5- الصلاة العقلية والتأمل – كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

5 - الصلاة العقلية والتأمل

1 - لماذا اهتم القديس أفراهاط الحكيم الفارسي بالحديث عن الصلاة العقلية الخفية؟ [181]

تُدعَى الصلاة العقلية أو القلبية أو الصامتة أو الخفية وأحياناً تُدعَى التأملية.

يتميَّز المقال الرابع لأفراهاط بأنه من أقدَّم الرسائل المسيحيَّة الموجودة عن الصلاة. لا يدور هذا المقال حول الصلاة الربانيَّة كما فى الأعمال المعروفة عن الصلاة لترتليان وأوريجينوس والقديسين غريغوريوس النيسي وكبريانوس وأغسطينوس وغيرهم. لكنه يتميَّز بأنه غني بالأمثلة الكتابية التى تؤكِّد ضرورة نقاوة القلب كشرطٍ لقبول الصلاة. يتطلع أفراهاط إلى الصلاة بكونها لقاءً داخلياً للقلب النقى مع الله القدوس، فالصلاة هى حديث القلب، الذى لن يكون موضوع سرور الله القدوس ما لم يكن طاهراً ونقياً.

يفتتح أفراهاط مقاله، قائلاً: [نقاوة القلب تبعث صلاة أقوى من كل الصلوات التى تُتلَى بصوتٍ عالٍ. فالصمت مع العقل الأصيل أفضل من الصوت العالى لمن يصرخ. أعطنى يا عزيزى الآن قلبك (أم23: 26) وفهمك، واسمع عن قوَّة الصلاة النقيَّة، وكيف أن آباءنا القدِّيسين اجتهدوا فى صلاتهم أمام الله، وكيف قدَّموها كتقدمة طاهرة (مل1: 11). فبالصلاة قُبِلَت التقدمات[182].].

2 - ما هى فاعلية الصلاة العقلية؟

أولاً: الصلاة عند القديس إكليمنضس السكندرى هى عنصر أساسى فى حياة الغنوسى (المُحِب للمعرفة الحقيقية)، الذى وإن التزم بصلوات السواعى، لكنه يليق به أن يدرك أن صلاته لا يحدّها زمن ولا تختصر على موضع مُعَيَّن. إنّما تكون حياته كلها صلاة. وهى فعالة وعاملة حتى وإن كانت ولا تختصر على موضع معين. إنما تكون حياته كلها صلاة[183]. وهى فعَّالة وعاملة حتى وإن كانت صامتة، أمّا موضوعها فهو الشكر الدائم لله والتشفُع عن الآخرين مُتشبِّهاً بالمُخَلِّص.

ثانياً: يعلن الله عن قبولها بإرسال ملاك على شكل نار تلتهم الذبيحة المُقدَّمة بصلوات عقلية وقلوب نقية من أناس الله الأبرار ولا تقترب من تقدمات الأشرار.

نذكر ما ورد فى مقال القديس أفراهاط على سبيل المثال:

أ - تقدمتا هابيل وقايين: [أول كل شيء قبل الله تقدمة هابيل بسبب نقاوة قلبه، ورُفِضَت تقدمة قايين (تك4: 4). كيف نعرف أن تقدمة هابيل قُبِلَت، بينما رُفِضَت تقدمة قايين؟... عندما قدَّم هابيل وقايين تقدماتهما معاً، نزلت النار الحيَّة التى تخدم أمام الله (مز104: 4) والتهمت ذبيحة هابيل النقيَّة، بينما لم تمسّ ذبيحة قايين غير النقيَّة. وهكذا عرف هابيل قبول تقدمته، وقايين رفض تقدمته. لقد عُرِفَت ثمار قلب قايين بعد ذلك حين أُختبر ووجد أن قلبه مملوء غشاً، حين قتل شقيقة، وهكذا فما حبل به فى فكره ولدته يداه. ولكن نقاوة قلب هابيل كانت أساس صلاته[184].].

ب - إبراهيم: [عندما أَكَّد الله له وعده بأنه سيُولَد له ابن، قال له الله: "خذ لى عجلة وعنزة وكبشاً عمر كل منها ثلاث سنوات ويمامة وحمامة" (راجع تك15: 9). وعندما قدَّم الذبيحة قطعها إلى أجزاء، ورصَّها شق كل واحدٍ مقابل صاحبهٍ. وقع عليه سبات وظلام، ونزلت نار ومرَّت على الأجزاء والتهمت تقدمة إبراهيم (تك15: 17)]. (مقال4: 3) [اسمع عن هذه الصلاة الطاهرة، وما تحمله من قوةٍ واضحة فيها. عندما صلَّى إبراهيم أعاد الذين أسرهم الملوك الخمسة (تك14: 16). كذلك صلاته جعلت العاقر تلد (تك21: 2). وأيضاً بقوَّة صلاته استحق الوعد بأن من نسله تتبارك كل الأمم (تك22: 18). واسحق أيضاً أوضح قوَّة الصلاة عندما صلَّى لأجل رفقة فأنجبت أولاداً (تك25: 21). وصلَّى من أجل أبيمالك، فأوقف الغضب الإلهى عنه (تك25: 21).] (مقال4: 4).

ج - منوح والد شمشون. [قدَّم تقدمة، فنزلت ناراً حيَّة والتهمت التقدمة، وكان داخل اللهب، الملاك الذى تكلم معه وهو صاعد إلى السماء (قض13: 20).] (مقال4: 3).

د - ناداب وأبيهو ابنا هارون. [عندما قدَّما التقدمة باحتقار، نزلت النار كالمعتاد... لكنها لم تلمس التقدمة، لأن التقدمة لم تُقدَّم بنقاوة. وعندما رأيا أن النار لم تلمس التقدمة أحضرا ناراً من الخارج كى تلتهم التقدمة، حتى لا يتعرَّضا للومٍ من موسى عندما يسألهم لماذا لم تلتهم النار تقدمتهما. النار التى أتيا بها من الخارج فعلاً التهمت التقدمة، لكن ناراً من السماء نزلت والتهمت ناداب وأبيهو. وبذلك حُفظت قداسة الرب من أولئك الذين احتقروا خدمته (لا10: 2).] (مقال 4: 3).

ﮪ - المائتان وخمسون الذين انشقوا على موسى. قدَّموا بخوراً بدون تصريح، أُمِرَت النار أن تنزل من حضرة الرب، والتهمت المنشقَّين فبادوا (عد16: 31 - 33). (مقال4: 3).

و - صلوات موسى بقلبٍ نقىٍ!

[بصلاته أُنقذ من أيدى فرعون.

وتراءى الله له فى الشاكيناه[185] (المسكن خر40: 34 - 38).

بصلاته أتت العشرة ضربات على فرعون (خر7 - 11).

بصلاته أنشق البحر (خر14: 21).

بصلاته صار الماء المُرّ ماءً عذباً (خر15: 25).

بصلاته نزل المن، وأعطيت السلوى (خر16 - 17).

بصلاته انشقَّت الصخرة وخرج منها الماء (خر17: 8 - 13)،.

هزمت عماليق، وأعطت قوَّة ليشوع (عد21: 21 - 35).

اقتلعت عوج وسيحون فى الحرب (عد16: 31).

أنزلت الأشرار إلى الهاويَّة (عد16: 47 - 50).

رفعت غضب الله عن شعبه، وسحقت عجل الخطيَّة (خر32: 20).

جلبت لوحي الحجر من الجبل، وجعلت وجه موسى يلمع (خر34: 29).] (مقال4: 7).

ز - يونان وقلبه النقى. [صلَّى يونان أمام إلهه من أعماق البحر، وسمعه الله (يون2)، واستجاب صلاته، وأُنقِذ بدون أيَّة أذيَّة. اخترقت صلاته الأعماق، وهزمت الأمواج، وكانت أقوى من العاصفة. لقد أخترقت الغيوم، وطارت فى الهواء (سيراخ35: 17)، فتَحت السماوات وقربت من عرش العظمة بواسطة جبرائيل الذى يقدِّم الصلاة أمام الله. نتيجة لذلك قذفت الأعماق النبى، وأوصل الحوت يونان بأمان على البر.] (مقال4: 8).

ح - حزقيا. [حزقيا أيضاً صلَّى وبصلاته تغلَّب على 185000 رجلاً حيث عمل الملاك كقائدٍ لجيشه (2مل19: 15، 35).] (مقال4: 6).

ط – الثلاثة فتية أصحاب القلوب النقية. [فى حالة حنانيا وعزاريا وميصائيل، هزمت صلواتهم اللهيب، وخمدت قوَّة النيران، وغيَّرت من طبيعتها الحارقة. لقد أطفأت حنق الملك، وأنقذت الرجال الأبرار (دا3).] (مقال4: 8).

ى - صلاة دانيال النقى القلب. [عندما صلَّى دانيال أيضاً سُدَّت أفواه الأسود (دا6)، لقد انسدَّت الأفواه المفترسة أمام لحم وعظام إنسانٍ. لقد بسطت الأسود مخالبها، وتلقفت دانيال حتى لا يسقط على الأرض، احتضنته بين ذراعيها، وقبَّلت قدميه. وعندما وقف دانيال فى الجب لكى يصلِّى رفع يديه إلى السماء وعلى مثال دانيال تبعته الأسود وقلَّدته. ذاك الذى تقبَّل صلاته. نزل وسدَّ أفواه الأسود. وذلك لأن دانيال قال لداريوس: "إلهى أرسل ملاكه، وسدَّ أفواه الأسود، فلم تضرُّني" (دا6: 22). وبالرغم من أن الجب كان مغطَّى ومختوم إلاَّ أن النور أشرق داخله، وسُرَّت الأسود عندما رأت النور الذى ظهر لأجل دانيال. وعندما غلب النوم دانيال وأراد أن ينعس ركعت الأسود حتى يمكنه أن ينام فوقها وليس على الأرض. لقد كان الجب أكثر استنارة من عُليَّة ذات نوافذ كثيرة. وفى الجب قدَّم صلوات كثيرة أكثر من عليَّته، حيث كان يصلِّي فقط ثلاث مرَّات فى اليوم (دا6: 10)، وعندما انتصر وفرح دانيال. وأُلقي الذين اتَّهموه فى الجب بدلاً منه، فانفتحت أفواه الأسود والتهمتهم وسحقت عظامهم. وبصلاة دانيال عاد المسبيِّون من بابل بعد سبعين سنة.] (مقال4: 9).

ثالثاً: الصلاة النقية والسماء المفتوحة. [عندما صلَّى أبونا يعقوب أيضاً فى بيت إيل رأى السماء قد انفتحت، وسُلَّم يصعد إلى أعلى (تك28: 2). هذا الذى رآه يصعد رمز مخلِّصنا، وباب السماء هو المسيح. هذا يطابق قول السيِّد المسيح: "أنا هو الباب، إن دخل بى أحد فيَخلُص" (يو10: 9). وقال داود أيضاً: "هذا هو باب الرب، والصدِّيقون يدخلون فيه" (مز118: 20). السُلَّم الذى رآه يعقوب هو رمز مخلِّصنا، الذى بواسطته يصعد الصدِّيقون من المملكة السفلى إلى المملكة العُليا. والسُلَّم أيضاً رمز صليب مُخلِّصنا الذى رُفِع مثل السُلَّم، والرب يقف فوقه... والآن دعا يعقوب المكان بيت إيل (تك28: 18)، وهناك أقام يعقوب عموداً من الحجر كشهادةٍ وصبَّ عليه الزيت.] (مقال4: 5).

رابعاً: الصلاة الصامتة بقلبٍ نقىٍ. [دعنا الآن نأتى إلى الصلاة الصامتة، صلاة حنَّة أم صموئيل. كيف صارت موضع سرور الله، وفَتحت رحمها العاقر، ونزعت عارها، وولدت نذيراً أو كاهناً (1صم1: 10 - 16).] (مقال4: 8).

3 - ما هى الصلاة الخفية (السرية) التى دعانا إليها السيد المسيح؟

يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [الصلاة هى ان تتكلم بعظم دالة، محاوراً الله. إن كنا بالهمس دون فتح الشفتين نتحدَّث فى صمتٍ، فإننا نصرخ من الداخل. الله يسمع على الدوام كل حديث داخلى[186].].

يقول القديس أفراهاط: [علمنا مخلِّصنا هذا النوع من الصلاة. يجب أن تُصلِّي سراً لذاك الذى هو فى الخفاء وهو يرى الكل، هكذا قال السيِّد المسيح: "ادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذى فى الخفاء، فأبوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية" (مت6: 6). أحبَّائى، لماذا يُعلِّمنا مخلِّصنا قائلاً: "صلِّ إلى أبيك فى الخفاء، والباب مغلق"؟... تعرِّفنا كلمات سيِّدنا أن تُصَلِّى بقلبك فى الخفاء، والباب مغلق، لكن ما هو الباب الذى يجب أن تغلقه؟ إن لم يكن هو فمك، لأنه هو الهيكل الذى يسكن فيه المسيحن كما قال الرسول: "اما تعلمون أنكم هيكل الله؟" (1كو3: 16)، فلكى يدخل الله إلى إنسانك الداخلى فى هذا المسكن، يجب أن يُنظَّف من كل شيء غير طاهرٍ، بينما يكون الباب، أى فمك، مغلقاً.

إن لم يكن هكذا، فكيف نفهم هذه العبارة؟ افترض أنك كنت فى الصحراء، حيث لا يوجد بيت ولا باب، كيف لا تستطيع أن تُصَلِّى فى الخفاء؟ وإذا حدث أنك كنت فوق قمَّة جبل كيف لا تقدر أن تُصَلِّى؟ أوضح مخلِّصنا كذلك كيف أن الله يعرف إرادة القلب والفكر، كما قال الرب: "أبوكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (مت6: 8).

وكما كُتِب أيضاً فى إشعياء النبى: "ويكون أنى قبلما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلَّمون أنا اسمع" (إش65: 24). مرَّة أخرى يقول إشعياء بخصوص الأشرار: "فحين تبسطون أيديكم، أستر عينيّ عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع" (إش1: 15). كما قال حزقيال النبى: "إن صرخوا فى أذنيّ بصوت عال لا أسمعهم" (حز8: 18). قال هذا عن الصلاة الغاشة غير المقبولة، اسمع كل كلمة بتمييز، وتمسَّك بمعناها.] (مقال4: 10).

ويقول الأب أنسيمُس الأورشليمى: [تشير الصلاة إلى حديث القلب السرى مع الله أو الاتصال به، ولو بلغة الصمت، فكثيراً ما يسمع الله ما نصرخ به فى قلوبنا ولا نستطيع أن تُعَبِّر عنه كلماتنا. ليس سلاح آخر أقوى من الصلاة. إذا كانت بنية صالحة يستمع إليها الله، وإذا ما قربها المصلى بأعمال صالحة فإنه يستجيب لها، وينصت إليها.].

4 - هل يكفى أن نصلى لله بقلوبنا أو أذهاننا فى الداخل، دون أن ننطق بكلمات من أفواهنا أو نرفع أيادينا أو نسجد لله؟

مع أهمية الصلاة الداخلية غير أن الله الذى خلق أجسادنا ونفوسنا يريدنا أن نتقدَّس فى الداخل كما بأعضائنا الجسدية.

5 - ما هى علامات نقاوة القلب؟

أولاً: المغفرة لمن أساء إلينا. يقول القديس أفراهاط: [يوجد بيننا أناس يُكَرِّرون الصلاة ويطيلون التضرُّعات ويضاعفون فى قامتهم، يرفعون أيديهم، ولكن عمل الصلاة الحقيقى بعيد عنهم، لأنهم يصلَّون الصلاة التى علَّمها لنا مخلِّصنا: "واغفر لنا ما علينا، كما نغفر نحن أيضاً لمن لنا عليهم"، ومع ذلك يفشلون فى حفظ هذا الأمر وتنفيذه. اعلم أيها المُصَلِّى وتذكَّر أنه عندما تُصَلِّي، تقدِّم تقدمة للرب.

لا تدع الملاك جبرائيل الذى يرفع الصلوات يخجل من أن يرفع تقدمة بها عيب. عندما تصلِّى كى يغفر لك الله لابد أن تغفر أنت أيضاً أولاً فى داخلك، هل حقاً أنت تغفر أم أنك فقط باللسان تصلِّى أنك تغفر؟... يجب ألا تكون مُخادِعاً للرب وتقول "أنا أغفر" وأنت عملياً لا تغفر، لأن الله ليس مثلك بشر يمكن أن تخدعه. "إذا أخطأ إنسان إلى إنسان يدينه الله. فإن أخطأت إلى الرب، فمن يصلِّى من أجلك؟" (1صم2: 25) استمع مرَّة أخرى لما يقوله الرب: "إن قدَّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك فأترك هناك قربانك قدَّام المذبح، وإذهب اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقَدِّم قربانك" (مت5: 23 - 24).

عندما تبدأ صلاتك لا تعود تتذكَّر أى غضب أو حنق ضد أخيك. فإن وُجِد، تذكَّر أن صلاتك متروكة أمام المذبح وأن جبرائيل الذى يرفع الصلوات لا يريد أن يرفع الصلاة من الأرض، إذ فحص الصلاة ووجد عيب فى تقدمتك. ولكن عندما تكون نقيَّة يرفعها أمام الله. إن وجد فى صلاتك الكلمات: "إغفر لى، وأنا أغفر للآخرين" عندئذ يقول جبرائيل رافع الصلوات: "أولاً أعفو عن المدينين لك، وأنا أرفع صلاتك إلى الذى أنت مدين له".

سامح المدينين لك بمائة وزنة "(مت18: 23 - 25) فى حالتك الفقيرة، فيعفو عنك دائنك بالمقابل بمقدار عشرة آلاف وزنة حسب غِنّى عظمته. فلا يسألك عن ردّ الدين أو الفوائد. وإذا رغبت فى الغفران للآخرين، حينئذ يستقبل جبرائيل رافع الصلوات تقدَّمتك ويرفعها إلى أعلى. وإن لم تغفر حينئذ يقول لك:" إننى سوف لا أضع تقدمتك غير الطاهرة أمام المذبح المقدَّس ". وبدلاً من ذلك خذ تقدمتك معك، وعندئذ يترك جبرائيل تقدَّمتك ويذهب. إسمع ما يقوله النبى:" ملعون الماكر الذى يوجد فى قطيعه ذكر وينذر ويذبح للسيد عائباً "(مل1: 14). لأنه يقول أيضاً:" قَرِّبه لواليك أفيرضى عليك أو يرفع وجهك؟ "(مل1: 8) لذلك يجب أن تعفو عن مدينيك قبل صلاتك، وبعد ذلك فقط صلِّ، وحين تصلِّي ترتفع صلاتك أعلى أمام الله، ولا تبقى على الأرض.] (مقال4: 13).

ثانياً: أَرِح المُتعَبين، لأن راحة الله فى إراحة المتعبين. يقول القديس أفراهاط: [الآن يقول بالنبى: "هذه هى راحتى، أعطوا راحة المتعبين" (إش28: 12LXX). هذه راحة الرب. آه أيها الإنسان سوف لا تحتاج إلى القول: "اِغفر لى"، أعطِ راحة للمتعبين، افتقد المرضى، وأعطِ الفقراء، فإن هذه الأعمال هى حقيقة صلاة. إنه فى كل مرَّة تمارس راحة الرب هى صلاة. لأنه مكتوب أنه عندما زنا زمري مع المرأة المديانيَّة كزبي بنت صور، فلما رأى ذلك فينحاس بن ألعازار دخل وراء الرجل الإسرائيلى إلى القبَّة وطعن كليهما، الرجل الإسرائيلى والمرأة (عد25: 6 - 8). هذا القتل اُعتبر كصلاة، لأن داود قال فى المزمور: "فوقف فينحاس وصلى فامتنع الوباء، فحُسِب له براً إلى دورٍ فدورٍ إلى الآن" (مز106: 30 - 31)، لأنه قتلهما كان لأجل الرب اعتبر ذلك كصلاة له.

انتبهوا يا أحبَّائى لئلا عندما تحين لك الفرصة "لإعطاء راحة" حسب إرادة الله تقول: إن وقت الصلاة قد حلَّ، أقوم الان بالصلاة ثم بعد ذلك أمارِس الأعمال، وبينما أنت تقبل إلى إتمام صلاتك تكون الفرصة التى يمكنك فيها ممارسة "أعمال الراحة" قد وَلَّت منك، وسوف تعجز عن عمل الوصيَّة وعمل "راحة الرب". وسوف تكون من خلال صلاتك قد ارتكبت خطيَّة كان بالأحرى أن تعمل "راحة الرب" فتُحسَب صلاة.] (مقال4: 14).

ثالثاً: الاشتياق للصلاة بجدية. يقول القديس أفراهاط: [يلزم أن تشتاقوا إلى الصلاة ولا تكلَّوا منها. كما قال ربنا وهو مكتوب: "إنه ينبغى أن يُصلَّى كل حين ولا يُمَل" (لو18: 1)، يجب أن تتُوقوا إلى السهر، وانزعوا عنكم الغفلة والنوم. يجب أن تكونوا مستيقظين فى كل وقت بالنهار والليل ولا تفتروا.] (مقال4: 16).

رابعاً: طهارة القلب لا طهارة اليدين. يقول العلامة ترتليان: [لا تعنى الطهارة الغسل بالماء وإنما بالتوبة ليعمل الروح القدس فينا لنقاوة قلبنا أو إنساننا كله، الداخلى والخارجى. يقول العلامة ترتليان: [ما الداعى للذهاب للصلاة بأيدٍ مغتسلة حقاً بينما الروح مُتَّسِخة؟! يلزم رفع أيادى روحية طاهرة، نقية من الباطل والإجرام والقسوة والسموم وعبادة الأوثان وغير ذلك من الأمور المخجلة... هذه هى الطهارة الحقيقية[187].] كما يقول: [بعدما اغتسل الجسد كله، أى تطهر فى المعمودية، صارت الحاجة إلى التطهير بالتوبة المستمرة عما يلحق بأيدينا من دنس[188].].

ويقول العلامة أوريجينوس: [عندما يرفع أحد عينيه يليق به أن يرفعهما نحو السماء بطريقة لائقة، ويرفع أيضاً يدين مقدستين، خاصة عندما يُقَدِّم الصلوات بلا غضبٍ ولا جدال (1تى2: 8). فإنه عندما ترتفع العينان خلال التفكير والتأمل، واليدان ترتفعان خلال الأعمال، ترتفع النفس وتتمجَّد. وذلك مثل موسى الذى رفع يديه (خر17: 11)، ويقول الشخص: "ليكن رفع يدى كذبيحة مسائية" (مز140: 2)، فينهزم عماليق، وكل الأعداء غير المنظورين، وتنتصر الأفكار الإسرائيلية التى فينا[189].].

خامساً: اقتناء مفاهيم الحق. يقول العلامة أوريجينوس: [النفوس التى بقيت مجدبة (عقيمة كحنة أم صموئيل) إلى زمان طويل، إذ تدرك عقم عقلها وجدب فكرها تحبل بالروح القدس، وتلد كلمات خلاصية مملوءة بمفاهيم الحق، وذلك بالمثابرة بالصلاة[190].].

6 - لماذا يُشَدِّد القديس باسيليوس الكبير على الصلاة العقليّة خاصة مع الرهبان؟

يُشَدِّد القديس باسيليوس الكبير بالأكثر على الصلاة العقليّة. يريد أن يصل بالراهب إلى رؤية الله، وإلى الوحدة معه. حينئذ تصبح حياة الراهب رغم ما يتخللها من العمل والشغل مُظلَّلة بروح الله، يرف عليها فى كل دقيقة وساعة، وحينئذ تصبح الصلاة هواء يستنشقه، وطعاماً يُغَذِّيه ويحييه.

يقول الأب ثيوفان الناسك: [أذكر أن القدِّيس باسيليوس الكبير قد أجاب على السؤال: كيف استطاع الرسل أن يُصَلُّوا بلا انقطاعٍ؟ قائلاً إنهم فى كل شيءٍ كانوا يفعلونه يُفَكِّرون فى الله، عائشين فى تكريسٍ دائم لله. بهذا الحال الروحى كانت صلاتهم التى بلا انقطاع[191].].

7 - ما هى الصلاة العقلية؟

يقول القديس باسيليوس الكبير: [انفصال النفس عن الضوضاء الخارجية يُضفى على مذبح القلب هدوءاً خفياً، فيهب ذاته لتأمل الحق. إذا استمعت لمن يقر بخطيئته تجده يقول: "ساخت من الغضب عينى" (مز6: 7). وليس الغضب فقط بل والرغبات الشريرة والمجد الباطل والغيرة التى تظلم عين القلب، وبصفة عامة جميع الشهوات تظلم النفس... فالعين المتعبة لا تستطيع أن ترى بوضوح. كذلك القلب الهائج لا يمكن أن يتأمل فى الحق. ينبغى إذن الابتعاد عن التركيز فى أعمال العالم، فنغلق القلب أمام كل فكر غريب[192].].

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [الصلاة الشفافة تجد طريقها لدى الله، فهى تتحدث إليه، تسمعه وتثق فيه.].

8 - ما هى صلاة المخدع فى قول السيد المسيح: "وأما أنت فمتى صليت فأدخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِ إلى أبيك الذى فى الخفاء فأبوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية (مت6: 6)؟

فهم أفراهاط Aboot Aphrahat "المخدع" هنا مثل العلامة أوريجينوس[193]، وهو أن مكان الصلاة يجب أن يكون فى الداخل، أى فى قلب الإنسان. هذا المفهوم نقابله مرة أخرى مع مار أفرآم فى "أناشيد عن الإيمان[194]".

يقول القديس أفراهاط: [تبعث نقاوة القلب صلاة أقوى من كل الصلوات التى تُتلَى بصوتٍ عالٍ. فالصمت مع العقل الأصيل أفضل من الصوت العالى لمن يصرخ. أعطنى يا عزيزى الآن قلبك وفهمك واسمع عن قوَّة الصلاة النقيَّة، وكيف أن آباءنا القدِّيسين اجتهدوا فى صلاتهم أمام الله وكيف قدَّموها كتقدمة طاهرة (مل1: 11). فبالصلاة قُبِلَت التقدمات.

الصلاة هى التى نجَّت نوح من الطوفان. الصلاة تكسي عريناً. الصلاة تهزم الجيوش. الصلاة تعلن الأسرار. الصلاة تشقَّ البحر. الصلاة شقَّت طريقاً عبر الأردن. الصلاة أوقفت الشمس فلم تغرب. الصلاة جعلت القمر يقف. الصلاة حطَّمت الخطيَّة. الصلاة اطفأت النار. الصلاة أغلقت السماء. الصلاة رفعت من الحفرة وأنقذت من النار والبحر. قوَّة الصلاة عظيمة جداً مثل قوَّة الصوم النقى. وكما شرحت وقلت لكم فى المقال السابق عن الصوم لا أمل عن أن أتكلَّم معكم هنا عن الصلاة[195].

9 - ما هى الصلاة الدائمة التى بلا انقطاع؟

تتحقق استمرارية الصلاة بالتدريب على الوجود فى حضرة الله. يقول القديس باسيليوس إنه يمكن للراهب بصلواته وتأملاته الدائمة [أن يتمثَّل وهو على الأرض بطغمات الملائكة[196].] كما يقول: [إذ نكون متأكدين تماماً أن الله هو أمام أعيننا. فإننا إن رأينا أميراً أو حاكماً وندخل فى حوار معه نحفظ أعيننا ثابتة عليه، كم بالأكثر يكون ذاك الذى يُصَلِّى حافظاً ذهنه ثابتاً على الله فاحص القلوب والكلى. وبذلك يُحَقِّق الكتاب المقدس: "رافعين أيادى طاهرة بدون غضبٍ ولا جدالٍ" (1تى2: 8) [197].].

[أقول إنه يلزمنا ألا نظن أن صلاتنا تتكوَّن فقط من مقاطع (كلامية)، بل تكمن قوة الصلاة بالحري فى غاية نفوسنا، وفى عمل الفضيلة التى لها تأثيرها على كل جزءٍ وفى كل لحظةٍ من لحظات حياتنا. يُقَال: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً، فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1كو10: 31). إذ تاخذ مكانك على المائدة صلِّ، وإذ ترفع الخبز قدِّم شكراً للواهب. عندما تسند ضعف جسمك بخمرٍ، تذكَّر الذى يهبك هذه العطية، لكى يفرح قلبك ويهب راحة لضعفك. هل عبر عنك احتياجك إلى الطعام؟ لا تسمح للتفكير فى الرحيم واهب الخيرات أن يعبر عنك أيضاً. إذ ترتدى ثوبك، اشكر ذاك الذى وهبك إياه. إذ تطوّق ثوبك حولك، لتشعر بحُبِّك العظيم لله، الذى يهبنا الملابس المناسبة لنا شتاءً وصيفاً، لكى تغطى ما هو غير لائق وتحفظ حياتنا.

هل عبر اليوم؟ اشكر ذاك الذى قدَّم لنا الشمس لخدمة عملنا النهارى، ويهبنا ناراً (الاضاءة) لكى تنير الليل، وتخدم احتياجاتنا الأخرى فى الحياة. ليت الليل أيضاً يوحي لنا بما يدفعنا للصلاة.

عندما تتطلَّع إلى السماء وترى جمال النجوم، صلِ إلى رب كل الأشياء المنظورة، خالق المسكونة الذى بحكمة صنع الكل (مز24: 104).

وعندما ترى كل الطبيعة تغُط فى النوم، مرة أخرى اسجد لذاك الذى حتى بغير إرادتنا يعتقنا من ضغط العمل المستمر، وبفترة راحة صغيرة يردّنا مرة أخرى إلى نشاط قوتنا.

لا تسمح لليل بأكمله أن يكون للنوم، لا تسمح لنصف عمرك أن ينقضى بلا فائدة فى نومٍ ببلادة وسباتٍ. بل قسم وقت الليل بين النوم والصلاة. وليكن نومك الخفيف ذاته تداريب للتقوى. فإن أحلامنا أثناء النوم غالباً ما تكون انعكاسات لأفكارنا فى النهار[198].

كما يكون عليه سلوكنا وسعينا هكذا تلتزم أحلامنا، بهذا تصلى بلا انقطاع، ليس بكلمات بل بكل سلوك حياتنا، هكذا تتَّحد بالله فتصير حياتك صلاة ممتدة لا تنقطع[199].].

كما يقول: [هل بقوله: صلوا بلا انقطاع (1تس5: 17) يعنى أننا نحنى ركبنا ونطرح أجسادنا أو نبسط أيدينا بلا انقطاعٍ؟ لو كانت الصلاة تعنى هذا فإننى أظن أننا لا نقدر على الصلاة بلا انقطاع. وإنما يوجد نوع آخر داخلى للصلاة بلا انقطاع، وهى رغبة القلب إلى أمر يعمله... فإن كنت مشتاقاً إلى السبت (الراحة الأبدية) فأنت لا تكف عن الصلاة. إن أردت ألاَّ تمتنع عن الصلاة، فلا تكف عن الشوق إليها، فإن استمرار الاشتياق إنما هو استمرار للصلاة[200].].

يقول القديس أمبروسيوس: [الآن إذ يعبر نور النهار، ومعه كل نعمتك وحبك، نصلى إليك يا خالق العالم، كى تحرس سريرنا فى الأعالى. لتهرب أحلامنا ولتطر تخيلاتنا، احفظنا من كل نتاج الليل، فتكون كمقادس تحت عينيك، طاهرة بالرغم من حقد عدونا.].

كما يقول: [صلاة القديس تخترق السحاب (سيراخ 35: 17)، أما الأرض فتفتح فاها، وتخفى صلاة الخاطى فى دم الجسد، كما قال الله لقايين القاتل: "ملعون أنت من الأرض التى فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك"، مادمت أنت أرضاً "(راجع تك4: 11) [201].].

يقول القديس جيروم: [ "صلوا بلا انقطاع" (1تس5: 17)... كان العبرانيون مُطالَبين أن يظهروا أمام الرب ثلاث مرات فى السنة (خر23: 17)... إذ كان الكتاب المقدس يتحدث فى سفر الخروج إلى أناس صغار (فى القامة الروحية)، أما هنا فيحث النبى (الرسول) المؤمنين بالله أن يطلبوه على الدوام، إذ يأمرنا العهد الجديد بالصلاة بلا انقطاعٍ[202].].

يقول القديس جيروم: [عندما نترك السقف الذى يحمينا (أى بيتنا) لتكن الصلاة هى سلاحنا، وعندما نعود من الشارع يلزمنا أن نُصَلِّى قبل أن نجلس، ولا نعطى للجسد الواهن راحة حتى تقتات النفس.] كما يقول: [يلزم ألا نبدأ وجبة ما بدون صلاة، وقبل أن نترك المائدة نُقَدِّم التشكرات للخالق.].

ويقول القدِّيس كيرلس الكبير: [كتب بولس إلى أهل تسالونيكى: "صلوا بلا انقطاع" (1تس5: 17). وفى رسائل أخرى يوصي: "مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت فى الروح" (أف6: 18)، "واظبوا على الصلاة ساهرين فيها" (كو4: 2)، "مواظبين على الصلاة" (رو12: 12). وأيضاً يعلمنا المُخَلِّص عن الحاجة إلى الصلاة الدائمة بمثابرة خلال مثل المرأة التى بلجاجتها غلبت القاضى الظالم بسؤالها المستمر (لو18: 1 - 8). من هذا كله يتضح أن الصلاة الدائمة ليست أمراً عارضاً بل سمة أساسية للروح المسيحى – بحسب الرسول – مختفية فى الله بالمسيح (كو3: 3)، لذا وجب على المسيحى أن يعيش فى الله على الدوام بكل فكره ومشاعره؛ وإذ يفعل هذا إنما يصلى بلا انقطاعٍ! لقد تعلمنا أيضاً أن كل مسيحى هو "هيكل الله" فيه "يسكن روح الله" (1كو3: 16؛ رو8: 9). هذا الروح دائماً حال فيه، ويشفع فيه، مصلياً فى داخله "بأنات لا يُنطَق بها" (رو8: 26)، وهكذا يعلمه كيف يصلى بلا انقطاع.].

يحدثنا القديس أوغريس عن الصلاة بلا انقطاع، قائلاً: [لم نأخذ وصية ان نعمل ونسهر ونصوم بلا انقطاع، لكننا أُعطينا وصية أن نُصَلِّي بلا انقطاعٍ. لأن المجهودات الأولى التى تهدف إلى شفاء الجزء الشهوانى من النفس تحتاج إلى الجسد لتنفيذها، والجسد لا يقدر أن يعمل باستمرار ولا أن يكون فى حرمان (من النوم أو الأكل) على الدوام. أما الصلاة فتُنّقِّي العقل وتُقَّوِّيه فى الحرب، لأنه خُلِق ليصلى حتى بدون الجسد، ويحارب الشياطين لأجل حماية كل قوى النفس.].

[صلِّ بلا انقطاع وتذكَّر المسيح الذى ولدك ثانية!].

[إن كنت وأنت بعد فى الجسد لك رغبة أن تخدم الله مثل الروحانيين (الملائكة)، فجاهد أن يكون لك فى قلبك صلاة سرية بلا انقطاع، فإنك بهذا تقترب من أن تتشبَّه بالملائكة قبل أن تموت.].

[مع كل نفس تستنشقه اذكر اسم يسوع مبتهلاً، مع تذكُّر الموت وأنت متواضع. هذان التدريبان كفيلان بتقديم نفع عظيم للنفس.].

كما يقول: [كما أن جسدنا عندما تفارقه النفس يصير ميتاً ومملوءً نتناً، هكذا النفس التى بلا صلاة حارة تصير ميتة ومملوءة نتانة. حرمان النفس من الصلاة أَشرّ من الموت. وقد أوضح ذلك دانيال النبى الذى كان مستعداً أن يموت ولا يُحرَم من الصلاة فى أى وقت. ينبغى على الإنسان أن يتذكَّر الله، أكثر مما يتنسم الهواء ويستنشقه.].

10 - ما هو ارتباط الصلاة الدائمة بالحياة الفاضلة؟

يقول القديس يوحنا كاسيان: [يوجد نوع من الوحدة المشتركة غير المنفصلة بين الاثنين (أى الصلاة الدائمة والفضائل). فكمال الصلاة هو تاج بنيان كل الفضائل، فإذا لم تتحد كل فضيلة اتحاداً مُحكَمّاً بالصلاة بكونها تاجها، لا يكون لها قوة وثباتاً. ودوام الهدوء فى الصلاة وثباته لا يمكن أن يكون أكيداً وكاملاً ما لم تسندها الفضائل، ولا يمكن اقتناء الفضائل التى تضع أساساتها اقتناء كاملاً ما لم تثبت فى الصلاة[203].].

ويقول الأب اسحق: [لا نقدر أن نُنَقِّذ هذه الوصية (الصلاة بلا انقطاع) ما لم يتنقَ عقلنا من كل وصمات الخطية إلى الفضيلة حتى يكون صلاحه طبيعياً، ويتغذَّى على التأمل المستمر فى الإله القدير[204].].

وبَّخ الأب هيسيخيوس الأورشليمى بلدد صديق أيوب لأنه طلب من أيوب: "بكر فى الصلاة إلى الرب القدير". لقد قال الأب: [ألم يكن (أيوب) خلال كل حياته دائماً يصلى؟... إنه ليس فقط لم يتوقَّف عن الصلاة مبكراً للرب، بل كان يُقَدِّمها مبكراً (1: 5) وخلال النهار وفى كل لحظة، يُسَبِّح الله سبع مرات فى اليوم (مز119: 37، 164) نهاراً وليلاً، فإن هذا بالنسبة له لم يكن غباوة. نهاية تجاربه تظهر هذا، نتيجة صراعاته (أبرزت أنه رجل صلاة).].

11 - لماذا يدعونا الرسول إلى الصلاة بلا انقطاعٍ؟

يقول القديس مرقس الناسك: [صلِّ إلى الله حتى يفتح قلبك فتُعايِن مدى نفع الصلاة والقراءة وتفهم ذلك بالاختبار العملى لهما.].

[يرغب الطوباوى بولس ألا نهمل الصلاة بأى حال من الأحوال، لهذا يقول "صلوا بلا انقطاع" (1تس5: 17). علاوة على هذا فإنه يشير إلى ضبط الفكر (فى الصلاة) فيقول "لا تشاكلوا هذا الدهر. بل تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هى إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" (رو12: 2)... يُوَجِّهنا الرسول بولس إلى كمال إرادة الله، مشتاقاً أن نهرب إلى التمام من الدينونة، وإذ يعلم الصلاة هى المعين على تنفيذ كل الوصايا، لهذا لا يكف عن أن يوصى بها بكل الطرق قائلاً: "مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت فى الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة" (أف6: 18).].

كما يقول: [ليتنا نبدأ بعمل الصلاة، فإننا شيئاً فشيئاً لا نجد فقط الرجاء بالله بل وننال الإيمان الثابت والحب الخالص، كما نطرد الحقد، وننال محبة الإخوة وضبط النفس، والاحتمال، والمعرفة الداخلية، ونتخلَّص من التجارب، وننال عطايا النعمة والعمل الخالص للإيمان والدموع الحارة... كلها ينالها المؤمنون بالصلاة. وليس فقط هذه العطايا، بل (وينالون بالصلاة أيضاً) احتمال الآلام والحب الخالص للقريب، معرفة الشريعة الروحية... وكل ما وعد به الله للمؤمنين فى هذه الحياة أو الحياة الأخرى. وباختصار، يستحيل على الإنسان أن يستعبد صورة الله بدون عمل النعمة الإلهية والإيمان، وهما يمنحان للإنسان الذى يبقى بتواضع عظيم فى الصلاة بدون تشتيت (عقله).].

[من يفهم القول السري للطوباوى بولس: "فإن مصارعتنا... مع أجناد الشر الروحية" (أف6: 12)، يفهم أيضاً مثل الرب الذى انتهى بقوله: "ينبغى أن يُصلى كل حين ولا يُمل" (لو18: 1).].

12 - هل الصلاة بلا انقطاع تُبَرِّر إهمالنا فى العمل؟

يقول القديس مرقس الناسك: [من يرغب فى البلوغ "إلى قياس قامة ملء المسيح" (أف4: 13)، يلزمه ألا يُفَضِّل شيئاً من الأعمال عن الصلاة، مع قيامه بالأعمال الأخرى دون أن يكون فى عوز... فيلزمه ألا يمتنع عن القيام بالعمل الخاص بالضروريات والذى ألزمته الشريعة الإلهية، تحت ادِّعاء أنه يريد التفرُّغ للصلاة. فيجب عليه أن يُمَيِّز بين الصلاة والعمل، مطيعاً الشريعة الإلهية من غير تساءل (أى منفذاً الاثنين معاً).].

13 - كيف نعالج تشتيت الفكر أثناء الصلاة؟

أولاً: الالتصاق بالرب. يقول القدِّيس مار اسحق السريانى: [اجلس فى حضرة الرب كل لحظة من لحظات حياتك، حيث تفكر فيه، وتذكره فى قلبك، وإلاَّ فإنك حين تراه بعد فترة من الزمن، تُحرَم من حرية الحوار معه بسبب الخجل، فإن الحرية العظيمة للحوار تتولَّد من الالتصاق به.

الالتصاق الدائم مع الكائنات المرافقة تشغل الجسد، أما مع الله فتشغل تأمل النفس وتقديم الصلوات... "قلب الذين يطلبون الرب يتهلل".

اطلبوا الرب أيها الخطاة، وتقوّوا فى أفكاركم بالرجاء.

اطلبوا وجهه بالتوبة فى كل الأزمنة، فتتقدَّسون بقداسة وجهه.

اجروا نحو الرب يا أيها الأشرار، فإنه يغفر الشر وينزع الخطايا[205].].

ثانياً: الصلاة بروح الرجاء. يقول القدِّيس أغسطينوس: [تذكر أن الله لطيف ورقيق ويحتمل تشتيتنا (فى الصلاة)، وينتظر أن يهبنا أن نصلى بطريقة كاملة. عندما يهبنا تلك الصلاة يقبلها منا، ولا يذكر كيف كنا نصلى قبلاً بطريقة خاطئة. إن كنت أمام قاضٍ وفى أثناء حديثك بدأت تهمس مع صديق، ماذا يحدث؟ مع ذلك فإن الله يرفعنا بالصلوات التى تقتحمها أفكار أخرى. عندما تقرأ يتحدث هو معك، وعندما تصلى تتحدث أنت معه. إن كان الأمر هكذا هل نيأس يا إخوة، ظانين أن العقوبة تنتظر من يجول فكره مشتتاً أثناء صلاته؟ لا، لنقل: "فرِّح نفس عبدك، فإنى إليك أرفع نفسى!" (مز86: 4) كيف أرفعها؟ قدر ما أستطيع حسب القوة التى تهبنى إياها؛ قدر ما اضبط أفكارى المشتتة. لأنك لطيف ورقيق لا تطردنى. قَوِّنى فاثبت، ولتحتملنى حتى أبلغ هذا[206].].

14 - ماذا تعنى أذن القلب؟

ماذا يقصد السيد المسيح بقوله: "من له أذنان للسمع فليسمع" (مت11: 15)؟ يُعَلِّق القدّيس جيروم على هذه العبارة هكذا: [يقول إشعياء "أعطانى الرب أُذُناً" (إش50: 4). لتفهم ماذا يقول؟ لقد أعطانى الرب أُذُناً، إذ تكون لى أُذُن القلب؛ وهبني الأذن التى تسمع رسالة الله، فما يسمعه النبى إنّما يسمعه فى قلبه. وذلك كما نصرخ نحن أيضاً فى قلوبنا قائلين: أيها الأب أباً، وهى صرخة صامتة، لكن الرب يسمع الصمت هكذا بنفس الكيفية يُحَدِّث الرب قولبنا التى تصرخ: "أيها الأب أباً" (رو8: 15).].

15 - ما هى خبرة الآباء الرهبان فى الصلوات فى الصلاة الخفية؟

نذكر هنا أمثلة مما ورد فى فردوس الآباء والكتابات الرهبانية:

[سأل أخّ شيخاً: "ما هى فلاحة النفس حتى تُثمِر؟" فأجابه قائلاً: "فلاحة النفس هى السكوت وضبط الهوى وتعب الجسد والصلاة الدائمة والامتناع عن معاينة زلات الناس بل يتذكَّر عيوبه وهفواته هو وحده. فمتى ثبت الإنسان فى هذه الفضائل لا تتأخَّر نفسه عن النجاح والنمو حتى تُثمر".].

[قال شيخ: "إن كان راهب حريصاً مُجاهِداً بالحقيقة، فإن الله يشاء ألاّ يكون مرتبطاً قط بشيءْ من متاع هذه الدنيا حتى لا إبرة صغيرة، لئلاّ يتشتت فكره عن ذكر ربنا يسوع المسيح وتشغله عن اللجاجة بالتوبة عن خطاياه".].

[قال شيخ: "اقتن السكوت بمعرفة. اهتم بالله ولا تهم بشيء أرضى، وافحص أمورك فى قيامك وفى جلوسك. استند على الله، ومن جهة المنافقين لا تفزع".

[قال أحد القديسين: "سَلَّم إلينا الآباء هذا الطريق: أن نعمل بأيدينا، ونلازم الصمت، ونبكى بسبب خطايانا".].

القديس يوحنا كاسيان الذى اهتم أن يُقَدِّم لنا صورة حية للرهبنة المصرية فى عصره ربط بين قراءة الكتاب المقدس والصلاة النارية، كل منهما يسند الآخر بعمل الروح القدس. نلاحظ أن العملين: "المؤسسات" و "المناظرات" يضمان اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس. لقد أوضح أن ملكوت الله هو الغاية النهائية للحياة الروحية، فإن قراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه يُحَقِّقان ذلك. لقد كَرَّس كاسيان المناظرتين 10، 9 والفصلين 3، 2 من "المؤسسات" للحديث عن الصلاة.

يقول إن صلوات السواعى إلزامية، وعمل الراهب هو أن يُحَوِّل تلاوة المزامير إلى صلوات شخصية تمسّ علاقته الخاصة بالله إلهه. وأيضاً فى دراسة الكتاب المقدس لا يقف الراهب عند القراءة أو التلاوة، بل يُحَوِّل النصوص إلى تأمل صادر عن أعماقه، فتصير كلمات الكتاب المقدس كأنها صادرة منه كصلاة شخصية[207].


[181] - يمكن الرجوع إلى ترجمة المقال إلى العربية التى قام بها الدكتور صفوت منير عام 2003 فى كتابنا "علم الباترولوجى: القديس أفراهاط الحكيم الفارسى، ص 36 - 38.".

[182] Demonstration 1: 4.

[183] Strom. 7: 4.

[184] Demonstration 2: 4.

[185] لم ترد هذه الكلمة فى الكتاب المقدس، لكن يستخدمها اليهود كما المسيحيون عن سكنى الله بين الكاروبين على غطاء تابوت العهد.

[186] Stromata 7: 7.

[187] On prayer 8.

[188] On prayer 8.

[189] Commentary on John, Book 36: 28 - 37.

[190] On Prayer 3: 13.

[191] Timothy Ware: The Art of Prayer, 1966, p 80 - 83.

[192] - تفسير المزمور 34 (33).

[193] On Prayer, 2: 20.

[194] Hymns on Faith, 6: 20.

[195] Demonstrations, 1: 4 (On Praer). ترجمة الدكتور صفوت منير.

[196] Epistle 2: 2.

[197] Reg. Brev. 201.

[198] Cf. Reg. Brev. 32.

[199] Hom. in Martyrem Julittam 3 - 4.

[200] On Ps. 13: 38.

[201] The Prayer of Job and David 8: 1: 27.

[202] On Ps. 31.

[203] - للمؤلف: مناظرات يوحنا كاسيان، ص210.

[204] - مناظرات كاسيان 9: 3.

[205] A. J. wensinck: Mystic Treatises by Isaac of Nineveh, 1923, p 50. – Dana Miller: The Ascetical Homilies of St. Isaac the Syrian, 1984, p. 48.

[206] On Ps 7: 85.

[207] Conference 10: 14.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

لا توجد نتائج

No items found

6- صلاة يسوع أو الصلاة السهمية - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

4- الصلاة النموذجية "أبانا الذى فى السماوات" (مت9:6-15؛ لو 2:11-4) - كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ4 – العبادة المسيحية أنطلاقة نحو السماء - القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات