العبادة الكنسية – كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

1-العبادة الكنسية

1 - كيف نمارس العبادة أمام ملك الملوك السماوى؟

يليق بالمؤمن وهو يمارس العبادة سواء فى وسط الجماعة المقدسة (الكنيسة) أو فى حجرته الخاصة، أن يدرك من هو هذا الذى تُقدَّم له العبادة، ومن هو المؤمن الذى يمارس العبادة، ففي سفر الرؤيا يعلن عن الربّ أنه ربّ الأرباب وملك الملوك (رؤ17: 14)، وفى نفس الوقت أقامنا ملوكاً وكهنة لله أبيه (رؤ1: 6). فنقف كملوك أمام الله ملك الملوك. نلتزم بإبراز علامات ملوكيتنا، كأبناء لله الآب، وأعضاء فى جسد المسيح، وإدراك أننا هيكل الله وروح الله يسكن فينا. معرفتنا هذه تبعث فينا الرجاء بكونه القدير، ونطلب بدالة لأنه محب البشر. أذكر أحد الخدام بكنيسة العذراء مريم بمحرم بك بالإسكندرية نيَّح الله نفسه كان يكرر هذه الطلبة: "لن أقبل منك أقل من أن أكون أيقونة لك".

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لا يستطيع حاكم أن يظهر أمام الملك دون أن يحمل علامات وظيفته. مثل هذا الشخص لن يجسر أن يقترب من العرش الملوكى بدون المنطقة العسكرية والثوب العسكرى، هكذا بنفس الطريقة الإنسان الذى يقترب من عرش الله يلزمه أن يرتدى علامات وظيفته[1].].

2 - من هم الساجدون الحقيقيون؟

كان اليهود يترقَّبون مجيء المسيَّا فى أورشليم حيث يوجد هيكل سليمان، وفيه تُقَام العبادة الحقيقية منذ مجيئه، أما السامريون فكانوا يعتقدون أن المسيَّا يأتى على جبل جرزيم، لهذا قالت المرأة السامرية للسيد المسيح: "آباؤنا سجدوا فى هذا الجبل، وأنتم تقولون إن فى أورشليم الموضع الذى ينبغى أن يُسجَد فيه" (يو4: 20). فأجابها السيد: "يا امرأة، صدقينى أنه تأتى ساعة، لا فى هذا الجبل، ولا فى أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتى ساعة، وهى الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا" (يو4: 21 - 24).

ما يشغل كل اليهود والسامريين هو ممارسة العبادة، هل هى فى أورشليم أم على جبل جرزيم. أما المؤمنون بالله الذى لا يُحدّ لاهوته بموضع مُعيَّن، فيرفعون قلوبهم بروح العبادة أينما وُجِدوا. لهذا مع تنازل الله لأجل محبته للبشر فيُقيم بيتاً له فى وسط شعبه، غير أن المؤمن إذ يقف بخشوعٍ ويبسط يديه ويرفع قلبه نحو السماء، تنطلق أعماقه كما إلى العرش السماوى. ويحسب نفسه مع إخوته الذين يصلّون معه وقد انطلقوا للشركة مع الطغمات السماوية ومع المؤمنين الذين رحلوا من العالم. هذا ما لمسه يوحنا الحبيب فى رؤياه، إذ قال: "رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتِلوا من أجل كلمة الله" (رؤ6: 9). "وسمعت عدد المختومين مئة وأربعة وأربعين ألفاً مختومين من كل سبط من بنى إسرائيل" (رؤ7: 4).

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [إن سألت: ومن هم الساجدون الحقيقيون؟ أجبتك: الذين لا يربطون عبادتهم بمكانٍ مُحَدَّدٍ، وهم ينجذبون بالروح. وكما يقول بولس الرسول: "الذى أعبده بروحى فى إنجيل ابنه" (رو1: 9). وفى موضع آخر يقول: "أطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تُقَدِّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو12: 1). قول المسيح للمرأة السامرية: "الله روح" لا يدل على معنى آخر إلا على أنه خالٍ من جسم، لذلك ينبغى أن تكون العبادة للخالى من جسم خالية من جسم أيضاً، وأن نقدمها بما هو فينا خالٍ من جسم، أى أن تكون بروحنا وبنقاوة عقلنا، لذلك قال المسيح: "والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا"... كان كل من اليهود والسامريين شديدى الاهتمام بالجسد، يطهرونه بمختلف الطرق. لذلك يقول إنه ليس بطهارة البدن، بل بطهارة ذلك الجزء غير الجسدى من كياننا، أى العقل. به نعبد الله اللاجسدى، كما لا يكون القربان بذبح العجول والخراف، بل بتكريس الإنسان نفسه لله. اهلك ذاتك، فتقدم ذبيحة حية... إنه لم يفضل مكاناً آخر، إنما أعطى الأفضلية للنية[2].

ويقول القديس جيروم: [لست أتجاسر فأَحدّ قدرة الله الكلية أو أُقيّدها بشريحة ضيّقة من الأرض، هذا الذى الأرض والسماء لا تسعانه. كل مؤمن يُدَان ليس حسب مسكنه هنا أو هناك، وإنما حسب برارى إيمانه. العابدون الحقيقيون يعبدون الآب، لا فى أورشليم، ولا على جبل جرزيم[3].].

يقول العلامة أوريجينوس: [الإنسان الكامل والمقَّدس يتعدَّى حتى هذا، إذ يعبد الرب بطريقة تأملية وإلهية بالأكثر. فكما أن الملائكة (كما يتفق حتى اليهود) لا يعبدون الآب فى أورشليم، لأنه يعبدونه بطريقة أفضل عمن يعبدون فى أورشليم، هكذا الذين يستطيعون أن يكونوا مثل الملائكة (لو20: 36) فى ميولهم لا يعبدون الآب فى أورشليم، بل بطريقة أفضل[4].].

يقول القديس أغسطينوس: [لو أن الله جسد، لكان يحق أن يُسجَد له على جبلٍ، لأن الجبل مادى، وكان يحق أن يُعبَد فى هيكل... إنه لأمر عجيب! يسكن فى الأعالى وهو قريب من المتواضعين. إنه "يرى المتواضع، أما المتكبر فيعرفه من بعيد" (مز138: 6)... إذن هل تطلب جبلاً؟ انزل لكى تقترب إليه. هل تصعد؟ اصعد، ولكن لا تطلب جبلاً. قيل: "الصاعدون فى قلبه، فى وادى البكاء" (مز84: 6). الوادى هو التواضع. لتفعل هذا كله فى داخلك. حتى إن أردت أن تطلب مكاناً مرتفعاً، موضعاً مقدساً، اجعل لك هيكلاً فى داخلك. "لأن هيكل الله مقدس، الذى أنتم هو" (1كو3: 17). أتريد أن تصلي فى هيكلٍ؟ الجبل في داخلك، إن كنت أنت أولاً هيكل الله، لأنه في هيكله يسمع من يصلي [5].].

3 - ما هى العبادة المرضية لله؟

العبادة المرضية لله لا تقف عند ممارسات مُعَيَّنة، وإنما تتطلب أن يلتصق الإنسان بالمُخّلِّص فى حياته العملية، ولا يقف عند حرفية الناموس، بل يدخل فى شركة مع الله، وينمو فى معرفة المسيح. هذا ما كشف عنه السيد المسيح حين سُئل: "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟ أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذى هو أرسله" (يو6: 28 - 29). يقول القديس كيرلس الكبير: [كان من الضرورى أن يريهم أنهم كانوا لا يزالون بعيدون جداً عن العبادة المرضية لله، وأنهم لا يعرفون شيئاً عن الأمور الصالحة الحقيقية. فإذ يلتصقون بحرف الناموس صار ذهنهم مملوء بالرموز والأشكال المُجَرَّدة... إن العمل الذى تمارسه النفس النقية هو الإيمان المُتَّجِه نحو المسيح. والأسمى من ذلك بكثير هى الغيرة فى أن يصير الإنسان حكيماً فى معرفة المسيح أكثر من الالتصاق بالظلال الرمزية.].

4 - ما هى الخطوات العملية لممارسة العبادة المرضية لله؟

أولاً: رفع القلب للسماء، حيث تلتقى النفس بالسماوى، فيزداد شوقها للحياة السماوية. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: "حين ستر الهيكل، فثق أن السماء قد انفتحت أبوابها.".

بالنسبة للعبادة الخاصة بتقديس يوم الربّ (الأحد) يسند القديس إكليمنضس السكندرى العمل الليتورجى خلال السلوك الروحى الحى والتأمّل المُستمرّ فى السماويات من أجل التمتُع بأمجاد قيامة الرب. يقول: [يُحفَظ يوم الرب بتنفيذ الوصيّة حسب الإنجيل بترك الإنسان الشرّ... ممجداً قيامة الرب فى نفسه. بالأحرى عندما يتمتَع بإدراك التأمّلات الحقيقيّة، فيبدو كمن رأى الرب، مُوَجِّهاً أنظاره نحو غير المنظورات[6].] كما يقول: [(الانسان الروحى) يحفظ يوم الرب... ممجداً قيامة الرب فى نفسه... يكون طاهراً على الدوام مستعداً للصلاة. يُصَلّى مع جوقة الملائكة، لأنه قد صار فى الرتبة الملائكيّة، محفوظاً على الدوام بعنايتهم المقدّسة. حينما يُصَلِّى وحده يقف مع صفوف القدّيسين... صلاته هى شكر من أجل الماضى والحاضر والمستقبل، لأنه يرى المستقبل بالإيمان حاضراً أمامه... يُقَدِّم الشكر لله على الدوام، على مثال ما قاله إشعياء بخصوص تسبيح المخلوقات الحيّة[7].].

يقول القديس باسيليوس الكبير: [ "اسجدوا للرب فى هيكل قدسه"... كثيرون يقفون للصلاة، ولكنهم ليسوا فى الهيكل، فأفكارهم تجوب فى الأمور الباطلة خارجاً... وللهيكل مفهوم أسمى، إذ يشير إلى الحياة فى السماء، من أجل المغروسين فى بيت الله، كنيسة الله الحى (1تى3: 15)، يزهرون فى بيت الله إن كانوا ضمن جماعة المؤمنين[8].].

كما يقول: [ "صوت الرب بقوةٍ، صوت الرب بجلال عظيم"... الجلال فضيلة عظيمة جداً، فالجلال صفة ذاك الذي يكرس كل نشاطه للأعمال العظيمة، والنفس التى لا تُستعبَد للأفكار الجسدية، بل تحيا فى العظمة والكرامة التى لها من الله، فتسمع "صوت الله"، أيضاً الذين ارتفعت أفكارهم نحو الله، ويتأملون فى سمو أهداف الخليقة ليستخلصوا منها – ولو بالقدر البسيط – عظم مجد عناية الله. وهم أيضاً الذين لا يعيشون فى رغد العيش، بل يسرعون للتخفيف من آلام الفقراء. أولئك جميعاً ينطبق عليهم صفة الجلال وصوت الرب يسكن فيهم. والإنسان الذى يتصف بالجلال، لا يهتم كثيراً بالأمور المادية، ويعتبرها نفاية بالنسبة للخيرات غير المرئية. مثل هذا الإنسان لا يستسلم للألم لأى سبب. فلا تؤثر فيه التعييرات أو الاحتقار أو الكراهية التى تصدر عن الأقزام. هو أيضاً لا يتأثر بشهوات الجسد التى تحط من شأن الإنسان، لأنها لا تعنيه، إذ أن أفكاره قد سمت إلى الأعالى إلى فوق[9].].

ثانياً: أن يعرف المؤمن نفسه. فيعرف أنه قد نال البنوة لله بالمعمودية، وأنه عضو فى جسد الابن الوحيد الجنس، وأنه هيكل الله يسكن فيه روح الله القدوس، فيتحدث مع الثالوث القدوس، ويسلك فى عبادته بما يليق به، واثقاً فى الشركة مع الله. يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير: "من عرف نفسه عرف الله، ومن عرف الله يستحق أن يعبده بالحق[10]." ويقول لاكتانتيوس: "التقوى ليست سوى التعرُّف على الله أنه أب.".

ثالثاً: أن يعرف المؤمن رسالته. يقول لاكتانتيوس: "إن سأل أحد إنساناً حكيماً لماذا ولد، فإنه يجيب بغير خوفٍ ولا تردد وُلد لكى يعبد الله.".

رابعاً: أن يُدرِك المؤمن أنه ابن النور، لن يستريح فى الظلمة أو الجهالة. يتحدّث القديس إكليمنضس السكندرى عن الاتّجاه للشرق أثناء الصلاة، حيث يؤكد لنا ميلادنا الجديد فى المسيح يسوع شمس البرّ المُشرِق علينا. [يصلّون فى اتّجاه الشرق، لأن الشروق هو رمز لميلادنا، إذ منه يخرج النور مُشرِقاً على الظلمة. هكذا يشرق يوم المعرفة مثل الشمس على المدفونين فى الجهالة (الظلمة) [11].].

خامساً: الاهتمام بالنقاوة الداخلية والخارجية. يقول القديس إكليمنضس السكندرى [يليق بالنساء والرجال أن يذهبوا إلى الكنيسة فى هدوء ونظام وسكون، وتكون فيهم محبة صادقة، يكونون أطهاراً حسب الجسد والقلب، مؤهَّلين للصلاة أمام الله. وعلى النساء – بوجه الخصوص – أن يهتممن بالأكثر بهذا الأمر، وتكون المرأة مغطاة بالكامل وإلا تبقى فى بيتها، فإن ملبسها له خطورته، إذ يقيها من نظرات الآخرين. إن وضعت التواضع نصب عينيها لا تسقط أبداً... هكذا يليق بمن كرَّس نفسه للسيّد المسيح أن يسلك فى حياته كلها بذات السلوك الذى يراعيه داخل الكنيسة. قيل إنه يلزمنا أن نتقَّدم إلى الذبيحة والصلوات ونحن مغتسلون، أنقياء وفى بهاء، إنَّنا نمارس هذه الزينة الخارجيّة والتطهيرات الخارجيّة كعلامة. فإن النقاوة هى أن تكون أفكارنا مقدّسة... والتقديس – كما أدركه – هو نقاوة الكاملة للذهن والأعمال والأفكار والكلمات، وتصل إلى كمال درجتها حين لا نخطئ فى الأحلام. النقاوة الكافية للإنسان هى – كما أحسب – التوبة الصادقة الأكيدة[12].

سادساً: الالتزام بحياة الشكر والتسبيح، فتتمتع النفس بالفرح الحقيقى. يقول القديس أنطونيوس الكبير: [عندما تنام على سريرك، تذكر بركات الله، وعنايته بك، واشكره على هذا، فإذ تمتلئ بهذه الأفكار تفرح فى الروح. وعندئذ يكون فى نوم الجسد سمواً لنفسك، وإغلاق عينيك بمثابة معرفة حقيقية لله، وصمتك وأنت مشحون بمشاعر صالحة هو تمجيد لله القدير من كل القلب وكل القوة، مقدماً لله تسبيحاً يرتفع إلى الأعالي. لأنه عندما لا يوجد شر فى الإنسان، فإن الشكر وحده يرضي الله أكثر من تقدمات ثمينة، هذا الذى له المجد إلى دهر الدهور. آمين.] كما يقول: [اعلم أن الأمراض الجسدية هى أمر طبيعى بالنسبة للجسد، إذ هو مادى وقابل للفساد. لذلك إن حلّ به المرض، فإنه يجب على النفس المُتعلِّمة (الصلاح) أن تتشجَّع وتصبر بشكر دون أن تتذمَّر على الله الذى خلق لها الجسد.].

يقول القديس إكليمنضس السكندرى [وكل ما عملتم بقولٍ أو فعلٍ فاعملوا الكل باسم الرب يسوع شاكرين الله والآب به "(كو3: 17). هذا هو احتفالنا المملوء شكراً. إن أردت الترنُم واللعب على عود أو قيثارة فليس من لوم عليك[13].] ويقول: [فإنك بهذا تمتثل بالملك العبرانى فى تقديمه الشكر لله، إذ تقول النبوّة:" اهتفوا أيها الصدّيقون بالرب. بالمستقيمين يليق التسبيح. احمدوا الرب بالعود، بقيثارة ذات عشرة أوتار رنموّا له. وغنّوا له أغنية جديدة "(مز33: 1 - 3). ما هذه القيثارة ذات العشرة أوتار إلا كلمة" يسوع "التى أعلنت خلال حرف عشرة (وهو حرف اليوتا الذى يُمَثِّل رقم 10 فى اليونانية وأول حروف كلمة يسوع أو إيسوس[14].].

كما يقول: [فى الخدمة الإلهيّة يترنم الروح...

"سبّحوه بصوت البوق"، لأنه بصوت البوق يقيم الأموات.

"سبّحوه بالمزمار"، فإن اللسان هو مزمار الرب.

"سبّحوه بالقيثارة"، هنا يقصد الفم الذى يُحَرِّكه الروح كالوتر.

"سبّحوه بطبول ورقص"، مشيراً إلى الكنيسة التى تتأمّل القيامة من الأموات خلال وقع الضرب على الجلود (إشارة إلى الأموات).

"سبّحوه بالأوتار والأرغن"، يدعو جسدنا أرغناً، وأعصابه هى الأوتار التى يضرب عليها الروح فتعطى أصواتاً بشريّة منسجمة.

"سبّحوه بصنوج حسنة الصوت": يدعو اللسان صنجاً إذ يعطى الصوت خلال الشفتين.

لذلك يصرخ إلى البشريّة قائلاً: "كل نسمة فلتسبح اسم الرب" لأنه يعتني بكل مخلوق يتنفّس. حقاً إن الإنسان هو آلة السلام[15].].

يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [يلزم أن تُقَدِّم تشكُرات لله المهوب الممجد القدوس. ولا يُمارَس شئ بروح الجدال والمجد الباطل (فى 2: 3)، وإنما من أجل مجد الله ومسرته. "فإن الله يبدد عظام الذين يسرون البشر" (مز53: 5) [16].].

سابعاً: الصلاة عمل يتم فى ضمير الإنسان. يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [لا يحتاج الله إلى خُطب رنّانة، ولا إلى كلمات فصيحة، إذ يعرف ما هو مفيد لنا. وهكذا يمكننا أن نحدِّد الصلاة بأنها عمل يتم فى ضمير الإنسان وفى داخله، وهى عمل يمتد إلى كل الأعمال التى تنسج حياة الإنسان[17].].

5 - كيف يشترك الجسد مع النفس فى العبادة المقدسة

ما دمنا نعيش فى هذا العالم، يليق بنا أن نعبد الخالق ونمجده بالجسد كما بنفوسنا. حقاً إن قورن الجسد بالنفس، يُحسَب الجسد مادى والنفس روحية، لكن لا يستطيع أحدهما أن يمجد الله بدون الثانى. فالجسد يتعبَّد بأعضائه الجسدية وتتفاعل النفس مع الجسد لأنه لا يوجد ثنائية فى كيان الإنسان.

إن تجاهل الجسد دور النفس، تتحوَّل العبادة إلى حرفية لا حياة فيها، وإن حاولت النفس أن تعبد الله متجاهلة الجسد، حتى وإن كان مرهقاً أو مريضاً فعبادتها تكون مبتورة. كل منها مدين للآخر فى ممارسة عبادة صادقة روحية مرضية لله خالق الجسد والنفس.

6 - هل يُفضل أن يصلي الإنسان لله بصراخٍ أم بصوتٍ مسموع، أم بصوت هادئ فى همس أم صلي وهو صامت؟

يقول الحكيم: "للسكوت وقت، وللتكلم وقت" (جا3: 7)، ليس فى تعاملنا مع الناس فحسب، بل وفى عبادتنا أيضاً. فللسكوت وقت حين نجلس مع الكتاب المقدس، أو نقف أمام هيكل، فلا ننطق بكلمة مسموعة لكى نسمع صوت إلهنا فى داخلنا. وأيضاً للكلام بصوت هادئ حين نسبح بالمزامير، فيلتهب قلبنا بالفرح السماوى والحب الإلهى. وللكلام بصوت واضح مسموع حين نشترك مع خورُس الشمامسة ومع الشعب فى التسبيح، ونشعر باشتياقنا للانطلاق إلى الفردوس، فننضم إلى خوُرس السمائيين ومعهم المؤمنون المنتصرون الذين رحلوا. هكذا يسند الفم النفس فى عبادتها سواء بصمته أو همساته أو التكلم والترنُم بصوت مسموع، بل وأحياناً بالصراخ، كما يقول المرتل: "فى ضيقى دعوت الرب، وإلى إلهى صرخت، فسمع من هيكله صوتى وصراخى قدامه دخل أذنيه" (مز18: 6).

يقول القديس أغسطينوس: "فى شدتى دعوت الرب، وإلى إلهى صرخت". يُعلِن القديس بولس عن هذه الصرخة الموجهة إلى الآب، قائلاً: "الذى فى أيام جسده، إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلص من الموت، وسُمِع له من أجل تقواه" (عب5: 7). سُمِعَت صرخته بإقامته من الأموات ونواله المجد والملكوت.] كما يقول: [ "فسمع صوتى من هيكله المقدس". سمع صوتى من مسكنه داخل قلبى! "وصراخى قدامه يدخل فى أذنيه"، هذا الصراخ الخاص بى لا تسمعه أذن إنسان، فإننى إذ أنطق به فى داخلى فى حضرته، يبلغ إلى أذنيه!].

وما نقوله عن الفم واللسان نقوله على كل بقية أعضاء الجسم التى تساهم فى العبادة المقدسة للرب مشتركة مع النفس والقلب والفكر.

7 - كيف يسند الجسد النفس فى العبادة بقرع الصدر؟

جاء فى مثل الفريسى المتكبّر والعشار المتواضع، أن الأخير "وقف من بعيد، لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره، قائلاً: اللهم ارحمنى أنا الخاطي" (لو18: 13).

لقد كشفت حركات الجسم عن نفسه المتواضعة، خلال وقوفه من بعيد، وانحناء عينيه فى خجلٍ من السماء، وقرعه على صدره. بهذه الحركات اعترف أنه ليس أهلاً أن يقترب نحو الهيكل، وبانحناء رأسه اعترف أنه فى خجل مما ارتكبه، وقرعه على صدره أنه عِوض التمتع بملكوت الله فى داخله فتح باب قلبه لعدو الخير وللخطايا. وكأن الجسد والنفس قد تفاعلاَّ معاً، وبروح التواضع اعترف أنه محتاج إلى مراحم الله للتمتعُ بمغفرة خطاياه.

جاء فى فردوس الروح قال شيخ: [لنصم ونصلِّ ونسجد ونقرع صدورنا أمام صليب ربنا، وبدموعٍ وبألم قلبٍ نطلب منه عوناً وخلاصاً، لأنه قريب إلينا كل حينٍ، بل هو ساكن فينا كما هو مكتوب: "قريب هو الرب من المنكسري القلوب" (مز34: 18)، وكقول ربنا: "ها ملكوت الله داخلكم" (لو17: 21).

يقول الأب هيبريشيوس الكاهن: "الراهب الذى يقرع صدره ويسكب الدموع يجتذب إليه الرحمة السمائية".] (فردوس الآباء).

ويقول القديس مار أفرآم السريانى: [ليس لى دالة أمامك يا من تفحص قلبى وأعماقى الداخلية، ليس فيّ أفكار طاهرة، ولا دموع عند الصلاة، وإن كنت أتنهد وانطرح على وجهي المملوءة خزياً، وأقرع صدرى الذى هو مسكن الأهواء ومعمل الأفكار الشريرة.].

يقول القديس جيروم: [صلوات العشار غلبت الله الذى لا يُغلب!] [الكبرياء ضد التواضع، خلاله فقد الشيطان سموه كرئيس ملائكة... فكر أيها الأخ أية خطية هذه التى يقاومها الله؟! [18]].

ويقول القديس كيرلس الكبير: [ولكن ماذا عن العشار؟ يقول إنه وقف بعيداً، لم يجسر حتى أن ينطق أو يرفع عينيه إلى فوق. ها أنت تراه خالياً من كل نطق جسور، كمن ليس له حق فى ذلك، بل كان مضروباً بتوبيخات ضميره، يخشى حتى من أن ينظره الله، بكونه إنساناً أهمل فى شرائعه، حياته منحلة غير طاهرة. ها أنت تراه يتهم نفسه بطريقة منظورة... لقد كان خائفاً من الديان، يقرع صدره، ويعترف بخطاياه، ويكشف مرضه كما إلى الطبيب، ويسأل نوال الرحمة. ماذا كانت النتيجة؟ اسمع ما يقول الديان: "نزل (هذا الإنسان) إلى بيته مبرراً دون ذاك" (لو18: 14) [19].].

8 - ما هى بركات اللسان المقدس وما هى خطورة اللسان الفاسد؟

كثيراً ما حذَّرنا الكتاب المقدس من عدم ضبط اللسان، فيقول مُعَلِّمنا يعقوب الرسول: "إن كان أحد لا يَعْثُر فى الكلام، فذاك رجل كامل، قادر أن يُلْجِم كل الجسد أيضاً. هوذا الخيل تضع اللُجُم فى أفواهها لكى تطاوعنا فندير جسمها كله. هوذا السفن أيضاً وهى عظيمة بهذا المقدار وتسوقها رياح عاصفة تديرها دفة صغيرة جداً إلى حيثما شاء قصد المدير. هكذا اللسان أيضاً هو عضو صغير ويفتخر متعظماً. هوذا نار قليلة، أى وقود تحرق. فاللسان نار عَاّلمُ الإثم. هكذا جعل فى أعضائنا اللسان الذى يدنس الجسم كله ويُضْرِم دائرة الكون ويُضْرِم من جهنم" (يع3: 2 - 6). بكلمات قليلة يفقد الإنسان خلاصه، وبكلمات قليلة يتأهَّل المؤمن أن ينضم إلى خورُس السمائيين بنعمة الله، كما حدث مع الله اليمين.

يقول القديس أغسطينوس: [يستطيع الإنسان ترويض الوحوش المفترسة، أما لسانه فلا يقدر أن يُلجِمه!... يستطيع الإنسان تهذيب كل شيءٍ ما عدا ذاته، فما يقدر عليها! يقدر على تهذيب كل ما يخاف منه، أو يجدر به أن يخافه، أما ذاته التى لا يخافها فلا يقدر عليها! إذن لنلجأ إلى الله الذى يستطيع أن يُلجِمه. أنتم لا تقدرون على إقناع ألسنتكم لأنكم بشر... فلنطلب من الله لكى يُرَوّضنا قائلين له: "يا رب ملجأ كنت لنا". هل يستطيع (الإنسان) صورة الله أن يُرَوِّض الأسد، ويعجز الله عن ترويض صورته؟ إن رجاءنا يكمن فى هذا المُرَوِّض لنخضع له ملتمسين رحمته... لنحتمله حتى يُرَوِّضنا، فنصير كاملين، لأنه كثيراً ما يسمح لنا بتأديبات. فإن كنتم تستخدمون أسواطاً فى ترويض الحيوانات المفترسة، أمَا يستخدم الله ذلك ليحوِّلنا نحن وحوشه إلى أولاد له[20]؟].

ويُقَدِّم لنا القديس مار يعقوب السروجى نظرته الإيجابية للسان المقدس بالرب، وإدراكه لما للسان من سلطان وإمكانيات فائقة. لقد تفاعلت شخصيته فى الرب مع نظرته للسان، كل منهما يسند الآخر ويسمو به. هكذا يحدثنا عن عطية اللسان المقدس، موضحاً الآتى:

1 - باللسان المقدس يشارك المؤمن السمائيين تسابيحهم.

2 - صاحب اللسان المقدس هو ملك وصاحب سلطان، ليس لإبليس وقواته سلطان عليه.

3 - اللسان المقدس ينطق باسم الملكوت الداخلى، فيتمتع المؤمن بكل كيانه بعربون السماء وهو بعد فى هذا العالم.

4 - اللسان المقدس كنارة الروح القدس، فبه تترنم نفسه مع جسده.

5 - اللسان المقدس سرَّه حكمة الله الذى يُقَّدِّم للإنسان أن ينطلق من مجدٍ إلى مجدٍ بعمل الثالوث القدوس فى جسده كما فى قلبه وعقله ونفسه.

6 - اللسان المقدس أمّ ولود، به فلا تعرف النفس العقم والحرمان من الفضائل الروحية.

7 - اللسان المقدس بالرب ينعم بالكنز الإلهى، إذ يصير المؤمن سفيراً للرب.

8 - يعتز الله بكلمات اللسان المقدس، لأنه ينطق بالحق الإلهى.

9 - باللسان المقدس نختبر الحياة المقامة، إذ يتحدَّى الموت كل سلطانه، بشركته مع مخلصه القائم من الأموات.

10 - بالتسبيح الدائم يتصوَّر المسيح فينا، فتصير النفس عروس المسيح القدوس.

11 - بتقديس اللسان يتقدَّس الصوم، فلا يُستعبَد المؤمن لشهوات البطن والنهم.

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [كان آدم مُمَجَّداً أكثر من التاج بجماله العظيم، ولم يوجد فى الخلائق جمال آخر ندّه... أتقن المخ بيت العقل ليكون هناك، ويسكن فى الطابق العلوى مثل الإله. وصنع له حَنَكاً ليفحص الأطعمة، ووضع فيه طعماً ليُمَيِّزَ الحلو عن المر... فى صدره القلب المجتمعة فيه كل الإفكار، ليُوَزِّع كل الكنوز كما من خزينةٍ عظمى. فى فمه الكلمة، وفى شفتيه تمييز الأصوات... [21]].

9 - لماذا قال السيد المسيح: "اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت4: 10؛ لو4: 8؛ انظر تث 6: 13)؟

يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [حقاً لقد أصابت هذه الآية مقتلاً من إبليس لأنه كان قبل نزول المسيح ومجيئه يخدع كل الذين تظلِّلهم القبَّة الزرقاء، فتجثو له كل ركبة، أما وقد جاء المسيح، فقد شاءت رحمته أن يرجع الناس عن غلوائهم ويقدِّموا له السجود والعبادة والإكرام.].

لقد نهى الله عن السجود لغيره بتاتاً (خر20: 3 - 5، تث5: 6 - 9). وعندما أقام نبوخذنصر تمثاله الذهبى وأمر جميع رعاياه أن يخروا ويسجدوا للتمثال، رفض الثلاثة فتية الأتقياء أن يسجدوا لغير الله بأية صورة، ومهما كلفهم ذلك، حتى ألقوا فى أتون النار المتقدة. ولكن الرب حفظهم فلم "تكن للنار قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغيَّر، ورائحة النار لما تأتِ عليهم" (دا3: 27)، لأنهم أطاعوا الله أكثر من الناس.

الله ليس بمحتاج أن يسجد له البشر أو حتى السماويين، إنما خليقته العاقلة فى السماء وعلى الأرض إذ تسجد له بروح الحب والطاعة تتمتع بانعكاس بهائه عليهم.

10 - لماذا يؤكد الكتاب المقدس أنه يلزمنا أن نعبد الله ونسجد له، لأنه إله غيور؟

الله يُريدنا أن نُحِبَّه ليملك على القلب تماماً، ليس لأنه يُريد أن يستعبدنا أو يذلنا، وإنما لأنه "إله غيور"، لذلك أصر أن يصف نفسه هكذا "أنا الرب إلهك إله غيور" (تث5: 9). وقد علق القديس يوحنا الذهبى الفم على هذه العبارة قائلاً: [قال الله هذا لكى نتعلَّم عظمة حبه. فلنحبه كما يُحبنا هو، إذ قدم ذخيرة حب كهذه. فإننا إن تركناه يبقى يدعونا إليه، وإن لم نتغير يؤدبنا بغضبه، ليس من أجل التأديب فى ذاته. انظر، ماذا قال فى حزقيال عن المدينة محبوبته التى احتقرته: "هأنذا أجمع جميع محبيك... وأسلمك ليدهم فيرجمونك بالحجارة ويقطعونك بسيوفهم... فتنصرف غيرتى عنك، فأسكن ولا أغضب بعد" (راجع حز16: 37 - 42). ماذا يمكن أن يقال أكثر من هذا بواسطة محب متقد احتقرته محبوبته، ومع هذا يعود ويحبها مرة أخرى بحرارة؟! لقد فعل الله كل شيءٍ لكى نحبه، حتى أنه لم يشفق على ابنه من أجل أن نحبه، ومع هذا فنحن متراخون وشرسون[22].].

ويُعَلِّق العلامة أوريجينوس على نفس العبارة قائلاً: [أنظروا محبة الله، فإنه يحتمل ضعفات البشر لكى يُعلِّمنا ويدخل بنا إلى الكمال... كل امرأة مرتبطة برجلها تخضع له وإلاَّ صارت زانية، تبحث عن الحرية لكى تخطئ. ومن يذهب إلى زانية يعرف أنه يدخل إلى امرأة زانية تُسلم نفسها لكل من يَقْدم إليها، لذا فهو لا يغضب إن رأى آخرين عندها. أما المتزوج شرعياً فلا يحتمل أن يرى زوجته تُخطئ، وإنما يعمل دائباً على ضبط طهارة زواجه، ليتأكد أنه الأب الشرعى (للطفل ثمرة زواجه). إن فهمت هذا المثل تستطيع أن تقول إن النفس تتتنجس مع الشياطين والأحباء الآخرين الكثيرين، فعادة يدخل عندها روح الزنا، وعند خروجه يدخل روح البخل ثم روح الكبرياء ثم روح الغضب ومحبة الزينة والمجد الباطل، ويدخل آخرون كثيرون يزنون مع النفس الخائنة دون أن يَغير أحدهم من الآخر... ولا يطرد الواحد الآخر، بل بالعكس كل منهم يقدم الآخر... وكما رأينا الروح الشرير الذى يقول عنه الإنجيل: "إن خرج من إنسان يرجع ومعه سبعة أرواح أشرّ منه" (يو11: 26)، ويسكن هذه النفس. هكذا لا يغير الواحد الآخر فى النفس التى تبيع ذاتها للزنا مع الشياطين.

أما إن اتحدت النفس مع زوج شرعى، العريس الذى يخطبه بولس للنفوس، قائلاً: إنى خطبتكم لرجل واحد لأقَدِّم عذراء عفيفة للمسيح "(2كو11: 2)، هذا الزواج تكلم عنه الإنجيل قائلاً:" إن ملكاً صنع عرساً لابنه "(مت22: 2)، تهب النفس ذاتها له وترتبط به شرعياً، حتى وإن كانت فى ماضيها خاطئة وسلكت كزانية، لكنها متى ارتبطت به تتعهَّد ألاَّ تخطئ مرة أخرى. النفس التى اختارته عريساً لها لا يحتمل أن تلهو مع الزناة. وهو أيضاً يُغّير عليها، ويدافع عن طهارة حياته الزوجية.

يُدعَى الله "إلهاً غيوراً"، لأنه لا يحتمل أن ترتبط النفس التى وهبت ذاتها له بالشياطين.].

11 - هل أوضح الكتاب المقدس أنه لا يجوز السجود للعبادة إلا لله وحده؟

كثيراً ما أوضح الكتاب المقدس بعهديه هذا المبدأ صراحة، وأيضاً قدَّم أمثلة للملائكة والبشر انهم يرفضون السجود للعبادة لغير الله. ففي العهد القديم رفض الثلاثة فتية القديسين السجود لتمثال الملك الذهبى (دا 3: 12). ورفض مردخاى أن يسجد أمام مردخاى للعبادة له فى أيام الملك أحشويروش فتعرض كل اليهود للقتل، لكن الرب أنقذهم (أس3: 5 - 6).

وفى العهد الجديد منع الملاك المرافق للقديس يوحنا الرائى من أن يسجد للعبادة له قائلاً: "انظر لا تفعل، لأنى عبد معك ومع إخوتك الأنبياء والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب. اسجد لله" (رؤ22: 9). وفعل القديس بطرس الرسول نفس الشئ مع كرنيليوس قائد المئة، قائلاً: "قم أن أيضاً إنسان" (أع10: 25 - 26).

أوصانا السيد المسيح نفسه: "الله طالب مثل هؤلاء الساجدين له... بالروح والحق" (يو4: 23 - 24)، كما يقول الرسول: "لكى تجثو باسم يسوع كل ركبةٍ ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض" (فى2: 10).

12 - ما هو السجود المقبول لدى الرب؟

السجود بأنواعه الثلاثة: انحناء الرأس، وانحناء الركب، وانطراح الوجه ليلامس الأرض عند الجبهة يكون مرضياً لدى الرب متى كان الهدف الداخلى هو تحقيق الأمور التالية أو بعضها:

أولاً: الشعور بالحضرة الإلهية مع إدراك محبة الله للبشرية كما للسمائيين، فيشرق الرب ببهاءٍ عليهم، ويصيروا فى عينيه مملوئين بهاءً.

ثانياً: تفاعل نفس المؤمن مع عمل الله الخلاصي، مقدماً توبة صادقة عن خطاياه مع ثقته فى غافر الخطايا واهب البرّ.

ثالثاً: تنسحق نفس المؤمن، فتطلب من أجل كل البشرية ليذوقوا خلاص الله العجيب.

رابعاً: التحرر من الأنانية، فنطلب فى سجودنا من أجل الذين سألونا أن نذكرهم فى صلواتنا والذين لم يسألونا.

13 - هل يُمَيِّز الطقس القبطى بين أنواع السجود لله الثلاثة[23]؟

أ. عند صلاة التحليل فى القداس الإلهى ينادى الشماس: "احنوا رؤوسكم للرب"، حيث يسأل الأسقف أو الكاهن من السيد الرب أن يهب الحلّ للحاضرين وهم واقفون أو جالسون بانحناء الرأس.

ب. وفى أيام الصوم الكبير وصوم يونان ينادي الكاهن أو الأسقف: "احنوا ركبكم"، ومع كل طلبة يقول: "وأيضاً احنوا رؤوسكم".

ج. أما فى وقت حلول الروح القدس على القرابين المقدسة، فيصرخ الشماس، "اسجدوا لله بخوف ورعدة"، حيث يتم السجود أمام جسد الرب ودمه.

هذه الأنواع الثلاثة تحمل نفس الروح ونفس الهدف وإن كان لكل نوعٍ ما يُمَيِّزه عن النوعين الآخرين. كثيراً ما يمارس المؤمن فى عبادته الشخصية أكثر من نوع. ويكشف آباء الكنيسة الأولى عن خبراتهم الروحية فى ممارستهم للسجود لله، أذكر على سبيل المثال:

أولاً: السجود كعلامة لتسليم الإنسان حياته لله. يقول القديس ديوناسيوس الأريوباغى: [يلتزم كل أصحاب الدرجات الكهنوتية، أو المرشحين لها بالتقدُم أولاً نحو المذبح الإلهى ثم السجود لكى يعلنوا خضوعهم وتسليم حياتهم لله الذى منه سينالون تكريسهم.].

ثانياً: انحناء الركبتين لكى يتدخَّل الله فى حياة البشر. يروي يوسابيوس القيصرى عن الملك قسطنطين أثناء مرضه الأخير: [كان يدخل مخدعه الخاص فى القصر فى ساعات مُعيَّنة من النهار، ويغلق على نفسه ليناجي الله ويظل ساقطاً على ركبتيه متضرعاً من أجل شئون مملكته[24].].

14 - ما هو ارتباط السجود بعمل المسيح الخلاصى؟

يقول القديس باسيليوس الكبير: [كل مرة نسجد فيها إلى الأرض تشير إلى كيف أحدرتنا الخطية إلى الأرض، وحينما نقوم منتصبين نعترف بنعمة ورحمته التى رفعتنا من الأرض، وجعلت لنا نصيباً فى السماء.].

15 - ما هو ارتباط السجود بالصلاة؟

يقول القديس مار اسحق السريانى: [اسجد فى بدء صلاتك واسأل الله بانسحاق، وتذلل أن يعطيك الصبر فى الصلاة وضبط الفكر.] [أغصب نفسك على السجود أمام الله (ضرب المطانيات) لأنه هو مُحَرِّك روح الصلاة.] [أعطِ نفسك للصلاة وأنت تحصل على لذة المطانيات وتداوم فيها بسرور.].

16 - هل يذكر الكتاب المقدس السجود لأهداف أخرى غير العبادة لله؟

قيل عن إبراهيم إنه "سجد لشعب الأرض، لبنd حث" للتعبير عن الشكر (تك23: 7، 12؛ 27: 29) بروح التواضع النابع عن شعوره بالتغرُّب، فبينما يتطلع إليه بنو حث كسيد ورئيس (أمير) من الله بينهم، إذ به يدعو نفسه غريباً ونزيلاً عندهم، لا يحتمل حُبَّهم وكَرَمهم، فسجد أمامهم علامة الشعور بالجميل. حقاً إن أولاد الله ظاهرون لا بحب السلطة والاعتداد بالذات إنما بروح الحب والوداعة والتواضع. بهذا يتحقَّق القول: "لا يمكن أن تخفى مدينة قائمة على جبل" (مت5: 14)، لا جبل التشامخ بل جبل الله، القائمة والمؤسسة على السيد المسيح نفسه واهب التواضع!

وسجد يعقوب ونساؤه وأولاده لأخيه عيسو لاسترضائه وصرف روح الغضب (تك33: 3 - 6). قاد يعقوب الموكب لا بروح التشامخ والعنف بل بروح الاتضاع، إذ كان يسجد لأخيه سبع مرات علامة كمال الخضوع. أما السيد المسيح عريسه الكنيسة السماوى ورأسها فقاد موكب النصرة باتضاعه، إذ أخلى ذاتى وأخذ شكل العبد وأطاع حتى الموت موت الصليب (فى2: 6 - 8)، وهو ابن الله الوحيد الجنس تعلَّم الطاعة مما تألم به (عب5: 5). وإذ هو واحد مع أبيه صام وصلى وركع مُقَّدماً الخضوع له بإسمنا ولحسابنا فتُقبَل عبادتنا فيه.

وسجد إخوة يوسف له، للاعتذار عما فعلوه معه (تك37: 10، 42: 6، 43: 26).

وسجد موسى احتراماً لحميه يثرون (خر18: 7). إن كان يثرون قد جاء بقلبه يُمَجِّد الله على أعماله الخلاصية، فإن موسى أيضاً العظيم فى الأنبياء، الذى وهبه كل هذه العجائب لاقى حماه بكل تواضع... "خرج موسى لاستقبال حميه وسجد وقبله" [7]. النبوة لم تُعَلِّمه التشامخ على الآخرين بل الاتضاع أمام حميه الكاهن الوثنى. ولعلَّه باتضاع كسبه أيضاً للتعُّرف على أعمال الله.

وسجد يشوع لرئيس جند الرب للمهابة والجلال (يش5: 14).

وسقطت راعوث على وجهها وسجدت إلى الأرض وقالت له: كيف وجدت نعمة فى عينيك حتى تنظر إلىيِّ وأنا غريبة (را2: 10). فى اتضاع اعترفت راعوث أنها غريبة ولا تستحق هذا الكرم فتزداد فى عينى بوعز جمالاً، ويذكر لها أعمالها الفاضلة ليُمَجِّدها، قائلاً: "إننى قد أخبرت بكل ما فعلتِ بحماتك بعد موت رجلك حتى تركت أباكِ وأمكِ وأرض مولدك وسرت إلى شعب لم تعرفيه من قبل" (را2: 11). إذ تواضعت أمامه، يذكر لها كيف تركت أباها الأول أى إبليس والأم الأولى أى الحياة الشريرة التى نشأت فيها، تركت أرض مولدها أى محبتها للعالم، وتعلَّقت بنعمى أى الناموس روحياً وسارت إلى شعب لم تعرفه من قبل أى إلى شركة السمائيين الذين كانوا قبلاً غرباء عنها، والآن دخلت معهم فى عضويتهم إذ حملت الطبيعة السماوية.

كثيرون سجدو للملوك والأمراء والحكام وغيرهم تعبيراً عن الاحترام والمهابة والتوقير، أو الاستعطاف (1 أخ29: 20). فسجد داود أمام شاول الملك بروح التواضع (1صم24: 8). وسجد يوآب ثم أبشالوم أمام الملك داود (2صم14: 22 - 33). وسجدت أبيجايل أمامه (1صم25: 23، 41). وسجد أخيمعص أمامه (2صم18: 28) كما سجدت بثشبع أمامه (1مل2: 19). وسجد أدونيا أمام سليمان ليعفو عنه (1مل1: 53). كما سجد سليمان أمام أمه بثشبع توقيراً احتراماً (1مل2: 19). كما سجد لوط للملاكين (تك19: 1).

17 - كيف يسعى الشياطين لخداع المؤمنين لكى يسجدوا لهم؟

جاء فى بستان الفردوس: [قال أنبا أور: "أبصرتُ إنساناً فى البرية خيَّلت له الشياطين طغمات من الملائكة ومركبات حافلة وملكاً فى وسطهم. وقال له الشيطان: لقد أتقنتَ كل شيءٍ، إذاً فخُرّ لى ساجداً وأنا أرفعك كما رفعتُ إيليا. فقال الراهب فى نفسه: إننى أسجد كل يومٍ لملكى المسيح، فلو كان هو هذا لما التمس مني السجود الآن. ولما خطر عليه هذا الفكر قال له: ملكي أنا هو المسيح، وأنا دائماً أسجد له، وأما أنت فلستَ بملكي. ولما قال هذا تلاشى ذلك الخيال فى الحال"... هذا ما قاله الأب أور كأنه عن غيره، أما الآباء الذين كانوا معه فقالوا: "إنه هونفسه الذى حدث له ذلك".].

18 - ما موقفنا أمام العجز فى العبادة بسبب المرض؟

أوضحت القديسة سنكليتيكا تلميذة القديس أثناسيوس الرسولى Amma Syncletica of Alexandria النقاط التالية:

1 - يليق بنا ألاَّ نحزن متى كُنَّا عاجزين عن الصلاة والتسبيح بسبب المرض، فإننا نُمارِسها ليس كعملٍ روتينى أو فرائض نلتزم بها، وإنما لكى تسندنا فى إزالة الشهوات الشريرة، فإن كان المرض يزيل هذه الشهوات والملذَّات، فنحن نتعبَّد قدر ما نستطيع، خاصة بتقديم ذبيحة شكر لله. ممارستنا للنسك غايتها ضبط الشهوات، والمرض يقوم بنفس المهمة كعلاجٍ طبيٍ قويٍ وفعالٍ، فبه يُصَاب الجسم بالضعف، أما الروح فنشيط قادر على تقديم ذبيحة الشكر والتسبيح لله القدير مُحِبّ البشر.

2 - قد يُصَاب الإنسان فى عينيه، فنحسب ذلك بسماحٍ من الله لتتمتَّع بصيرتنا الداخلية بمجد الربِّ "كما فى مرآة" (2كو3: 18).

3 - قد يُصَاب المؤمن فى يديه، فليشكر الله الذى يهبه يدين داخليتين مستعدتين لمهاجمة عدو الخير.

4 - قد يشعر بأن كل جسمه هزيل، فليُقَدِّم ذبيحة شكر لله الذى يحفظ صحة إنسانه الداخلى، ويهبه قوة أعظم. إنها تقول: [ليتنا لا نحزن إن كنا غير قادرين أن نقف للصلاة أو نرتل المزامير بصوتٍ بسبب ضعف أجسادنا وأوجاعها، فإنّ جميع هذه العلل تأتى علنيا لأجل إبادة شهواتنا.

لقد وُصِفَ لنا الصوم والنوم على الأرض بسبب الملذَّات المشينة. فإذا جعلت هذه الأمراض تلك الملذات مُتبلِّدة يكون التقشُف شيئاً زائداً عن الحاجة. ولكن لماذا أقول إنه زائد عن الحاجة؟

لأنّ المرض يكبح جماح الزلات المُهلِكة الكامنة كما بعلاجٍ طبيٍ قويٍ وفعَّالٍ. هذا هو النسك العظيم: أن يظل المرء قوياً فى المرض، ويواصل التسابيح والشكر للقدير.

هل حُرِمنا من عيوننا؟ ليتنا لا نستاء من ذلك، فقد فقدنا الوسائل المُؤدّية إلى الشهوة النهمة (أى التى لا تشبع)، ومع ذلك فإننا نتأمل بعيوننا الداخلية فى مجد الرب "كما فى مرآة" (2كو3: 18).

هل أصابنا الصمم؟ فلنشكر الله، لأننا فقدنا بالكلية الضوضاء غير النافعة.

هل أصيبَت أيادينا بالضرر؟ ومع ذلك فلازال لنا أيادينا الداخلية المجهَّزة جيداً للحرب ضد العدو.

هل يتحكَّم المرض فى الجسد كله؟ فلا زالت صحة إنساننا الداخلى تزداد أكثر جدَّاً[25].].

كما تقول: [إذا ثقل علينا المرض فلا نحزن، لأننا بسبب المرض وانطراح أجسادنا لا يمكننا أن نُسَبِّح، لأنّ كل ذلك هو لخيرنا لأجل تطهيرنا من شهواتنا. حقاً إنّ الصوم والنوم على الأرض قد جُعلِا لنا بسبب ميولنا الشهوانية. فإذا أضعف المرض من هذه الميول تصير هذه الممارسات لا داعى لها، لأنّ هذا هو النسك العظيم: أن يضبط الإنسان نفسه فى المرض وأن يُرَتّل تسابيح الشكر لله[26].].


[1] In 1 Conrinth. Hom. 4: 26.

[2] Hom. On John, 33.

[3] Letter 3: 58.

[4] Commentary on John, Book 98: 13 - 99.

[5] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 24: 15 - 25.

[6] Paedagogus 11: 3.

[7] Strom. 12: 7.

[8] - تفسير المزمور 28 (29).

[9] - تفسير المزمور 28 (29).

[10] - الرسالة الرابعة.

[11] Strom. 13: 6.

[12] Strom 22: 4.

[13] Paed 4: 2.

[14] Paed 2: 2.

[15] Paedagogus 4: 2.

[16] A Discourse on Ascetical Discipline, (Frs. Of the Church, volume 9, p. 35).

[17] - عظة 5.

[18] Ep 16,12.

[19] On Luck hom 120.

[20] - عظات على فصول منتخبة من العهد الجديد.

[21] - الميمر 8 على رجوع آدم، قبطى، الميمر 72 على خلقة آدم وحياة الموتى (راجع نص بول بيجان ترجمة الدكتور بهنام سونى).

[22] St. Chrys. In Rom, hom 23.

[23] - راجع حياة الصلاة الأرثوذكسية، 2012، ص642 – 646.

[24] Vita Conts. 22: 4.

[25] The Life of Syncletioca. 99.

[26] Apophthegmata Patrun, 8.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

لا توجد نتائج

No items found

2- حياة الصلاة - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات