7- الميطانيات والسجود Metanoias and Prostrations – كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

7 - الميطانيات والسجود

Metanoias and Prostrations

1 - ماذا يُقصَد بالميطانية؟

فى حديثنا عن السجود فى العبادة الكنسية فى الطقس الكنسى، ميَّزنا بين ثلاث أنواع من السجود، وهى: انحناء الرأس، وانحناء الركبتين، وانطراح الوجه ليلامس الأرض عند الجبهة[220]. يُدعَى النوع الثالث ميطانية. ولها أهميتها الكبرى فى العبادة الشخصية وفى التدبير الروحى، خاصة فى حياة الرهبان[221].

2 - ماهو معنى ميطانية؟

ميطانية، كلمة يونانية تعنى التوبة، تُقَّدَّم أمام الله بكونها عبادة له، كما تُقَدَّم أمام الاخوة وحتى للأنبياء لتحمل نوعاً من الاعتذار عن خطأ مُعَيَّن ارتكبه الشخص أو الجماعة وطلب الصفح بروح التواضع حيث يُكرِّم المؤمنون بعضهم البعض، وأيضاً تدل على الاحترام المتبادل.

يصاحب الميطانية دائماً رسم علامة الصليب وصلاة قصيرة تتغير حسب الدافع من الميطانية.

يرى البعض أن كلمة ميطانية مُشتقّة من الكلمتين اليونانيتين "ميتا" أى "تغيير"، و "نوس" أى "العقل". غاية ممارسة الميطانية أن ينسحق الإنسان بروح التواضع والخضوع لكى ما ترفعه نعمة الله من الأرض وتسمو به منطلقاً نحو السماويات[222]. ينصح مار اسحق السريانى بممارسة الميطانيات على الدوام، ويحلو له الثبات فيها حتى وإن استمر فيها ثلاثة أيام جاثياً على الأرض مصلياً، فلا يشعر بتعب بسبب الحلاوة واللذة التى يشعر بها[223].

3 - ما هو ارتباط الميطانية بالتوبة؟

إن كانت التوبة تبدأ برجوع الإنسان إلى نفسه كما فعل الابن الضال (لو15: 17)، فإنها لا تقف عند هذا الوضع، بل ينطلق المؤمن نحو أبيه فيجد أباه السماوى يركض إليه ويسقط على عنقه، ويدخل به إلى بيته، ويقيم له وليمة فاخرة (لو15: 22 - 23). فيذوب حزن الخاطيء، وتتهلل نفسه بمحبة أبيه له.

هكذا لا تقف الميطانية عند انطراح وجه الإنسان ليلامس الأرض عند الجبهة، وانما يقوم المؤمن ويقرع صدره (لو18: 13) حيث يُقيم مُخَلِّصه السماوى ملكوت الله فيه، أو يبسط يديه ويرفعهما إلى فوق، ويتطلَّع نحو السماء مُعلِناً اشتياقه لرؤية أبيه السماوى والتمتُّع بشركة المجد الأبدى.

وما نقوله بخصوص التوبة وممارسة الميطانيات نختبره فى كل أنواع العبادة لله، الأمر الذى يكشف عنه آباء الكنيسة، حيث تنطلق قلوبهم "من مجدٍ إلى مجدٍ" (2كو3: 18).

هذه الخبرة العملية قَدَّمَتها لنا المرأة الخاطئة التى غسلت قدمىّ المُخَلِّص بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها، وسرعان ما سمعته يمدحها، قائلاً للفريسي: "قد غُفِرَت خطاياها الكثيرة لأنها أَحَبَّت كثيراً" (لو7: 47).

هذا الفكر الإنجيلى اختبره كثير من آباء الكنيسة والأمهات، إذ كانوا يمارسون الميطانيات بكمية كبيرة بفرحٍ وبهجةٍ، ولا يشعرون بالتعب والملل. إنهم يترنمون سرّياً مع الرسول بولس، قائلين: "فإن سيرتنا نحن هى فى السماويات" (فى3: 20).

يقول القديس مار اسحق السريانى "كلما استنار الإنسان فى الصلاة، شعر بضرورة عمل الميطانيات وأهميتها، ويحلو له الثبات فيها. فكلما رفع رأسه، ينجذب من فرط حرارة قلبه للسجود، لأنه يحس بمعونة قوية فى ذلك ويزداد فرحه وتنعمه[224]".

وجاء فى بستان الرهبان: [قال الأخ: "ماذا أفعل يا أبى، لأننى ضعيف والوجع غالبّ عليَّ وليست لى قدرة على مقاومة الأفكار"؟ فقال له الشيخ: "إذا ألقوا بالأفكار فيك فلا تجاوبهم، ولكن اهرب إلى الله بالصلاة أو السجود، وقُل: يا الله ارحمنى، واصرف عنى هذه الأفكار بقوتك العظيمة، فإنى ضعيف عن مقاومتها". فقال له الأخ: "إذا وقفتُ لأُصلِّي لا أشعر بخشوع لأنى لا أعرف قوة الكلام". فقال له الشيخ: "أنا سمعتُ أنبا موسى (أو أنبا بيمين فى بعض المراجع) وجماعة من الآباء يقولون: إنّ الراقى لا يعرف قوة الكلام الذى يعزِّم به، لكن الحية تشعر بقوته فتخرج؛ هكذا نحن أيضاً إن كنا لا نعرف ما نقول ولكن الشياطين يعرفون قولنا فينصرفون عنا".

جاء فى تعاليم الأب إشعياء للمبتدئين: [إذا أخطأتَ فى أمرٍ فلا تَسْتَحِ ولا تكذب، لكن اصنع ميطانية وقرّ بذنبك واستغفر لك.].

[إن قال لك إنسانّ كلمةً عنيفة، فلا تنفر ويستكبر قلبك عليه، ولكن بادر باتضاع واصنع ميطانية ولا تلُمْه فى قلبك وإلاّ يتحرك الغضب عليك. إن كذب عليك أحدّ (أى افترى عليك) فى شيءٍ لم تفعله، فلا تهتم ولا تجزع، لكن اتضع واصنع ميطانية. وإن كنتَ فعلتَ أو لم تفعل فقُلْ: "اغفر لى، فإننى لن أعود إلى ذلك".].

4 - ما هو ارتباط الميطانيات بالصلاة؟

إن كانت الصلاة هى تقدمة عبادة عقلية، فبالميطانيات يشترك الجسد مع العقل فى التقدمة، كقول الرسول: "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تُقَدِّموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو12: 1).

قَدَّم لنا السيد المسيح الصلاة النموذجية مُفتتحاً إياها بالقول: "أبانا الذى فى السماوات"، ومُقَدِّماً للمؤمنين دالة البنوة حتى يتحدَّثوا مع الآب بدالة قوية. لكن يليق بهم أيضاً أن يتسلَّحوا بروح المخافة الإلهية. إذ يقول: "الابن يكرم أباه، والعبد يكرم سيده، فإن كنت أنا أباً فأين كرامتى؟، وإن كنت سيداً فإين هيبتى، قال لكم رب الجنود" (مل1: 6). بعمل الميطانيات نُعلِن هيبة الله ومخافته فينا دون تجاهل أبوّته وحنانه ورحمته.

بناموس الطبيعة يُكرم الابن أباه، وبقوانين العالم يهاب العبد سيده ويطيع أوامره، ويحرص على خدمة مصالحه. الابن الذى لا يُكرم أباه يسقط تحت لعنة الناموس الطبيعى، والعبد الذى لا يسمع لسيده يسقط تحت عقوبة قوانين المجتمع. هذا هو موقف الابن والعبد. اما بالنسبة لنا فبقانون النعمة الإلهية يليق بنا أن نُكرِّم الله كأب لنا ولا نستهين بحبه وحنوّه. لهذا تمتزج ممارستنا للصلاة بالميطانيات، خاصة فى الصلوات السهمية القصيرة.

يُقَّدِّم لنا مار اسحق السريانى التدريب التالى، وهو إن هوجمنا بالملل فى الصلاة لسببٍ أو آخر مثل هجوم فكر يُشَتِّت مشاعرنا، نُمارس الميطانيات طالبين من الله أن يُسَمِّر مخافته فى قلوبنا. إنه يقول: [أحْبِب الميطانيات فى الصلاة أكثر من المزامير (إن حورب الشخص بالسرحان أثناء الصلاة بالمزامير وعانى من تشتيت الفكر)، وعندما تعطيك الصلاة يدها تعوّضك عمّا فات من تدبيرك[225].].

يكشف الأب ماريوس فيكتورينوس عن أهمية الميطانيات، قائلاً: [بالركوع نُحَقِّق الشكل الكامل للصلاة والتضرُّع. لذا نحني ركبنا. يلزمنا أن نميل إلى الصلاة ليس فقط بأذهاننا وبأجسادنا. حسناً نحني أجسامنا لئلا نخلق فينا نوعاً من التشامخ ونحمل صورة الكبرياء[226].].

5 - ما هى مشاعر المؤمن وهو يمارس الميطانيات؟

تختلف المشاعر حسب الدافع لممارسة الميطانيات، غير أن المشاعر المشتركة فى كل الميطانيات هى الشعور بالحضرة الإلهية، سواء كان الشخص يُقَدِّمها للعبادة كما يفعل السمائيون، أو من أجل التوبة والاعتراف بخطيته مع الاشتياق الحقيقى للرجوع إلى الله والتمتُّع بالأحضان الإلهية، أو كنوعٍ من الحب المتبادل بين المؤمنين (خاصة الرهبان) مع ممارستها بروح التواضع. او إن مورست الميطانيات لصرف روح الغضب عن الأخ أوة الإخوة، أو كنوع من الشكر لحسن تصرف الأخ أو الأخت. أو نوع من الاعتذار وطلب السماح عما أخطأ به سواء إلى شخصٍ ما أو إلى الله الخ. فى كل المواقف ما يشغل فكرنا هو الحضور الإلهى وطلب رضاه وبركته.

فى ممارستنا للميطانية، كعبادة الله، نُشارِك السمائيين مخافتهم للرب وتهليلهم بخالقهم.

وفى ممارستنا لها من أجل التوبة، فمع انسحاق نفوسنا بسبب خطايانا، نفرح بعمل المُخَلِّص غافر الخطايا، وبلقائنا به كأبناء وبنات يجدون أحضان المُخَلِّص مفتوحة لاستقبال الراجعين إليه. هكذا تختلط مشاعر الحزن مع الفرح الروحى.

وإن كنا نمارس الميطانيات من أجل متاعبنا، فإننا نُقَّبِّل قدميّ المُخَلِّص: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم" (مت11: 28).

كما نتقدَّم إليه كأطفالٍ صغارٍ محبوبين إليه، مُتذكِّرين كلماته: "دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات" (مت19: 14؛ مر10: 14؛ لو18: 16).

كما نتقدَّم إليه كمرضى محتاجين إلى الطبيب السماوى، مُتذكِّرين كلمات إشعياء النبى: "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها" (إش53: 4).

أيضاً نخضع بالميطانيات أمام الرب، كجنودٍ يلجأون إلى قائد المعركة، إذ وحده يُحَطِّم إبليس وكل خططه، ويُبَدِّد ظلمة قوات الشر، وننشغل بأن نخضع لمشيئة الله، ونتمتَّع بالسكون المقدس والبر الإلهى أثناء ممارستنا الميطانيات. أيضاً كثيراً ما يلتهب قلب المؤمن بالشوق نحو السماويات فيرفع يديه ونظره نحو السماء بعد ممارسته للميطانية. يقول القديس مار اسحق السريانى عن ارتباط السجود بالفرح السماوى: [المداومة على السهر مع ضرب الميطانيات بين الحين والآخر ولا تتأخَّر كثيراً عن أن تكسب العابد المجتهد فرحة الصلاة... أعطِ نفسك للصلاة وأنت تحصل على لذة الميطانيات وتداوم فيها بسرور.] يدعونا القديس مار اسحق السريانى أن نُمارِس الميطانيات أمام صليب السيد المسيح، إذ يقول: [لا شيء فى الجهاد النسكى أعظم وأشد تعباً من أن يلقى الإنسان بنفسه أمام صليب المسيح، الأمر الذى لا تحتمله الشياطين.].

6 - كيف تطفئ الميطانيات لهيب الغضب؟

إذ سمع يعقوب أن أخاه عيسو خرج للِّقاء معه، سجد نحو الأرض سبع مرات أمام أخيه فاسترضى وجهه وزالت العداوة من قلب عيسو (تك33: 3).

وإذ أدركت أبيجايل أن داود فى ثورة غضب على رجلها نابال الذى أساء إليه، انطلقت للقائه، وسجدت أمامه، فهدأ داود وتجنَّب سفك الدماء والانتقام لنفسه (1صم25: 23). أُعجِب داود بحكمة أبيجايل وتراجع عن غضبه أمام تواضعها وانسحاقها.

وعندما سجدت أبيجايل أمام داود (1صم25: 23) لتصرف عنه روح الغضب، ماذا رأى فيها؟! لقد قال لها: "مبارك عقلك، ومباركة أنتِ" (1صم25: 33).

7 - ما هى قيمة الميطانية إن خَلت منها المحبة والتواضع؟

من يمارس الميطانية بدون محنة وتواضع، تحسب نوعاً من السخرية. هكذا سجد الجنود الرومان أمام يسوع فى دار الولاية فى سخريةٍ واستخفافٍ بشخصه (مت27: 29). لذلك يدعونا القديس مار اسحق السريانى أن نُمارِس الميطانية بروح التواضع والمحبة، إذ يقول: [تواضع أمام كل الناس فترتفع فوق رؤساء هذا الدهر (الشياطين). بادِرْ الجميع بالتحية والسجود تُكرَّم أكثر ممن يحملون هدايا من الذهب الخالص.].

8 - هل فى ممارسة الميطانية سقوط فى مذلّة؟

للأسف يظن البعض أن ممارسة الميطانية خاصة أمام الناس فيه نوع من المذلّة. إن كان السمائيون بسجودهم فى مخافةٍ ورعدةٍ يتمتَّعون بانعكاس بهاء الله عليهم، لذلك يشعر الإنسان بمهابتهم إن التقى بهم، هكذا يتمتَّع المؤمن بنوع من المهابة بممارسته للميطانيات بطريقة لائقة.


[220] - راجع بند 1 من العبادة الكنسية، سؤال رقم 14.

[221] - راهب من دير البرموس (نيافة الأنبا مكاريوس): مدخل إلى الميطانيات فى التدبير الروحى، الطبعة الرابعة 2002م.

[222] - راهب من دير البرموس (نيافة الأنبا مكاريوس): مدخل إلى الميطانيات فى التدبير الروحى، الطبعة الرابعة 2002م، ص 8.

[223] - راهب من دير البرموس (نيافة الأنبا مكاريوس): مدخل إلى الميطانيات فى التدبير الروحى، الطبعة الرابعة 2002م، ص 42.

[224] - راهب من دير البرموس (نيافة الأنبا مكاريوس): مدخل إلى الميطانيات فى التدبير الروحى، الطبعة الرابعة 2002م، ص 10.

[225] - راهب من دير البرموس (نيافة الأنبا مكاريوس): مدخل إلى الميطانيات فى التدبير الروحى، الطبعة الرابعة 2002م، ص11.

[226] Marius Victorianus, On. Ephes. 3: 1: 14.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

لا توجد نتائج

No items found

8- العبادة المقدسة وحياة الملء - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

6- صلاة يسوع أو الصلاة السهمية - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات