11- العبادة الكنسية والإماتة – كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

11 - العبادة الكنسية والإماتة

1 - لماذا اهتم الرسول بولس وكثير من الآباء بالحديث عن الإماتة؟

يقول الرسول بولس "مع المسيح صُلِبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل 2: 20). لقد أدرِك أن من يتألم ويُصلَب ويموت ويُدفَن مع المسيح، يتمتَّع برائحة المسيح الذكية. من يلتصق بالسيد المسيح المصلوب ويتَّحد معه، لا يطلب أطايب العالم، بل يستعذب الصلب، وتتحوَّل مرارة العالم إىل عذوبة، ويشتاق إلى الدفن مع المُخَلِّص، وأن يأخذ المُرّ الذى كان على جسد المسيح فى القبر لكى يُحنّط به أعضاء جسده، فيحمل رائحة المسيح الذكية (2كو 2: 15). يقول القديس غريغوريوس النيسي: [الذى يرغب فى تكريس حياته لعبادة الله لا يمكن أن يُعطّر بمجموعة الأعشاب العطرة المقدسة إلا إذا تحوَّل هو نفسه إلى مُرّ، أى إلا إذا أمات أعضاءه على الأرض (كو 3: 5)، بأن يُدفَن مع الذى ذاق الموت لأجلنا، وأن يأخذ المُرّ الذى كان على جسد المسيح فى القبر لكى يُحنّط به أعضاء جسده. ومتى تم إنجاز ذلك، فكل العطور التى تنتج من ممارسة الفضيلة أثناء الحياة، تُطحن لكى تعطى "المسحوق العطر"، وكل من يستنشقه يصبح معطراً ويمتلئ بروح العطر[316].].

2 - إن كانت العبادة دعوة للتمتُّع بالفرح، فما هو ارتباط الإماتة بها؟

فى العهد القديم لم يكن يستطيع المؤمن أن يربط بين الإماتة والعبادة، لأن نظرة المؤمنين للموت فى ذلك الوقت، إنه ثمرة عصيان الإنسان لله واعتزاله الله مصدر الحياة. غير أن قلة من أناس لم يخشوا الموت من أجل رجائهم فى اللقاء مع الله، ورغبتهم فى الجهاد سواء فى العبادة أو فى السلوك حتى الموت. لهذا يقول المرتل: "لأنه من أجلك نُمات اليوم كله" (مز 44: 22). أما فى العهد الجديد إذ صُلِب السيد المسيح من أجل محبته لخلاص البشر، فصار الصلب مع المسيح والموت معه والدفن معه جزءاً لا يتجزَّأ من حياة المؤمن وشركته مع الرب وعبادته. فيترنَّم المؤمن مع الرسول بولس، قائلاً: "مع المسيح صُلْبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ، فما أحياه الآن فى الجسد، فإنما أحياه فى الإيمان، إيمان ابن الله الذى أحبَّنى وأسلم نفسه لأجلى" (غل 2: 20).

لا يتطلع الرسول بولس إلى السيد المسيح كنموذج يقتدى به تماماً، لأنه لا يقدر أحد أن يفدى البشرية غيره، إنما صار مثالاً لنا، فنشتهى أن نبذل حياتنا وما لدينا من أجل خلاص الإنسان بدم المسيح. هذا من جانب ومن جانب آخر صار الصلب والموت والدفن من أجل محبة النفوس وخلاصها، يبعث فى النفس فرحاً وتهليلاً بالمسيح يسوع مخلصنا.

3 - ماذا يعنى الرسول بالصلب مع السيد المسيح والموت معه؟

أولاً - الثبات فى المسيح السماوى. لا يفترض القديس بولس مطلقاً أن الحياة المسيحية تستوجب الموت هنا خلال الانسحاب من العالم، إنما بالإيمان يشترك المؤمن وهو فى العالم فى صلب السيد المسيح وقيامته، فيموت عن الإنسان العتيق ليحيا لله فى المسيح.

يقول البابا أثناسيوس الرسولى: [ "مع المسيح صُلِبْت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فىّ"، حياتنا يا إخوتى ما هى إلا جحد للجسديات، والاستمرار بثبات فيما يخص مخلصنا وحده.] كما يقول: [لأن هذه هى الحياة الحقيقية التى يعيشها الإنسان فى المسيح، فبالرغم من أن (المؤمنين) أموات عن العالم لكنهم يعيشون كمن هم فى السماء، مهتمين بالأمور العلوية. من يحب مثل هذه السُكْنَى يقول: "إن كنا نسير على الأرض لكننا نقطن فى السماء" [317].] إنه يقتنى المسيح فيه ويحيا به. يقول العلامة أوريجينوس: [أن السيد المسيح يحيا فينا، لهذا عند صلبه قال لأمه بخصوص القديس يوحنا: "يا إمرأة هوذا ابنك" (يو 19: 26)، وهكذا كل من يصير كاملاً لا يحيا لذاته بل يحيا المسيح فيه.].

ثانياً - جحد الأنا أو محبة الذات. يقول العلامة أوريجينوس: [التعبير "أحيا لا أنا" يصدر عن صوت من يجحد نفسه؛ يلبس المسيح ويلقى ذاته جانباً وذلك لكى يسكن المسيح فيه بكونه البرّ والحكمة والقداسة وسلامنا (1كو 1: 30؛ أف 2: 14)، وقوة الله، الذى يعمل كل شيء فيه[318].] ويقول القديس أغسطينوس: [إن كان الإنسان بُحبِّه لذاته يصير مفقوداً، فبالتأكيد بإنكاره ذاته يوجد!... لينسحب الإنسان من ذاته لا لأمور زمنية وإنما لكى يلتصق بالله[319].].

ثالثاً - تعبير عن المشاركة فى الحُبّ الإلهى. إذ يتحدث الرسول بولس عن حب الكنيسة لمسيحها يقول: "كما هو مكتوب: إننا من أجلك نُمَات كل النهار؛ قد حُسِبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 36). هذا هو صوت الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور التى تقبل الدخول فى الطريق الشهادة لله حتى الموت، تقبل شركة آلام المسيح بسرور، فنشتهى أن نُحسَب كالغنم المُقَّدَّم لأجله للذبح كما سيق هو كشاة للذبح (إش 53: 7)... تمارس الموت الاختيارى كل يومٍ، إن لم يكن بسفك الدم فبالجهاد الروحى والبذل والعطاء لكل أحد حتى لغير المؤمنين لأجل الله محب البشر!

يقول القديس أغناطيوس الأنطاكى: [أنا كاهن سيدى يسوع المسيح، وله أُقَدَّم الذبيحة كل يوم، وأرغب أن أٌقَدِّم حياتى ذبيحة كما قَدَّم حياته ذبيحة حباً فىّ[320].] وأيضاً: [لتأتِ علىّ كل هذه: النار والصليب، ومجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر... لتنصبَّ علىّ كل عذابات الشيطان، على أننى أبلغ يسوع المسيح[321].] [لماذا أُسَلِّم نفسى إلى الموت؟! إلى النار، إلى السيف، إلى الوحوش الضارية؟!... القريب من السيف هو قريب من الله، والذى مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وأننى أحتمل كل شيء لأشترك فى آلامه[322].] يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [هو يجعلهم ذبيحة وتقدمة (يومية) دون موت[323].] وأيضاً: [من الممكن أن نُمَات عدة مرات فى يومٍ واحدٍ؛ لأنه من كان مستعداً على الدوام أن يموت يحفظ مكافأته ليستلمها كاملة.].

كما يقول الأب دوروثيؤس من غزة: [القديسون الذين يُقَدِّمون أنفسهم (ذبيحة) لله إنما يُقَّدِّمون أنفسهم أحياء كل يوم. لنُقَدِّم أنفسنا (ذبائح)، ولنمت عن ذواتنا لأجل المسيح إلهنا. كيف وضعوا أنفسهم للموت؟ بأن كفَّوا عن محبة العالم وما فيه (1 يو 2: 15)... عن هذا يقول الرسول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24). هكذا وضع القديسون أنفسهم للموت[324].] ويقول: [يليق بنا أن نُقَدِّم له التقدمة التى يفرح ويسر بها فى يوم قيامته ما دام لم يعد يسر بالذبائح الحيوانية. يعطينا القديس غريغوريوس الإجابة عن السبب الذى لأجله لم يعد يُسَرّ بالذبائح الحيوانية، وهو قول الرسول بولس: "قَدِّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية" (رو 12: 1). لكن كيف نُقَدِّم أجسادنا ذبيحة حية لله؟ حين لا نتبع شهواتنا الشريرة وأفكارنا الذاتية، بل نسير فى الروح، ولا نكمل شهوة الجسد (غل 5: 16)... وذلك بأن نقمع شهوات أعضائنا الجسدية[325].].

رابعاً: الدخول إلى موكب النصرة. لم تعد الآلام والضيقات تُحَطِّم النفس، بل علّة الدخول إلى موكب الغلبة والنصرة تحت قيادة المسيح يسوع المتألم والمصلوب.

خامساً: إماتة الشهوات الرديئة. يقول القديس جيروم: [لهذا وأنتم راقدون على فراشكم، ردّدوا المرة تلو المرة: "فى الليل طلبتَ من تُحِبّه نفسى" (نش 3: 1). ويقول الرسول: "أميتوا أعضاءكم التى على الأرض" (كو 3: 5)، لأنه هو نفسه فعل ذلك، لهذا استطاع أن يقول فى ثقة: "أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ" (غل 2: 20) فالذى يميت أعضاءه ويشعر أنه يسير فى عرض المبنى، لا يخشى أن يقول: "صرتُ كزقٍ فى العاصف" (راجع مز119: 83). مهما كان فى داخلى من رطوبة الشهوة فقد جف فيَّ "، وأيضاً:" ركبتاى ارتعشتا من الصوم، نسيتُ أن آكل خبزى، وبسبب صوت تأوهى التصقت عظامى بجلدى "(راجع مز 109: 24) [326].].

كما يقول القديس إيرينيؤس: [هذا نفسه إذن ما جاء المسيحُ ليُحييه، فكما فى آدم نموت جميعاً، كما من الطبيعة الحيوانية، هكذا نحن فى المسيح نحيا جميعاً، كروحيين، فلا نتخلَّى عن صنعة يدى الله بل نترك شهوات الجسد ونقبل الروح القدس. كما يقول الرسول فى الرسالة إلى كولوسي: "أميتوا أعضاءكم التى على الأرض"، والتى كما يشرحها هو نفسه "الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع الذى هو عبادة الأصنام". ترك هذه الأمور هو ما يكرز به الرسول ويقول إن الذين يمارسونها إنما هم جسدانيون كما من لحم ودم فقط، ولا يمكنهم أن يرثوا ملكوت السماوات. إذ يمثل نفوسهم إلى ما هو أسوأ بانحدارها إلى الشهوات الترابية ومن ثم فهم يوصفون بأنهم أيضاً ترابيون، تلك الأمور الرديئة التى عندما يحثنا الرسول أن نتركها – يقول فى ذات الرسالة "تخلعون الإنسان العتيق مع كل أعماله" (كو 3: 9)، لكنه حينما قال ذلك لم يُزل بالشكل القديم للإنسان، وإلا صار من غير اللائق أن نتخلَّص من حياتنا بالانتحار! [327]].

يقول القديس أمبروسيوس: [ما هو الموت فى الحقيقة إلا دفن الرذائل وإحياء الفضائل؟ لهذا كُتِب: "فلتمت (ترحل) نفسى موت الأبرار،" أى "فلتُدَفن معهم (عد 23: 10؛ كو 2: 12)، لتُدفنَ خطاياها وتلبس نعمة الأبرار الذين" يحملون فى أجسادهم سمات موت المسيح "(2كو 4: 10) وأيضاً يحملون تلك السمات فى نفوسهم[328].] [النفس التى أوشكت أن تَقْبَل الكلمة اللوغوس، يجدر بها أن تموت عن العالم (غل 6: 14) وتُدفَن فى المسيح (رو 6: 4، كو 2: 12)، فلا تجد إلا المسيحَ، فهذا هو الاستقبال اللائق الذى يطلبه منها لنفسه[329].].

ويقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [كيف تقدرون أن تُطيعوا بولس الذى يحثّكم على تقديم أعضائكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة إن كنتم تمتثلون بهذا العالم ولا تتشكّلون بتجديد أذهانكم، عندما لا تسلكون فى جدة الحياة بل تبقون سالكين فى روتين الإنسان العتيق[330]؟].

كما يقول القديس جيروم: [ليتنا ننصت إلى التصريح الذى يعلنه حزقيال المدعو "إبن آدم" (حز 2: 1) وذلك بخصوص فضيلة ذاك الذى بحق هو ابن الإنسان، أى الإنسان المسيحى؛ إذ يقول: "وأخذكم من بين الأمم... وأرش عليكم ماءً طاهراً فتطهرون من كل نجاستكم... وأعطيكم قلباً جديداً واجعل روحاً جديداً فى داخلكم" (حز 36: 24 - 26)... لذلك فإن النشيد الذى ننشده هو تسبحة جديدة (رؤ 14: 3)؛ ننزع الإنسان القديم (أف 4: 22)، ولا نسلك بعتق الحرف لكن فى جدة الروح (رو 7: 6). هذا هو الحجر الجديد الذى كُتِب عليه اسم جديد "لا يعرفه أحد غير الذى يأخذه" (رؤ 2: 17) [331].].

سادساً: التمتُّع بفيض من الأكاليل. يرى القديس يوحنا الذهبى الفم أن الله من أجل فيض حُبِّه علينا، يسمح للمؤمن بميتات كثيرة لكى ينال أكاليل كثيرة. الأكاليل التى ننالها ليس حسب طول عمر الإنسان المجاهد، وإنما حسب قبوله الفيض من الميتات كل يومٍ. هذه الأكاليل ننالها لأن الميتات التى نقبلها تُحسَب ذبيحة مقبولة. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ "من أجلك نمات اليوم كله" (رو 8: 36)... من الواضح أننا سنرحل ومعنا أكاليل كثيرة إذ نعيش أياماً كثيرة، أو بالحري ننال أكاليل أكثر من الأيام بكثير، إذ يمكن أن نموت فى يوم واحد لا مرة ولا مرتين بل مرات كثيرة. لأنه من كان مستعداً لهذا يبقى ينال مكافأة كامله على الدوام.] وأيضاً يقول: [لقد أظهر (الرسول) أيضاً أن أجسادنا قد صارت ذبيحة، فيليق بنا ألا نرتبك ولا نضطرب عندما يأمر الله بتقديمها.].

سابعاً: نصير أكثر من غالبين. ماذا يعنى أننا أكثر من غالبين؟

  1. أن المكائد التى توضع لتحطيمنا تهبنا حياة النصرة.
  2. نقبل الإماتة دون تعب ومشقَّة.
  3. نتحدَّى المُقاوِمين لنا، لا بمقاومتنا لهم، وإنما بأن نصير فى عينيّ الله أعظم من الذين يسيئون إلينا بالضرب أو الطرد أو الاضطهاد. فإنهم حتى إن قتلونا يُحسَب عملهم هذا مُوَجَّه ضد الله القدير، فيعيشون فى صراع ومرارة.

فى هذا يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لأنه بالحقيقة لأمر عجيب، ليس فقط أننا غالبون وإنما غالبون بذات الأمور التى وُضِعَت كمكائد لنا. نحن لسنا غالبين فحسب وإنما "أكثر من غالبين"، إذ نمارس الغلبة بسهولة بلا تعب ولا مشقة، لأن الله يصارع بجوارنا، فلا تشك، فإننا وإن ضُرِبنا نُحسَب أفضل من الضاربين، وإن طردنا نغلب الذين يضطهدوننا، وإن متنا يبقى الأحياء (الذين يقتلوننا) فى صراع... أنهم لا يحاربون البشر بل يقامون القدير الذى لا يُغلَب! [332].] ويقول القديس هيبوليتس: [العبارة "ذبحت ذبحها" (أم 9: 2) تعبر عن الشهداء فى كل مدينة حيث يذبحون يومياً من أجل الحق بواسطة غير المؤمنين، صارخين بصوت عالٍ: "إننا من أجلك نُمَات كل النهار، قد حُسِبنا مثل غنم للذبح" [333].] ويقول الشهيد كبريانوس: [ليس شيء من هذه الأمور يقدر أن يفصل المؤمنين أو ينزع الملتصقين بجسده ودمه... الاضطهاد هو اختبار للقلب وفحص له. الله يسمح به لنا لكى نُمَحَّص ونتزكَّى، إذ يودّ أن يزكي شعبه على الدوام، لكن معونته لا تقصر عن مساعدة المؤمنين فى كل وقت وسط التجارب[334].].

ويقول القدّيس إيرينيؤس: [هنا تعبير "كل النهار" يعنى كل الزمان الذى فيه تحتمل اضطهادات ونُذبَح فيه كغنم. هذا النهار لا يعنى نهاراً يحتوى على اثنتى عشر ساعة إنما كل الزمان الذى فيه يتألم المؤمنون فى المسيح يموتون لأجله[335].].

ثامناً: الاتحاد العائلى مع الرسل. يكشف الرسول بولس عن بركة "الإماتة"، مُوَضِّحاً أن المؤمنين يمارسون حياة البذل والإماتة مع بقية الرسل. فممارسة المؤمن لحياة "الإماتة" تؤهِّله للدخول فى علاقة أسرية مع الرسل، إذ يقول الرسول: "إنكم فى قلوبنا لنموت معكم ونعيش معكم" (2 كو7: 3).

فى استطراد يتحدث الرسول بولس مع شعبه ليكشف لهم عن مفهوم الحب الأبوى الصادق، فهو مستعد أن يموت معهم ويعيش معهم. هذا الحب لا يقوم على عواطف بشرية مُجَرَّدة، وإنما على شهوة الإلتقاء معاً كأسرة واحدة فى حضن الله. ما يفرح قلب الرسول بولس هو توبتهم وخلاصهم وتمتعهم بالمجد الأبدى. تعزى الرسول بتوبة شعبه عندما سمع من تيطس عن توبتهم وتعزيات الله لهم. لقد فرح تيطس نفسه إذ استراحت نفسه بهم (2كو 7: 13) وفرح معه وبه الرسول بولس. راحة الخادم فى تعزيات شعبه الإلهية بالتوبة الصادقة.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [إنه يظهر حنواً عظيماً حتى حين يُعامَل باستخفاف. إنه يختار أن يموت وأن يحيا معهم... إن حل الخطر، فمن أجلكم مستعد أن أحتمل كل شيءٍ. ليس الموت ولا الحياة ذات قيمة فى ذاتهما عندى، فمن أجلكم أُفَضِّل الموت عن الحياة والحياة عن الموت[336].].

ويقول القديس أمبروسيوس: [الإنسان الذى له روح الكهنوت وفكره هو ذاك الذى بكونه راعياً صالحاً يتقدم للموت من أجل قطيع الرب بروح ورعة. بهذا يكون (كموسى) فى كسر شوكة الموت... الحب هو العضد الذى يزكيه، مقدماً نفسه للموت من أجل مقاوميه[337].].

تاسعاً: التمتُّع ببرّ المسيح: مات السيد المسيح على الصليب، كى نموت معه فنحيا الرب ببرِّه. يقول الرسول بطرس: "الذى حمل هونفسه خطايانا فى جسده على الخشبة لكى نموت عن الخطايا فنحيا للبرّ الذى بجلدته شفيتم" (1بط 2: 24).

يكشف لنا الرسول مفهوم آلام الصليب إنها ليست مُجَرَّد شجاعة وقدرة على الاحتمال، بل أساسها حب وبذل، إذ أراد بجلدته أى جراحاته أن يشفى جراحاتنا، فأحنى ظهره باختياره، ليحمل بطريقة سرية خطايانا فى جسده، إذ "قَدَّم مرة لكى يحمل خطايا كثيرين" (عب 9: 28). "إنه سكب للموت نفسه وأحصى مع آثمة، وهو حَمل خطية كثيرين، وشفع فى المذنبين" (إش 53: 12). غاية هذا العمل الخلاصى هو اتحادنا معه، وتمتُّعنا ببرِّه.

4 - هل كان يمكن أن يمرض ليشفى أمراضنا؟

مات السيد المسيح ليس لخطية ارتكبها، وإنما لكى يُقِيمنا من موتنا الذى حلّ بنا بسبب خطايانا. لكن لم يكن لائقاً به أن يمرض ليشفى أمراضنا. أبرز الآباء لنا لماذا اختار السيد المسيح أن يموت بالصلب. بآلام الحب أوضح لنا رعايته لنا إذ هو "راعى نفوسنا وأسقفها" (1بط 2: 25)، يبحث عن كل نفس مريضة فاتحاً ذراعيه لكل ضال!

اختار الموت "على خشبة"، وهذا لم يكن جُزافاً، بل كما يقول أبونا البابا أثناسيوس الرسولى: [لم يكن لائقاً بالرب أن يمرض وهو الذى يشفى الآخرين... لقد جاء كمُخَلِّصٍ لا لينقذ موتاً خاصاً به، بل يموت نيابة عن الآخرين... لذلك قَبِل الموت الذى جاءه من البشر لكى ينزع بالكمال الموت. لو أن الموت حدث بصورة سرية، لما كان موته يشهد للقيامة... جاء بنفسه ليحمل اللعنة التى علينا (غل 3: 13) وهذا هو الصليب. كيف يدعونا (نحن الأمم) ما لم يُصلب باسطاً يديه لدعوتنا؟ من أجل أن الصليب كان أفظع وجوه الموت وأقصى غاية المعاقبين، لذلك احتمل السيد المسيح الصلب طوعاً بكيان ناسوته المحتمل ذلك فداءً لبنى آدم من أقصى غاية العقوبات للموت[338].].

يقول القديس أغسطينوس: [اختار الصليب ليذوق أَمَرّ العذابات، إذ يموت موتاً بطيئاً، إذ أطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 8).] يقول العلامة ترتليان[339]: [اختار الصليب إتماماً للنبوات والرموز الواردة فى العهد القديم.].

5 - كيف نقتدي بالمسيح المصلوب؟

يقول الرسول "لكى نموت عن الخطايا فنحيا للبرّ" (1بط 2: 24). يقول القديس أمبروسيوس: [لذلك هل صُلِبَت الخطية لكى نحيا لله؟ فمن يموت عن الخطية يعيش لله! هل تعيش لذلك الذى بذل إبنه حتى يَصْلِب شهواتنا فى جسده؟ فإن المسيح مات عنا حتى نعيش فى جسده المحيى لذلك فإنه لم تَمُتْ حياتنا بل مات عصياننا فيه... إذن خشب الصليب هو سفينة خلاصنا لعبورنا[340].].

ويقدم لنا القديس أمبروسيوس درساً آخر إذ يقول: [من لا يتعلَّم أن يغفر لمضايقيه عندما يتطلَّع إلى المسيح وهو على الصليب يطلب من أجل مضطهديه؟ أما ترى أن هذه الصفات التى للمسيح – كما يحلو لك أن تقول – إنها قوتك[341].].

6 - ما هى أنواع الميتات التى حلَّت على الرسول بولس؟

يُقَدِّم لنا الكتاب المقدس مثالاً رائعاً للاقتداء بالسيد المسيح ألا وهو الرسول بولس الذى اضطر أن يتحدث عن نفسه، ليؤكد لأهل كورنثوس صدق رسوليته، ولكى يقتدوا هم أيضاً بالمسيح يسوع المصلوب، قائلاً: "أهُم خدام المسيح، أقول كمختل العقل فأنا أفضل، فى الأتعاب أكثر، فى الضربات أوفر، فى السجون أكثر، فى الميتات مراراً كثيرة" (2كو 11: 23).

إنه يعتزّ بنعمة الله التى قادته وسندته لكى يحتمل أتعاب فى الرسولية أكثر منهم. كرسولٍ للأمم أبغضه اليهود جداً، وكالوا له متاعب واضطهادات أكثر مما فعلوه مع غيره من الرسل. كلما حانت الفرصة لمقاومته بذلوا كل الجهد لتعذيبه ومحاولة قتله.

أولاً: من جهة الأتعاب كان كثير الترحال من بلدٍ إلى بلدٍ، من مقاطعةٍ إلى أخرى. وكثيراً ما كان يضطر إلى الانطلاق للكرازة فى بلاد أخرى تحت ضغط المقاومين له والمصممين على قتله. كان يلمس يد الله التى تحول المتاعب لانتشار الكرازة وإقامة مملكة النور عوض الظلمة فى مواضع كثيرة.

ثانياً: من جهة الضربات فهى أوفر، فقد تعرض لضربات الوثنيين الذين لا يحكمهم قانون معيَّن فى وضع العقوبات، فضربوه بلا رحمة بجلدات كثيرة (أع 16: 23).

ثالثاً: "فى السجون أكثر": تاريخ الرسول بولس كله مملوء بالسجون (أع 21: 11)، سُجِن على الأقل لمدة عامين فى روما (أع 28)، لكن لم يسمعوا عن رسول كاذب قد سُجِن.

رابعاً: "فى الميتات مراراً كثيرة" (أع 14: 19). كان يترقَّب الموت كل يوم بسبب كثرة ما تعرَّض له من متاعب واضطهادات. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ليس من أحد آخر وُهِب له مثل هذا الحُبّ للرب مثل هذه الروح الطوباوية. أقصد كأنه قد تحرَّر من الجسد وارتفع فى الأعالى، قل أحسبه كمن وطأ الأرض وخلص نفسه من كل هذه العلامات. أنتم ترون أن شوقه لله وحُبَّه الملتهب رفع فكره من الأمور المادية إلى الروحية، من الحاضر إلى المستقبل، من المنظورات إلى غير المنظورات. هذا ما يجلبه الإيمان، الحب لله فوق كل شيء. لكى تبرهن هذا الاتجاه السليم تطلعوا إلى هذا الرجل بحُبِّه العظيم للرب، ورغبته المتقدة نحوه. كان مُطارَداً ومُضطهَداً وتحت العقوبة، وتحت آلام لا حصر لها... وإذ كان يعانى من كل هذه الأمور فرح وابتهج. ها أنتم ترون كيف كان مقتنعاً تماماً بأن أتعاب الحياة الحاضرة هى فرصة لينال مكافأة عظيمة. وأن الأخطار هى مصدر الإكليل. أضف إلى هذا إن كان بدافع الحب لراحيل، حسب يعقوب فترة السبع سنين كأيامٍ قليلةٍ، كم بالأكثر هذا الطوباوى حسب كل هذه الأمور كلا شيء بسبب التهابه بحب الله واستعداده لاحتمال كل شيء من أجل محبته للمسيح. أسألكم أيضاً اهتموا بمحبة المسيح. فالمسيح لا يطلب منكم شيئاً، سوى أن تحبوه من كل قلوبكم وتقبلوا وصاياه كما يقول الكتاب المقدس[342].].

[تقول: نجد فى الكتاب إعجاباً بيعقوب بن اسحق وذلك لقوته (تك 32: 24). لكن أية نفس مهما بلغت صلابتها تعادل قوة احتمال بولس؟! لقد احتمل العبودية ليس فقط لمدة أربعة عشر عاماً (تك 29: 18، 27) بل كل أيام حياته من أجل عروس المسيح. احتمل ليس حر النهار وبرد الليل فحسب، بل عواصف من التجارب لا تُحصى، من جلدٍ ورجمٍ ومصارعة وحوشٍ مفترسة وأخطارٍ فى البحر وأصوامٍ متواصلة نهاراً وليلاً وعُرىٍ وأخطارٍ فى كل موضع (2كو 11: 23 الخ) حتى يتفادى الشباك ويخطف الحملان من بين أنياب الشيطان[343].].

[إنه يعرف حسناً أن يُصَحِّح تلاميذه فى الوقت المناسب، بطريقة جادة ولطيفة. بالتأكيد لديه مصادر أخرى كأن يوضح بها الحق الخاص بكرازته بآيات وعجائب، مع مخاطرٍ وسجونٍ، وميتاتٍ يومية، وجوعٍ وعطشٍ، وعرىٍ وما أشبه ذلك. الآن لا يتحدث عن الرسل الكذبة بل عن الرسل الحقيقيين الذين اشتركوا فى ذات المخاطر، مستخدماً وسيلة أخرى. فإنه عندما أشار إلى الرسل وضع مقارنة معهم مظهراً احتماله للخطر، قائلاً: "أهم خدام المسيح؟... فأنا أفضل أكثر، فى الضربات أوفر، فى الميتات مراراً كثيرة" [344].].

خامساً: الجلدات. يقول الرسول: "من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة" (2كو 11: 24). جُلِد خمس مرات من اليهود هؤلاء الذين لا تسمح لهم الشريعة بالجلد سوى أربعين جلدة (تث 25: 3). فمن أجل تنفيذ الناموس جلدوه 39 جلدة حتى لا يخطئوا فى العدد فيكسروا الناموس.

حسب ما ورد فى المشناة الإنسان الذى لا يحتمل الأربعين جلدة، يُجلَد 18 جلدة، ويُحسَب أنه قد وفى كل العقوبة[345]. وكان المحكوم عليه بالجلد تُربَط يداه فى عمود، ويقوم خادم المجمع بنزع ثيابه أو تمزيقها حتى يصير ظهره وصدره عريانين. يوضع حجر خلفه يجلس عليه الخادم منفذ الحكم ويمسك بالسوط الذى من الجلد غالباً به ثلاثة فروع. ثلث الجلدات على صدر المجرم، والثلث على كتفه الأيمن والثلث الباقى على كتفه الأيسر. يضرب الخادم بكل قوته، أما المجرم فينحنى، لا يكون جالساً أو واقفاً. ولم يكن يُسمَح بالجلد أكثر من مرة إلا بالنسبة للمجرمين العتاة جداً.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [انظروا كيف لا يفتخر فى أى موضع بصنعه الآيات بل باضطهاداته وتجاربه!... فى كل موضع نجده فى اضطراب وفى ثورة مما يحل عليه من ذويه ومن الغرباء. هذه شخصية رسولية؛ بهذه الأمور يُنسج الإنجيل[346].].

سادساً: يُعَدِّد كثرة من المتاعب الخطيرة. يقول "ثلاث مرات ضُربت بالعصى، مرة رجمت، ثلاث مرات انكسرت بى السفينة، ليلاً ونهاراً قضيت فى العمق" (2كو 11: 25). َضُرِب بالعصي وذلك حسب القانون الرومانى، وقد حدث ذلك فى فيلبى (أع 16: 22)، أو تكرر ذلك مرتين أخريتين فى مناطق أخرى، ورُجِم فى لسترة (اع 14: 19)، وانكسرت به السفينة، وقضى فى العمق، ربما يقصد أنه وُضع فى زنزانة فى السجن الداخلى كسجين نهاراً وليلاً. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [يعجب الناس من اسحق فى أمور كثيرة، خاصة صبره. فقد حفر آباراً (تك 26: 18)، وحين نُزِعت عنه أملاكه لم يتشاجر بل سمح بردم آباره، وكان دائم الترحال من مكان إلى آخر. لم يحشد قواته ضد العدو، بل كان يرحل تاركاً وراءه مملتكاته حتى يُشبِع عدوه رغبته فى الظلم. أما بولس فحين رأى ليس آباره تُردَم بالتراب بل جسده يُرجَم بالحجارة لم يرحل من مكانه كما فعل هذا الرجل (اسحق)، بل جرى وراء راجميه وجاهد، حتى يقودهم إلى السماء. كلما سُدَّت الآبار كلما فجَّر بالأكثر فيه أنهار الاحتمال[347].].

كما يقول الرسول: "بأسفار مراراً كثيرة، بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من الأمم، بأخطار فى المدينة، بأخطار فى البرية، بأخطار فى البحر، بأخطار من إخوة كذبة" (2كو 11: 25). يتحدث هنا عن أسفاره من أجل الكرازة والاهتمام بالكنائس. بقوله "بأخطار سيول"، يفهم من الكلمة اليونانية Potamoon أنها أنهار. وكما يقول أمبروسياستر كان الرسول فى خطر من الأنهار فى الشتاء حيث كان المطر ينهمر، دائماً والأنهار تفيض على شواطئها. وبقوله "بأخطار لصوص" غالباً ما هوجم من لصوص وقطاع طرق، ولكنه كشخص فقير لا يملك شيئاً لم يصبه ضرر فى شيء، لكنه كان فى خطر عظيم. وبقوله "بأخطار من جنسي": تطلع إليه اليهود كأخطر مرتدٍ عن الإيمان وكمقاومٍ للناموس الموسوي، حتى دبروا مؤامرة لقتله (أع 23: 12). وبقوله "بأخطار من الأمم". التى انطلق ليكرز بينهم. وبقوله "بأخطار فى المدينة": فقد وضعت فتن مختلفة ضده خاصة فى أورشليم وأفسس ودمشق. وبقوله "بأخطار فى البرية" التزم أن يعبر بها أثناء رحيله من مدينة إلى أخرى، وكان يتعرض إلى قطاع الطرق والوحوش المفترسة كما إلى البرد القارص ليلاً والحر الشديد فى الظهيرة، وربما إلى جوعٍ وعطشٍ. وبقوله "بأخطار فى البحر" حيث يتعرض لقراصنة البحار أو الزوابع الشديدة. يشير هنا إلى خطر انكسار السفينة حين أراد الجند أن يقتلوا المسجونين الذين على السفينة لئلا يهربوا أن تركوهم يسبحون، لكنه وهو الأسير، كان القائد الذى ينفذ الكل ما يقوله (أع 27: 42 - 44). وبقوله "بأخطار من إخوة كذبة": هؤلاء الذين تظاهروا بالإيمان بالمسيح وانضموا إلى الكنيسة، لا لبنيانها بل لهدمها، ولكى يجدوا علة على الرسول بولس، فيثيروا الكنيسة فى كورنثوس ضده. كما عانى أيضاً من المرتدين.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [تقول: يُعجَب كل بشرٍ بأيوب، وهو بحق يستحق ذلك، فإنه حارب فى معركة عظمى، ويمكن أن يقف فى مقارنة مع بولس فى صبره، وفى طهارة حياته، وشهادته لله، وصراعه الشجاع مع الشيطان، ونصرته التى أنهى بها صراعه. لكن صراع بولس استمر ليس بضعة أشهر فحسب بل سنوات طويلة. كان دائماً يندفع في فم الأسد، ويصارع في مواجهة تجاربٍ بلا عدد، مثبتاً أنه أكثر قوة من أية صخرة. لم يلعنه ثلاثة من الأصدقاء أو اربعة بل كل الإخوة الكذبة الخائنين، أفتري عليه، تُفل عليه وشُتم[348].] [بالحقيقة إن غيرته الزائدة لم تُشعِرُه بالآلام المصاحبة لحياته فى الفضيلة. ولم يكن ذلك الأمر هو الوحيد العظيم فى حياته، وإنما أيضاً لم يكن له دافع خفيّ وراء سعيه نحو الفضيلة. إننا نتخاذل فى تَحمّل الآلام من أجل الفضيلة حتى لو عُرضت علينا المكافأة مُقدّماً، لكن بولس احتضن الآلام بمحبة بلا مُقابل، وتحْمَل بكل فرح ما اعترضه من صعوبات وعوائق فى طريق الفضيلة. فلم يتضايق من ضعف الجسد أو ضغوط المسئولية أو بطش العادات ولا من أى شيء آخر. عِلاوة على ذلك فاقت مسئولياته كل مهام القادة والملوك، لكنه كان يزداد فى الفضيلة يومياً. وصار ازدياد المخاطر سبباً فى التهاب غيرته بالأكثر، فقال "أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام" (في 3: 13) [349].].

ويقول القديس أغسطينوس: [يقتني البعض وظيفة الرعاة المكرمة لكى يرعوا قطيع المسيح، وآخرون يحتلون هذا لمركز لكى يتمتعوا بكرامات زمنية ومكاسب عالمية ترتبط بهذه الوظيفة. بالضرورة يوجد هذان النوعان من الرعاة، بعض منهم يموت والآخرون يخلفونهم، وهم مستمرون فى الكنيسة الجامعة وحتى نهاية الزمن ويوم الرب للدينونة. إن كان فى عصر الرسل وُجد أناس هكذا عانى الرسول من سلوكهم وأحصاهم ضمن التجارب التى حلت به: "بأخطارٍ من اخوة كذبة"، ومع هذا لم يطردهم بغطرسة بل بطول أناة احتملهم، فكم بالأكثر يقومون فى أيامنا حيث يقول المسيح بكل وضوح عن عصرنا الذى قارب إلى النهاية: "بسبب الشر تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12 - 13). ما جاء بعد ذلك يعزينا ويرشدنا: "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص[350].] [يا لعظم الشكاوى التى أثارها الرسول بولس ضد الأخوة الكذبة. ومع هذا فإنه لم يتدنس بصحبتهم الجسدية، بل اعتزلهم خلال نقاوة قلبه التى تميزه[351].].

يرى القديس أغسطينوس أن الرسول بولس هنا فى دحضه للرسل الكذبة استخدم الحكمة مع البلاغة مع أنه يقول بأنه يتكلم "كأنه فى غباوة" الحكمة هى قائدة له، والبلاغة هى رفيقة له، تبع الأولى والثانية هى التى تبعته، ومع ذلك لم يستخف بها عندما تبعته[352].

سابعاً: أتعابه التى اختارها بإرادته. "فى تعبٍ وكدٍّ، فى أسهارٍ مراراً كثيرة، فى جوعٍ وعطشٍ، فى أصوامٍ مراراً كثيرة، فى بردٍ وعرىٍ" (2كو 11: 27). كانت المتاعب رفيقة له أينما حلّ. قضى الرسول بولس ليالٍ كثيرة فى أسهارٍ، تارة بإرادته مصلياً من أجل الخدمة أو كارزاً مبشراً، وتارة بغير إرادته أثناء اضطهاده. عانى الرسول أيضاً من البرد عندما انكسرت السفينة عند جزيرة مالطة وجاء الشعب لينقذه (أع 28: 1 - 10). يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [تقول: أكل يوحنا المعمدان جراداً وعسلاً برياً (مت 3: 4)، أما بولس فمع أنه عاش فى العالم ولم يسكن البرية ولم يأكل جراداً ولا عسلاً برياً لكنه كان مكتفياً بمائدة أكثر بساطة ونسكاً، متجاهلاً حتى الضرورات من أجل غيرته للكرازة[353].].

7 - ماذا يقصد الرسول بقوله "حاملين فى الجسد كل حين إماتة الرب يسوع" (2كو 4: 10)؟

يعلق القديس يوحنا الذهبى الفم عليها قائلاً: [إلى الآن لم تحتملوا الموت، إنما امتدت خسارتكم عند المال والكرامة والطرد من موضع إلى آخر. على أى الأحوال، لقد بذل المسيح دمه من أجلنا، أما أنتم فلم تفعلوا هذا لأجل أنفسكم. لقد صارع من أجل الحق حتى الموت من أجلكم، أما أنتم فلم تدخلوا بعد فى المخاطر التى تهدد بالموت[354].] [يسألنا بولس أن نكون أمواتاً للعالم، فإن هذا الموت نافع لنا، بكونه بدء حياة جديدة. هكذا أيضاً يأمرنا أن نكون جهلاء للعالم، لكى بهذا ندخل إلى الحكمة الحقيقية. تصيرون جهلاء لهذا العالم عندما تحتقرون الحكمة الأرضية، وتثقون أنها لا تساهم فى إدراكنا للإيمان[355].].

كما يقول: [من جهة الراحة، ماذا نجد فى العالم سوى حرباً دائمة مع الشيطان، وصراعاً فى معركة دائمة ضد سهامه وسيوفه؟! حربنا قائمة ضد محبة المال والكبرياء والغضب وحب الظهور، وصراعنا دائم ضد الشهوات الجسدية وإغراءات العالم. ففكر الإنسان يحاصره العدو من كل جانب، وتحدق به هجمات الشيطان من كل ناحية. وبالجهد يقدر للفكر أن يدافع، وبالكاد يستطيع أن يُقاوم فى كل بقعة. فإن استهان بحب المال، ثارت فيه الشهوات. وإن غلب الشهوات انبثق حب الظهور. وإن انتصر على حب الظهور اشتعل فيه الغضب والكبرياء، وأغراه السُكر بالخمر، ومزّق الحسد وفاقه مع الآخرين، وأفسدت الغيرة صداقاته. هكذا تعانى الروح كل يوم من اضطهاداتٍ كثيرةٍ كهذه ومن مخاطرٍ عظيمةٍ كهذه تضايق القلب، ومع هذا لا يزال القلب يبتهج ببقائه كثيراً هنا بين حروب الشيطان! مع أنه كان الأجدر بنا أن تنصب اشتياقاتنا ورغباتنا فى الإسراع بالذهاب عند المسيح، عن طريق الموت المعجل. إذ علمنا الرب نفسه قائلاً: "الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح؛ أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح" (يو 16: 20)... لقد أعلن الرب نفسه أيضاً عن وقت تحويل حزننا إلى فرح بقوله: "ولكن سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 16: 20). مادام فرحنا يكمن فى رؤية المسيح... فأى عمى يُصيب فكرنا، وسخافة تنتابنا متى أحببنا أحزان العالم وضيقاته ودموعه أكثر من الإسراع نحو الفرح الذى لا ينزع عنا؟! [356]].

ويقول القديس أمبروسيوس: [ما هو الموت فى الحقيقة إلا دفن الرذائل وإحياء الفضائل؟ لهذا كُتب: "فلتمت (ترحل) نفسى موت الأبرار،" أى "فلتُدَفن معهم (عد 23: 10 كو2: 12)، لتُدفنَ خطاياها وتلبس نعمة الأبرار الذين" يحملون فى أجسادهم سمات موت المسيح "(2كو 4: 10) وأيضاً يحملون تلك السمات فى نفوسهم[357].].

يقول العلامة أوريجينوس: [نزل هو إلى موتنا حتى إذ يموت للخطية نحمل فى جسدنا موت يسوع فنتقبل حياته الأبدية. فإن هؤلاء الذين دوماً يحملون فى جسدهم موت يسوع سينالون حياة يسوع أيضاً مُعلنة فى أجسادهم[358].] [إن كان أحد وهو إنسان يميت الشهوات الإنسانية، فيميت بالروح أعمال الجسد، ويحمل دوماً فى الجسد موت يسوع حتى يبلغ إلى مرحلة الطفل الصغير الذى لا يذوق الملذات الحسية ولا يكون له إدراك بالدوافع الخاصة بالبشر[359].].

يقول القديس أغسطينوس: [الذى يُخضع جسده لخدمة الله يضع السراج على المنارة، فيكون التبشير بالحق فى مرتبة أعلى وخدمة الجسد فى مرتبة أدنى. ومع هذا فإن التعاليم تزداد وضوحاً بصورة محسوسة باستخدام الحواس الجسدية، أى عندما تُسخر الحواس المختلفة فى التعليم، لذلك يضع الرسول سراجه على المنارة عندما يقول هكذا: "أُضارِب كأنى لا أضرب الهواءَ. بل أقمع جسدى واستعبدهُ حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسى مرفوضاً" (1كو 9: 26 - 27) [360].].

يقول القديس كيرلس السكندرى: [الذين صاروا تابعين حقيقيين للمسيح مخلصنا جميعاً يصلبون أجسادهم ويميتونها، وذلك بانشغالهم دائماً فى أتعاب وجهادات لأجل التقوى، وبإماتتهم شهوة الجسد الطبيعية[361].] [فيه كياننا جميعاً، إذ قد أعلن ذاته إنساناً، لكى يميت الأعضاء التى على الأرض، (كو 3: 5، رو 7: 23) أى شهوات الجسد، ولكى يطفيء نار ناموس الخطية التى تضطرم فى أعضائنا، وحتى يقدس طبيعتنا، فيكون لنا نموذجنا الأمثل ومرشدنا فى طريق التقوى، ويكملّ استعلان الحق بحسب المعرفة وبحسب طريق الحياة التى تفوق إمكانياتنا الخاصة، هذا كله قد أتمه المسيح حين صار إنساناً[362].] [قد أماتوا أعضاءهم التى على الأرض، واهتموا فقط بتلك الأمور التى لا تغضب الناموس الإلهى، وهو بالحري يستخدم الكلمة التى تحل محل كلمة مجد أو أن الذين يحكمون مع المسيح سيكونون محط حسد الآخرين مستحقين كل إعجاب[363].].

8 - ما هو مفهوم الإماتة فى الحياة النسكية؟

جاء فى فردوس الآباء: [قال الأب أبرآم الذى من المنطقة الشرقية: "إذا ثابر الإنسان على إماتة الجسد فهو يفوز بالنصرة ويعاين قوة الرب وعجائبه[364]".].

[ذهب إنسانً به شيطان مرةً إلى الإسقيط، ومكث هناك مدةً طويلةً ولم يُشفَ، ثم أشفق عليه أحد الشيوخ ورشمه بالصليب وشفاه. فاغتاظ الروح الشرير وقال للشيخ: "ها أنت قد طردتنى فسآتى إليك". فأجابه الشيخ: "تعال، فهذا يسرّني". ثم ظلّ الشيخ اثنتى عشرة سنة فى حراسة الروح الشرير وإماتة ذاته. ولم يكن يأكل كل يوم سوى اثنتى عشرة ثمرة بلح، وبعد ذلك هرب الشيطان وتركه، ورآه الشيخ وهو يرحل فقال له: "لماذا تهرب؟ أمكث أيضاً". فأجابه الروح الشرير: إن الله يسيطر عليك، لأنه هو وحده الذى له القدرة عليك ".].

[قال أنبا بيشوى: لا يمكن للإنسان أن يصلِّي للرب بمخافةٍ إذا لم يمارس إماتة الذات والزهد، ولا يمكن للإنسان أن يُنقِّي قلبه بدون زهدٍ وتقشُّف. ولكنه إذا ثابر على زهده، فالرب يعطيه المخافة ونقاوة القلب ويمتلئ من نعم الرب ".].

[سأل أخ أنبا بيمين: "هل يحاربكم الزنا، يا أبى، أنتم الشيوخ أيضاً مثلنا نحن اليوم؟" فقال له أنبا بيمين: "نعم يا ابنى، إلاّ أنّ الجوع والعطش لا يسمحان لنا أن نفكر فى الزنا، فنحن نرقب الشمس حتى لحظة غروبها لكى نأكل خبزنا القليل ونشرب نصيبنا القليل من الماء. إننا فى زماننا كنا لا نكفّ عن أن نأكل عسلاً بدلاً من الخبز وشهد العسل بدلاً من الماء، لأن إماتة الذات تغيِّر الخبز فى أفواهنا إلى عسل والماء إلى الشهد. ومع أننا لم نكن نقتل الجسد إذ كنا نجبره إلى ما يكفينا، كما أننا ما كنا نُخضِع الجسد إلى درجةٍ زائدةٍ عن الحدّ بل إلى قياس الدرجة المضبوطة التى من الرب".].

9 - ما هو مفهوم الإماتة فى الكرازة والخدمة؟

يقول القديس أغسطينوس: [كضعيفٍ أنعش الضعفاء، كما تفعل الدجاجة بفراخها. إذ شبه نفسه بالدجاجة، يقول لأورشليم: "كم مرة أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37). وأنتم ترون يا إخوة كيف تصير الدجاجة ضعيفة مع فراخها... جناحاها يتدليان، وريشها يتساقط، وصوتها يصير أجش، وكل أعضائها تصير غائرة وهزيلة، وكما قلت حتى عندما تراها بدون فراخها تعرف أنها أم. هكذا يسوع ضعيف ومتعب فى رحلته. رحلته هى الجسد الذى أخذه من أجلنا. إذ كيف يكون لذاك الحال فى كل مكان رحلة، هذا الذى ليس بغائبٍ فى أى موضع؟... كان يسوع ضعيفاً فى الجسد، لكى لا تصير أنت ضعيفاً، بل فى ضعفه تصير قوياً، لأن "ضعف الله أقوى من الناس" (1كو 1: 25) [365].] [إن كنت تحب، فلتكن مستعداً أن تُفقد. إن أردت أن تقتنى الحياة فى المسيح، لا تخف من الموت من أجل المسيح[366].].

يقول القديس كيرلس الكبير: [كل واحد منا نحن الذين نؤمن بالمسيح ونحب اسمه إن ترك بيتاً يتقبل المواضع التى هى فوق. وإن ترك آباً يقتني الآب السماوى. إن ترك إخوته يجد المسيح يضمه إليه فى أخوة له. إن ترك زوجة يجد له بيت الحكمة النازل من فوق من عند الله، إذ كتب: "قل للحكمة أنتِ أختى، وأدع الفهم ذا قرابة" (أم 7: 4). فبالحكمة (كزوجة) تجلب ثماراً روحية جميلة، بها تكون شريكاً فى رجاء القديسين وتُضم إلى صحبة الملائكة. وإذ تترك أمك، تجد أماً لا تقارن، أكثر سمواً، "أورشليم العليا التى هى أمنا (جميعاً) فهى حرة" (غل 4: 26)... فإن من يُحسب مستحقاً لنوال هذه الأمور يُحسب وهو فى العالم سامٍ وموضع إعجاب، إذ يكون مزيناً بمجد من قبل الله والناس. هذه الأمور واهبها هو ربنا كلنا ومخلصنا، تحسب أضعاف مضاعفة بالنسبة للزمنيات والجسديات[367].].

يقول القديس أغسطينوس: [كتب الطوباوى بولس إلى أهل كورنثوس أنه دائماً يحمل فى جسده إماتة يسوع، ليس افتخاراً بأنه وحده كذلك، بل يحثهم ويحثنا لنتبعه فى هذا يا إخوتى. وليكن هذا دأب افتخارنا جميعاً فى كل وقتٍ. وفى هذا اشترك داود قائلاً فى المزامير "لأجلك نمات كل النهار، حُسبنا كغنمٍ للذبح" (رو 8: 36) وقد صار هذا الآن فينا، خاصة خلال أيام العيد، حينما نصنع ذكرى موت مخلصنا. لأن من صار مثله فى موته، واجتهد فى ممارسة الفضائل، أمات أعضاءه التى على الأرض، وصلب الجسد مع الشهوات والأهواء ويحيا حياة الروح القدس (فى الروح) متمثلاً به.].


[316] Homilies on Song of Songs, 6. ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[317] Festal Letters 4: 5; 3: 7.

[318] Comm. On Matt. Book 25: 12.

[319] 1,2. Ser. On N. T. 46:

[320] His dialogue with Tarajan.

[321] Rom 5.

[322] Rom 6.

[323] In John. Hom 1: 82.

[324] Comm. on an Easter Hymn.

[325] - تأملات فى مديحه للقديس غريغوريوس النزينزى (ترجمة القمص إشعياء ميخائيل).

[326] Letters, 17: 22.

[327] Adv. Haer, 12: 5;3.

[328] Death is Good, 15: 4.

[329] Escape from the World, 55: 9.

[330] On virginity.

[331] Ep. 7: 69.

[332] In Rom. hom 15.

[333] Fragments from Comm. on Prov 1: 9.

[334] Ep. 5: 7.

[335] Adv. Haer 22: 2: 2.

[336] In 2 Cor. hom 14. PG 538: 61.

[337] - الحب الرعوى، ص 458.

[338] - ملخص من مقال "هل من ضرورة لعار الصليب؟!" بكتاب الحب الإلهى، 1967.

[339] A. N. Fathers V. 3p. 164 – 165.

[340] A. N. Farhers V. 3p 164 – 165.

[341] The Christian faith 11: 2: 95.

[342] In Gen. Hom 55.

[343] فى مديح القديس بولس، عظة 1.

[344] In Galat. , hom. 1.

[345] Mishna, Maccoth, Fol 20,10.

[346] In 2 Cor. hom 25. PG 61: 614 – 615.

[347] - فى مديح القديس بولس، عظة 1.

[348] - فى مديح القديس بولس، عظة 1.

[349] - فى مديح القديس بولس، عظة 2.

[350] Letter 208 to Felicia.

[351] Letter 108 to Macrobius.

[352] On Christian Doctrine, 7: 4 (12).

[353] - فى مديح القديس بولس، عظة1.

[354] In Hebr. hom. 1: 29.

[355] Homilies on Epistles to the Corinthians, Homily 2: 10.

[356] Treatise 7 On the Mortality 4.

[357] Death is Good, 15: 4.

[358] Commentary on John, 35: 1.

[359] Commentary on Matthew, 16: 13.

[360] Sermon on the Amount 6: 1: 17.

[361] Comm. On Luke, Sermon 118.

[362] Sermons on John, 16: 1.

[363] Sermons on John, 7: 11,17.

[364]

[365] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 7: 15.

[366] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 10: 15.

[367] In Luc Ser. 124.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

لا توجد نتائج

No items found

12- العبادة الكنسية والدموع - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

10- الصوم المقدس - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات