8- العبادة المقدسة وحياة الملء – كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

8 - العبادة المقدسة وحياة الملء

1 - ماذا يعنى الكتاب المقدس بالملء وأيضاً بالفراغ؟

خلق الله الإنسان على صورته ومثاله (تك1: 27)، فكان آدم وحواء يجدان شبعهما فى خالقهما، إذ كان صوت الربّ ماشياً فى الجنة (تك3: 8). حقاً كانا عروسين فى جنة عدن كما فى القصر الملكى يتمتَّعان بالحضور الدائم للربّ وكان سرّ فرحهما وسعادتهما وشبعهما. كانا يتلامسان مع محبة الله فى أعماقهما كما فى كل ما هو حولهما، ولا يشعران بالفراغ قط، إذ كانت المخلوقات الأرضية خاضعة لهما، وتخدمهما بفرحٍ.

أما وقد أعطى آدم وحواء للربّ القفا لا الوجه بكسر الوصية الإلهية بإرادتهما الحرة، واقتحام الخطية قلبيهما لتملك عليهما، فقد فقدا صورة الله ولم يعودا على مثاله، عانا من الفراغ الداخلى، ولم يستطع العالم كله أن يشبعهما.

تجسد كلمة الله ليُخَلِّصهما هما ونسلهما، فأقام ملكوته فى داخل قلوب المؤمنين (لو17: 21). أقام من قلوب المؤمنين كنيسة مقدسة، إذ أرسل روحه القدوس ليسكن فيها (رو8: 11). بهذا تتحقق حياة الملء خلال استرداد الصورة الإلهية والتمتُّع بعربون السماء (أف1: 14)، وإعلان المجد الحقيقى الداخلى والنمو المستمر يوماً فيوماً حتى يراه المؤمنون وجهاً لوجه فى الفردوس. هذا ما تمتَّع به اللص، إذ سمع الصوت الإلهى: "اليوم تكون معى فى الفردوس" (لو23: 43).

هذا النمو المستمر فى الشركة مع الله يُحَقِّق الملء الدائم فى حياتنا. هذا الملء هو عمل الثالوث القدوس الذى لا يتوقَّف، ففى كل يومٍ نختبر أبوة الآب وعضويتنا فى جسد المسيح، وقيادة الروح العامل فينا. هذا الملء غيرالمنقطع هو نعمة إلهية مجانية، تهيئنا لحياة الشكر والتسبيح الخفى مع الطغمات السماوية.

2 - ماذا يعنى الرسول بحياة الملء؟

كثيراً ما يتحدَّث الرسول عن حياة الملء، سواء بالنسبة للكنيسة الجامعة أو المؤمن كعضوٍ فى كنيسة المسيح. إنه يرى الكنيسة المنطلقة نحو السماء حيث تنضم إلى صفوف الطغمات السماوية، كعروسٍ تحمل أيقونة عريسها السماوى، يُناجِيها قائلاً: "ها أنتِ جميلة يا حبيبتى، ها أنتِ جميلة، عيناكِ حمامتان" (نش1: 15). وفى نفس الوقت يشعر كل مؤمنٍ أنه الابن (او الابنة) الخاص الذى يُعِدْ له أبوّه السماوى مسكناً فى السماوات.

الملء فى ذهن الرسول بولس هو ان يسترد الإنسان المؤمن صورة الله التى فقدها بسبب الخطية، وأن يتمتَّع ببرّ المسيح، فيصير موضع إعجاب السماويين وتكريمهم.

هذا ما دفع الرسول أن يُرَكِّز أنظارنا على الملء أو التمتُّع بالعطايا التالية:

أولاً: عطية البنوة لله.

ثانياً: إدراك المؤمن بانطلاقه نحو الكمال باتحاده مع مُخَلِّصه.

ثالثاً: الشعور بالشبع الداخلى والفرح الدائم خلال خبرته بعربون السماء.

رابعاً: التهاب قلب المؤمن بالاشتياق نحو خلاص كل بنى البشر.

خامساً: تمتُّعه بالتجديد المستمر حيث ينطلق كما من مجدٍ إلى مجدٍ!

سادساً: مع شعوره بالغِنَى الداخلى، يشعر أنه غريب على الأرض، مُترنّماً: "آمين، تعال أيها الرب يسوع" (رؤ22: 20).

سابعاً: يشعر أن الكتاب المقدس هو الفردوس الروحى، حيث يقطف من أشجاره ثمر الروح القدس: "محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان، وداعة تعفُّف" (غلا5: 22 - 23).

ثامنآ: لن يتوقَّف قلبة عن الشكر والتسبيح لله حتى وهو نائم!

3 - لماذا لم يختر السيد المسيح شاول الطرسوسي من بين تلاميذه؟

السيد المسيح العالم بكل شيء (يو16: 30)، حتى أفكار البشر حتماً كان يعلم قلب شاول وفكره، إذ كان جاداً فى دراسة الناموس وفى جهاده لينعم ببرّ الناموس، إذ قال عن نفسه: "من جهة البرّ الذى فى الناموس بلا لومٍ" (فى3: 6). وبسبب غيرته على الناموس، بجهالةٍ جدف على المسيح واضطهد تلاميذه وافترى على المؤمنين، إذ يقول: أنا الذى كنت قبلاً مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ولكننى رُحِمت، لأني فعلت بجهل فى عدم إيمان "(1تى1: 13).

لقد اختار السيد غالبية تلاميذه من صيادى السمك البسطاء، وكما يقول الرسول: "اختار الله جهّال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء (1كو1: 27). ولم يختر شاول الطرسوسى لكى شاول يختبر بنفسه هو شخصياً عمل الناموس وهدفه وإمكانياته. إذ يقول الرسول بولس:" أيها الرجال الإخوة أنا فريسي ابن فريسي (أع33: 6). ويقول: "من جهة الختان مختون فى اليوم الثامن، من جنس إسرائيل من سبط بنيامين، عبرانى من العبرانيين، من جهة الناموس فريسي" (فى3: 5 - 6). لهذا حين آمن بالسيد المسيح أدرك الفارق ما بين عمل الناموس وعمل المسيح فيه، إذ يقول: "لأنه بأعمال الناموس كل ذى جسد لا يتبرر أمامه، لأن بالناموس معرفة الخطية" (رو3: 20). "فماذا نقول: هل الناموس خطية؟ حاشا... لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته" (رو7: 7). لقد أدرك أن دور الناموس هو أن يكتشف المؤمن حاجته إلى المُخَلِّص الإلهى كى يدخل به إلى الكمال أو إلى الملء. "لأن غاية الناموس هل المسيح للبرّ لكل من يؤمن" (رو10: 4).

يقول القدّيس يوحنا الذهبى الفم[227] أن الإنسان لا يمكن أن يحيا ولا أن يتبرَّر ما لم يُتَمِّم كل الفرائض وأحكام الناموس، الأمر الذى يعتبر مستحيلاً! لهذا فإذ أراد اليهود أن يتبرّروا بالناموس فالناموس عينه يُعلن عن العجز التام لكل إنسان أن يُحقّق البر والحياة... بهذا يدفعنا إلى الإيمان بربنا يسوع المسيح الذى وحده غير كاسرٍ للناموس، بل وقادر على تبرير مؤمنيه. بهذا لم يترك الرسول بولس لليهود عذراً يلتمسونه، فإن الناموس نفسه يُعلِن عن المسيح بكونه وحده يتركَّز فيه البرّ؛ من ينعم بالبرّ الذى قصده الناموس، ومن يرفضه إنما يرفض البرّ حتى وإن ظنّ فى نفسه أنه بالناموس يتبرّر.

ويقول القدّيس إكليمنضس السكندرى: [المسيح هو غاية الناموس للبرّ، الذى أنبأنا عنه بالناموس لكل من يؤمن[228].].

إذ دعا السيد المسيح شاول الطرسوسي الفريسي، شعر الرسول أن رسالته هى التمتُع بحياة الملء بالمسيح يسوع. هذا الملء تحدث عنه السيد المسيح فى صلاته الوداعية: "أيها الآب القدوس احفظهم فى اسمك الذين أعطيتنى ليكونوا واحداً كما نحن" (يو17: 11).

"ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا" (يو17: 21).

"ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به، وأكون أنا فيهم" (يو17: 26).

4 - ما هو الملء أو حياة الكمال عند الرسول؟

كثيراً ما أشار الرسول إلى الملء بأسلوب أو آخر، فمن كلماته:

"من التصق بالرب فهو روح واحد" (1كو6: 17).

"إذاً إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً" (2كو5: 17).

"ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذى صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء" (1كو1: 30).

"مملوئين من ثمر البرّ الذى بيسوع المسيح لمجد الله وحمده" (فى1: 11).

"لكى تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة" (2 بط 1: 4).

"وأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنون باسمه. الذين وُلدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله" (يو1: 12 - 13).

5 - كيف نتمتع ككنيسة بالملء أو الكمال؟

أولاُ: الشركة مع المسيح. يقول القدّيس أغسطينوس: [الله الملء والإنسان فارغ، أن أراد أحد أن يمتلئ فليذهب إلى ذاك الذى هو الملء: "تعالوا إلىّ واستنيروا" (راجع مز34: 5)، فإن كان الإنسان كاذباً، فهو بهذا فارغ يطلب أن يمتلئ، فيجري بسرعة وغيرة نحو الينبوع ليمتلئ[229].] كما يقول: [يحل (المسيح) فى تلك القلوب المُخْلِصَة (الأمينة)، فى المتأصلين فى محبته، الذين يبقون ثابتين غير متزعزعين، لكى تنالوا القوة (الكاملة)، فالأمر يتطلب قوة عظيمة: "لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إلى كُلِّ مِلْءٍ اللهِ"، ماذا يعنى الرسول بهذا التعبير؟ مع أن محبة المسيح ترتفع فوق كل معرفة بشرية، لكنكم ستعرفونها إن كان لكم المسيح ساكناً فيكم، نعم ليس فقط تعرفون ذلك منه، بل أيضاً وتمتلئون إلى كل ملء الله[230].].

ويُعَلِّق القديس مار أفرآم السريانى على العبارة التالية: "فإنه فيه يحلّ كل ملء اللاهوت جسدياً، وأنتم مملوؤون فيه الذى هو رأس كل رياسة وسلطان" (كو2: 10)، قائلاً: لقد سند المحتاجين وأعطى حياة للمائتين، حتى ندرك أنه من الجسد الذى فيه حلّ ملء اللاهوت، الجسد الذى سكنت فيه الحياة، قد أعان عوز المعتازين (كو2: 9) [231].].

ثانياً: قبول عمل الروح فينا. لا يعنى الامتلاء بالروح حلولاً خارجياً نتقبَّله وإنما هو قبول عمل الروح فينا والتمتُع بقوته العاملة داخل النفس، لقد عبَّر القديس باسيليوس فى كتابه عن الروح القدس عن هذا الامتلاء بقوله إن الروح يُعطى للإنسان قدر استعداد الإنسان، وكأن الروح لا يكف عن أن يعطى ما دام الإنسان يفتح قلبه لعمله فيه ويتجاوب معه.

ثالثاُ: وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. يقول الرسول: "إلى أن ننتهى جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسانٍ كاملٍ إلى قياس قامة ملء المسيح (أف4: 13). بعد أن تحدث الرسول عن تنوُّع المواهب، يؤكد الالتزام بهدفٍ واحدٍ، بغية الوصول" إلى وَحْدَانِيَّةٍ الإيمَانِ ". كأن الرسول خشي الخلط بين المواهب والإيمان، فالمواهب متنوعة وأما الإيمان فواحد. وكما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [بمعنى إلى أن نُظهر أن لنا جميعنا الإيمان الواحد، حينما نكون كلنا واحداً، ونكون كلنا متشابهين فى معرفة الرباط المشترك. هكذا يليق بك أن تتعب عاملاً بهذا الهدف. فإن قبلت الموهبة بهذا الهدف أى بنيان الغير، فإنك لن تتوقَّف عن العمل إن حسدك الآخرون. لقد كرمك الله، وسامك لكى تبنى غيرك. نعم بهذا الهدف كان الرسول منشغلاً، وبذات الهدف كان النبى يتنبأ ويعمل، والإنجيلى يكرز بالإنجيل، والراعى والمعلم يعملان، الكل يتعهَّدون عملاً مشتركاً واحداً. الآن إذ نؤمن كلنا إيماناً متشابهاً توجد وحدانية، ويتحقَّق" الإنْسَانٍ الكَامِلٍ[232]. ".

هكذا يتناغم تنوُّع المواهب فى الكنيسة – جسد المسيح الواحد – مع وحدانية الإيمان، إذ يعمل الكل معاً، كل فى موهبته، خلال عضويته الصادقة فى جسد المسيح لبنيان الجماعة المقدسة، بهذا يدخل الكل إلى "مَعْرِفّةِ ابْنِ اللهِ"، "إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ". بمعنى أن الوحدة الكنسية القائمة على تنوع المواهب مع وحدة الهدف ووحدانية الإيمان تنطلق بالمؤمنين من حالة الطفولة الروحية إلى النضوج الروحى، إذ ينطلق الكل معاً من معرفة روحية اختبارية حية إلى معرفة أعمق فأعمق، لعلهم يبلغون "قِيّاسِ قّامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ".

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [يقصد هنا بالملء المعرفة الكاملة، فكما يقف الرجل (الإنسان الكامل) بثباتٍ بينما يتعرض الطفل للفكر المتردد، هكذا أيضاً بالنسبة للمؤمنين[233].].

نحن الآن كمن هم فى حالة طفولة نامية للبلوغ إلى النضوج الكامل، لذا يدعونا الرسول فى موضع آخر "أطفالاً" (1كو13: 11)، وحينما يقارن بين ما نلناه من معرفة روحية وما نكون عليه من معرفة مُقْبِلَة يحسبنا هكذا، قائلاً: "لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل، فحينئذ يبطل ما هو بعض، لما كنت طفلاً كطفلٍ كنت أتكلم، وكطفلٍ كنت أفطن، وكطفلٍ كنت أفكر، ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل، فإننا ننظر الآن فى مرآة فى لغزٍ لكن حينئذ وجهاً لوجه، الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت" (1كو13: 9 - 12).

هكذا ما دمنا فى جهادنا، نعمل معاً بهدف واحد فى وحدانية الإيمان، ننطلق دائماً من حالة الطفولة إلى النضوج لنبلغ "قِيّاسِ مِلْءِ الْمَسِيحِ".

6 - كيف يتمتع المؤمن بالملء أو الكمال؟

لا يمكن فصل العضو عن الجماعة، ولا الجماعة عن العضو، كل نموٍ فى حياة الجماعة هو لبنيان الأعضاء، وكل نموٍ حقيقىٍ فى حياة الأعضاء هو لبنيان الجماعة. لذلك إذ نسمع تعبير "قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ" لا نحسبه خاص بالكنيسة كجماعة فحسب، ولا كأعضاء منعزلين، إنما هو حث للجماعة ككل ولكل عضو لعله يبلغ هذا المرتفع الشاهق.

هنا المرتفع شاهق جداً، لأن الرسول يريدنا بإرادتنا الحرة أن نجاهد بقوة النعمة بلا انقطاع سالكين فى هذا الطريق بلا توقُفٍ. ليتنا إذ نسمع هذا لا نيأس، مُتذكِّرين كلمات الأب سيرينيوس: [يليق بنا ألاَّ ننسحب من جهادنا فى السهر بسبب اليأس الخطير، لأن "ملكوت السماوات يُغصَب والغاصبون يختطفونه" (مت11: 12). فلا يمكن نوال فضيلة بدون جهاد[234].] ويحدثنا الأب ثيوناس[235] عن الجهاد مُعلِناً أن الله لا يُلزِمنا على صعود مرتفعات الصلاح العالية والسامية لكنه يحثّنا بنصائحه وشوقنا لبلوغ الكمال بإرادتنا الحرة.

الآن بعد أن شوَّقنا الرسول للارتفاع على الجبال السماوية الشاهقة لنبلغ "قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ"، حذَّرنا من المعوقات، مُطالِباً إيانا بالجهاد بلا انقطاع، كأطفالٍ صغارٍ يحتاجون إلى النمو بغير توقفٍ بالرغم من الصعاب التى تواجهنا، إذ يقول: "كَيْ لاَ نَكُونَ فِى مَا بَعْدُ أطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولين بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ. بِمَكْرٍ إلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ. بلْ صَادِقِينَ فِى الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِى كُلِّ شَيْءٍ إلَى ذَاكَ الَّذِى هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ" (أف4: 14 - 15).

كأن السيد المسيح يعمل فى أناس هم أطفال غير ناضجين، يسندهم ويُنَمِّيهم ليُقِيمَهم رجالاً ناضجين روحياً، وعوض الضعف يهبهم قوة. بمعنى آخر، يعيش كل عضو داخل الكنيسة فى حركة مستمرة بلا انقطاع نحو الملء والكمال، نامياً فى المحبة، أى فى المسيح الذى لم يُرضِ نفسه (رو15: 3)، بل أحبّ الكل، باذلاً حياته ليقيم الكنيسة.

يقارن الرسول بولس الكنيسة بالسفينة وسط مياه هذا العالم، فإن لم يعمل كل البحارة معاً بروح واحد يصيرون كأطفال يتعرَّضون لمتاعبٍ كثيرةٍ، ولا يقدرون على مقاومة الرياح والأمواج فيهلكون.

يرى القديس يوحنا الذهبى الفم أن الرسول هنا يتحدث عن الكنيسة كبناءٍ واحدٍ إن لم يعمل الكل معاً فيه يتعرَّض للهدم ويفقد الكل حياته، إذ يعلق على هذا النص، قائلاً:

[بقوله: "لاَ نَكُونَ فِى مَا بَعْدُ" يظهر أنهم كانوا هكذا فى القديم، حاسباً نفسه أيضاً موضوع تصحيح معهم. يود أن يقول بأنه يوجد عاملون كثيرون كى لا يهتز البناء، فتكون الحجارة مثبتة لا محمولة (إلى هنا وهناك). هذه هى سمة الأطفال أن يُحمَلوا إلى هنا وهناك فيضطربون ويهتزون... لقد قَدَّم هذا التشبيه ليشير إلى الخطر العظيم الذى تتعرَّضَ له النفوس[236].].

إذ كشف الرسول عن خطورة الحياة بغير وحدانية الإيمان والهدف، مشبهاً العاملين كأطفال يلهون، كل فى واديه، يُحمَلون بريح التعاليم الباطلة، ويسقطون تحت خداع الناس، وينحرفون إلى الضلال، أوضح الالتزام بالسلوك فى طريق "الوحدانية" بارتباط الكل بالحب معاً تحت قيادة "الرأس المسيح" الواحد، مُشَبِّهاً الكنيسة بالجسد فتنمو الأعضاء معاً خلال اتحادها فيه، وتنال بنيانها خلال عمله فيها (كو1: 18).

الجسد كله ينمو معاً، دون أن يفقد العضو كيانه بل يتمتَّع قدر قياسه، قدر ما يتَّسع ينال من الرأس نموه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [تعتمد نفوس البشر عليه كأعضاء، فينعم كل عضو منفرد بعنايته الإلهية وعطية المواهب الروحية قدر ما يناسب قياسه، هذا يؤدى إلى نموهم... يليق بكل عضو ليس فقط أن يكون متحداً بالجسد، وإنما يكون أيضاً فى مكانه اللائق به، وإلاَّ فقد اتحاده بالجسد وحُرِم من تقبُّل الروح[237].].

خلال وحدانية الهدف ننعم بالمحبة التى تربطنا معاً بالرأس، فيعمل هو فينا، كلّ فى موقعه بما يناسبه لبنيان الجسد كله، فلا نكون مجرد جماعة عاملة معاً، وإنما أعضاء لبعضنا البعض، يعمل الرأس فينا بالحب، كل حسب موهبته التى يهبها إياه بروحه القدوس.

7 - ما الذى يحرم الشخص من حياة الملء؟

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم:

[إن رغبنا فى نوال نفع الروح (القدس) الذى من الرأس، فلنلتصق كل بالآخر.

يوجد نوعان من الانفصال عن جسد الكنيسة: الأول حين تبرد المحبة والآخر حين نجسر ونرتكب أموراً لا تليق بانتمائنا لهذا الجسد. فإننا بإحدى الطريقتين نقطع أنفسنا عن "ملء المسيح"...

ليس شيء يُسَبِّب انقساماً فى الكنيسة مثل حب السلطة!

ليس شيء يثير غضب الله مثل انقسام الكنيسة! نعم وإن مارسنا ربوات الأعمال المجيدة، فإننا إن مزَّقنا ملء الكنيسة نسقط تحت عقوبة لا تقل عن تلك التى يسقط تحتها من أفسدوا جسده[238].].

8 - ما هو دور الذين يتمتَّعون بحياة الملء فى تعاملهم مع الضعفاء؟

يقول الرسول: "وأنا نفسى أيضاً متيقن من جهتكم يا إخوتى أنكم أنتم مشحونون صلاحاً ومملوؤون كل علمٍ، قادرون أن ينذر بعضكم بعضاً" (رو15: 14). إذ تحدَّث عن التزامهم كأقوياء أن يحتملوا ضعفات الضعفاء، وكيهود متنصّرين أن يقبلوا الأمم فى الإيمان بفرحٍ وسرورٍ، أراد أن يُلَطِّف الحديث معهم، فلا يجعل من وصيته أمراً ثقيلاً على نفوسهم، لهذا بادر يمدحهم مُظهِراً أن ما يطلبه منهم ليس بالكثير بالنسبة لقامتهم الروحيّة وإدراكهم. ويلاحظ هنا رقته فى الحديث من جهة الآتى:

أولاً: لم يقل إنه سمع عن صلاحهم، وإنما هو بنفسه مُتيقِّن من صلاحهم. ليس محتاجاً إلى آخرين يشهدون لهم أمامه. وكأنه يقول إن كنت أوصيكم أو أقسوا عليكم بالانتهار، لكننى مُتيقِّن من جهتكم إنكم مشحونون صلاحاً!

ثانياً: يُعلِّق القدّيس يوحنا الذهبى الفم على تعبيره: "أنكم أنتم مشحونون صلاحاً"، بالقول: [كأنه يقول: ليس لأنكم قساة أو مبغِضون لإخوتكم لذلك أنصحكم أن تقبلوا عمل الله فلا تهملوا أو تُحَطِّموه، فإنى أعرف أنكم مشحونون صلاحاً، وإنما يبدو لى هنا أن أدعوكم لكمال فضيلتكم[239].].

ثالثاً: فى رقّة يحثّهم كما فى اتساع القلب أكثر فأكثر بحُبّ الآخرين حيث لا ينقصهم ملء الصلاح والمعرفة والقدرة. من جهة القلب هم صالحون لطفاء مُحِبُّون؛ من جهة الفكر لهم ملء العلم والمعرفة، ومن جهة الإمكانية قادرون. هذا كله أعطاه الجسارة ليطالبهم أكثر فأكثر! يتحدث معهم غاية فى الحكمة والتشجيع!

رابعاً: كتب القدّيس بولس إليهم بروح الأخوة المتواضعة، الأخوة التى أعطته دالة ليتجاسر فيكتب إليهم لا كمن يوصيهم بأمرٍ غريبٍ عن حياتهم، وإنما يُذَكِّرهم لينموا بالأكثر فيما يمارسونه فعلاً، إذ يقول: "ولكن بأكثر جسارة كتبت إليكم جزئياً ايها الإخوة، كمُذَّكِّرٍ لكم بسبب النعمة التى وُهِبَت لى" (رو15: 14). يقول القدّيس يوحنا الذهبى الفم: [لاحظوا تواضع فكر بولس، لاحظوا حكمته... إنه ينزل من كرسي السيادة هنا وهناك ليتحدَّث إليهم كإخوة وأصدقاء فى نفس الدرجة[240].].

خامساً: يُعلِن الرسول أنه مُلتزِم بالكتابة لهم، لأنه يمارس خدمته الرسولية التى أُفرِز لها كرسول للأمم، فإن كانت روما عاصمة العالم الأممي فى ذلك الحين فهو يشعر أنها يجب أن تكون مركز عمله. هذه هى النعمة التى وُهِبَت له من الله، خدمة الأمم، التى لا يتوقَّف عن التمتُع بها قط.

سادساً: يقول: "(تكونوا) مملوئين من ثمر البرّ الذى بيسوع المسيح لمجد الله وحمده" (فى1: 11). البرّ هو السيد المسيح. فالإنسان المسيحى لابد أن يثمر، ويُثمِر فى هدوء وسلام، أما ثمر البرّ فهو الأعمال الصالحة. إذ نُغرَس فى المسيح يسوع، ونُطعم فيه، لا نعود نكون بعد أغصان برية، بل أغصان الكرمة الإلهية الحاملة ثمر الروح. هذه الثمار الفائقة والمُشبعة موضع اعتزازنا، لكن ليست علة كبرياء وتشامخ، إذ هى هبة إلهية لمجد الله والتسبيح له. كما يُقصَد بكلمة "البرّ" هنا كل أعمال الروح القدس الذى يهبنا برّ المسيح، والشركة فى الطبيعة الإلهية. يقول "ثمرة البرّ" وليس "ثمار البر". جاءت الكلمة اليونانية فى المخطوطات القديمة بصيغة الفرد لا الجمع. وجاءت نفس الكلمة فى المفرد فى) غل5: 22؛ أف5: 9؛ يع3: 18؛ عب12: 11؛ رو6: 22)، لأن ثمر الروح مع تنوعه من حب وفرح وسلام وصلاح الخ. فى تناغم معاً، كأنه ثمرة واحدة.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: "(تكونوا) مملوئين من ثمر البرّ"، إذ بالحق يوجد برّ ليس حسب المسيح، على مستوى الحياة الأخلاقية. "الذى بيسوع المسيح لمجد الله وحمده". انظروا فإننى لست أتكلم عن مجدى، بل عن برّ الله... يقول: "لا تجعلوا محبتكم تضركم بطريقة غير مباشرة، بأن تعوقكم عن إدراك الأمور النافعة. احذروا لئلا تسقطوا خلال محبتكم لأى أحد. فبالحق أود أن تزداد محبتكم لكن دون أن يصيبكم ضرر منها[241].].

يقول الرسول: "وأنتم مملوؤون فيه الذى هو رأس كل رياسة وسلطان" (كو2: 10). إذ تحقق التجسد باتحاد اللاهوت مع الناسوت صار لنا حق التمتُع بغِنَى المسيح خلال اتحادنا معه، إذ نصير مملوئين فيه. خلال هذا الملء صار لنا إمكانية القيامة معه، والجلوس معه فى السماويات (أف2: 6)، وأن نملك أيضاً معه (2تى2: 12)، لا يعوزنا شيء (رو8: 32)، إذ يصير كل شيء هو لنا (1كو3: 21).

يُعَلِّق القديس أغسطينوس على العبارة: "ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة" (يو1: 16) قائلاً بأن الرب وهبنا نعمة مجانية مقابل استحقاقنا للعقوبة. بهذه النعمة وهبنا الإيمان الذى به ننال مجازاة عظيمة. يقودنا هذا الإيمان إلى معرفة الحق. بالإيمان يهبنا التبرير من خطايانا ويُقَدِّم لنا نعمة الخلود. هذا كله بشرط الاحتفاظ بهذه النعم. يقول القديس هيلارى أسقف بواتييه: [بعد إعلانه أنه فى المسيح يحلّ كلُ ملء اللاهوت جسدياً، يكشف فوراً عن سرّ صعودنا فى الكلمات "أنتم مملوؤون فيه" (كو2: 10)... قد صرنا مملوئين فيه (نلنا من ملئه)... لأن كل من هم الآن أو من سيكونون فيما بعد، المخلوقين من جديد برجاء الإيمان بالحياة الأبدية، يمكثون حتى الآن فى جسد المسيح... فى الزمان الذى يقول عنه الرسول: "الذى سيُغَيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده (فى 3: 21). لهذا فقد صرنا مملوئين فيه، أى بصعود جسده، لأن فيه يحل ملء اللاهوت جسدياً فهل رجاؤنا أعلى من السلطان الذى فيه؟ [242]].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [كلمة "ملء" تعني "الكل المتكامل The Whole... فهو" الرأس "وأنتم مملوؤون فيه معناها أن مالكم هو منه وليس بأقل مما له[243].].

يقول الرسول: "ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما فى مرآه نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2كو3: 18). إذ ننعم بالنور الإلهى والحرية الحقيقية تتجدد طبيعتنا وتنمو كل يومٍ لكى نتشكَّل ونصير أيقونة المسيح خالقنا. نرتفع كما من مجدٍ إلى مجدٍ. هكذا يتذوَّق المؤمن خبرة يومية ومعرفة عملية خلال قوة الكلمة المجددة على الدوام.

كان اليهود عاجزين عن التطلُّع إلى وجه موسى وسيط العهد القديم، فكان لزاماً أن يضع على وجهه برقعاً. أما نحن فصار لنا الوجه المكشوف لنرى كما فى مرآة كيف تتشكَّل طبيعتنا كل يوم حسب الوعود المجيدة التى لإنجيل المسيح وذلك بفعل الروح القدس "الرب الروح".

يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يظهر أنه ليس ممكناً للنفس أن تتَّحد بالله غير الفاسد بأية وسيلة ما لم تصرْ تقريباً طاهرة خلال عدم الفساد، حتى تنعم الشبه بالشبه، وتقيم نفسها كمرآة تتطلع نحو نقاوة الله، فيتشكَّل جمال النفس بالشركة فى الجمال الأصلى والتمتُّع بانعكاسه عليها[244].].

كما يقول: [ما دمنا قابلين للتغيير، فالأفضل أن نتغيَّر إلى ما هو أفضل: "من مجدٍ إلى مجدٍ". وهذا يجعلنا نتقدَّم دائماً نحو الكمال بالنمو اليومى، مع عدم الاكتفاء بحدودٍ مُعيَّنة نحو الكمال. يعنى عدم التوقُّف نحو ما هو أفضل، وعدم وضع أيّة حدود نقف عندها فى نمونا[245].].

ويقول: [نحن نرى الآن العروس يقودها الكلمة إلى أعلى درجات الفضيلة، إلى علو الكمال. فى البداية، يرسل لها الكلمة شعاعاً من نورٍ من خلال شبابيك الأنبياء وكوى الوصايا. ثم يُشَجِّعها على أن تقترب من النور، وتصير جميلة بواسطة تحوّلها إلى صورة الحمامة فى النور. وفى هذه المرحلة تأخذ العروس من الخير قدر ما تستطيع. ثم يرفعها الكلمة لكى تشارك فى جمال أعلى لم تتذوقه من قبل. وبينما هى تتقدم تنمو رغبتها فى كل خطوة، لأن الخير غير محدود أمامها. وتشعر باستمرار مع حلول العريس معها أنها قد ابتدأت صعودها للتوّ فقط. لذلك يقول الكلمة للعروس التى أقامها من النوم: "انهضي". وإذ جاءت إليه يقول لها: "تعالي" (نش2: 10)، لأن الشخص الذى دعاها للنهوض بهذه الطريقة فى استطاعته ان يقودها إلى الارتفاع والنهوض بها إلى مستوى أعلى. الشخص الذى يجري نحو الله ستكون أمامه مسافات طويلة. لذلك يجب علينا أن نستمر فى النهوض، ولا نتوقَّف ابداً عن التقرُّب من الله. لأنه كلما قال العريس: "انهضي" و "تعالي" فإنه يعطى القوة للارتفاع لما هو أفضل. لذلك لابد أن تفهم ما يأتى بعد فى النص. عندما يحفز العريس العروس الجميلة لكى تكون جميلة فهو يُذَكِّرنا حقاً بكلمات الرسول الذى يطلب منا أن نسلك سلوكاً فاضلاً لكى نتغيَّر من مجدٍ إلى مجدٍ (2كو3: 18). وهو يعنى بكلمة "مجد" ما فهمناه وحصلنا عليه من بركة فى وقت من الأوقات، ولا يهم مقدار ما حصلنا عليه من مجدٍ وبركةٍ وارتفاعٍ، لأنه يُعتقَد أننا حصلنا على أقل مما نأمل فى الحصول إليه. ولو أنها وصلت إلى جمال الحمامة بما قد حققه إلا أن العريس يأمرها بأن تكون حمامة مرة أخرى بواسطة تحوّلها إلى شيءٍ أفضل. فإذا حدث ذلك فإن النص سوف يُظهر لنا شيئاً أفضل. فإذا حدث ذلك فإن النص سوف يُظهر لنا شيئاً أفضل من هذا الاسم "حمامة" [246].].

ويقول: [لست أظن أن هذا أمر مخيف (أقصد بذلك أن طبيعتنا متغيرة). ليكن التغيُّر إلى الأفضل، فيكون لنا نوع من الجناح لنطير إلى الأمور الأعظم. لهذا ليته لا يحزن أحد إن رأى فى طبيعته ميلاً للتغيُّر. لتتغيَّر فى كل شيء إلى ما هو أفضل. ليتغيَّر الشخص من مجدٍ إلى مجدٍ، فيصير أعظم خلال النمو اليومى، والكمال المستمر دون بلوغ حد الكمال بسرعة هكذا. فإن هذا هو الكمال الحقيقى، ألاّ تقف فى النمو نحو ما هو أفضل وألا تضع حداً للكمال[247].].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لا يشير هذا إلى الأمور الباقية... الروح هو الله، ونحن نرتفع إلى مستوى الرسل، لأننا جميعاً سنراه معاً بوجوه مكشوفة. إذ نعتمد تتلألأ النفس أكثر بهاءً "من الشمس إذ تتطهّر بالروح، ليس فقط نعاين مجد الله، بل ونقبل منه نوعاً من الإشراق[248].].

يقول القديس غريغوريوس النزينزى: [أظن أنه هكذا جاء الروح تدريجياً ليسكن فى تلاميذه، ويملأهم حسب إمكانية قبولهم له: فى بدء الإنجيل، وبعد الآلام، وبعد الصعود، وعندئذ جعل قوتهم كاملة، إذ حلّ عليهم وظهر فى ألسنة نارية. حقاً قد أعلن يسوع عنه قليلاً كما ستتعلَّمون بأنفسكم متى قرأتم بأكثر انتباه[249].].

يقول القديس أمبروسيوس: [لم يدعُ الروح الرب فحسب، وإنما أضاف: "حيث روح الرب هناك حرية" (2كو3: 17). هكذا نحن جميعاً بوجه مكشوف، بانعكاس مجد الرب نتشكَّل من جديد إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح، بمعنى نحن الذين قد رجعنا إلى الرب، كما بفهم روحيٍ لكى نرى مجد الرب، كما فى مرآة الكتب المقدسة، الآن نتغيَّر من ذاك المجد الذى يردنا إلى الرب، إلى المجد السماوى[250].].

يقول القديس أغسطينوس: تعبير الرسول "وجهاً لوجه" (1كو13: 12) لا يلزمنا أن نعتقد أننا سنرى الله بوجه جسدى فيه عينا الجسد، إذ سنراه بدون توقُّفٍ فى الروح. لو لم يشر الرسول إلى الوجه فى الإنسان الداخل ما كان يقول: "ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما فى مرآةٍ، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما فى الرب". فإنه بالإيمان نقترب إلى الله، والإيمان هو عمل الروح لا الجسد[251].

9 - ما هى عظمة خدمة العهد الجديد ومجدها التى يتمتع بها المؤمنون؟

أولاً: خدمة العهد القديم مجيدة كما حدث عند استلام موسى النبى للشريعة على جبل موسى، لكن الشعب خشى الموت، وطلبوا ألا يتحدث الله معهم حتى لا يموتوا (خر20: 19؛ تث18: 16) فنالوا روح العبودية للخوف (رو8: 15). أما نحن فلنا روح القوة والحب (2تى1: 7)، روح التبنى لله الآب (2كو12: 18 - 24).

ثانياً: موسى خادم الناموس أضاء وجهه، أما الرسل فهم خدام العهد الجديد أو إنجيل المسيح المنقوش بالروح القدس فى قلوب المؤمنين اللحمية لا الحجرية.

ثالثاً: قدم موسى الحرف الذى يقتل، أما الرسل فقدموا الإنجيل بالروح الذى يحيي.

رابعاً: نال موسى مجداً، وأشرق وجهه لكن إلى حين، أما المجد الذى نناله من المسيح فهو دائم النمو، به نرتفع من مجدٍ إلى مجدٍ حتى نبلغ الأمجاد الأبدية.

خامساً: كان الناموس مُعلَنّاً خلال رموز وظلال غامضة، أما إنجيلنا فجاء واضحاً وبسيطاً.

سادساً: رأى اليهود مجد موسى الزائل، أما المسيحيون فيرون شخص المسيح ساكناً فيهم. هم رأوه فى وجه موسى، أما نحن فنراه فى داخلنا كما فى مرآة تعكس بهاء مجد السماوى.

10 - كيف يُحَوِّل الله كل الأمور لمجد المؤمنين الحقيقيين؟

أبرز الرسول بولس حاجة المؤمن لإدراك خطة الله الخلاصية فى حياته، إذ يقول: "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يُحِبّون الله، الذين هم مدعوون حسب قصده" (رو8: 28).

خطة الله بالنسبة لنا فائقة، فهو لا يغير مجرى الأحداث والظروف حسب أهوائنا الشخصية، إنما يُحَوِّل كل الأمور بلا استثناء لبنيان نفس المؤمن الحقيقى، فتعمل حتى الظروف المضادة لمجده. يُعَلِّق القديس يوحنا الذهبى الفم على هذه العبارة، قائلاً بأنه يليق بالمؤمنين ألا يختاروا لأنفسهم الحياة حسب فكرهم، حاسبين أن هذا نافع لهم، إنما يقبلون ما يقترحه الروح القدس، لأن أموراً كثيرة تبدو للإنسان نافعة تُسَبِّب له مضاراً كثيرة. كمثال قد يظن الإنسان أن الحياة الهادئة التى بلا مخاطر ولا متاعب نافعة له، لذلك طلب الرسول ثلاث مرات أن يرفع الله عنه التجربة، فجاءته الإجابة: "تكفيك نعمتي لأن قوتى فى الضعف تُكْمَل" (2كو12: 8 - 9). بمعنى آخر لنترك كل الأمور فى يديّ الروح ليُحَوِّلها لبنيان نفوسنا.

مرة أخرى يؤكد القديس يوحنا الذهبى الفم إن كل الأمور التى تبدو مؤلمة تعمل لخير الذين يحبون الله، أما الذين لا يحبونه فحتى الأمور التى تبدو صالحة ومقدسة تعمل ضدهم إن لم يرجعوا إليه بالحب. ضرب أمثلة منها لم ينتفع اليهود بالناموس الصالح بل وتعثّروا حتى فى السيد المسيح.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [حتى الضيقات أو الفقر أو السجن أو المجاعات أو الميتات أو أى شيء آخر يحلّ بنا يستطيع الله أن يحول كل الأمور إلى نقيضها (2كو11: 23 - 33).] [كما أن الأمور تبدو ضارة تكون نافعة للذين يحبون الله، فإنه حتى الأمور النافعة تصير ضارة للذين لا يحبونه (رو8: 28) [252].].

يقول الأب تادرس: [بالنسبة للكاملين والحكماء يُقَال: "كل الأشياء تعمل للخير للذين يحبون الله"، أما بالنسبة للضعفاء الأغبياء فقد قيل "غباوة الجهال غش" (راجع أم14: 7)، فلا ينتفع من النجاح ولا ينصلح شأنه من المصائب... إذ ينهزم الإنسان بأكثر سهولة بالنجاح أكثر من الفشل، لأن الفشل يجعل الإنسان أحياناً يقف ضد إرادته، وينال تواضعاً، خلال حزنه المفيد يقلل من خطيته وينصلح شأنه، أما النجاح فقد يدفع بالإنسان إلى الكبرياء العقلى والعظمة الكاذبة[253].].

يُقَدِّم لنا القديس جيروم[254] أيوب مثلاً حياً لمن تتحول الأضرار بالنسبة له إلى خيره، فلم يترك العدو شيئاً فى أيوب غير مضروب سوى لسانه لعله يجدف به على الله (أى2: 9)، لكن هذه كلها آلت إلى خيره، فقد جاء إليه الله وتحدث معه على مستوى الصديق مع صديقه.

11 - ماذا يقصد الرسول بقوله: "لبستم الجديد الذى يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو3: 10)؟

التمتُّع بالإنسان الجديد للمعرفة علامة الحياة، فإنه ليس من حياة فى المسيح دون نمو، وليس نمو دون استنارة بقوة الروح القدس، حتى يتشكَّل الإنسان الداخلى على صورة خالقه، فيصير أيقونة حية للسيد المسيح العريس السماوى.

يقول القديس غريغوريوس النيسي: [هذه هى كلمة السرّ حيث بالميلاد الجديد الذى من فوق تتبدَّل طبيعتنا من الفاسد إلى غير الفاسد، إذ قد تجددت من "الإنسان العتيق" (2كو5: 17) إلى صورة ذاك الذى خلقه فى البدء على مثال اللاهوت[255].

ويقول القديس كيرلس السكندرى: [هذا المخلوق العاقل على الأرض، أعنى الإنسان، قد خُلِق من البدء على صورة خالقه (كو3: 10) وبحسب الكتاب المقدس، للصورة معانٍ عديدة، فقد تكون الصورة لا بحسب نوع مُعَيَّن بل بحسب أنواع كثيرة، بالإضافة إلى عنصر المثال أو الشبه بالله الذى خلق الإنسان، وهو أكثر العناصر كلها وضوحاً واستعلاناً، وهو (عنصر) عدم الفساد وعدم الموت[256] (1كو15: 54).].


[227] In Rom. hom 17.

[228] Strom 9: 2.

[229] Sermon on N. T. Lessons 6: 83.

[230] In Eph. hom 7.

[231] On our Lord, 11.

[232] In Eph. hom 11.

[233] In Eph. hom 11.

[234] Cassian: Conf. 6: 7.

[235] Ibid. 5: 21.

[236] In Eph. hom 11.

[237] In Eph. hom 11.

[238] In Eph. hom 11.

[239] In Rom. hom 29.

[240] In Rom. hom 29.

[241] Homilies on Philippians, homily2.

[242] On the Trinity, 8: 9.

[243] Homilies on Colossians, homily 6.

[244] Concerning Virginity 11, PG 368: 46 BC.

[245] - من مجدٍ إلى مجدٍ، تعريب القمص إشعياء ميخائيل، 1984، فصل 1: 2.

[246] Commentary on Song of Songs, Homily 5.

[247] On Perfection.

[248] In 2 Cor. Hom. 5: 7.

[249] The Theological Orations. 26: 4.

[250] Of the Holy Spirit.

[251] The City of God, 30: 22.

[252] In Rom. Hom 15.

[253] Cassian: Conf. 8: 6.

[254] On Ps. Hom 6.

[255] Against Eunomius, 1: 2.

[256] Sermons on John 14: 9,.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

لا توجد نتائج

No items found

9- العبادة ومخافة الرب - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

7- الميطانيات والسجود Metanoias and Prostrations - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات