10- الصوم المقدس – كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

10 - الصوم المقدس

1 - ما هى حاجة المؤمن للصوم؟

الله الذى خلق كل شيءٍ من أجل الإنسان ليقيم منه ملكاً يتمتع بالحياة، قدم له وصية واحدة، ألا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. وهو فى هذا لا يطلب أن يحرمه من شيءٍ، إنما أراد له أن تمتد يده ليأكل من شجرة الحياة فيحيا خلال الطاعة فى أبدية سعيدة مثل الملائكة القديسين. وكان يمكن لآدم وحواء أن يتحديا إبليس وكل جنوده بطاعتهما للوصية الإلهية، فيعلنا بصومهما أن حبهما لله يسمو فوق كل شيء. لقد غرس الرب لهما جنة عدن (تك 2: 8) ليقيم من قلبيهما فردوساً فائقاً.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [بدأ الصوم فى الفردوس عندما قال الرب لآدم: "لا تأكل من شجرة الخير والشر". وقد طُرد أبوانا الأولان من الفردوس بسبب عدم الصوم. فالصوم إذن هو الذى به ندخل إلى الملكوت. لا ترتجف ولا تخف من الصوم. ألا يحتاج جسدك إلى دواء؟ كذلك نفسك هى بحاجة أحياناً كثيرة إلى دواء. فالصوم هو دواء النفس للتخلص من الخطيئة[286].].

وفى العهد القديم قدمت يهوديت نصيحة للقادة كما للشعب: "اعلموا أن الرب يستجيب لصلواتكم، إن واظبتم على الصوم والصلوات أمام الرب" (يهوديت 4: 12).

2 - ماذا يقول آباء الكنيسة عن الصوم؟

يقول القديس باسيليوس الكبير: [الصوم حارس للنفس، ورفيق أمين للجسد، الصوم سلاح الشجعان، ومدرب النُساك، الصوم يصَّد التجارب، ويُمهد الطريق للتقوى. إنه رفيق الهدوء وصانع العفة. الصوم يعمل أعمالاً باهرة فى الحروب، ويُعلَّم السكينة فى وقت السلام. الصوم يُقدِّس النذير ويجعل الكاهن كاملاً. الصوم يجعل العاقر تلد أولاداً، ويصنع الأقوياء، ويجعل المشرّعين حكماء لأنه كيف للكاهن أن يصلى بدون صوم؟ لقد كانت ممارسة الصوم أمراً ضرورياً ليس فقط فى عبادة العهد الجديد السرائرية ولكن أيضاً بالنسبة للعبادة الناموسية[287].].

[الصوم هو تشبه بالملائكة، رفيق الأبرار، حياة العفة. الصوم هو الذى جعل موسى مشرِّعاً. وصموئيل أيضاً هو ثمرة صوم حنة النبيه التى صلّت إلى الله بعدما صامت قائلة: "يا رب الجنود إن نظرت نظراً إلى مذلة أمتك، وذكرتنى ولم تنسَ أمتك بل أعطيت أمتك زرع بشر فإنى أعطيه للرب كل أيام حياته" (1صم 1: 11). "وخمراً ومسكراً لا يشرب حتى يوم الموت" (انظر قض 13: 14). الصوم هو الذى أسس ونمّى شمشون العظيم. وحتى ذلك الحين الذى وقف معه آخرين ضد آلاف القتلة من الأعداء، هدم أبواب المدينة وحده والأسوار لم تتحمله بسبب قوة يديه (قض 16: 29 - 30). لكن عندما وقع أسيراً للسكر والزنا، وقع فى أيدى الأعداء بعدما فقد بصره وصار ألعوبة فى أيدى عبيد أمم غريبة (قض 6: 21). وبصوم إيليا توقفت السماء عن أن تُعطى مطراً ثلاث سنين وستة أشهر (1مل 17: 1). فقد دعته الضرورة أن يدعو المستمعين إليه إلى صوم انقطاعى عن الأكل بعدما رأى أنه بسبب شهوة الأكل ازداد الظلم والإهانة بين الشعب. بهذا الإجراء توقف خطيتهم، لأن الصوم قد قطع الطريق نحو تفاقم الشر، كما لو أنه قد قُطع بمقطع حاد[288].].

دانيال الرجل الذى لم يأكل خبزاً لمدة ثلاثة أسابيع ولم يشرب خمراً (دا 10: 2 - 3) علّم الأسود أن تصوم عندما نزل جُب الأسود (انظر 6: 16 - 22) والأسود لم تستطع أن تلتهمه بأسنانها وكأن جسده مصنوع من الحجر الصلد أو النحاس أو من أى معدن آخر صلب. هكذا يُقوَّى الصوم الجسد ليصير مثل الحديد مما جعل الأسود لا تقوى عليه. لأنهم لم يستطيعوا أن يفتحوا أفواههم أمام القديس. الصوم "أطفأ قوة النار وسد أفواه الأسود" [289].

3 - ماذا فعلت شهوة الطعام فى شعب الله؟

يقول القديس باسيليوس الكبير: [من هم الذين سقطوا فى الصحراء أثناء ترحال شعب الله إلى أرض الموعد؟ (عب 3: 17) أليس هؤلاء الذين طلبوا أكل اللحم؟ (عد 11: 33). هؤلاء البشر لم يكتفوا بالمنِّ ولا بالماء الذى خرج من الصخرة، وكانوا بالأمس قد انتصروا على المصريين وعبروا البحر الأحمر. لكن بسبب أنهم اشتهوا اللحم المطبوخ فى الأوانى (انظر خر 16: 3)، تقهقروا إلى الخلف، ولم يرَ أحد منهم أرض الموعد[290].].

4 - لماذا اختار ربنا يسوع موسى وإيليا للتمتع برؤيته والحديث معه فى تجلّيه؟

كانت شهوة قلب موسى النبى الذى صام أربعين يوماً وأربعين ليلة أن يرى مجد الله (خر 33: 18) ويتحدث معه. كما تجلى ربنا يسوع أمام موسى وإيليا اللذين صاما أربعين يوماً. وكأن الرب يدعونا أن نشترك معهما فى صومهما، وأن تتقدس أصوامنا بصومه الإلهى فيتجلى رب المجد كما على جبل طابور داخل القلب، ويقيم الرب ملكوته فى داخلنا كوعده الإلهى: "ملكوت الله داخلكم" (لو 17: 21).

ونحن نصوم للانشغال برؤية الله والحديث معه؛ قائلين: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك" (لو 18: 26). على جبل تابور طلب القديس بطرس: "جيد يا رب أن نكون ههنا" (مت 17: 4). حقاً مسكين من يصوم ولا ينشغل برؤية الرب والحديث معه، فإنه يعانى من جوع الجسد والنفس!

يقول القديس باسيليوس الكبير: [الصوم هو الذى جعل إيليا النبى يشاهد رؤى إلهية. إذ صام مدة أربعين يوماً وتنقت نفسه واستحق أن يرى الرب على جبل حوريب (1مل 19: 8 - 13)، الأمر الذى هو صعب الحديث لأى إنسان. بالصوم أعاد إيليا الحياة إلى ابن الأرملة، فأقامه وسلّمه إليها (1مل 17: 21)، إذ بواسطة الصوم برهن انه أقوى من الموت[291].].

5 - ما هو ارتباط الصوم ببنى العرس؟

لماذا يقول السيد المسيح: "هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم؟ ولكن ستأتى أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون" (مت 9: 15). كأن الصوم ليس مجرّد واجب يلتزم به المؤمنون، إنما هو عمل خاص ببنى العرس الذين يصومون كمعين لهم فى حياة الندامة (النوح) والتوبة، أى ليس كغاية فى ذاته، وإنما من أجل الدخول إلى العريس والتمتّع بالعرس خلال التوبة. فإن كان العريس نفسه حاضراً فى وسطهم فما الحاجة إلى الصوم؟ إنه سيرتفع عنهم جسدياً فتمارس، الكنيسة صومها لتتهيّأ لمجيئه الأخير فتلتقى معه فى العرس الأبدى. مادام العريس مرفوعاً لا نراه حسب الجسد، وجهاً لوجه، فيلزمنا أن نصوم لا عن الطعام فحسب، وإنما عن كل لذّة وترف من أجل طعام أفضل سماوى ولذّة روحيّة أبديّة وأمجاد علويّة هى فى جوهرها تمتّع بالعريس نفسه. يرى القديس باسيليوس الكبير أن الصوم يرفع النفس إلى السماء كأنما على أجنحة، وهو جمال الشيوخ ومربى الشباب ورفيق المسافر[292].

لو أن أخاً زار أخاه بعد غيبة طالت نحو عشرات السنوات، جاءه فجأة، وكان إخوة يأكل، ماذا نتوقع من الأخ الذى يأكل سوى أن يترك طعامه – مهما كان جائعاً – ويحتضن أخاه. ينسى أكله وشربه، فمنذ عشرات السنوات لم يرّ أخاه. إنها مفاجأة مفرحة! هكذا بالصوم نترك موائدنا، لا كنوعٍ من التنسك، وإنما بالأكثر لانشغالنا بالسماوى، نلتقى معه، وندخل معه فى حوارٍ عذب، نعبر عن شوقنا إليه، وعدم انشغالنا حتى بالاحتياجات الجسدية.

6 - لماذا يدعونا الخالق لممارسة الطقس الملائكى؟

باستعباد الإنسان نفسه لبطنه فقد جنة عدن، لكن يبقى الله يشتهى دعوة بنى أدم لا إلى جنة أرضية بل إلى الفردوس السماوى، لا يحتاج الإنسان إلى طعام أو شراب. فالصوم هو علامة قبول المؤمن لهذه الحياة وشوقه إليها بكل فرح. يقول القدّيس غريغوريوس النيسى: [كما أن القيامة تقدّم لنا حياة تتساوى مع الملائكة، ومع الملائكة لا يوجد طعام، فإن هذا يكفى للاعتقاد بأن الإنسان الذى سيحيا على الطقس الملائكى يتبرّر من هذا العمل (من العبوديّة للطعام والشراب) [293].] ويقول القديس باسيليوس الكبير: [لقد نُفينا من الفردوس الأول الأرضى، لأننا لم نصم، فيلزمنا أن نصوم لكى نرجع إلى الفردوس السماوى... لأن الصوم يرد لنا الخسائر المتسببة عن عدم صوم آدم، ويصالحنا مع الله.] ويقول القدّيس جيروم: [صام موسى لمدة أربعين يوماً وأربعين ليلة على جبل سيناء (تث 9: 9)، وأظهر أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكلمة لله... تسلم موسى بمعدة فارغة الشريعة المكتوبة بإصبع الله. أما الشعب الذى أكل وشرب قام للعب وصبوا عجلاً ذهبياً، وفضلوا العجل المصرى عن جلال الله... كسر موسى اللوحين، إذ عرف أن السكارى لا يستطيعون أن يسمعوا كلمة الله[294].].

يقول القدّيس مار فيلوكسينوس: [لماذا تغلبك البطن كأنك طفل؟ ولماذا تجعل شهوة الطفولة تسخر بك؟... إن الثمرة التى أكلتها حواء ليست هى التى أدخلت الموت إلى العالم، بل الشهوة. فلو أن حواء أطاعت الوصية ولم تأكل آنذاك بشهوة، لأكلت بعد ذلك مرات عديدة دون أن يلومها أحد، ولاقتربت من الشجرة ببساطة كما تقترب من اية شجرة أخرى وسط الجنة[295].].

7 - كيف نتهيَّأ بالصوم للدخول فى المعركة الروحية؟

فى التجربة على الجبل وسط البرية كان مسيحنا قائد المعركة صائماً (مت 4: 1 - 2)، حتى نتشبَّه نحن به كجنودٍ صالحين له. إنه النموذج الرائع كقائدٍ لنا، يُدَرِّبنا أثناء أصوامنا أن نُرَكِّز أنظارنا على قائدنا الصائم مُحَطِّم إبليس ومملكته. عرف الآباء أن فترات الصوم الكنسية هى أكثر فترات الحروب الشيطانية. وبفكرهم الروحى الصادق يُعَلِّلون ذلك كعلامة رعبٍ الشياطين من الصائمين الحقيقيين.

يقول القدّيس أغسطينوس: [عندما يوجد صراع متزايد من المُجرّب يلزمنا أن نصوم، حتى يقوم الجسد بالواجب المسيحى فى حربه ضدّ (شهوات) العالم بالتوبة وحث النفس على النصرة فى تواضع!] ويقول القديس يوحنا سابا: [لا تملأ بطنك كثيراً لئلا يعذبك الزنا، ولا تُضعف جسدك لئلا يفرح مبغضوك. تمّسك بطقس الاعتدال، فتسلك فى الطريق الملوكى، ويكون مسيرك بغير خوفٍ[296].].

ويقول القدّيس كيرلس الكبير: [صام المسيح "وجاع" لأنه قَبِلَ أن يكون مثلنا، فكان لابد أن يتحمَّل ما يجب أن يتحمَّله إنسان بشرىٍ.].

ويقول مار اسحق السريانى: [كل جهاد ضد الخطية وشهواتها يجب أن يبدأ بالصوم... خصوصاً، إذا كان الجهاد بسبب خطية داخلية.] كما يقول: [بدأ مُخَلِّصنا عمل خلاصنا بالصوم، وهكذا يليق بكل الذين يريدون أن يقتفوا أثر خطواته أن يبدأوا جهادهم على هذا الأساس. الصوم هو السلاح الذى أسسه الله، فكيف لا يُلام من يحتقره؟! إن كان مُعطِي الناموس قد صام بنفسه، فكيف لا يصوم من وجب عليهم طاعة الناموس؟] ويقول القديس يوحنا التبايسي: [صوم الجسد هو البعد عن المأكولات، أما ا لصوم الروحى فهو جوع الإنسان وعطشه إلى البرّ.].

ويقول القدِّيس جيروم: [بعد أن أعطيتم اهتماماً عظيماً لأفكاركم يليق بكم أن تلبسوا سلاح الصوم، وتتغنوا مع داود: "أدّبت بصومٍ نفسى" (مز 69: 10)، "أكلت الرماد مثل الخبز" (مز 102: 9)، "أما أنا ففى مضايقتهم لى كان لباسي مُسحاً (مز 35: 13). استُبعِدَت حواء من الفردوس لأنها أكلت الثمرة الممنوعة. ومن جانب آخر حُمِل إيليا فى مركبة نارية إلى السماء بعد أربعين يوماً من الصوم... وفى أيوب كتب عن بهيموث:" قوته فى متنيه، وشدته فى عضل بطنه "(أي 40: 16) [297].].

من العادات القديمة أن يكف الإنسان فى حزنه عن الطعام، خاصة فى حالة وفاة أحد أقربائه أو أصدقائه، ويلبس مسوحاً. هنا يُعّبِّر المرتل عن أقسى حالات الحزن، فلا يكف عن الطعام والشراب فحسب، إنما يكون كمن يأكل رماداً (مز 102: 9) يُحَطِّم جسمه، ويزيده عطشاً، وتنسكب دموعه بغزارة، وتتسلل إلى فمه كأنها شراب له.

8 - هل يطلب الله بالصوم إهلاك الجسد؟

الصوم هو انحناء الإنسان بكليته أمام روح الله القدوس لكى يُقَدِّسه. فالله لا يطلب إهلاك الجسد بل تقديسه. فمع الصوم الجسدى يمارس المؤمن صوماً روحياً مقدساً، فيه تتحرّر النفس من المفاسد لتنطلق فى حرية نحو السماويات. يقول القديس يوحنا كاسيان: [عندما يصوم الإنسان الخارجى يلزم أن يمتنع الإنسان الداخلى عن الطعام الرديء بالنسبة له، إذ يحثّنا الرسول الطوباوى أن يظهر الإنسان الداخلى نقياً أمام الله، فيوجد مستحقاً لقبول المسيح ضيفاً فى داخله[298].].

9 - ماذا يقسد النبى بقوله: "قَدِّسوا صوماً، نادوا باعتكاف" (يؤ 1: 14؛ 2: 15)؟

تقديس الصوم هو لقاء مع الله القدوس، والاعتكاف هو تفرُّغ المؤمن بكليته لرؤية الرب والحديث معه حتى يشاركه الطبيعة الإلهية (2 بط1: 4)، ويحمل سمات الرب يسوع فيه (غل 6: 17). فى أصوامنا نطلب الاتحاد مع مسيحنا بعمل روحه القدوس، لنصير أيقونة روحية له. نستعذب الوصية الإلهية، بل ونطالب بالوعد الإلهى: "تكونون قديسين لأنى أنا قدوس" (لا11: 44). نرفض الشر ليس خوفاً من العقوبة الأبدية، لكن رغبة فى التمتُع بأن نكون أيقونة للقدوس. يقول القديس أفراهاط: [لا يليق بالإنسان أن يمزج العسل بالعلقم. فإن صام الإنسان عن الخبز والماء لا يمزج صومه بالتجاديف واللعنات. واحد هو باب بيتك الذى هو هيكل الله، فلا يليق أن يخرج منه الزبل والوحل فى باب يدخل منه الملك. حين يصوم الإنسان عن القبائح ويتناول جسد المسيح ودمه فلينتبه إلى ابن الملك الذى دخل فى فمه، فلا يجوز لك أن تخرج من فمك كلمات نجسة[299].] ويقول القديس باسيليوس الكبير: [الصوم الحقيقى هو فى الابتعاد عن الشرّ وفى عفة الكلمة والبُعْد عن الغضب والانفصال عن الشهوة والتجديف والكذب وحلف الزور. البُعْد عن كل هذه الأمور، هو الصوم الحقيقى[300].].

يقول القديس أوغريس: [من يُقمِع جسده بحكمة يصير بلا شهوة (بلا هوى)، لكنه عندما يطعم جسده (بإسراف) يُعانِي من الشهوة.] كما يقول الأب دوروثيؤس: [يلزم على الإنسان أن يُصَوِّم عينيه، فلا تنظران إلى الأمور الباطلة ولا تجولان كيفما شاءا، ولا تتطلعان إلى الغير بعدم حياء وبدون مخافة، كذلك يلزم أن يحفظ اليدين والرجلين من كل عمل شرير.].

ويقول القديس باسيليوس الكبير: [لا تتملَّق وتظهر بوجه عابس، لتقتنص مجداً ليس لك... لأن أمور النفاق والتملَّق التى تمارسها بطريقة ظاهرة لا تثمر ثماراً للحياة الأبدية[301].].

10 - كيف يُقَدِّم المؤمن صومه كذبيحة حب؟

قدَّم السيد المسيح جسده ذبيحة حب إذ بذله عن البشرية، وبالصوم نُعلِن عن شهوة قلبنا أن نُشارِكه الحب الباذل، الذى يهبنا إياه. فعندما يشعر المؤمن بالجوع أو العطش يُقَدِّم ذبيحة شكر لله الذى يسمح له أن يُشارِكه صليبه أو حبه الباذل، وفى نفس الوقت يتنسمها الله رائحة سرور ورضا. يقول القديس يوحنا كاسيان: [واجب الصوم يصير مقبولاً لدى الله عندما يتكامل بثمار المحبة.] ويقول القديس أوغريس: [عندما تشتهى النفس أطعمة متنوعة، يلزمها أن تكتفى بالخبز والماء، فتصير شاكرة حتى من أجل الخبز. فالشَرِه يشتهى أطعمة متنوعة، أما الجائع فيهنأ حتى عندما يقتات بالخبز.].

11 - كيف نمارس الصوم ونتوجَّه بالحب؟

يحزن آباء الكنيسة على الذين يمارسون الصوم بمجرد استبدال أنواع الطعام، لكنهم يحملون شهوة الطعام، ويمارسون النهم. بالصوم نحتجز تكلفة الطعام الدسم لكى نستخدم فرق الثمن لحساب إخوتنا المحتاجين، إخوة السيد المسيح الأصاغر حسب تعبيره. بالصوم ينفتح قلب المؤمن أو بصيرته، لرؤية رب المجد فى كل أحد، خاصة المحتاجين والمتألمين. لهذا يقول القديس أغسطينوس إن من لا يقتنص جزءاً من المال خلال الصوم ليهبه للفقراء والمحتاجين يفقد طعم الصوم. كما يقول: [أتريد أن تصعد صلاتك إلى السماء؟... امنحها جناحين هما الصوم والصدقة.].

12 - كيف نمارس الصوم كسبت الرب وراحة فيه؟

يرى القديس باسيليوس الكبير أنه يليق بالمؤمن ان يحسب الصوم احتفالاً بالراحة والسبت، فيستريح هو وخدمه وكل العاملين فى البيت، بجانب الراحة الروحية، وتكريس وقت الطبخ لممارسة العبادة الروحية. إذ يقول: [لتكتفى بأطعمة خفيفة بسيطة، كما أُعطى السبت لليهودى، إذ يقول الكتاب: "لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذى داخل أبوابك" (خر 20: 10). ليكن الصوم فرصة راحة للخدم الذى يعملون طوال العام. أعط راحة لطباخك واسمح لخادمك بإجازة، لا تقبل دعوة من أحد لمائدة احتفالية. ليت صانع الحلوى يتوقَّف عن صنعها. ليت البيت يهدأ وتختفى الضوضاء والجلبة الكثيرة، ليت الدخان ورائحة الشواء يختفيا من البيت، ليت الخدم يستريحون، هؤلاء النازلون والصاعدون على السلالم ليخدموا البطون الشرهة. وكما أن مُحَصِّلى الضرائب يعطون المديونين مهلة لترتيب أوضاعهم، هكذا فلُتعطِ الفم مهلة لتستريح البطن، مهلة لخمسة أيام، تلك (أى البطن) التى لا تتوقَّف مطالبها[302].].

13 - كيف نُمارِس الصوم كعبادة بالروح؟

يربط آباء الكنيسة الصوم بالعبادة بالروح والحق، أى بالصلاة والتأمل فى كلمة الله والمطانيات والعطاء مع التناول من الأسرار المقدسة (جسد الرب ودمه المبذولان من أجلنا). يقول القديس باسيليوس الكبير: [نترجى ألا يأتى إلينا الصوم الذى هدَّد به الله اليهود "هوذا أيام تأتى، يقول السيد الرب، أرسل جوعاً فى الأرض، لا جوعاً للخبز ولا عطشاً للماء، بل لاستماع كلمات الرب" (عا 8: 11). وقد أثار هذا الجوع، الديان العادل، لأنه رأى أن الإيمان الحقيقى فى أذهان هؤلاء يتلوث بأمور هزيلة، وأن إنسان الخارج يزداد وزنه بصورة ملفتة للنظر، ويصير كله جسداً ضخماً. إذاً كل الأيام القادمة سيُقدِّم لنا الروح القدس وجبة روحية مُفرِحة فى الصباح والمساء. لذلك لا ينبغى أن يتغيَّب أحد بإرادته عن هذه البركة الروحية. فلنتناول جميعاً من الكأس الروحى النقى والذى قدمته لنا الحكمة، بعدما فرحنا معاً، لكى ينهل منه كل أحدٍ على قدر ما يستطيع. لأن الحكمة "ذبحت ذبحها، مزجت خمرها" (أم 9: 2). أى أنه هذا هو طعام الكاملين الذين "بسبب التمرُّن قد صارت لهم الحواس مُدَرَّبة على التمييز بين الخير والشر" (عب 5: 14). يتحقَّق الغنى بهذا، طالما نحن شبعنا به، ويا ليتنا نكون مستحقين لشركة الفرح ونُحسَب ضمن قائمة العُرْسِ فى شركة يسوع المسيح ربّنا الذى له المجد والقوة إلى الأبد أمين[303].] يقول العلامة ترتليان: [يجدر بالآتين إلى المعمودية أن ينشغلوا على الدوام بالصلوات والأصوام والمطانيات والسهر، كل هذا مع الاعتراف بالخطايا السابقة[304].].

ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [طوبى للذى يعرف كيف يشبع فى المسيح، ليس جسدياً، بل روحياً، الشبع الذى تُقَدِّمه المعرفة[305].] ويربط القديس ماراسحق السريانى الصوم بالصلاة فيحسب الصوم جمراً متقداً إن لم يُوضَع عليه بخور الصلاة يُصدر دخاناً خانقاً عوض رائحة البخور الذكية. ويقول العلامة ترتليان: [لتغذى الصلاة بالصوم.] ويربط القديس أغسطينوس الصوم بالحب الأخوى، فيقول: [سواء نصوم أو لا نصوم فى اليوم السابع (السبت)، فإنه ليس شيء أكثر أماناً ويقود إلى السلام مثل قانون الرسول: "لا يزدرِ من يأكل بمن لا يأكل، ولا يدن مَنْ لا يأكل مَنْ يأكل" (رو 14: 3). "إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص" (1 كو 8: 8). لتبقَ شركتنا مع الذين نعيش معهم والذين نحيا معهم فى الله محفوظة بلا اضطراب بسبب هذه الأمور[306].].

14 - ما هى نظرة الطب الحديث للصوم؟

تُقَدِّم الكنيسة الصوم كدواء للنفس، وجاء الطب الحديث يدعو إلى فوائد الطعام النباتى والالتجاء إلى ترك المعدة خاوية من الطعام إلى حين من أجل سلامة الجسد، وكأنه يكشف عن حكمة الكنيسة التى تربط الجسد مع النفس.

يؤمن القديس إكليمنضس السكندرى عميد مدرسة الإسكندرية فى القرن الثانى أن الحياة المعتدلة فى يسوع المسيح هى الطريق الملكى الذى يأخذنا إلى السماوات. لهذا فهو يُحَذِّرنا ألا نحيا فى رفاهية، أو ننغمس فى التبذير. وفى نفس الوقت، فإن كل من الطعام والملبس والأثاث يجب أن يكون فى اعتدالٍ بما يناسب الشخص وعمره وعمله وصحته. وأفضل ثروة هى فقر الشهوات. الطريق الأوسط هو المعتدل فى كل شيءٍ، والإفراط خطر.

بالنسبة للطعام، يتحدَّث القديس إكليمنضس عن "الطعام والشراب" فى كتابه عن المُرَبِّى Paidagogus، فيقول إننا نأكل لنحيا، وليس نحيا لنأكل. يجب أن يكون نظامنا الغذائى بسيطاً، ومُوَجَّه للنمو والصحة وتنشيط الطاقة مع السيطرة عليها. ويجب تجنب الإفراط، والإسهاب.

يجب ألا ننسى أن الحب (أغابى) يُمارَس، هو أخذ وجبة للجماعة معاً، كما كان أيوب يفعل مع أولاده (أي 1: 4 - 5). وكان ذلك مُتبعاً فى الكنيسة الأولى حتى القرن الثالث. وبالنسبة للشراب، قيل إن قليلاً من الخمر يصلح المعدة السقيمة (1ت 5: 23). إذ إنها جرعة صغيرة لأسباب طبية. وإلا فالماء يكون هو الأفضل...

لن يمكنكم أن تصبحوا أذكياء "إذا انغمستم فى مثل هذا التبذير، لتدفنوا عقولكم فى بطونكم، وتشبهون الذين يقول عنهم أرسطوطاليس إن قلوبهم فى بطونهم، والتى كان الشاعر الكوميدى ابيكارمس يتحدث عنهم بأنهم أصحاب" البطن الضخم "." الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم فى خزيهم، الذين يفتكرون فى الأرضيات "(في 3: 19).

أعطانا الرب الطعام والشراب من أجل مخلوقه، أعنى هنا الإنسان، ليس لدماره، بل لمصلحته. وأن القانون الطبيعى هو أن الجسد لا يستفيد بالطعام الزائد، بل على العكس، فإن الذين يحيون بأبسط أنواع الطعام هم الأقوى والأصح وأكثر يقظة، وذلك يظهر فى الخدم بمقارنتهم مع أسيادهم، أو فى الفلاحين بمقارنتهم مع أصحاب الأرض.

ونحن خُلِقنا، ليس لنأكل أو نشرب، بل لنعرف الرب. وأما الآخرون، فحقاً يحيون كى يأكلون مثل الوحوش، وبالنسبة لهم فإن حياتهم هى بطونهم (في 3: 19). وأعطانا مُعَلِّمنا الوصية أن نأكل لنحيا فقط. فالطعام ليس هو الشغل الشاغل، أو المتعة أو الطموح الأساسى. يُمنَح الطعام لنا لأجل بقائنا فى هذا العالم الذى فيه يشكلنا الكلمة للأبدية، بواسطة تعاليمه. ويجب أن يكون طعامنا بسيطاً وغير مُزخرف، ومناسب للأطفال الذين هم بسطاء، وليس للإفراط فى النفس.

يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [يوجد نوعان من الطعام، واحد يخدم الخلاص والثانى يناسب الهالكين... يليق بنا ألا نسيء استخدام عطايا الآب، ونقوم بدور المبذرين كما فعل الابن الغبى فى الإنجيل (لو 15: 11 - 14). بالأحرى ليتنا نستخدمه بنوعٍ من ضبط النفس. حتماً لقد أوصينا أن نكون سادة على الطعام لا عبيداً له[307].].

يقول القديس باسيليوس الكبير: [الصوم بالحقيقة هو دواء للنفس ودواء للجسد أيضاً. فقد يُسَبِّب تناول الأطعمة الفاخرة تعباً للمعدة وبعض الأمراض الصعبة للجسم. بينما الصوم مفيد للصحة، إذ يجعل الإنسان الصائم ذا لون وردى، وعيون هادئة، ومشية متزن، وحركاته رصينة. هذا الإنسان تراه لا يقهقه بل يبتسم، ولا يصيح بل يتكلم بهدوء واتزان، وترى كلامه يفيض من قلب نقى وطاهر[308].].

كما يقول: [المطلوب فى الصوم ليس الامتناع بواسطة الفم بل بواسطة العيون والآذان والأيدى وكل الجسم. نصوم بالأيدى بالطهارة والابتعاد عن السرقة، والأرجل بالابتعاد عن المشاهد المحرمة؛ والعيون بالامتناع عن النظر إلى أى شيء يغري... يا ترى، ما معنى أن ننقطع عن أكل اللحم، ونحن لا ننقطع عن أكل لحم قريبنا بالنميمة والغيبة؟ وما معنى أن نصوم عن الأكل ونحن لا ننقطع عن الأفكار الرديئة والزنا والحقد والبغض؟... الصوم هو جناح الصلاة لترتفع إلى السماء وتخترق إلى عرش الله... هو عماد البيوت، حاضن الصحة، مُعَلِّم الشباب، زينة الشيوخ، وصديق الأرواح...

لستُ أعنى بالصوم ترك الطعام الضرورى، لأن هذا يؤدِّى إلى الموت. ولكن أعنى ترك المأكل الذى يجلب لنا اللذة ويُسَبِّب تمرُّد الجسد. الصائم الحقيقى هو الذى يتغرَّب عن كل الآلام الجسدية حتى الطبيعية[309].].

[كما أنه ليس من الحكمة فى شيء أن تكون البطن مملوءة وثقيلة، ليس لأن هذا غير مفيد فى حالة السير فقط، بل ولا فى حالة النوم أيضاً، لأن المعدة وهى متخمة لا يمكنها أن تهدأ، لكنك تضطر أن تنقلب مرة إلى هذه الناحية ومرة إلى الناحية الأخرى[310].].

15 - ما هو غاية الصوم؟

أولاً: التمتع بالفضائل. يقول القديس جيروم: [الصوم ليس فضيلة مُطْلَقَة، إنما هو أساس الفضائل.].

ثانياً: يحثنا على الشكر. يرى القديس أوغريس أن الصائم يلمس نعمة الله العامل فيه، إذ يقول: [الذين يطعمون أجسادهم باسراف، ويهيئونه لتتميم شهواتهم (رو 13: 14)... متى صاروا غير شهوانيين، وهم بعد فى هذا الجسد عينه، وصاروا نشيطين فى التأمل فى الله الواحد الكائن حقاً، (وذلك بمعاونة صحة جسدهم) قدر المستطاع، هؤلاء يعترفون بفضل الخالق عليهم (إذ وهبهم هذا الجسد).].

ثالثاً: الشعور ببركة الطعام. يرى القديس باسيليوس الكبير فى الصوم فرصة للامتناع عن الأطعمة، فمتى انتهت فترة الصوم نشعر ببهجة فى الطعام، لا بالانغماس فيه والمبالغة، وإنما بالشعور ببركة الطعام. [إذا أردت أن تستمتع بالطعام عليك أن تمارس الصوم. عليك أن ترى الشيء ونقيضه حتى تشعر بنعمة الشيء الذى تحصل عليه. هكذا الخالق قصد أن توجد أمور متنوعة فى الحياة لكى نشعر ونُقَدِّر الأشياء التى أعطيت لنا. ألم ترى كيف تبدو الشمس أكثر لمعاناً بعد الليل المُظلِم؟ ألا تشعر بأن اليقظة حلوة بعد النوم الطويل، وأن قيمة الصحة عظيمة بعد اجتياز أزمات صحية؟ وهكذا تصير المائدة أكثر بهجة بعد الصوم[311].].

رابعاً: تحرر المؤمن من العبودية لبطنه. منذ انحنى آدم وحواء لبطنيهما واستعبدا نفسيهما لهذا الإله القاسى، صار الإنسان عبداً لبطنه، لا سيداً عليها. الصوم فرصة رائعة لقبول نعمة الله الفائقة لتحرر النفس من هذه العبودية، والتمتع بحرية مجد أولاد الله. يقول الأب ثيوناس: [لا نقرأ قط أن أحداً يُلام من أجل تناوله الطعام، إنّما يُدَان من أجل ارتباطه به أو الاستعباد له[312].] ويقول القدّيس يوحنا كليماكوس: [كن سيداً على معدتك قبل أن تسود هى عليك، الذى يرعى شرّهه ويأمل فى التغلب على روح الفجور يشبه من يحاول أن يخمد النار بزيت[313].].

16 - لماذا وضعت الكنيسة أغلب أصوامها تنتهى بالاحتفال بعيد ما؟

غاية الصوم هو التأهُّل للتمتَّع بالعيد السماوى، أو نوال خبرة الفرح السماوى. فحين نُمارِس الصوم لفترات طويلة وينتهى بعيد الميلاد المجيد أو عيد الفصح المسيحى. فإن ما يشغل ذهن المؤمن فى صومه ليس الامتناع عن الطعام فى فترة الانقطاع أو عن أطعمة معينة فى بقية اليوم. إنما يشغلنا أن تتهلل نفوسنا برب المجد يسوع الذى وُلِد لكى يُقَدِّم لنا حياته خبزاً سماوياً يُشبع نفوسنا. كما ننشغل بعمله الخلاصي حيث وهبنا قيامة نفوسنا التى حلّ بها الموت، وقد فسدت تماماً بالخطية المُدَمِّرة.

كثيراً ما يرتبط الصوم بالأعياد فى العهد القديم، إذ هو طريق التقاء الإنسان مع الله بكونه عيده الدائم ومصدر فرحه الداخلى. فالمؤمن الحقيقى فى صومه لا يعرف العبوسة بل البشاشة كانعكاس لفرحه الداخلى. وكثيراً ما ركَّز أباء الكنيسة الأولى على الجانب الإيجابى للصوم، ألا هو فتح الطريق للنفس البشرية لتنطلق بعمل النعمة الإلهية نحو السماء، ترى بالإيمان ربنا وتتهلل به. هكذا حياة الصوم هى حياة عودة متهللة نحو مصدر فرحها، لتشهد له وسط وادى الدموع.

ولعل ما شدّ انتباه الآباء دعوة السيد المسيح للصائم أن يدهن رأسه ويغسل وجهه (مت 6: 17 - 18). يبدو الأمران غريبان، فدهن الرأس، خاصة فى القرن الأول الميلادى لم يكن بالأمر الذى يُمارِسه الرجال والشباب والأطفال، فما هو ضرورته بالنسبة للصائمين منهم؟ وغسل الوجه أمر لازم سواء كان الإنسان صائماً أو غير صائمٍ، فلماذا الوصية به بالنسبة للصائم؟ واضح إنها دعوة رمزية للحياة المتهللة، فدهن الرأس يشير إلى التمتُّع بالطيب النازل من على الرأس، طيب الروح القدس النازل من السيد المسيح رأسنا. فيتنسم العالم فينا رائحة المسيح، ويتلمسون ثمر الروح من حبٍ وفرحٍ! وغسل الوجه يشير إلى إزالة التراب عنه لنبصر الرب دون عائق، ونشهد له ببشاشة الوجه الداخلى.

يقول القدّيس ساويرس الأنطاكى: [كان إشعياء النبى وهو يُقِيمهم من هذه الهُوّة (التعلُق بالجسديّات) يرفعهم ويجذب عقولهم إلى فوق بإعلان عظمة الصوم، فيدفعهم إلى التهليل الروحانى، ويطرد من أرواحهم الحزن والكآبة، وهو يصيح فيهم قائلاً: "أَمِثْل هذا يكون صوم أختاره؟ يوماً يذلل الإنسان فيه نفسه، يحنى كالأسلة (كالقصبة) رأسه، ويفرش تحته مسحاً ورماداً..." (إش 58: 5). لذلك بينما كان ربّنا يُعلِن بهاء الصوم وسروره، كان يأمر أيضاً بصوت واضح قائلاً: "وأمّا أنت فمتى صمت، فادهن رأسك واغسل وجهك" (مت 6: 17). فكان يشير إلى بريق الروح وطهارتها عن طريق الأعضاء الرئيسيّة فى الجسم... يأمرنا ربّنا نفسه أن نغتسل ونتطهّر بامتناعنا عن الشرّ، ومن جهة أخرى أن نتزيَّن ونضيء بممارستنا الخيرالذى تنيره النعمة الروحيّة! [314]].

ويقول القديس أغسطينوس: [لنفهم الوصيّة على أنها غسل لوجهنا ودهن لرأسنا الخاص بالإنسان الداخلى... فدهن الرأس يشير إلى الفرح، وغسل الوجه يشير إلى النقاوة. فعلى الإنسان أن يبتهج داخلياً فى عقله بدهن رأسه الفائقة السموّ فى الروح، والتى تحكم وتُدَبِّر كل أجزاء الجسم، وهذا يتحقَّق للإنسان الذى لا يطلب فرحاً خارجياً نابعاً عن مديح الناس[315].].

17 - كيف يتجلَّى مسيحنا فى الأصوام الكنسية؟

غاية العبادة الكنسية أن يتجلَّى مُخَلِّص العالم فى حياة المؤمنين، وأن يطلب المؤمنون من المُخَلِّص أن يعمل بروحه القدوس فى حياة كل بنى البشر، أذكر على سبيل المثال أهم الأصوام:

أولاً: الصوم الأسبوعى:

صوم يومى الأربعاء والجمعة، فى يوم الأربعاء دُبِّرَت المؤامرة لصلب المسيح، لهذا يصوم المؤمن ليشكر الله الذى يُحَوِّل حقد الأشرار لخدمة الخلاص. وفى يوم الجمعة يرى المؤمن مع القديس مار يعقوب السروجى جبل الجلجثة قد تحوَّل إلى جبل العُرْسِ حيث قَدَّم السيد المسيح مهراً لعروسه الكنيسة الممتدة من آدم إلى آخر الدهور. فصوم يومى الأربعاء والجمعة ينطلق بنا إلى يوم الرب القائم من الأموات فى فجر الأحد. هكذا فى صومنا أسبوعياً، تتهلل قلوبنا وتصرخ إلى المُخَلِّص الذى بذل ذاته لكى يهبنا الحياة المُقامة ويهيئنا للدخول إلى الفردوس.

ثانياً: الأصوام السنوية:

فى صوم الميلاد: لا يكف المؤمن عن الصلاة من أجل كل البشر، كى يسكن طفل المذود (لو 2: 7) فى قلوبهم وأذهانهم وعواطفهم.

وفى الصوم الكبير الأربعينى: يتهلل المؤمن وهو يشارك المسيح صومه، كى يحتفل بعيد الفصح (العبور) المسيحى، ففي كل يومٍ يدعو الرب أن يعبر بأفكاره كما بقلبه وعواطفه إلى الحياة السماوية.

وفى صوم الرسل: يلتهب قلب المؤمن شوقاً أن يشارك الرسل والتلاميذ جهادهم فى الكرازة والشهادة لإنجيل المسيح.

وفى صوم يونان: نطلب من أجل غير المؤمنين ليعمل روح الرب فيهم كما سبق فوهب ملك نينوى وكل القيادات والشعب روح التوبة. وكما يقول مار يعقوب السروجى بدموعهم حوَّلوا أرض نينوى الفاسدة إلى فردوسٍ مقدس.

وفى صوم القديسة مريم: نطلب أن تعمل نعمة الله فينا ويسكن مسيح الرب فى قلوبنا كما تجسد كلمة الله فى أحشائها بالروح القدس.

18 - ما هو الخط الكنسى لمفهوم الصوم الكبير؟

تكشف لنا أناجيل آحاد الصوم الكبير عن الخط الكنسى لمفهوم الصوم، وما تدعونا إليه الكنيسة للتفكير فيه خلال رحلة الصوم.

1 - أحد الرفاع: ليس ما يشغل فكرنا أو قلبنا أثناء الإعداد للصوم، مثل التقائنا بالله بكونه أبانا السماوى. بالصوم ندخل إلى أعماق جديدة فى علاقتنا بالله. إذ يلزمنا فى أحد الرفاع أو أحد الاستعداد للصوم، أن نرفع عنا كل عبودية لشهوة الطعام والشراب، تُقَدِّم لنا الكنيسة الجانب الإيجابى المُفرِح ألا وهو اللقاء الخفى مع أبينا السماوى. تتلو علينا الكنيسة الفصل الخاص بأركان العبادة المسيحية كما قَدَّمها لنا السيد المسيح فى الموعظة على الجبل (مت 6: 1 - 18). حيث نرى فى الصدقة والصلاة والصوم ذبيحة حب، نُقَدِّمها للآب السماوى كما فى الخفاء، والأبواب مغلقة، كى نتذوَّق الحب المتبادل. أبونا السماوى يبادرنا بالحب، ونرد له هذا الحب بالحب.

أما عند انتهاء فترة الصوم، فتُقَدِّم لنا الكنيسة فى أحد الشعانين الفصول الخاصة بدخول السيد المسيح إلى أورشليم. فإن كنا نبدأ الصوم بإعلان ارتباطنا العميق والسرى بالله أبينا، فإننا إذ نختم الصوم نرى مسيحنا داخلاً فى قلوبنا ليُقِيم من أعماقنا، أورشليمه المحبوبه لديه وملكوته الإلهى. فالصوم فى حقيقته لا يهدف إلى حرمان من أطعمة وإنما شبع بالله، وشركة فى الوليمة الملائكية.

2 - أحد الكنوز: مع بداية الصوم تُقَدِّم لنا الكنيسة فصلاً خاصاً بالكنز السماوى (مت 6: 19 - 33). وكأن الصوم هو اقتناء للكنز السماوى "المسيح" نفسه كنزنا الإلهى (2 كو4: 7).

3 - أحد التجربة: تمتُّعنا بأعماق جديدة فى التعرُّف على مسيحنا، يثير عدو الخير ضدنا، فيدخل معنا فى معارك روحية وتجارب. لكننا إذ نختفى فى المسيح الصائم فى البرية الذى جاءت ملائكة لتخدمه بعد تجربته (مت 4: 11)، ننعم بخدمتهم. وكأن الصوم دعوة للتمتُّع بهذه البركة.

4 - أحد الابن الراجع إلى أبيه (لو 15). بالصوم نتهيَّأ لخدمة الملائكة، وفى نفس الوقت نُقَدِّم توبة لله، فنجد ابانا السماوى يركض إلينا، ويقع على أعناقنا ويُقَبِّلنا فنتمتع بالحضن الإلهى.

5 - أحد العُرْس السماوى – السامرية (يو 4). بتوبتنا نرجع إلى حضن الآب، وننعم بالعُرْس السماوى. فالسامرية التى لم تشبع قط بأزواجها الخمسة، ولا بمن هو معها فى البيت، وجدت شبعها الروحى الحقيقى فى المسيح، فتركت جرتها، وانطلقت تدعو كل أهل مدينتها لينعموا معها بهذا الشبع الداخلى.

6 - أحد مريض بيت حسدا (يو 5) إذ نُخطب للسيد المسيح كقول الرسول بولس: "خطبتكم لرجلٍ واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)، نتَّحد بطبيب النفوس والأجساد، الذى يشفينا كما شفى مريض بيت حسدا (يو5).

7 - أحد تفتيح عينى المولود أعمى (يو 9). من يتمتَّع بعمل الطبيب السماوى، ينعم ببصيرة مفتوحة ترى وتتلامس مع الأسرار الإلهية. إنها عطية العريس السماوى الذى يُقَّدِّم أسراره لعروسه!

8 - أحد الشعانين أخيراً، إذ نمارس الصوم الكبير، نبدأ أسبوع الآلام (البصخة)، فتقدم الكنيسة الأناجيل الخاصة بدخول السيد المسيح أورشليم، أى فى أحد الشعانين، حيث ينطلق مسيحنا إلى قلوبنا، أورشليمه المحبوبة لديه، ويغرس صليبه فيها، ويهبها قوة قيامته، فنمارس العيد السماوى الأبدى.


[286] - راجع الأب الياس كويتر المخلصى: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيرت 1989، ص288.

[287] - عظة 1 عن الصوم: 6؛ ص 17 - 18. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم. بالمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية 2005.

[288] عظة 2 عن الصوم: 6، ص36 - 37. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[289] عظة 1 عن الصوم: 7؛ ص 20، ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[290] عظة 1 عن الصوم: 9؛ ص 25. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[291] - عظة 1 عن الصوم: 6؛ ص 18. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[292] - الأب الياس كويتر المخلصى: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 75، عظة عن الصوم.

[293] On Making of Man 9: 18.

[294] St. Jerome: Against Jovinianus, Book 15: 2,.

[295] Homily 425: 11, 429, 440, 446.

[296] - رسالة 18.

[297] St. Jerome: Letter 10: 130.

[298] Institutes of Czaaian 21: 5.

[299] Demonstrations, 2: 3 (Of Fasting).

[300] - عظة 2 عن الصوم: 7؛ ص 39. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[301] - عظة 1 عن الصوم: 2 ,ص 12 - 13. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[302] - عظة 1 عن الصوم: 7؛ ص21. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[303] - عظة 2 عن الصوم: 8، ص 39 - 40. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[304] De Baptismo 20.

[305] St. Ambrose: The Duties of the Clergy, BookX, 17 (92).

[306] Ep. 26: 36.

[307] Pacdagogus 9: 2.

[308] - راجع الأب الياس كويتر المخلصى: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البوليسية، بيروت، 1989، ص 289.

[309] - راجع الأب الياس كويتر المخلصى: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 290.

[310] - عظة 2 عن الصوم: 4، ص 43. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[311] - عظة 1 عن الصوم: 8؛ ص 22، 21. ترجمة د. جورج عوض ود. سعيد حكيم.

[312] Cassian: Conf. 13: 21.

[313] Ladder, step 14.

[314] - الشماس يوسف حبيب: الصوم، ص16 - 17.

[315] Sermon on Mount 42: 2.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

لا توجد نتائج

No items found

11- العبادة الكنسية والإماتة - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

9- العبادة ومخافة الرب - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات