4- الصلاة النموذجية “أبانا الذى فى السماوات” (مت9:6-15؛ لو 2:11-4) – كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

4 - الصلاة النموذجية

"أبانا الذى فى السماوات" (مت6: 9 - 15؛ لو 11: 2 - 4)

1 - ما هى أهميَّة الصلاة الربانيَّة؟

يقول القديس أغسطينوس: [لقد علَّم ابن الله ذاته تلاميذه ومؤمنيه هذه الصلاة، لذلك لنا رجاء عظيم فى الفوز فى القضيَّة ما دام لنا مثل هذا الشفيع الذى يُلقِّننا ما نطلبه. إنَّه الديان الجالس عن يمين الآب كما تعرفون، هو شفيعنا وفى نفس الوقت هو الذى سيديننا. هذه الصلاة تُعَلِّمنا ممَّن نطلب وماذا نطلب[116].] ويقول القدّيس كبريانوس: [لنُصَلِّ أيها الإخوة الأحباء بما علَّمنا إيّاه الله مُعَلِّمنا، فإنها صلاة جميلة ولطيفة، إذ نسأل الله بذات كلماته، ونرفع إلى أذنيه صلاة المسيح نفسه. ليعرف الآب كلمات ابنه عندما نرفع الصلاة، وليسكن فى صوتنا ذاك الذى يسكن فى صدرنا. لقد قبلناه شفيعاً لدى الآب بسبب خطايانا، لذ نتوسَّل نحن الخطاة بذات كلمات الشفيع. إنه يقول: "إن كل ما طلبتم من الآب باسمى يعطيكم" (يو16: 23)، فكم بالأكثر إن سألناه باسم المسيح وبذات صلاته[117]؟].

2 - لماذا يدعونا السيد المسيح أن نصلى الصلاة الربانية بصيغة الجمع؟

يدعونا الله إلى محبة القريب، فنطلب لإخوتنا المؤمنين كما لغير المؤمنين، فتتناغم إرادتنا مع إرادة الله، الذى يريد أن كل الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون (1تى2: 4). فيجب على المؤمن حتى فى مخدعه أن يُصَلِّي باسم الكنيسة كلها بكونه عضواً فيها. إنه يقول: [يُعَلِّمنا تقديم صلواتنا بصفة عامة لحساب إخوتنا أيضاً، فلا يقول: "أبى الذى فى السماوات"، بل "أبانا"، مُقَّدِّماً الطلبة لحساب الجسد فى عموميّته، طالب فى أى موضع لا ما هو لنفسه بل ما هو لصالح إخوته[118].] ويقول القدّيس أغسطينوس: [لقد بدأتم تُنسبون إلى عائلة عظيمة (أى عند نوالكم المعمودية)، ففى هذا النسب يجتمع السيّد والعبد، القائد والجندى، الغنى والفقير الخ. يصير الكل إخوة، جميعهم يدعون لهم أباً واحداً فى السماوات... جميعهم يقولون: "أبانا الذى فى السماوات"، فهل فهموا أنهم إخوة، ناظرين أن لهم أباً واحداً، فلا يستنكف السيّد من أن يعتبر عبده أخاه، ناظراً أن الرب يسوع قد وهبه أن يكون أخاً له[119].] بذات الفكر يقول القدّيس كبريانوس فى شرحه للصلاة الربّانيّة: [قبل كل شئ، مُعَلِّم السلام وسيّد الوحدة لا يريد الصلاة منفردة، فيُصَلِّي الإنسان عن نفسه وحده، إذ لا يقول "إبى الذى فى السماوات"، ولا "خبزى اليومى أعطني اليوم"، ولا يطلب أحد من أجل ما عليه وحده ليُغفّر له، ولا يسأل عن نفسه وحده ألا يدخل فى تجربة وأن يُخَلَّص من الشرّير. صلاتنا كلها جماعيّة ومشتركة، عندما نُصَلِّى لا يطلب الإنسان عن نفسه بل من أجل الشعب كله، لأننا جميعاً واحد. إله السلام ومُعَلِّم الاتَفاق الذى يُعَلِّمنا الوحدة أرادنا أن نُصَلِّي عن الكل كما يحملنا هو واحداً فيه. وقد راعى الثلاثة فتية قانون الصلاة هذا عندما أُلقوا فى أتون النار، إذ نطقوا معاً بقلب واحد فى اتِّفاق الروح، وتكلّموا كما بفم واحد، مع أن المسيح لم يكن قد علَّمهم كيف يُصَلُّون... هكذا نجد الرسل أيضاً مع التلاميذ صلّوا بعد صعود الرب، وكما يقول الكتاب المقدّس: "كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته[120]" (أع1: 14).].

3 - لماذا ندعو الله "أبانا الذى فى السماوات"؟

فى صلواتنا كأبناء الله، يليق بنا أن ترتفع قلوبنا إلى السماء فنطلب من هو سماوى أبدى وإلهى. يقول القدِّيس أغسطينوس: [عندما ينجب الآباء ابناً أو اثنين أو ثلاثة يخشون من أن ينجبوا بعد ذلك، من العوز. وأما ميراثنا نحن فكبير، لن يتأثِّر نصيب كل منَّا مهما ازداد عدد الوارثين. لهذا دعا الرب كل الشعوب ليكونوا إخوة له بلا عددٍ. هؤلاء يقولون: "أبانا الذى فى السماوات". انظروا كم أخ صار للابن الوحيد بواسطة نعمته، يشاركون من مات لأجلهم فى الميراث؟!... لنتأمَّل أيها الأحبَّاء أبناء من قد صرنا. لنسلك بما يليق بأبٍ كهذا، انظروا كيف تنازل خالقنا ليكون أباً لنا؟! لقد وجدنا لنا أباً فى السماوات، لذلك وجب علينا الاهتمام بسلوكنا ونحن على الأرض، لأن من ينتسب لأبٍ كهذا ينبغى عليه السلوك بطريقة تستحق بها أن ينال ميراثه...

إن كان أبونا فى السماء، فهناك أيضاً يُعِدّ لنا الميراث. إنَّه يعطينا إمكانيَّة امتلاك ما قد وهبنا معه. فقد وهبنا ميراثاً لا نرثه بعد موته (كما هو فى قوانين العالم)، فأبونا حيّ لا يموت، وسيبقى إلى الأبد هناك حيث نذهب عنده[121].] كما يقول: [تذكَّروا أن لكم أباً فى السماوات، تذكَّروا أنكم وُلِدتم من أبيكم آدم للموت، وأنكم تولدون مرّة أخرى من الله الآب للحياة، فما تُصَلُّون به قولوه بقلوبكم[122].] ويقول الأب إسحق: [عندما ننطق بأفواهنا أن الله ربّ كل المسكونة هو أبونا، نعترف أننا قد دُعِينا من العبوديّة إلى التبنّي كأبناء. وإذ نردف قائلين: "الذى فى السماوات" نتحاشى بكل مخافة إطالة البقاء فى هذه الحياة الحاضرة، عابرين هذه الأرض كمن هم فى رحلة، فنسرع مشتاقين إلى المدينة التى نعترف بأن أبانا يقطنها، ولا نسمح لأى شئ أن يفقدنا الاستحقاق لهذه المهنة ولشرف التبنّي، ناظرين إليه كعار يحرمنا من ميراث أبينا وبه يحلّ بنا غضب عدله وصرامته[123].].

يقول العلاّمة أوريجينوس: [كل من يقول "أبانا الذى فى السماوات" ينبغى ألا يكون له روح العبوديّة للخوف، بل روح التبنّي للأبناء (رو8: 15)، فمن يردّدها وليس له روح التبنّي يكذب[124].] كما يقول: [إن كنّا نفهم ما سبق أن قلناه عن الصلاة بلا انقطاعٍ، ان حياتنا كلها هى صلاة بلا انقطاع تردّد القول "أبانا الذى فى السماوات"، فإن مواطنتنا لا تعود بعد على الأرض، إنّما فى السماء (فى3: 20) التى هى عرش الله، فإن ملكوت السماوات يتربَّع فى الذين يحملون صورة السماوى (1كو15: 49) وبذلك يكونون هم أنفسهم سمائيّين[125].

ويقول القدّيس أثناسيوس الرسولى: [إن كان يريدنا أن ندعو أباه أباً لنا، فيليق بنا على هذا الأساس ألا نقيس أنفسنا بالابن حسب الطبيعة، فإنه بسبب الابن ندعو الآب هكذا. إذ حمل الكلمة جسدنا، وصار فينا، لذلك يُدعَى الله أبانا بسبب الكلمة الذى فينا، فإن روح الكلمة الذى فينا يدعو أباه خلالنا كأب لنا، الأمر الذى عناه الرسول بقوله: "أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبّا الآب" (غل4: 6) [126].] ويقول القدّيس كبريانوس: [يا لعظم لطف الرب! يا لعظم تنازله وكرم صلاحه نحونا، إذ يريدنا أن نُصَلِّي بطريقة ندعو بها الله أباً، ونُحسَب نحن أبناء الله، كما أن المسيح نفسه هو ابن الله. لقب ما كان أحد يجسر أن ينطق به فى الصلاة لو لم يسمح لنا بنفسه أن ننطق به. لهذا يليق بنا أيها الإخوة الأحبّاء أن نتذكَّر هذا وندرك أننا إذ ندعو الله أباً فلنعمل بما يليق كأبناء لله. وكما تجدون لذَّة فى دعوة الله أباً، فهو أيضاً يجد لذَّة فينا! [127]].

يقول القدِّيس كيرلس الأورشليمى: [يا لعظمة حبّ الله للبشر! فقد منح الذين ابتعدوا عنه وسقطوا فى هاوية الرذائل غفران الخطايا، ونصيباً وافراً من نعمة، حتى أنهم يدعونه أباً: "أبانا الذى فى السماوات". السماوات هى أيضاً هؤلاء الذين يحملون صورة العالم السماوى، والذى يسكن الله فيهم ويقيم[128].].

يقول العلامة ترتليان: [مطوَّبون هم الذين يعرفون أباهم! وقد وجَّه هذا التوبيخ ضد إسرائيل إذ يُشْهد الروح السماء والأرض، قائلاً: "ربَّيْتُ بنين ولم يعرفوننى" (إش1: 2)... عندما نذكر الآب نستدعى أيضاً الابن، إذ يقول: "أنا والآب واحد" (يو10: 30)، وأيضاً لا نتجاهل الكنيسة أُمِّنا، إذ تُعرف الأم خلال الآب والابن، وخلالها يظهر اسم كل من الآب والابن. بتعبير واحد عام، أو بكلمة، نحن نكرم الآب مع ابنه... ونذكر الوصيَّة ونضع علامة للذين نسوا أبيهم[129].].

4 - لماذا أول طلبة نسألها من الرب "ليتقدس اسمك"؟

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [يليق بمن يدعو الله أباه ألا يطلب شيئاً ما قبل أن يطلب مجد أبيه، حاسباً كل شئ ثانوياً بجانب عمل مدحه، لأن كلمة "ليتقدَّس" إنما تعنى "ليتمجَّد" [130].].

يقول القدِّيس كيرلس الأورشليمى: [اسم الله مُقدَّس بطبيعته، إن قلنا أو لم نقل، لكن بما أن اسم الله يُهينه الخطاة كما هو مكتوب: "اسمى يُجدَّف عليه بسببكم بين الأمم" (رو2: 24؛ إش52: 5)، فنحن نطلب أن يتقدَّس اسم الله فينا، لا بمعنى أن يصبح مقدَّساً، كأنه لم يكن مقدَّساً فينا نحن الذين نسعى إلى تقديس أنفسنا وممارسة الأعمال الائقة بتقديسنا[131].].

5 - لماذا تسألونه "ليتقدَّس اسمك" وهو قدُّوس أصلاً؟

يقول القدِّيس أغسطينوس: [إنَّكم إذ تسألونه ذلك هل تطلبون لأجل الله وليس لأجل صالحكم؟! لا، افهموا هذا جيِّدَّاً، وهو إنَّكم تسألون هذا لأجل أنفسكم. إنَّكم تسألون من هو قدُّوس فى ذاته دائماً أن يكون مقدَّساً فيكم. ماذا تعنى كلمة "ليتقدَّس"؟ إنَّها تعنى أن يتقدَّس اسم الله فيكم ولا يُحتقَر فيكم. لذلك فإن ما تطلبونه هو لخيركم، لأنَّكم إن احتقرتكم اسم الله تصيرون (وليس الله) أشراراً. يتقدَّس اسم الله فيكم بنوالكم سرّ المعموديَّة، ولكنَّكم لماذا تطلبون هذه الطلبة بعد العماد، إلاَّ لكى يبقى فيكم ما استلمتموه بالعماد إلى الأبد[132].] [إن كان اسم الله يجدّف عليه من الأمم بسبب الأشرار، فعلى العكس يُقَدَّس ويُكَرَّم بسبب الأمناء، أى المؤمنين[133].].

ويقول الأب إسحق: [حينما نقول "ليتقدَّس اسمك" يليق بنا جداً أن نفهمه بهذا المعنى: "تقديس الله هو كمالنا"، أيضاً اجعلنا أيها الآب قادرين أن نفهم. نسلك بما فيه تقديس اسمك، أو على اى الأحوال يراك الآخرون قدوساً بتغيّرنا الروحى، "إذ يرى الناس أعمالنا ويُمَجِّدون أبانا الذى فى السماوات" (مت5: 16) [134].

يقول القديس كبريانوس: [لسنا نرغب أن يتقدَّس الله بصلواتنا وإنما نسأله أن يتقدَّس اسمه فينا... إننا نحن الذين تقدَّسنا فى المعموديَّة نسأله ونتوسَّل إليه ان نستمر فيما بدأنا فيه. هذا ما نُصَلِّى لأجله كل يومٍ، إذ نحن فى حاجة إلى تقديس يومى، إذ نسقط كل يوم ونحتاج إلى غسل من خطايانا بالتقديس المستمر... يقول الرسول إننا نتقدَّس باسم ربّنا يسوع المسيح وبروح إلهنا. ونحن نُصَلِّى لكى يتم هذا التقديس فينا، فقد حذَّر ربّنا ودَيَّاننا ذاك الذى طلب من الذى شفاه ألا يخطئ مرّة أخرى، لئلا يصير إلى حال أشرّ، وها نحن نُقَدِّم هذه الطلبة فى صلواتنا باستمرار، سائلين إيّاه ليلاً ونهاراً أن يحفظ بحمايته التقديس الذى نلناه من نعمته[135].].

6 - أليس هو ملك الملوك فلماذا نطلب "ليأت ملكوتك"؟

يقول القدِّيس أغسطينوس: [إن مجيئه آتٍ لا محالة، سواء سألناه ذلك أو لم نسأله. حقاً إن ملكوته أبدى، لأنَّه فى أى وقت لم يكن لله ملكوت؟! متى بدأ يملك؟! إن ملكوته بلا بداية ولا نهاية.

ينبغى علينا أن نعلم أننا نصلِّى بهذه الطلبة لأجل أنفسنا وليس لأجل الله، لأنَّنا لا نقول "ليأتِ ملكوتك"، كما لو كنَّا نسأل من أجل أن يملك الله، بل لكى نكون نحن من ملكوته، وذلك إن آمنّا به وتقدَّمنا فى إيماننا هذا. كل المؤمنين الذين يخلصون بدون ابنه الوحيد سيكونون ملكوته[136]. وهذا الملكوت آتٍ بعد القيامة، حيث يأتى الابن بنفسه ويقيم الأموات. ويقول للذين عن يمينه: "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت" (مت25: 34). هذا هو الملكوت الذى نرغبه ونطلبه بقولنا: "ليأت ملكوتك". إنَّنا نطلب أن يأتى بالنسبة لنا، لأنَّه وإن لم يأتِ بالنسبة لنا فسيأتى ولكنَّ للآخرين. أمَّا إذا انتمينا إلى أعضاء ابنه المولود الوحيد، فسيأتى ملكوته بالنسبة لنا ولا يتأخَّر.

هل لازالت سنوات كثيرة على مجيئه كتلك التى عبرت؟! يقول الرسول يوحنا: "أيَّها الأولاد إنَّها الساعة الأخيرة". أنَّها ساعة طويلة بالنسبة لذلك اليوم الطويل. انظروا كم من السنوات دامت هذه الساعة الأخيرة! إذن فلنسهر حتى ننام بالموت لنقوم فى النهاية ونملك إلى الأبد. ماذا يقصد ب "ليأت ملكوتك"؟ يجدنا صالحين، فنحن نطلب منه أن يجعلنا صالحين حتى يأتى ملكوته بالنسبة لنا.

لتعطنا نصيباً فى ملكوتك، ليأتِ بالنسبة لنا ذاك الذى سيأتى لقدِّيسيك ولأبرارك.].

كما يقول: [لا نقول: "ليأتِ ملكوتك" كما لو كنّا نسأل أن يملك الله، إنّما لكى نصير نحن ملكوته، ذلك بإيماننا به وتقدّمنا فى الإيمان به[137].].

يقول العلاّمة أوريجينوس: [إن كان ملكوت الله كقول ربّنا ومخلّصنا لا يأتى بمراقبة، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، إنّما ملكوت الله داخلكم (لو17: 20 - 21)، لأن الكلمة قريبة جداً فى فمنا وفى قلبنا (تث30: 14؛ رو 10: 8)، فمن الواضح أن من يصلّى لكى يأتى ملكوت الله، إنما يصلّى بحق لكى يظهر فيه ملكوت الله، ويأتى الآن أيضاً ليت فسادنا يلبس التقديس فى القداسة وكل طهارة وعدم الفساد (1كو15: 53)، ويلتحف المائت بعدم موت الآب عندما يبطل الموت (1كو15: 26)، عندئذ يملك الله علينا ويمكننا أن ننعم بشركة الخيرات الخاصة بالتجديد والقيامة[138].].

يقول القدّيس كبريانوس: [لا يليق بنا ونحن نطلب ملكوت الله أن يأتى سريعاً، إننا أنفسنا نهتم أن يطول بقاؤنا فى هذا العالم[139].] كما يقول: [نسأله أن يُقَاوم ملكوت الله بالنسبة لنا وذلك كما نسأله أن يتقدَّس اسمه فينا... فنحن نُصَلِّي لكى يأتى ملكوتنا الذى وعدنا الله به، والذى تحقَّق خلال دم المسيح وألامه، حتى أننا نحن الذين صرنا خاضعين له فى العالم نملك مع المسيح، إذ وعد قائلاً: "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المُعَدّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت25: 34). على أى الأحوال، المسيح نفسه أيها الإخوة الأعزّاء، هو ملكوت الله الذى نرغب فى مجيئه من يوم إلى يوم، فنطلب سرعة مجيئه. مادام المسيح هو القيامة، ففيه نقوم، هكذا هو ملكوت الله وفيه نملك... إننا نصنع حسناً إذ نطلب ملكوت الله، أى الملكوت السماوى، حيث يوجد ملكوت أرضى. فمن يزهد العالم تكون كرامته وملكوته أعظم. من يُكَرِّس نفسه لله والمسيح لا يطلب الملكوت الأرضى بل السماوى. توجد حاجة للصلاة الدائمة والطلبة كى لا نسقط عن الملكوت كقول الرب: "إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب فى ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجيّة، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت8: 11 - 12). كان اليهود أبناء الملكوت إذ كانوا أبناء لله، ولكن إذ توقَّفت معرفتهم لاسم الآب توقَّف عنهم الملكوت، وهكذا نحن المسيحييّن إذ نبدأ صلواتنا بدعوة الله أبانا نصلّى أيضاً أن يأتى ملكوته بالنسبة لنا[140].].

يقول القدِّيس كيرلس الأورشليمى: [يليق بالنفس الطاهرة أن تقول بثقة "ليأت ملكوتك"، لأن الذى يسمع بولس يقول: "لا تملُكن الخطيَّة فى جسدكم المائت" (رو6: 12)، يعمل على تطهير نفسه بالفعل والفكر والقول، ويستطيع القول: "ليأت ملكوتك" [141].].

يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [نسأل أيضاً الرب إن يُخلِّصنا من الفساد لينزع الموت أو كما قيل "ليأت ملكوتك"، أى ليحل الروح القدس علينا ويطهرنا.].

يقول العلامة ترتليان: [رغبتنا هى أن يُسرِع ملكنا بالمجيء فلا تمتد عبوديتَّنا (فى هذا العالم[142]).].

7 - لماذا نقول: لتكن مشيئتك كما فى السماء، كذلك على الأرض! هل لا ينفذ الله مشيئته ما لم نطلب نحن منه ذلك؟!

إننا نسأل الله أن كل ما نفكر فيه وننطق به ونمارسه يكون حسب مشيئته الإلهية وحسب مسرته. يقول الرسول: "القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التى تعمل فينا" (أف3: 20).

يقول القدّيس كبريانوس: [إذ يعوقنا (العدو) عن طاعة مشيئة الله بأفكارنا وأعمالنا فى كل شيء، لهذا نُصَلِّي ونطلب أن تتم مشيئة الله فينا، ولكى يتحقّق ذلك نحن فى حاجة إلى إرادته الصالحة أى معونته وحمايته، إذ ليس لأحد القدرة من ذاته على ذلك[143].].

يقول القدِّيس أغسطينوس: [إنَّه يقصد بها أن تعمل مشيئته فىيّ ولا أُقاومها. وبذلك تطلبون من أجل أنفسكم لا من أجل الله لأن مشيئة الله عاملة فيكم ولو لم تكن بواسطتكم[144]. فمشيئة الله عاملة فيمن سيقول لهم "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المُعدّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت25: 34). كما تعمل فيمن سيقول لهم: "اذهبوا عنِّى... إلى النار الأبديَّة المُعدَّة لإبليس وملائكته" (مت25: 41). تعمل مشيئته فى الأوَّلين بأن يأخذ الأبرار والقدِّيسون ملكوت السماوات، كما تعمل فى الآخرين بمعاقبة الأشرار بالنار الأبديَّة. أمَّا كون مشيئته تعمل بواسطتنا فهذا أمر آخر. فأنتم لا تصلُّون لكى تعمل مشيئته بلا فائدة بل لصالحكم. لأنَّه سواء أكانت لصالحكم أو لغير صالحكم فهى نافذة، ولكنَّها ستعمل فيكم وليس بواسطتكم.].

يقول القدِّيس كيرلس الأورشليمى: [ملائكة الله الطوباويون الإلهيون يصنعون مشيئة الله كما يُرَنِّم داود قائلاً: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوَّة، الفاعلين كلمته" (مز103: 20) فعندما تُصلِّى بقوَّة تود القول: كما تتم مشيئتك فى ملائكتك، فلتتم هكذا فينا نحن على الأرض يارب[145].].

ويقول القدِّيس يوحنا الذهبى الفم: [كأنه يقول: اجعلنا يارب قادرين أن نتبع الحياة السماويَّة، فنريد نحن ما تريده أنت.].

8 - ماذا يقصد بكلمتيّ "السماء، الأرض" فى هذه العبارة (مت6: 10)؟

يحمل السماء والأرض مفاهيم رمزيّة، نذكر منها الآتى:

أولاً: الملائكة والبشر.

يقول القدِّيس أغسطينوس: [تُتَمِّم الملائكة مشيئة الله، فهل نُتَمِّم نحن مشيئته؟! كما أن ملائكتك لا تُعارِضك، هكذا ليتنا نحن لا نعارضك أيضاً. كما أن ملائكتك تخدمك فى السماء، هكذا لنخدمك نحن على الأرض. ملائكته القدِّيسون يطيعونه، إنَّهم لا يخطئون إليه، بل ينفِّذون وصايَّاه لمحبَّتهم له. ونحن نصلِّى لكى نُنفِّذ أيضاً وصاياه فى حب[146].].

ويقول الأب إسحق: [لا يمكن أن توجد صلاة أعظم من الاشتياق أن تكون الأمور الأرضيّة سماويّة، لأنه ماذا يعنى القول "لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض" سوى السؤال من أجل البشر ليكونوا مثل الملائكة؟ فكما تتم مشيئة الله بواسطتهم فى السماء هكذا ليت الذين على الأرض لا يفعلون مشيئتهم الذاتيّة بل مشيئة الله[147].] وأيضاً القدّيس جيروم: [كما تطيعك الملائكة فى السماء وتخدمك الخليقة السماويّة، هكذا ليخدمك البشر أيضاً[148].].

ويقول العلاّمة أوريجينوس: [ليتنا نحن الذين لا نزال على الأرض ونُدرِك أن إرادة الله تتم فى السماء بواسطة سكان السماء، نُصلّى كى تتم إرادته بواسطتنا نحن أيضاً على الأرض فى كل الأشياء...] [عندما تتحقَّق إرادة الله بواسطتنا نحن الذين على الأرض كما تتحقَّق فى الذين فى السماء نتشبَّه بالسمائيّين إذ نحمل مثلهم صورة السماوى (1كو15: 49) ونرث ملكوت السماوات (مت25: 34). ويأتى الذين بعدنا وهم على الأرض يصلّون لكى يتشبّهوا بنا، إذ نكون نحن فى السماء (الفردوس) [149].].

ثانياً: الروح (أو العقل) والجسد.

يقول القدّيس أغسطينوس: [حين يتَّفِق الجسد مع العقل، ويُبتلَع الموت إلى غلبة (1كو15: 54) حتى لا تبقى بعد شهوات جسديّة يصارع معها العقل، ينتهى الصراع الأرضى وتعبر الحرب القلبيّة المكتوب عنها: "لأن الجسد يشتهى ضدّ الروح، والروح ضدّ الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غل5: 17). أقول، عندما ينتهى هذا الصراع وتتحوَّل كل الشهوات إلى محبّة، ولا يبقى فى الجسد ما يضاد الروح، ولا يبقى فيه شيئاً ليُقمَع أو يُلجَم أو يُطَأ تحت الأقدام، بل يصير الكل فى وفاق مُتَّجِهاً نحو البرّ... حينئذ تكون مشيئة الله فى السماء كذلك على الأرض... إننا إذ نُصَلِّى بهذه الطلبة إنّما نشتهى الكمال... كما تبتهج عقولنا بوصاياك ليت أجسادنا أيضاً ترضى بها، وبهذا ينتهى الصراع الذى وصفه الرسول... ويتحوَّل الصراع إلى نصرة مستقبلة! [150]].

ويقول القدّيس كبريانوس: [إذ لنا الجسد من الأرض والروح من السماء، فنحن أنفسنا أرض وسماء، وفى كليهما – أى فى الجسد والروح – نصلّى لكى تتم مشيئة الله. يوجد صراع بين الجسد والروح، نزاع يومى، كما لو كان الواحد لا يتَّفِق مع الآخر، حتى أننا لا نقدر أن نفعل ما نريده (غل5: 17 - 22). تطلب الروح الأمور السماويّة الإلهيّة بينما يشتهى الجسد الأمور الأرضيّة الزمنيّة، لذا نطلب معونة الله ومساعدته حتى يتم التوافق بين الطبيعتين، فتتم مشيئة الله فى الروح وفى الجسد، وتحفظ النفس المولودة ثانية بواسطته[151].].

ثالثاً: الإنسان الروحانى والإنسان الجسدانى.

يقول القدّيس أغسطينوس: [الإنسان الروحانى فى الكنيسة هو السماء، أمّا الجسدانى فهو الأرض. هكذا لتكن مشيئة الله كما فى السماء كذلك على الأرض، وكأنه كما يخدمك الروحانى فليخدمك الجسدانى بإصلاحه... كل الآباء القدّيسين والأنبياء والرسل والروحانيّين إنّما هم كالسماء... ونحن بالنسبة لهم الأرض، هكذا لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض[152].].

ويقول العلاّمة أوريجينوس: [إذا ما صارت إرادة الله على الأرض كما فى السماء، فسنصير نحن سماءً، لأن الجسد الذى لا ينفع (يو6: 63) والدم المرتبط به، لا يقدران أن يرثا ملكوت الله (1كو15: 50) إنما يقال إنهما يرثانه عندما يتحوَّلان من جسد وأرض وتراب ودم إلى أمور سماويّة[153].].

رابعاً: المؤمنون وغير المؤمنين.

يقول القدّيس أغسطينوس: [الكنيسة هى السماء وأعداؤها هما الأرض. ماذا تعنى: "لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض"؟ أن يؤمن بك الأعداء كما نحن. إنهم الأرض لهذا هم ضدّنا، فإن صاروا سماءً يصيرون معنا! [154].].

ويقول القدّيس كبريانوس: [يلزمنا أن نسأل من أجل الذين لا يزالون أرضاً ولم يبدأوا بعد ليكونوا سماءً لكى تتم مشيئة الله حتى فى هؤلاء... كما تتم مشيئة الله فى السماء – أى فينا نحن إذ صرنا سماءً بإيماننا – هل تتم على الأرض، أى فى الذين لم يؤمنوا بعد، هؤلاء الذين لا يزالوا أرضاً بسبب ميلادهم الأول منها، فيولدون من الماء والروح ويبدأون أن يكونوا سماءً[155].].

9 - ماذا يعنى بالخبز فى قوله: خبزنا كفافنا (اليومى أو الجوهرى أو الذى للغد) أعطنا اليوم (مت6: 11)؟

فى اختصار يُشير هذا الخبز إلى: القوت اليومى، أو الإفخارستيا، أو كلمة الله (الكتاب المقدس) أو السيد المسيح نفسه.

أولاً: القوت اليومى

يليق بالمؤمن أن يحافظ على صحة جسده وأيضاً نفسه. يقول القدّيس أغسطينوس: [هب لنا الأمور الأبديّة (الطلبات السابقة)، وأعطنا الأمور الزمنيّة. لقد وعدت بالملكوت فلا تحجم عنّا وسيلة الحياة. ستعطينا مجداً أبدياً إذ تهبنا ذاتك فيما بعد، أعطنا على الأرض المئونة الزمنيّة... بلا شك هذه الطلبة تُفهَم عن الخبز اليومى من ناحيتين: القوت الضرورى للجسد والمئونة الروحيّة الضروريّة. توجد مئونة لازمة للجسد لحفظ حياتنا اليوميّة، بدونها لا نقدر أن نعيش وهى الطعام والملبس، لكن بذكر الجزء (الخبز) نقصد الكل[156].].

ثانياً: سرّ الإفخارستيا

يقول القدّيس أغسطينوس (فى حديثه مع طالبى العماد) [إن كنتم تفهمون هذا الخبز أنه ما يناله المؤمنون، وما تنالونه أنتم بعد العماد، فإنه من المهم أن نسأل ونطلب "خبزنا اليومى أعطنا اليوم" لكى نسلك بحياة مُعَيَّنة فلا نُحرَم من الهيكل المُقَّدس... أعطنا جسدك، طعامنا اليومى... دعنا نعيش صالحين حتى لا نُحرَم من مذبحك[157].].

ويقول القدّيس أغسطينوس: [هذا الذى يقول عنه الرب فى الإنجيل: "ليس حسناً أن يُؤخذ خبز البنين ويُطرَح للكلاب" (مت15: 26)؟ بالتأكيد يوجد خبز آخر، فما هو هذا الخبز؟ ولماذا دُعِي بالخبز اليومى؟ لأنه ضرورى كالخبز الآخر، بدونه لا نستطيع أن نحيا... ذلك هو كلمة الله التى تُوَزَّع يومياً. خبزنا يومى، تحيا به أرواحنا لا أجسادنا، إنه لازم لنا نحن الذين لا نزال نعمل فى الكرم. إنه الغذاء وليس الأجرة. فمن يستأجر عاملاً يلتزم بتقديم الغذاء له حتى لا يخور، أمّا الأجرة فتُقَدَّم له ليُسرَّ بها. غذاؤنا اليومى فى هذه الحياة هو كلمة الله، التى تُوَزَّع على الدوام فى الكنائس، أمّا أجرتنا التى نأخذها بعد العمل فهى التى تُدعَى بالحياة الأبديّة... ما عالجته أمامكم الآن هو خبز يومى، كذلك فصول الكتاب المقدّس التى تسمعونها يومياً فى الكنيسة هى خبز يومى. التسابيح التى تترنمون بها هى أيضاً خبز يومى. لأن هذه جميعها ضروريّة لنا أثناء رحلتنا[158].].

كما يقول: [عندما تنتهى هذه الحياة لا نطلب الخبز الذى نجوع إليه، ولا نأخذ من الأسرار المقدّسة من على المذبح، أذ نكون هناك مع المسيح الذى نأخذ جسده هنا، ولا تحتاجون إلى من يحدّثكم عما أنطق به معكم الآن، ولا نقرأ الكتاب المقدّس إذ نُعاين كلمة الله نفسه، الذى به كان كل شيء وبه يتغذَّى الملائكة ويستنيرون ويصيرون حكماء، دون حاجة إلى المناقشات المستمرّة... إنهم يشربون من الكلمة الوحيد، مملوئين من ذلك الذى به ينفجرون فى التسبيح بلا انقطاعٍ، إذ يقول المزمور: "طوبى للساكنين فى بيتك أبداً يُسَبِّحونك" (مز84: 4) [159].].

ويقول القديس كبريانوس: [المسيح هو خبز الحياة بالنسبة لنا ولا يخصّ كل البشر. وكما نقول "أبانا" إذ هو أب لكل من يفهم ويؤمن، هكذا ندعو المسيح خبزنا، لأنه خبز لكل الذين يتَّحدون بجسده. ونحن نطلب أن يعطينا هذا الخبز كل يوم، فنحن الذين فى المسيح ونتناول يومياً الإفخارستيا كطعام خلاصنا، لا نودّ أبداً أن نُمنَع من الشركة بسبب قهر زلّة عرضيّة تحرمنا من خبز السماء، وتفصلنا عن جسد المسيح، لقد سبق فنادى وحذَّر: "أنا هو الخبز الحيّ الذى نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذى أنا أعطي هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 51)... لذلك نطلب أن خبزنا – أى المسيح – يعطى لنا كل يوم، حتى أننا نحن الذين نسكن فى المسيح ونحيا فيه لا نُحرَم منه[160].

يقول العلامة ترتليان: [المسيح هو خبزنا، لأنه هوالحياة، والخبز هو الحياة. يقول السيِّد: "أنا هو خبز الحياة" (يو6: 35)، يسبق ذلك قوله: "خبز الله هو (كلمة الله الحيّ) النازل من السماء" (يو6: 33). جسده أيضاً يُحسَب خبزاً[161].].

ويرى القدِّيس أغسطينوس أن هذا الخبز اليومى هو التمتُّع بقيامة السيِّد المسيح، لكى نختبر كل يوم قوَّة قيامته عاملة فينا.

ويقول العلاّمة أوريجينوس[162]: [الخبز الحقيقى هو الذى يقوت الإنسان الحقيقى الذى خُلِق على صورة الله (تك1: 26 - 27)، ومن يقتات به يصير أيضاً على مثال الخالق. ولكن أى شيء يُنعش النفس إلا "الكلمة"، وأى شيء أثمن لذهنه من حكمة الله؟... وأى شيء يخص النفس العاقلة أكثر من "الحق"؟] كما يقول: [لكى لا تمرض نفوسنا بسبب عدم وجود قوت لها، ولكى لا تموت بسبب وجود مجاعة فى كلمة الرب، فلنسأل الآب الخبز الحيّ كخبز يومى، مطيعين مُخَلِّصنا كمُعَلِّمٍ، وواضعين إيماننا فيه، سالكين بأكثر حكمة.].

ويذكر العلاّمة أوريجينوس فى شرحه الصلاة الربّانيّة أن كلمة (epiouios) ماخوذة عن "ousia" أى "جوهر[163]". بينما يرى البعض أنها مشتقّة عن "epienai" [164] والتى تعنى "الغد". وبنفس الفكر يذكر جيمس سترونج فى كتابه: "القاموس اليونانى للعهد الجديد" بأن الكلمة مشتقّة إمّا عن "epiousa" أو "epi" أو "eimi"، وأنها معناها: أساسى، جوهرى، ضرورى، يومى، الغد[165].

هذا ويقول القدّيس جيروم: إن [الإنجيل العبرى حسب متّى يُقرأ هكذا: "خبزنا الذى للغد أعطنا اليوم" بمعنى آخر، أن الخبز الذى ستهبه لنا فى ملكوتك امنحه إيّانا اليوم[166].].

10 - لماذا لا يغفر لنا الله ذنوبنا ما لم نغفر نحن أيضاً لإخوتنا ذنوبهم؟

لأننا نشهد عملياً أننا أشرار لا نصفح لإخوتنا عما ارتكبوه ضدنا، وأننا غرباء عن صلاح الله. يليق بنا أن نتقدَّم للصلاة بروح الحب بدون تذكُر أية ضغينة أو كراهية لأحد أياً كان موقفه منا أو من الكنيسة. نعلن غفراننا له فى قلوبنا التى ينظرها الله نفسه، ونتمم الوصية الرسولية: "إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس" (رو12: 18).

يقول الأب اسحق: [من لا يغفر من قلبه لأخيه الذى أساء إليه لا يجلب لنفسه بهذه الصلاة غفراناً بل دينونة[167].].

ويقول القدّيس أغسطينوس [ "واغفر لنا ما علينا Our debts"... إننا مدينون بالخطايا لا بالمال. لكن ربّما تقولون: وهل أنتم أيضاً مدينون بالخطايا؟ أجيب بالإيجاب. هل أنتم أيها الأساقفة مدينون؟ نعم نحن أيضاً مدينون! ما هذا يا ربى؟! أبعدوا هذا عنكم (أى إدانة الأساقفة) ولا تخطئوا فإنّنى لا أصنع خطأ، ومع ذلك فإنّنى أقول الحق أنى مدين. "إن قلنا أنه ليس لنا خطيّة نُضلّ أنفسنا وليس الحق فينا" (1يو1: 8). إننا نلنا سرّ المعموديّة، ومع ذلك فنحن مدينون، ليس لأن المعموديّة لم تغفر خطيّة مُعيَّنة بل لأننا نفعل فى حياتنا ما نحتاج إلى مغفرته كل يوم... أى إنسان يعيش هنا ولا يحتاج إلى هذه الصلاة؟! إنه متكبّر لا يستطيع أن يتبرّر. خير له أن يتمثَّل بالعشّار ولا يتكبَّر كالفرّيسى الذى صعد إلى الهيكل متباهياً باستحقاقه، خافياً جراحاته، أمّا الذى قال: "اللهم ارحمنى أنا الخاطي" (لو18: 13) فقد عرف أين يصعد. أنظروا أيها الإخوة... فقد علَّم الرب يسوع تلاميذه الذين هم رسله الأوّلين العظماء، قادة قطيعنا، أن يصلّوا بهذه الطلبة. فإن كان القادة يصلّون من أجل غفران خطاياهم، كم بالأكثر ينبغى علينا نحن الحملان!...

الصلاة مع الإحسان يرفعان الخطايا، بشرط ألا نرتكب تلك الخطايا التى بسببها نُحرَم من الخبز اليومى (سّر الإفخارستيا). لنتجنّب كل الآثام التى تستحق تأديبات قاسية.].

كما يقول: إنه عهد وميثاق بيننا وبين الله! الرب إلهنا يقول: اغفروا يغفر لكم، فإن لم نغفر نبقى فى خطايانا ضدّ أنفسنا وليس ضدّه... اغفروا من قلوبكم التى يراها الله، إذ أحياناً يغفر الإنسان بفمه لكنّه يحتفظ بها فى قلبه. يغفرها بفمه من أجل البشر، ويحتفظ بها فى قلبه إذ لا يخاف من عينيّ الله[168].].

يقول القدّيس كبريانوس: [بعد طلب الطعام نسأل الصفح عن الخطيّة، لأن من يقوته الله يلزم أن يحيا فى الله، فلا يكون رجاؤه بالحياة الحاضرة الزمنيّة فحسب وإنما بالأبديّة أيضاً، التى نأتى إليها متى غُفِرَت الخطيّة، هذه التى دعاها السيّد "ديوناً"، حسب قوله فى إنجيله: "كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إليّ" (مت18: 32). إنه من الضرورى واللائق والنافع لنا أن يذكرنا الرب بأنّنا خطاة، إذ يلزمنا سؤال الصفح عن خطايانا، فبالتماسنا الصفح عنها من الله نتذكّر حالة الخطيّة التى عليها ضمائرنا، ولئلا يتعجرف أحد ويظن فى نفسه أنه بار فيهلك بكبريائه إلى النهاية، لذلك نتعلَّم من هذه الطلبة أننا نخطئ كل يوم. هكذا يُحَذِّرنا الرسول يوحنا فى رسالته: "إن قلنا أنه ليس لنا خطيّة نُضلّ أنفسنا، وليس الحق فينا، إن اعترفنا بخطايانا (فالرب) أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا" (1يو1: 8 - 9).].

11 - ماذا يعنى القول: لا تدخلنا فى تجربة، لكن نجّنا من الشرّير؟

يقول الأب إسحق: [أيوب جُرِّب، لكنّه لم يدخل فى تجربة، إذ لم ينطق ضدّ الله بأى تجديف، ولا استسلم لفمٍ شريرٍ كرغبة الشرّير نفسه. إبراهيم جُرِّب، ويوسف جُرِّب، لكن لم يدخل أحدهما فى تجربة، لأنهما لم يستسلما ليُرضيا المُجَرِّب[169].].

ويقول القدّيس أغسطينوس: [من يُغلَب من التجربة يرتكب الخطيّة، لهذا يقول يعقوب الرسول: "لا يقل أحد إذا جُرِّب إنى أُجَرَّب من قبل الله، لأن الله غير مُجرَّب بالشرور وهو لا يُجَرِّب أحداً. ولكن كل واحد يُجَرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيّة، والخطيّة إذا كملت تنتج موتاً" (يع1: 13 - 15). فإذ لا تنجذبون إلى شهوتكم لا تقبلونها... الله لا يُجرِّب أحداً بالتجارب التى تخدعنا وتضلّنا، ولكن بدون شك فى أعماق عدله يتخلَّى عن البعض، فيجد المُجَرِّب فرصته، لأنه لا يجد فيها مقاومة. وإذ يتخلَّى الله عنهم يتقدَّم المُجرِّب نفسه كمالك لهم. لهذا نقول "لا تدخلنا فى تجربة" لكى لا يتخلَّى الله عنّا... ماذا يُعَلِّمنا الرسول يعقوب! إنه يُعَلِّمنا أن نُحارِب شهواتنا...

لا يخيفكم أى عدوّ خارجى! انتصروا على أنفسكم، فتغلبوا العالم كله! لأنه ما هو سلطان المجرِّب الخارجي عليكم، سواء أكان الشيطان أم خادمه؟ إن وُضِع أمامكم الأمل بالربح بقصد إغرائكم للخطيّة لا يجد فيكم الطمع، فلا يقدر أن يفعل بكم شيئاً... أمّا إن وُجد فيكم الطمع، فإنكم تحترقون عند إغرائكم بالمكسب وتُصطادون بطعم فاسد... وإن وضع أمامكم نساء فائقات الجمال، فإن وُجد فيكم العفّة داخلكم تَغلبون الظلمة الخارجية. حاربوا شهواتكم الداخليّة فلا يقتنصكم بطُعم امرأة غريبة. إنكم لا تدركون عدوُكم، لكنكم تُدركون شهواتكم... فلتسيطروا على ما تلمسونه داخلكم[170].].

يقول القدّيس كبريانوس: [فى هذه الكلمات يظهر عجز الخصم عن فعل أى شيء ضدّنا ما لم يسمح له الله بذلك، لهذا يتحوَّل خوفنا وتقوانا وطاعتنا إلى الله، إذ فى تجاربنا لا يصيبنا شيء لو لم يُعطَ سلطاناً من الله. هذا ما يُؤكِّده الكتاب الإلهى إذ يقول: "جاء نبوخذنصر ملك بابل على أورشليم وسباها والرب سلّمها ليده" (راجع 2مل24: 11).

يُعطى السلطان للشرّير بسبب خطايانا، كما قيل: "من دفع يعقوب إلى السلب وإسرائيل إلى الناهبين؟! أليس الرب الذى أخطأنا إليه، ولم يشاءوا أن يسلكوا فى طرقه، ولم يسمعوا لشريعته؟، فسكب عليه حموُ غضبه!" (إش 42: 24). وعندما أخطأ سليمان وترك وصايا الرب وطريقه قيل: "وأقام الرب خصماً لسليمان" (1مل11: 14). يعطى السلطان ضدّنا بأسلوبين: امّا للعقوبة عندما نخطئ، أو للمجد عندما نتزكّى، كما نرى فى أمر أيوب إذ يقول الرب: "هوذا كل ما له فى يديك، وإنما إليه لا تمد يدك" (أى1: 12). ويقول الرب فى إنجيله أثناء آلامه: "لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق" (يو19: 11).

ونحن إذ نسأل ألا ندخل فى تجربة إنّما نتذكَّر ضعفنا، الذى لأجله نسأل لئلا يتَّصِف أحد بمهانة وفى كبرياء وعجرفة يظن فى نفسه أنه شيء، ناسباً لنفسه مجد الاعتراف (وسط الضيقة) والقدرة على الاحتمال، مع أن الرب يُعَلِّمنا التواضع، قائلاً: "اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا فى تجربة، أمّا الروح فنشيط، واما الجسد فضعيف" (مر14: 38) [171].] كما يقول: [عندما نقول: "نجّنا من الشرّير" لا يبقى بعد شيء نطلبه. إذ نطلب من الله حمايتنا من الشرّير فيُعطِينا، فنقف فى أمان وسلام ضدّ كل ما يصنعه الشيطان أو العالم ضدّنا. فإنه أى شيء يُرهب، فى هذا الحياة – من كان الله هو حارسه؟ [172]].

12 - لماذا نختم الصلاة الربانية بمجدلة الله، قائلين: "لأن لك المُلك والقوّة والمجد إلى الأبد"؟

يقول القدّيس يوحنا الذهبى الفم: "إن كان ضعفك مُتعدِّد، لكن ثق أنه يملك عليك من له القوّة ليُتَمِّم فيك كل شيء بسهولة... إنه ليس فقط يُحَرِّرك من المخاطر التى تقترب إليك، وإنما يقدر أن يجعلك مُمَجَّداً وشهيراً[173]."] [الله يرغب أن تُغلق أبواب الذهن أفضل من غلق الأبواب[174].] [الله نفسه غير منظور، لذا يودّ أن تكون صلاتك أيضاً غير منظورة[175].].

13 - لماذا يؤكد: فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوى، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم ايضاً زلاّتكم "[14 - 15].

يقول القدّيس يوحنا الذهبى الفم: [إننا نبقى كأولاد الله ليس فقط خلال النعمة وحدها، وإنما أيضاً بأعمالنا (مغفرة الخطايا للآخرين). ليس شيء يجعلنا شبه الله مثل استعدادنا للصفح عن الأشرار وصانعى الإثم، وذلك كما سبق فعلَّمنا عندما تحدّث عن نفسه أنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين (مت5: 45) [176].] [كما إذ تطلَّع إنسان إلى جمال السماوات يقول: المجد لك يارب، هكذا من ينظر أعمال إنسانٍ فاضلٍ يرى فضيلته تمجِّد الله أكثر من السماوات[177].] [كأنه يقول: اجعلنا يارب قادرين أن نتبع الحياة السماويَّة، فنريد نحن ما تريده أنت.].

ويقول القدّيس أغسطينوس: [لنأخذ فى اعتبارنا اهتمام السيّد المسيح بالطلبة الخاصة بمغفرة خطايا الآخرين فوق كل الطلبات الأخرى، فهو يريد منّا أن نكون رحماء، حتى نهرب من الشقاء بغفران خطايانا. فبهذه الطلبة وحدها ندخل فى ميثاق مع الله[178].].

ويقول القديس كبريانوس: [لقد ربطنا هذا القانون بشرط مُعَيَّن وتعهّد أننا نسأل التنازل عن الدّين الذى علينا إن كنّا نتنازل عن المدينين لنا... لذلك يقول فى موضع آخر: "بالكيل الذى به تكيلون يُكال لكم" (مت7: 2). العبد الذى صفح سيّده عن كل الدّين الذى عليه إذ لم يرِد أن يغفر للعبد زميله أُعِيد إلى السجن ثانية، ففقد الصفح الذى وهبه إيّاه سيّده... هكذا ليس لك عذر فى يوم الدين عندما يُحكَم عليك. بنفس الحكم الذى تحكم به على الغير، فما تفعله أنت يرتدّ إليك[179].].

14 - لماذا وُضِع ترتيب الطلبات بهذه الصورة؟

يرى القدّيس أغسطينوس[180] وجود تمييز واضح بين الطلبات الخاصة بالحياة الأبديّة التى نترجَّاها، والتى يبدأ تحقيقها من الآن وهى (ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض)، والطلبات التى تخصّ حياتنا الحاضرة، وهى (خبزنا اليومى، اغفر لنا ذنوبنا، لا تدخلنا فى تجربة، نجّنا من الشرير)، ففى الحياة الأبديّة لا نحتاج إلى خبزٍ يوميٍ، ولا نطلب غفراناً، حيث لا نعود نخطئ هناك، ولا يوجد مُجرِّب يحاربنا، ولا نطلب نجاة من العدوّ الشرّير.


[116] - القمص تادرس يعقوب ملطى: الصلاة الربانية للمستعدين للعماد القديس أغسطينوس، طبعة ثانية، 2004.

[117] On Lord's Prayer 3.

[118] In Matt. Hom 6: 19.

[119] Ser. on N. T. 6 - 9.

[120] Lord's Prayar 8.

[121] - القمص تادرس يعقوب ملطى: الصلاة الربانيّة للمستعدِّين للعماد القدِّيس أغسطينوس، طبعة ثانية، 2004.

[122] Ser. on N. T. 6 - 9.

[123] Cassian: Conf. 18: 9.

[124] PG 1599: 13.

[125] On Prayer 3: 22.

[126] De Decretics 7.

[127] Lord's Prayer 10,11.

[128] Cat: Lac. 11: 23.

[129] On Prayer 2.

[130] In Matt. hom 7: 19.

[131] Cat, Lect 12: 23.

[132] القمص تادرس يعقوب ملطى: الصلاة الربانيَّة للمستعدِّين للعماد القدِّيس أغسطينوس، طبعة ثانية، 2004.

[133] In Matt 9: 6.

[134] Cassian: Conf. 18: 9.

[135] Lord's Prayer 12.

[136] - لكن يوجد من يتمتعون بالدم ثم يعودون فينحرفون فلا يتمتعون بالملكوت، وذلك واضح من بقية الحديث.

[137] Ser. On N. T. 6 - 9.

[138] On Prayer 1: 25.

[139] Treat. 19: 4.

[140] Lord's Prayer 13.

[141] Cat. Lect. 13: 23.

[142] On Prayer 5.

[143] Lord's Prayer 14.

[144] - يميِّز القِّديس أغسطينوس بين "أن مشيئة الله عاملة فينا" وبين "عاملة بواسطتنا"، فهى عاملة فينا إن أردنا أو لم نرد، أما كونها عاملة بواسطتنا، فيعنى أننا نريد أن نصنع مشيئته.

[145] Cat. Lect. 14: 23.

[146] Ser. On. N. T. 6 - 9.

[147] Cassian: Conf. 20: 9.

[148] On Ps. hom 58.

[149] On Prayer 6: 26.

[150] Ser. On N. T. 6 - 9.

[151] On Lord's Prayer 16.

[152] Ser. On N. T 6 - 9.

[153] On Prayer 6: 26.

[154] Ser. On N. T 6 - 9.

[155] On Lord's Prayer 17.

[156] Ser. On N. T 6 - 9.

[157] Ser. On N. T 6 - 9.

[158] Ser. On N. T 6 - 9.

[159] Ser. On N. T 6 - 9.

[160] Treat. 18: 4.

[161] On Prayer 6.

[162] On Prayer 8: 27.

[163] On Prayer 13: 27.

[164] James Strong: Greek Dict. of N. T. , article 1967, 1966, 1909, 1910,.

[165] On Ps. hom 17.

[166] Cassian: Conf. 22: 9.

[167] Ser. on N. T 6 - 9.

[168] On Lord's Prayer 22.

[169] Cassian: Conf. 23: 9.

[170] Ser. on N. T. 6 - 9.

[171] Lord's Prayer, 25,26.

[172] Lord's Prayer, 27.

[173] In Matt. hom 10: 19.

[174] In Matt. hom 3: 19.

[175] On Matt. hom 4: 19.

[176] On Matt. hom 11: 19.

[177] Cat. Aurea.

[178] Ser. on Mount 39: 2.

[179] On Lord's Prayer 23.

[180] Ser. on Mount 36: 2.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

لا توجد نتائج

No items found

5- الصلاة العقلية والتأمل - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

3- صلوات السواعي "الإجبية" - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات