعنى البكاء بمشاعر صادقة، وليس للمظهر الخارجى من أجل المشتركين فى خدمة الجناز. هذا الإخلاص أفضل من الرثاء، إذ كثيرون يرثون الميّت ويمدحونه ليس من القلب. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [تحفظ من أن تحوط نفسك بطاغية الحزن. يمكنك أن تسيطر على نفسك، فإن العاصفة ليست أعظم من مهارتك.] [لا تكن قط مكتئَباً، فإنه لا يوجد سوى شيء واحد مخيف وهو الخطية.] [لا تتطلَّع إلى الجثمان الراقد بعينين مغلقتين وشفتين صامتتين، بل الإنسان القائم المُتمتِّع بالمجد غير المنطوق به والعجيب، وَجِّه أفكارك من الرؤية الحاضرة إلى الرجاء العتيد[418].] [هل حُرِمت من اللقاء معه فتبكى وتحزن؟ الآن أليس هذا ليس بالأمر غير المعقول إن سلَّمت ابنتك للزواج وأخذها زوجها إلى بلد بعيدة حيث تتمتع هناك بالثراء. فإنك لا تحسب هذا كارثة، لكن غناهما يعزياك عن الحزن المُتسبّب لغيابها. والآن هنا ليس إنسان بل الربّ نفسه يأخذ قريبك فهل تحزن وتنوح؟ [419]] [قد تحزن وتبكى لكن لا تدع القنوط يحل بك، ولا تنهمك فى الشكاوى. اشكر الله الذى أخذ صديقك لتجد فرصة لتكرم الراحل وفراقه عنك يصير مأتماً. إن سقطت فى حالة إحباط، فإنك تمنع عن الكرامة من الراحل، وتحزن الله الذى أخذه، وتضر نفسك. أما إذا كنت شاكراً فإنك تكرم الراحل وتمجد الله وتنتفع أنت. لتبكِ كما بكى سيدك على لعازر، ملاحظاً الحدود اللائقة بالحزن، والتى يلزم ألا تتعدَّاها. هكذا يقول أيضاً بولس:" أود ألا تجهلوا بخصوص الراقدين، ألا تحزنوا كالباقين الذين بلا رجاء (1تس 4: 13). يقول: "لا تحزنوا مثل اليونانيين الذين بلا رجاء فى القيامة، الذين ييأسون من جهة الحياة المُقبِلة[420].].

11 - هل يليق بالمؤمن أن يسكب الدموع عن أسرة أو جماعة أو مدينة تنسى الله؟

يريد الله كل مؤمنٍ أن يأتى ويرثى صهيون ويبكى عليها. لعله يقول إن كانت عيوننا قد جفت وقلوبنا قد غلظت فلنلجأ إلى إخوتنا الروحيين ليسندونا، نتعلم منهم حياة التوبة ونطلب صلواتهم عنّا. إن أمكننا أن ندعو كل الخليقة لكى تسندنا بالصلاة إلى الله الذى يعيننا بفيض نعمته. يقول إرميا النبى: "يا ليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع، فأبكى نهاراً وليلاً قتلى بنت شعبى" (إر 9: 1). "يسرعن ويرفعن علينا مرثاة، فتذرف أعيننا دموعاً وتفيض أجفاننا ماءً" (إر 9: 18).

كان إرميا النبى يدخل فى أماكن مستترة متضعة ليسكب الدموع من أجل قطيع الرب الساقط تحت سبى إبليس. إذ كان قلبهم قد أصيب بالعمى فلا يدركون أنهم ينحدرون إلى الظلمة، إذا بقلب إرميا يتمزق حزناً عليهم، فيقول: "وإن لم تسمعوا ذلك، فإن نفسى تبكى فى أماكن مستترة من أجل الكبرياء وتبكى عينى بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبى قطيع الرب (ار 13: 17).

إذ رأى القديس باسيليوس كيف تسللت الهرطقات إلى قلوب البسطاء تفجرت ينابيع عينيه، قائلاً: [إنى أبكى أياماً كثيرة على الشعب الذى انسحب للهلاك خلال التعاليم الشريرة، فإن آذان البسطاء قد ضلت واعتادت أن تسمع الشرور الهرطوقية[421].] ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [أيتها التلال نوحى، أيتها الجبال اندبى! لندعو كل الخليقة لتشاركنا بالوجدان بسبب خطايانا... لنلجأ إلى الملك الذى هو من فوق. لندعوه فيعيننا. فإن كنا لا نطلب عوناً من السماء لا تكون لنا تعزية نهائياً فيما نحن قد سقطنا فيه[422].].

12 - ما هى الأماكن المستترة التى كان إرميا يسكب الدموع فيها من أجل قطيع الرب الساقط؟

ما هذه الأماكن المستترة إلا أحشاء السيد المسيح محب البشر، ففيه إذ تدخل النفس لا تكف عن ذرف الدموع من أجل خلاص كل العالم! لقد دخل الرسول بولس هذه الأماكن المستترة، إذ يقول: "لأنى من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة لا لكى تحزنوا، بل لكى تعرفوا المحبة التى عندى ولا سيما من نحوكم" (2كو 2: 4).

يرى العلامة أوريجينوس[423] أن إرميا كان يبكى فى أماكن مستترة، لأن الرؤساء والقيادات خبأوا النبوات التى تشهد للسيد المسيح، فصار الناس فى الظلمة عوض النور. كما يقول: [ "وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة، ستبكى أنفسكم أمام الشدة". من بين الذين يسمعون، يوجد من يسمعون بطريقة مستترة ويوجد من لا يسمعون بطريقة مستترة. ما هو إذاً السمع بطريقة مستترة إلا ما تقوله الآية: "بل نتكلم بحكمة الله فى سرٍّ: الحكمة المكتومة، التى سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدناً" (1كو 2: 7). عندما اسمع الناموس، إما اسمعه بطريقة مستترة أو لا أسمعه بطريقة مستترة. فاليهودى (الحؤفى) مثلاً لا يسمعه بطريقة مستترة، لهذا يُختتن بطريقة ظاهرية، غير عالمٍ أن اليهودى فى الظاهر ليس هو يهودياً ولا الختان الذى فى الظاهر فى اللحم ختاناً "(رو 2: 28)، اما الذى يسمع ويفهم الختان بطريقة مستترة فيكون مختتناً فى الخفاء[424].].


[368] - دير القديس مقاريوس: فردوس الرهبان؛ الكاتب: قاموس سير القديسين، حرف أ.

[369] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate cf. 1: 49.

[370] Cf. Homilies on St. John, 1: 63.

[371] Letters, 263.

[372] Letter 7: 60.

[373] Matthew Henry Comm. In one volume, p. 583.

[374] Boyld's Bible Handbook, p. 239.

[375] Oration, 39.

[376] In Hebr. 4: 24; 7: 24.

[377] In Lev. 8.

[378] On Ps 79 (80).

[379] Commentary on Ecclesiastes 4: 71.

[380] On Repentance, 1.

[381] - بإخضاعهم وإذلالهم من قبل الأشوريين، أعطى الرب الشعبَ اليهودى فيضاً من الدموع لهم خبزاً: "صارت لى دموعى خبزاً نهاراً وليلاً" (مز 42: 3).

[382] Pastoral Care, 29: 3.

[383] On Ps 102 (101).

[384] On His Father's Silence, Oration 14: 16,.

[385] - مز 30.

[386] Homilies on Ps. 2.

[387] On Psalm 126 (125).

[388] On Psalm 126 (125).

[389] On Ps. 126.

[390] Homilies on Genesis, 24: 32 - 25.

[391] Ascetic Homilies, 4.

[392] Commentary on Ecclesiastes 2: 145.

[393] Joseph 7: 2.

[394] Sermon 2: 215.

[395] Sermon 2: 162.

[396] Sermon 5: 162.

[397] City of God 20 - 17.

[398] - الآباء الحاذقون فى العبادة ج 2، ص 186.

[399] Concerning Widows, 6.

[400] - تفسير المزمور 30 (29).

[401] In Jeremiah, homily 49: 3.

[402] Ladder 40: 7, 36, 37.

[403] - عظة 8: 25.

[404] - خواطر فيلسوف فى الحياة الروحيّة (الخورى يوحنا الحلو)، المطبعة الكاثوليكية بيروت، 1970، ص 279 – 281.

[405] Cf. Homilies on Exodus 5: 4.

[406] Cf. Homilies on Genesis 5: 12.

[407] Selected Works, FOTC, vol. 95, p. 337 - 338.

[408] - الفيلوكاليا عن الصلاة.

[409] Homilies on Col. , Hom. 12.

[410] In Luc 54: 22 - 62.

[411] On the Grace of Christ 49.

[412] In Luc 11: 7 - 17.

[413] In Luc 11: 7 - 17.

[414] - بستان الرهبان طبعة مطرانية بنىّ سويف 1968م، ص 280 - 281.

[415] Selected Demonstration 8 Of the Resurrection of the Dead, 18.

[416] On the Desease of Statyrus 10: 1.

[417] Ep 62.

[418] W. W. Wiersbe: Treasury of the Workd's Great Sermons, 1993, p. 131.

[419] W. W. Wiersbe: Treasury of the Workd's Great Sermons, 1993, p. 131.

[420] W. W. Wiersbe: Treasury of the Workd's Great Sermons, 1993, p. 131 - 132,.

[421] St. Basil. Ep 4: 243.

[422] St. John Chrysostom: Concerning Statues. 2.

[423] In Num. hom. 12.

[424] In Jer. hom. 13: 12.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

لا توجد نتائج

No items found

13- التسبيح والفكر السماوى - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

11- العبادة الكنسية والإماتة - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات