الأصحاح الثاني – تفسير رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي – القمص أنطونيوس فكري

هذا الفصل هو جزء من كتاب: سفر رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي – القس أنطونيوس فكري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الإصحاح الثاني

الأعداد 1-7

الآيات (1 - 7): -

"1اُكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ أَفَسُسَ: «هذَا يَقُولُهُ الْمُمْسِكُ السَّبْعَةَ الْكَوَاكِبَ فِي يَمِينِهِ، الْمَاشِي فِي وَسَطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ: 2أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ الأَشْرَارَ، وَقَدْ جَرَّبْتَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ رُسُلٌ وَلَيْسُوا رُسُلاً، فَوَجَدْتَهُمْ كَاذِبِينَ. 3 وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ. 4لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ: أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى. 5فَاذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى، وَإِّلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا، إِنْ لَمْ تَتُبْ. 6 وَلكِنْ عِنْدَكَ هذَا: أَنَّكَ تُبْغِضُ أَعْمَالَ النُّقُولاَوِيِّينَ الَّتِي أُبْغِضُهَا أَنَا أَيْضًا. 7مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللهِ».".

  • كَنِيسَةِ أَفَسُسَ.
  • مشكلة هذه الكنيسة نقص المحبة = تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى (المحبوبة تركت محبتها الأولى).
  • الصورة التى ظهر بها المسيح لهذه الكنيسة = الْمُمْسِكُ السَّبْعَةَ الْكَوَاكِبَ فِي يَمِينِهِ كما تحمل الأم رضيعها فالمسيح يريد أن يقول... حتى وإن نقصت محبتكم لى فمحبتى لكم لن تنقص ولن تبطل، وهذا نوع رقيق من العتاب. الْمَاشِي وَسَطِ = كلمة ماشى تشير أنه لا يكف عن العمل ولا يكل من خدمة كنائسه (والأصح كنيسته) لذلك لا نخاف فهو دائماً يحملنا ودائماً يمشى وسط كنيسته، وكل هذا فى حب. وهذا الحب الذى نشعر به هو عربون ما سنحصل عليه فى السماء.
  • الوعد لمن يغلب = سَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ = أى أن المسيح يتحد به إتحاداً كاملاً، ويكون له سر حياة أبدية، والإتحاد هو تعبير عن الحب فى صورته الكاملة، إتحاد عريس بعروسه التى يحبها فيعطى لها نفسه. هو إتحاد بين محبة الله والنفس التى تحبه. ومن يتحد به الله يحيا، فكما أن الله محبة فهو أيضا حياة (يو11: 25). وهذا الوعد هو أيضا عتاب رقيق للنفس التى قلت محبتها، فهو يعنى إشتياق الله للإتحاد الأبدى بهذه النفس، وهذا الإتحاد لا يمكن أن يتم إلا بالمحبة، كأنها محبة تذوب فى محبة (راجع تفسير يو15: 9). وكأن المسيح يقول لهذا الملاك... كيف يتم هذا الإتحاد الذى أشتاق إليه ويتم هذا العرس الزيجى (رؤ1: 21 - 3) وأنت محبتك فاترة.

الوعد لمن يغلب

أى يثبت فى المحبة

.

والأكل يعنى الشبع. ونقص الحب يشير لعدم الشبع. فالمسيح يود لو أن كنيسته تفهم أنه هو وحده سر الشبع ووحده فيه الشبع. فالعالم ليس فيه شبع، بل من يشرب منه يعطش والقلب الفاتر فى محبته هو قلب جائع، لذلك يحتاج إلى الشبع من الرب شجرة الحياة. هذا يبدأ هنا على الأرض ولكنه يكمل فى السماء. فيبدأ الإنسان فى التلذذ بمعرفة الله هنا، وتكمل هذه اللذة فى السماء، فالحياة الأبدية هى معرفة الله (يو 3: 17).

والمحبة نوعان 1) أن أحب الله 2) أن أشعر بمحبة الله.

1) أن أحب الله: - ونلاحظ أن موسى يطلب منا بوحى من الروح القدس أن نحب الله من كل القلب والنفس والقوة (تث 4: 6) وهل يمكن لإنسان أن يطلب من إنسان آخر أن يحبه؟ بالقطع لا. فكرامته ستمنعه. ولكن الله فعلها وطلب منا أن نحبه فلماذا؟ نلاحظ أن الله خلق آدم فى جنة عدن، وكلمة عَدْنْ عبرية ومعناها فرح وإبتهاج. وهذا معناه أن آدم كان فى فرح حينما كان فى الجنة لماذا؟ لأن قلبه كان مملوءاً من محبة الله، فهو مخلوق على صورة الله والله محبة. وكما أن لذات الله فى بنى آدم (أم 31: 8) هكذا كانت لذات آدم فى الله. فالمحبة لله تسبب فرح حقيقى فى القلب. أما حينما سقط آدم فلقد تحولت شهوته للعالم ففقد فرحه، لذلك يطلب الله أن نحبه ليس لأنه يحتاج لمحبتنا، بل لكى نحيا فى فرح. كما نقول فى القداس الغريغورى "لست أنت المحتاج إلى عبوديتى بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك" ولذلك نجد أن تجديد خلقتنا يتم بالروح القدس الذى يسكب محبة الله فى قلوبنا (رو 5: 5) فنستعيد الحالة الفردوسية الأولى لذلك نجد ثمار الروح القدس، محبة وفرح.. هو الفرح الناشىء عن المحبة أما أى محبة غريبة للعالم وشهواته فهى تسبب حزناً وعبودية ومذلة، ومن يشرب من هذا الماء يعطش.

2) أن أشعر بمحبة الله: - كما قال بولس الرسول أن محبة المسيح تحصرنا (2 كو 14: 5) وكل من إكتشف محبة الله هذه سيشعر بالرضا عن كل شىء فى حياته. فمن أحبنى ومات لأجلى ومحبته تحصرنى، كيف لا يعطينى أفضل شىء. ولكن الله يعطى لأولاده أفضل شىء يقودهم لخلاص نفوسهم (رو8: 28، 32) + (1 كو 22: 3).

ما هى علامات المحبة لله.

  1. أن يغصب الإنسان نفسه على وصاياه فهذا علامة حب (يو 23: 14).
  2. عدم التذمر على أى شىء، فالتسليم علامة حب وثقة فى الله.
  3. محبة الإخوة حتى لو كانوا أعداء، فمحبة القريب علامة على محبة الله.
  4. الإشتياق: فالذى يحب الله يشتاق لله (مز 1: 63) + (مز 2: 84) + (مز 2، 1: 42) يشتاق للصلاة ودراسة الكتاب والقداسات والتسابيح والإجتماعات. العلاقة بينى وبين الله هى علاقة عروس وعريسها الذى تشتاق إليه.

مشكلة كنيسة أفسس أنه كان لهم علاقة حب قوية مع الله وحدث فتور لهذه العلاقة. وهذا يحزن قلب الله، فهو قد إعتاد على وقوفهم أمامه وعلى علاقة الحب التى ربطتهم به. ثم دخل الفتور وربما إنقطعت هذه العلاقة. هذا مثل إنسان عاش فترة من حياته فى صلوات وميطانيات وتناول وخدمة وتسبحة، ثم يدخل الفتور لحياة هذا الشخص وتنقطع الصلوات أو تقل ولا يعود يقف أمام الله. والله يحزن ويتساءل وأين محبة الماضى. ولاحظ عتاب الله الرقيق عِنْدِي عَلَيْكَ وكان هذا بعد أن مدحه أولاً.

وهناك بعض الدول يوجد بها إباحية جنسية والطعام متوفر فيها جداً. ولكن يوجد بها أعلى نسبة إنتحار وأعلى نسبة تردد على الأطباء النفسانيين مع أنهم لا ينقصهم شىء. والسبب أن الإنسان أشبع جسده ونفسه أى عواطفه، لكن هناك عنصر لم يشبع وهو الروح، وهذه لا يشبعها سوى الله. والعكس فإن أشبع الله الروح يشبع الجسد وتشبع العاطفة. ففى معجزة إشباع الجموع (مر2: 8) إستمر الناس مع المسيح 3 أيام دون أن يشعروا بالجوع.

يُحكى عن الأنبا أنطونيوس أنه كان يجلس مع تلاميذه ليجيب على أسئلتهم. ولاحظ أن أحد التلاميذ لا يسأله بل يحملق فى وجهه، ولما سأله الأنبا أنطونيوس "أليس لك سؤال يا إبنى" قال هذا التلميذ "يكفينى أن أنظر إلى وجهك يا أبى فأشبع". فإن كان وجه الأنبا أنطونيوس يُشبع هكذا فكم وكم وجه المسيح. وهذا يفسر بقاء الأباء السواح عشرات السنين دون طعام سوى بعض الأعشاب. وهذا ضد كل قوانين الغذاء التى نعرفها فمن تشبع روحه تشبع بطنه. والمسيح القادر أن يشبع البطون قادر أن يشبع النفوس أيضاً أى العواطف، وإلا كيف يعيش الرهبان والراهبات دون عواطف أسرية بشرية إن لم يشبعهم الله.

كثيراً ما يتوهم الشاب أو الفتاة أن إشباع حاجاتهم النفسية يكون عن طريق الإرتباطات العاطفية وأن هذه ستعطيهم السعادة، ولكنهم بذلك يهدرون أوقاتهم وعواطفهم فيما لا يفيد. ولنلاحظ أن فترة عدم الإرتباط هى فترة يجب فيها على الشاب أو الفتاة أن يكرسا فيها عواطفهم لله بالكامل فيعطيهم الله فرحاً لا ينزع منهم (يو22: 16).

ومشكلة كنيسة أفسس أنها لم تفهم ذلك ولجأت إلى البحث عن الحب بعيداً عن الله. إن من يفعل ذلك ويترك محبة الله، هذا يكون قد بدا له أن حب الله لا يستحق كل القلب فبدأ يشرك مع الله آخرين. ولكن مثل هذا الشخص لم يُدرك أن الله لا يقبل أن يكون القلب منقسماً بينه وبين العالم. ومع إنقسام القلب يبدأ حب الله فى الفتور لأن الإنسان إنشغل بالعالم ويكون هذا على حساب: -.

1) سكنى المسيح فى القلب 2) حياة الفرح.

لذلك قال المسيح لهذا الأسقف الذى نقصت محبته تُبْ وَإِّلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا، إِنْ لَمْ تَتُبْ = فالمسيحية هى علاقة حب وإن لم يوجد الحب لا توجد مسيحية. والوصية الأعظم "حب الرب إلهك من كل قلبك وحب قريبك..." فمن يترك طريق الحب ويختار طريق الأرضيات. فهو يختار طريق الموت. وقول الرب آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ أى آتى لك أنت بصفة خاصة وأدينك فلا تستمر كمنارة مضيئة، لأنه إن لم يوجد الحب فى القلب فالمسيح لا يسكن عند هذا الإنسان أو هذه الكنيسة وبالتالى تفقد مكانها كمنارة مضيئة... فتُبْ = إذاً نقص المحبة يحتاج إلى توبة، فهى خطية عظيمة تستوجب أن يزحزح المسيح الكنيسة أى يستغنى عنها. فمن إستغنى عن الله يستغنى الله عنه. وبعض الأشخاص يأتون فى الإعتراف ويقولون نحن بلا خطية، فنحن لا نزنى ولا نسرق ولا نقتل. وهؤلاء لا يدرون أن نقص المحبة خطية عظيمة تستوجب الإعتراف بها والتوبة عنها. وهى السبب الأساسى فى حالة عدم الفرح التى يعانى منها الكثيرين.

وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى = أى التى كنت تعملها بمحبة أى بغيرة ونشاط وحرارة.

وما قيل هنا عن زحزحة المنارة قد تحقق تاريخياً. فأفسس فى تركيا التى لا يوجد بها مسيحيون الآن. فالمنارة إذاً قد تزحزحت ومعها كل الكنائس السبع. أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ = بطريقة رقيقة وقبل أن يعاتب المسيح ملاك كنيسة أفسس أى أسقفها يعلن له أنه يعرف أعماله وتعبه وخدمته وصبره فى الضيقات والإضطهادات والظروف الصعبة التى يمر بها.

أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ = مبدأ روحى هام: - حذارى من أن تقف أمام الله فى ضيقتك وتقول له أذكر يا رب أننى عملت كذا وكذا أو أننى صليت وصمت لك وخدمتك، فالله يعرف ولا يريد من أحد أن يذكره فإن ذكرنا الله بأعمالنا لنطلب ثمناً عنها فهذه ليست روح البنين بل روح العبيد أو قل أنها الفريسية اليهودية. ولنذكر أن الله لا ينسى كأس ماء بارد نقدمه. والطريقة الصحيحة التى أقترب بها من الله هى أننى أشعر أننى غير مستحق، بل أننى خاطىء جداً لا أطلب سوى الرحمة، لذلك تعلمنا الكنيسة أن نصلى دائماً "يا رب إرحم" فالكاهن يصلى مثلاً "إذكر يا رب الزروع والعشب" ويرد الشعب "يا رب إرحم" أى أننا غير مستحقين أن تذكرنا ولكننا نطلب مراحمك. ومن يفكر هكذا لو أتت عليه تجربة صعبة لا يقول "أذكر يا رب أصوامى..." بل يقول أنا أستحق هذه التجربة من أجل خطاياى الكثيرة. مثل هذا حينما يطلب مراحم الله ويعترف بخطاياه يتبرر بدم المسيح. مثل هذا الإنسان إن جاءت إليه بركات من الله يقول "أنا غير مستحق ويردد مع بطرس" أخرج يا رب من سفينتى فأنا رجل خاطىء ".

لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ الأَشْرَارَ = لغيرته على مجد الله لا يستطيع أن يهادن الأشرار لشرهم، بل يرفضهم لأنهم كاذبين إدعوا أنهم رسل = الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ رُسُلٌ = هو إختبرهم وإكتشف أن تعاليمهم مزيفة وأنهم ليسوا رسلاً وربما كانوا يدعون للغنوسية أو من المتهودين.

وَلَمْ تَكِلَّ = الكلل يأتى من طول المضايقات لزمن طويل.

وَلكِنْ عِنْدَكَ أَنَّكَ تُبْغِضُ أَعْمَالَ النُّقُولاَوِيِّينَ = بدأ السيد يُلاطف ملاك أفسس ثانية ليشجعه. ونيقولاوس هذا أحد الشمامسة السبع، وكما أن أحد الإثنى عشر وهو يهوذا كان شيطاناً، هكذا كان أحد الشمامسة. ونيقولاوس هذا كان له نظرية إباحية وأباح الزنا حتى مع زوجته.

لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ = هذا الأسلوب الرقيق يجب أن نتعلمه من المسيح، فإذا أردت أن أعاتب أحداً فليكن هذا سراً، بينى وبينه وحدنا. وأبدأ بأن أتحدث عن إيجابياته ثم أعاتبه على سلبياته برقة ودون جرح لمشاعره.

اذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ = كل إنسان يعرف بداية سقوطه ودخوله فى الفتور. وهل كانت البداية كسل وتراخٍ أم كبرياء وشعور بعدم الحاجة. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ = من يود الإنصات لصوت الله فليسمع للروح القدس المتحدث للكنائس جميعها. والسمع معناه أن نصغى ونميز ونطيع. نميز صوت الله من وسط أصوات العالم والشيطان والذات، ثم نخضع بإرادتنا لما سمعناه. وهناك من لهم أذان ولكنهم لا يسمعون وذلك لأن الخطية تملأ قلوبهم. أما أنقياء القلب فيستطيعون أن يسمعوا بأذن القلب الداخلية.

تأمل: - لاحظ أن الله هو الذى بدأ بعتاب هذا الملاك الذى قَلَّتْ محبته وهكذا يفعل الله دائماً معنا، فى عظة نسمع فيها كلمة مؤثرة، أو بعطية غير منتظرة نشعر فيها بمحبة الله قائلاً أنت تركت محبتى لكننى أنا أحبك.

أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ = هى قول مخيف لأنه يعرف أيضاً أعمالى الشريرة.

كيف تزداد محبتى لله؟ البداية تكون بأن يغصب الإنسان نفسه على الصلوات والتسابيح أى عشرة الله لأطول فترة ممكنة. وعلى طاعة الوصية "إن حفظتم وصاياى تثبتون فى محبتى" (يو 10: 15).

الأعداد 8-11

الآيات (8 - 11): -

"8 وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ سِمِيرْنَا: «هذَا يَقُولُهُ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، الَّذِي كَانَ مَيْتًا فَعَاشَ: 9أَنَا أَعْرِفُ أَعْمَالَكَ وَضَيْقَتَكَ وَفَقْرَكَ مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ. وَتَجْدِيفَ الْقَائِلِينَ: إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُودًا، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ الشَّيْطَانِ. 10لاَ تَخَفِ الْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ. هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضًا مِنْكُمْ فِي السِّجْنِ لِكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيْقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ. 11مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَلاَ يُؤْذِيهِ الْمَوْتُ الثَّانِي».".

كَنِيسَةِ سِمِيرْنَا.

مشكلة هذه الكنيسة = أنها تعانى من إضطهاد حالى ومقبلة على فترة إضطهاد طويلة. إضطهدها اليهود أولاً = وَتَجْدِيفَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ يَهُودٌ ويضطهدها الرومان. وبدأ هذا على يد نيرون والآن على يد دومتيانوس. والله يخبرهم أن هذا الإضطهاد سيمتد لفترة طويلة على يد عشرة أباطرة. ولكن قالها لهم بأسلوب شفرى = َيَكُونَ لَكُمْ ضِيْقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ = فاليوم هنا هو فترة حكم أحد الأباطرة العشرة. وهذا ما حدث تاريخياً. فلقد بدأ الإضطهاد الرومانى ضد الكنيسة المسيحية على يد نيرون وإنتهى على يد دقلديانوس وتولى بينهما عدد من الأباطرة الذين إضطهدوا المسيحية، وكان عددهم عشرة.

ومن محبة الله وفضله أنه يعرفنا ما سيحدث لنا فالله يود لو كشف أسراره لأولاده (تك17: 18). وهكذا فسفر الرؤيا ملىء بالرموز التى يكشف فيها الله لنا أموراً كثيرة ولكننا سنعرفها فى حينه، بحيث لن يعرف أحد تفسيرها قبل أن تبدأ فى الحدوث. إذاً مشكلة هذه الكنيسة أنهم يموتون وسيموتون فى المستقبل خلال فترات إضطهاد عنيفة.

الصورة التى ظهر بها المسيح لهذه الكنيسة: - الأَوَّلُ وَالآخِرُ والحي الَّذِي كَانَ مَيْتًا فَعَاشَ وهذه الصورة تناسب هذه الكنيسة المقبلة على الموت. فما يعزيهم أن الله وهو الأول والآخر إذ تجسد واجه الموت. لكن كان ذلك لحسابهم فهو عاش أى قام بعد أن كان ميتاً ليقيمنا معه..... القيامة الأولى هنا من موت الخطية. ومَنْ يَغْلِبُ له وعد أن لاَ يُؤْذِيهِ الْمَوْتُ الثَّانِي = أى تكون له القيامة الثانية.

من يغلب

.

تكون له القيامة الثانية = إذاً فالوعد هو إمتداد للصورة التى ظهر بها السيد المسيح. وهذا تنفيذاً لما قاله السيد المسيح فى (يو 25: 5 - 29). وقوله الأَوَّلُ وَالآخِرُ = تعنى أنه يضم خليقته كلها سواء أحياء بالجسد على الأرض أو كأرواح تحيا وتنعم فى الفردوس أو ما هو عتيد أن يكون بعد المجئ الثانى حين نلبس أجساد ممجدة، هو يحوينا دائما، نحن بالموت الجسدى ننتقل من حالة إلى حالة وهو يحيط بنا فى كل الأحوال. وكَانَ مَيْتًا فَعَاشَ فإن كان قد مات لأجلنا فكيف لا نحتمل الموت لأجله. والمسيح يريد أن يقول: هل أنت خائف من الموت المجهول بالنسبة لك..... لا تخف فأنا جزت فيه قبلك وأعرفه وأيضا قمت وسأقيمك فأنت ستستمر حياً فىَّ.

إن المسيحى الحقيقى لا يخاف الموت أبداً بل يشتهيه لأنه بداية الحياة الحقيقية فى أفراح السماء. وحتى إذا جاء عصر إستشهاد فلقد قال السيد المسيح "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد بل خافوا من الذى له سلطان أن يلقى فى جهنم".

فالذهاب إلى جهنم هو الموت الثانى. فيجب أن أحيا خائفاً من أن أغضب الله وليس خائفاً من الموت الأول، ومن يعيش خائفاً الله يكون له إكليل حياة.

والسيد المسيح بَدَّل وغير مفهوم الموت، فقال عن الموت الجسدى أنه نوم إذ تعقبه قيامة "لعازر حبيبنا قد نام" فبعد كل نوم هناك إستيقاظ. وهكذا قال عن إبنة يايرس أنها نائمة. ولكنه فى مثل الإبن الضال فقد إعتبر أن رجوعه وتوبته هى أنه كان ميتاً فعاش. فنفهم أن الموت هو حياة الخطية.

ولنتأمل فيما قاله بولس الرسول "إنى محصور بين الإثنين لى إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً ولكن أن أبقى فى الجسد ألزم من أجلكم" (فى24، 23: 1). فالإنسان المسيحى مخلوق من أجل أعمال صالحة ليؤديها (أف 10: 2) ومن ينهى أعماله ينطلق لمكان الراحة. ولنأخذ مثالاً على هذا: -.

فهيرودس قتل يعقوب بالسيف (أع 2، 1: 12) وأراد قتل بطرس ليرضى اليهود فأنقذ الملاك بطرس (أع 17، 3: 12) فلماذا أرسل الله ملاكاً لبطرس ولم يرسل ملاكاً ليعقوب؟! هذا لأن يعقوب كان قد أنهى عمله أما بطرس فكان لا يزال أمامه أعمال يجب أن يتممها. وكما أن الله ظل يعمل ستة أيام ثم إستراح هكذا كل منا يعمل فى فترة حياته التى تناظر الستة أيام ثم يذهب إلى الراحة. فنحن إذاً غرباء فى هذه الأرض جئنا لنتمم رسالة ثم نذهب للراحة، وذلك بواسطة الموت. وقد يكون الموت موتاً طبيعياً أو إستشهاد فالموت وسيلة أياً كانت طريقته للذهاب إلى الراحة.

ولنلاحظ أننا لا يمكن لنا أن نحدد الوقت المناسب لكى ننطلق للراحة: -.

  1. نحن لا نعلم متى نتمم العمل الذى خلقنا لأجله... الله وحده يعلم. والله فى خلال فترة حياتنا له عمل أيضا معنا وهو تنقيتنا. وأيضا هو وحده الذى يعلم متى تتم التنقية فندخل للسماء.
  2. لو إخترنا أن نموت الآن فربما كان الأفضل أن نعيش فترة أخرى نتوب فيها.
  3. ولو إخترنا أن نؤجل موتنا فلربما نخطىء أكثر وتضيع أبديتنا.

ولا يمكن لنا أن نحدد الطريقة التى نموت بها فهناك من ينتقل فجأة وهناك من ينتقل بعد مرض طويل خطير يكون عالماً فيه بمصيره المحتوم. وهذا الأخير تكون له فرصة تقديم توبة أما من يموت فجأة فليس له نفس الفرصة. لكن هناك من لو أصابتهم أمراض خطيرة يتذمرون على الله ويخسرون بسبب المرض خلاص نفوسهم، هؤلاء يكون الموت الفجائى أفضل لهم.

هناك من يموت شاباً وهناك من يموت شيخاً... ماذا نختار؟

الخلاصة نحن لا نعلم متى ننهى عملنا الذى خلقنا لأجله، ولا نعلم الوقت الذى نكون مستعدين فيه ولا الطريقة التى نغادر بها هذا العالم.

الله وحده يعلم فلنسلم له الأمر. حزقيال الملك أطال الله عمره 15 سنة ولكنه فى هذه الفترة أنجب أشر ملوك إسرائيل وهو منسى. بل خلال هذه الفترة أخطأ هو خطأ جسيماً. وما يعزينا أننا نثق أن الله فى محبته لأولاده ينقلهم فى أحسن حالاتهم، بعد ان يتم الله تنقيتهم. فهو فاحص القلوب والكلى.

إن كانت كنيسة أفسس تشير لكنيسة الرسل التى نشرت الكرازة فى العالم فصارت محبوبة لدى المسيح فكنيسة سميرنا بمعنى المر تشير لعصر الإستشهاد.

ونلاحظ أن هذه الكنيسة هى الكنيسة الوحيدة التى لا يعاتبها المسيح فالضيق والإستشهاد ينقيان الكنيسة، وتاريخياً فعصور الإستشهاد هى أزهى عصور الكنيسة التى إمتدت فيها الكنيسة ونمت. وكما يقول بطرس الرسول "من تألم فى الجسد كُفَّ عن الخطية" (1بط1: 4) لذلك لا عتاب هنا لا للرعية ولا للأسقف.

أَنَا عْارِفُ أَعْمَالَكَ = الله يطمئنهم بأنه عارف ثمر إيمانهم المتكاثر لحساب مجد الله.

وَضَيْقَتَكَ = التى عانى منها بسبب الإضطهاد. وَفَقْرَكَ = لأنهم صادروا أموالكم فالله يطمئنهم أنه مهتم بألامهم ويعرف كل شىء. وأَعْمَالَكَ = تشير لخدمة الأسقف ورعايته واليهود بدأوا بمصادرة أموالهم ثم عملت الدولة الرومانية نفس الشىء بعد ذلك.

مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ = فى إيمانك وفضائلك. راجع (عب24: 10) + (يع5: 2) + (2كو10: 6).

وَلَيْسُوا يَهُودً = يقال أن يهود سميرنا عبدوا الإمبراطور فى الظاهر ليظهروا ولاءهم له فيضرب المسيحيين إذ حرض هؤلاء اليهود الإمبراطور ضد المسيحيين. وهؤلاء ليسوا يهوداً. فاليهود هم أبناء إبراهيم ليس فقط بالجسد بل بحسب الإيمان. وهم لم يفهموا لكبريائهم نبوات كتبهم عن المسيح فصلبوا المسيح، ومازالوا حتى الآن يرفضونه ويجدفون عليه. بَلْ هُمْ مَجْمَعُ الشَّيْطَانِ = هم لا يستحقوا أن يوجد فى مجمعهم يقودهم ويرشدهم بل الشيطان هو الذى يقود عقولهم لكبرياء قلوبهم.

لاَ تَخَفِ = ولم يقل له لن تتألم بل أنت تألمت وستتألم حتى لا يفاجئه الألم الآتى.

لِكَيْ تُجَرَّبُوا = التجربة تعطى للمؤمن تزكية أى تنقية.

مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ = الروح يدعو للتوبة ويشجع على إحتمال الضيقات.

مَنْ يَغْلِبُ = يغلب تخويف الشيطان بدفعنا لنحب الحياة فنهرب من الإستشهاد.

الْمَوْتُ الثَّانِي = الهلاك الأبدى فى إنفصال نهائى عن الله.

بوليكربوس: - هو أشهر أساقفة سميرنا وربما كان هو الأسقف المقصود هنا. وكان تلميذاً للقديس يوحنا الحبيب. عذبوه وهو شيخ. هو سلم نفسه للإستشهاد وإذ أرادوا حرقه دخل النار بإرادته دون أن يقيدوه فأطفأ الله النار وخرجت روائح عطرة من النار فضربه أحد الجنود بسيفه فإستشهد. له قول جميل: فإذ طلب إليه تلاميذه أن ينكر إيمانه حتى لا يستشهد قال "المسيح الذى عاشرته 86 سنة ولم أرى منه شيئاً ردياً كيف أتركه الآن".

ما بين كنيسة برغامس وكنيسة ثياتيرا.

للوهلة الأولى نجد أن المشكلة فى كنيسة برغامس هى نفس مشكلة كنيسة ثياتيرا ولكن بالتدقيق نلمح فرقاً مهماً.

ففى برغامس: قال "أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا.... قوم متمسكون بتعاليم النيقولاويين" أما فى ثياتيرا: فقال "أن يزنوا ويأكلوا ما ذبح للأوثان.... يعرفوا أعماق الشيطان".

برغامس: تشير تاريخياً لفترة ضعفت فيها الكنيسة لأنها بدأت تعتمد على الإمبراطور. وبدأ الأباطرة يرأسون المجامع. وبدأ الأساقفة يحلون مشاكلهم عن طريق الإمبراطور. وبدأت الكنيسة تخاف من الإمبراطور (أما فى كنيسة سميرنا فكانوا لا يخافون الموت إيماناً منهم بالله فلم توجد وسطهم أى خطية يلومهم الله بسببها). وهنا فى برغامس إذ حدث هذا الإقتران بين الدولة والكنيسة، صار للكنيسة إله آخر غير الله تعتمد عليه الكنيسة وتستعين به هو الإمبراطور، وهذا هو الزنا الروحى. لذلك ذكر الأكل مما ذبح للأوثان أولاً، ثم قال ويزنوا إشارة للزنا الجسدى، فنتيجة لهذا الضعف الروحى دخل الإنحلال أى تعاليم النيقولاويين (الإباحية).

وفى ثياتيرا إزداد الضعف بالأكثر. فإنتشرت البدع والتعاليم الفاسدة فصار تعليم الزنا الجسدى أو ممارسة الزنا الجسدى منتشراً (لقد ساءت الامور عن الوضع الذى كان فى برغامس). لذلك بدأ بقوله أن يزنوا. ونتيجة ممارسة الزنا تطوحوا ليقعوا فى يد الشيطان. ويزداد الفجور وتصل الأمور لتعليم إيزابيل وهو أن عليهم أن يعرفوا أعماق الشيطان أى فليجربوا أعماق الخطية ليكرهوا الخطية، وهو تعليم فاسد فكراهية الخطية تأتى بالإبتعاد عنها وليس بممارسة أعماقها، فبهذا وقعوا تماما فى يد الشيطان.

فالأكل مما ذبح للأوثان فى برغامس يشير لإشراك الأباطرة فى أمور الكنيسة، ويشير الإعتماد على الأباطرة إلى عبادة الأوثان والخوف منهم وطاعتهم حتى فيما هو خطأ والاستعانة بهم لمصالحهم. أما الأكل مما ذبح للأوثان فى ثياتيرا هو وقوعهم فى يد الشيطان نتيجة ممارستهم الزنا، فدخلوا لهياكل الأوثان فعلا وأكلوا. لقد صار لهم رباطات مع الشياطين فدخلوا لأعماق الشر.

الأعداد 12-17

الآيات (12 - 17): -

"12 وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي بَرْغَامُسَ: «هذَا يَقُولُهُ الَّذِي لَهُ السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ: 13أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، وَأَيْنَ تَسْكُنُ حَيْثُ كُرْسِيُّ الشَّيْطَانِ، وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِاسْمِي، وَلَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي حَتَّى فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا كَانَ أَنْتِيبَاسُ شَهِيدِي الأَمِينُ الَّذِي قُتِلَ عِنْدَكُمْ حَيْثُ الشَّيْطَانُ يَسْكُنُ. 14 وَلكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّ عِنْدَكَ هُنَاكَ قَوْمًا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ، الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ بَالاَقَ أَنْ يُلْقِيَ مَعْثَرَةً أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ، وَيَزْنُوا. 15هكَذَا عِنْدَكَ أَنْتَ أَيْضًا قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِتَعْلِيمِ النُّقُولاَوِيِّينَ الَّذِي أُبْغِضُهُ. 16فَتُبْ وَإِّلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ سَرِيعًا وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِي. 17مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَنِّ الْمُخْفَى، وَأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ، وَعَلَى الْحَصَاةِ اسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الَّذِي يَأْخُذُ».".

كنيسة برغامس.

تاريخياً كنيسة برغامس تأتى فى الترتيب تالية لكنيسة سميرنا التى كانت تشير لفترة الإضطهادات التى إنتهت بموت الملك دقلديانوس ومجىء الملك قسطنطين. ولكن ما حدث بعد ذلك أن الأباطرة آمنوا وصاروا مسيحيين، وحدث نوع من التقارب بين الأباطرة والكنيسة، فصارت الكنيسة تدعم الإمبراطور وللأسف صارت تعتمد عليه فى بعض الأحيان، بل صار الأباطرة يفرضون رأيهم على الكنيسة. وحين تأثر الأباطرة بأراء الهراطقة تسللت للكنيسة أراء هؤلاء الهراطقة بضغوط من الأباطرة. بل ربما خاف بعض الأساقفة أو البطاركة أن يهاجموا الهراطقة، أو يعلموا التعليم الصحيح بسبب الأباطرة أو مجاملة لهم أو ردا على معروف منهم. وخطأ الكنيسة هنا أنها: -.

  1. إعتمدت على الأباطرة، وملعون من إتكل على ذراع بشر، وإذا إعتمدنا على أحد سوى الله تفسد العلاقة بيننا وبين الله، فالمتكلين على غير الله يصعب دخولهم ملكوت السموات كجمل من ثقب إبرة (مر23: 10 - 25).
  2. سمحت للأباطرة بالتدخل بل رأس بعض الأباطرة مجامع. وسمحت للأراء الهرطوقية أن تتسلل. وواجب الكنيسة أن تحفظ الإيمان المسلم مرة للقديسيين (يه3) وتحفظه نقياً كما تسلمته بدون أى تغيير.

إذاً مشكلة هذه الكنيسة أنها فتحت أبوابها لهرطقات وبدع كثيرة. فهُنَاكَ قَوْمًا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ = وهذا أشار على ملك موآب بأن يسقط بنى إسرائيل فى خطية الزنا، ويبخروا للأوثان فيلعنهم الله. وهناك قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِتَعْلِيمِ النُّقُولاَوِيِّينَ. حقاً إن الأسقف نفسه متمسك بإيمانه = وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِاسْمِي وَلَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي. ولكن هذا لا يكفى فواجب الأسقف أن يحارب الهرطقات والبدع مستخدماً كلمة الله فى الكتاب المقدس. لقد إهتزت علاقة الأسقف بالله إذ إعتمد على الإمبراطور، فكان هذا كعبادة الأوثان، وبدأت حالة الشعب فى الضعف الروحى، وبالتالى دخلت الخطايا كالزنا والإباحية. والحالة تردت أكثر جدا فى ثياتيرا.

وقد يبدو أن الأسقف برىء ولكن قوله آتِيكَ وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِي لا يعنى فقط أن الله سيحارب الهراطقة، بل هو سيأتى للأسقف ويحاسبه على تقصيره فى خدمته لأنه يقول له آتِيكَ.

والصورة التى ظهر بها المسيح لهذا الأسقف. الَّذِي لَهُ السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ = والسيف يشير لكلمة الله (عب 12: 4) وحدا السيف هما: -.

  1. الحد الأول: - ينقى من يسمع كلمة الله "أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذى كلمتكم به" (يو 3: 15). وكلمة الله تلدنا ثانية (1 بط 23: 1). فكلمة الله لها القدرة أن تميت فينا شهواتنا وأهوائنا فنتنقى كمن ولدوا جديداً. هى كمشرط الجراح الذى يزيل به ورماً خبيثاً فيكون الإنسان كمن ولد من جديد. ومن يتنقى تنفتح عيناه فيرى المسيح ويعرفه "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت5: 8).
  2. الحد الثانى: - من يرفض ويقاوم كلمة الله بدلاً من أن يخضع لها، يحاربه الله بسيف فمه (رؤ 16: 2) فكلمة الله تدين وتحكم على المعاند (يو 48: 12). وإذا حارب الله إنساناً فكيف يصمد؟! ولنرى نهاية أريوس البشعة وهو ذاهب فى حماية جنود الإمبراطور ليدخل الكنيسة. ويدخل المرحاض وتندلق أحشاءه.

إذاً من يسمع كلمة الله ويتوب يحيا ومن يرفض التوبة يدينه الله ويموت (يو 25: 5) ومعنى الصورة التى ظهر بها الله للأسقف أن الله مستعد أن يضع على فمه كلمته التى يرد بها الأسقف على الهراطقة، والله مستعد أيضاً أن يحاربهم ويدينهم فلماذا الخوف من الهراطقة؟ على الكنيسة أن تعلن كلمة الحق ولا تخاف من شعبية هؤلاء الهراطقة ولا من قوة الإمبراطور. بل تعتمد إعتماداً كاملاً على الله الذى يدافع عن كنيسته وعن إيمانها.

تطبيق من الكتاب المقدس: - لقد إستعمل الله مع فرعون الحد الأول لكلمته وكان يرسل مع موسى كلماته. وكان فرعون يتأثر لفترة قليلة ولكنه يعود لقسوته، ولما عاند ورفض كلمة الله وإنذاراته حاربه الله بالحد الثانى "انتم تصمتون والرب يدافع عنكم" وغرق جيش فرعون إذ حاربهم الله.

كُرْسِيُّ الشَّيْطَانِ = بسبب إنتشار عبادة الأوثان وما يصاحبها من زنا. وحيث إنتشر إضطهاد المسيحيين وإنتشرت الهرطقات الكثيرة.

أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ = معناه الإشتراك الدينى الوثنى فى ولائم الأوثان وكانت ضلالة بلعام شاملة للزنا ولعبادة الأوثان، فبنات موآب أغوين الشعب على الزنا وعبادة آلهتهن الوثنية. وكانت مشورة بلعام لبالاق ملك موآب أن يجعل بنى إسرائيل يزنون ليلعنهم الله، وكان هذا ليأخذ الأموال من بالاق، لأنه لم يستطع هو أن يلعنهم لأن الله باركهم وبلعام يرمز لكل خادم يبرر الخطية طمعاً فى الربح. وغالباً فهى ترمز هنا لإعتماد البطاركة على الأباطرة فى بعض الأمور (أكل مما ذبح للأوثان = وهذا يسمى زنا روحى)، فتدخل الأباطرة وأبدوا أراءهم فى المشاكل اللاهوتية وفرضوا ما يرونه من هرطقات على الأساقفة، والبعض قبلوا، فهم عليهم دين للامبراطور الذى استعانوا به قبلا.

لقد كثرت البدع فى هذه الكنيسة والمسيح كان على إستعداد لمعاونة أسقفها:

  1. إما بتأييده بكلمته التى تفحم الهراطقة (حد السيف الأول).
  2. أو يحاربهم بسيف غضبه وإنتقامه (حد السيف الثانى).

لاحظ مناسبة الشكل الذى ظهر به المسيح لملاك هذه الكنيسة: -.

الحد الأول: - حد تنقية، فتنفتح عين الأسقف (مت5: 8) بل وكل حواسه. فتنفتح عيناه فيعرف المسيح، وتنفتح أذناه، فيضع الروح القدس على فمه ما يعلم به ويفحم هؤلاء الهراطقة. بل وحينما تنفتح عيناه يدرك قوة المسيح، وهذا معنى الحد الثانى: - فلا يخاف من الهراطقة أو شعبيتهم أو من الإمبراطور الذى يساندهم.. ولاحظ أن معرفة المسيح هى إتحاد وثبات فى المسيح.

الوعد لمن يغلب: أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَنِّ الْمُخْفَى = الْمَنِّ إشارة لجسد المسيح (يو6: 30 – 58). ولكن هل هناك تناول فى السماء كما يحدث الآن على الأرض؟ قطعاً لا. فالله أعطانا أن نتناول من جسده ودمه غفراناً لخطايانا التى نرتكبها. وفى السماء لا توجد خطايا فلا داعى للتناول ويصير معنى الأكل من المن المخفى هو الشبع بالمسيح الذى نتحد به إتحادا بلا إنفصال وأبدى، وذلك لإنكشاف طبيعة الله للإنسان حين نراه وجهاً لوجه، نعرفه كما يعرفنا (1كو12: 13) "وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحى ويسوع المسيح..." (يو3: 17). فإذا كان الحد الأول للسيف قد أعطى تنقية ومعرفة بالمسيح وهذا يعتبر إتحاد جزئى بالمسيح، فهذه المعرفة وهذا الإتحاد هو العربون على الأرض لما نأخذه فى السماء. وهذا الإتحاد سيكمل ويثبت فى السماء ويكون أبدى وهذا معنى الأكل من المن المخفى.

أما هنا على الأرض فمعنى الأكل هو إشارة للشبع بشخص المسيح المن الحقيقى. والشبع يعنى الإكتفاء بالمسيح والشعور بعدم الإحتياج لسواه. وهذا يعنى أنهم لن يشبعوا لا من الزنا ولا من موائد الأوثان بل بشخص المسيح ومعرفته.

ومن جهة أخرى فالأكل من المن يشير للإفخارستيا. والتناول الآن يفتح أعيننا على معرفة المسيح كما إنفتحت أعين تلميذى عمواس حين كسر الخبز أمامهم.

وحين تنفتح أعين الأسقف أو أعيننا: -.

  1. لا نعود ننخدع بخداعات الهراطقة.
  2. لا نعود نتكل على أحد سوى المسيح إذ عرفنا قدرته وقوته.

ومن يغلب ولا ينخدع تكون مكافأته أن يرى المسيح فى مجده (1كو12: 13).

وَأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ = كان القاضى يعطى المتهم حصاة بيضاء إذا إتضحت براءته، أما المحكوم عليه فيعطونه حصاة سوداء. والمعنى أن هذا الأسقف سيبرره الله لو قام بواجبه تماما. وبالنسبة لنا لن يدخل السماء سوى من يغلب ويتبرر.

الشكل: سيف ذو حدين الوعد.

حد ينقى ويعلم فنشبع من الله من = شبع كامل لإنكشاف طبيعة الله.

حد يحكم بقضاء عاجل أما لو غلب حصاة بيضاء أى يتبرر.

ملاحظة هامة: - لم نسمع عن هرطقات ولا مشاكل فى كنيسة سميرنا المتألمة. لكن سمعنا عنها بكثرة هنا فى كنيسة تعيش فترة راحة. وهذه هى مشاكل الراحة.

لذلك علينا أن نسهر دائما مصلين ومنتبهين ومسبحين حتى فى أوقات الراحة حيث لا ألام ولا تجارب، فإذا أتت التجارب لا نفشل.

وَعَلَى الْحَصَاةِ اسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الَّذِي يَأْخُذُ = الأسْمٌ يشير للشخصية. فإذا قلنا يهوذا نتذكر الخيانة وإذا قلنا يوحنا نتذكر الحب وحين يقول المسيح للآب سأعرفهم إسمك (يو 26: 17) يقصد أنه سيكشف لنا عن شخص الآب وطبيعته ومحبته فالله محبة، وعن قدرته وقوته وعظمته. ومن يغلب أعطيه إسم جديد أى شخصية جديدة غير شخصيته الحالية. فمهما كان فينا من عيوب الآن فكل هذا سيتغير فى السماء وتكون لنا شخصية جديدة وكيان جديد بلا عيوب ولن يعرف هذا التغيير الجذرى فى طبيعة الشخص سوى الشخص نفسه (1كو 11: 2) + (2 كو 18: 3) إذاً فلنحفظ إيماننا بلا شوائب ولنثبت فى إيماننا المسلم لنا دون تغيير حرف أو نقطة من هذا الإيمان لكى نغلب ونرى المسيح فى مجده ويكون لنا الإسم الجديد والتبرير ونرث السماء، وهذه موجهة لهذا الأسقف الخائف فالله يعده بحياة جديدة وشخصية جديدة على الأرض وفى السماء. وما نأخذه على الأرض هو عربون ما سنحصل عليه فى السماء. وبنفس المفهوم نعطى للأسقف أو الكاهن أو الراهب وأيضا المعمد إسما جديدا رمزا لحياتهم الجديدة.

مَنْ يَغْلِبُ = يسمى برغامس كُرْسِيُّ الشَّيْطَانِ حيث الشيطان يسكن. فالشيطان له نفوذ صعب فى هذه الكنيسة من زنا وهرطقات وتدخل وتأثير الإمبراطور، والمسيح يطلب من الأسقف أن يتوب عن تهاونه = فَتُبْ. فحياتنا وحياة كل خادم فى الكنيسة حتى الأساقفة هى حياة جهاد، وهناك من يغلب وهناك من ينهزم. والسماء تراقب جهادنا ويفرحون بمن يغلب، والله لا يكتفى بأن يفرح بمن يجاهد بل يعطى قوة ومعونة لنغلب (رو 26: 8) + (فى 13: 4).

الوعد:

.

أنْتِيبَاسُ شَهِيدِي الأَمِينُ = كان يكرز بأمانة فى برغامس الممتلئة من فعل ونفوذ الشيطان حيث دعاها كرسى الشيطان. وإذ إنتصر أنتيباس على الشيطان فى مواقع كثيرة كالكرازة والطرد من أجساد البشر، هيج عليه الشيطان الوثنيون فطرحوه فى إناء نحاس وأشعلوا تحته النار حتى مات. وهذا يدل على إمكانية وجود أمناء حتى الموت للرب حتى فى كرسى الشيطان حيث الشيطان يصول ويجول، ويعمل مع الهراطقة ليفسدوا الإيمان الصحيح.

والمسيح يعاتب هذه الكنيسة إذ تراخت فى مقاومة هؤلاء معلنا أنه له السيف ذو الحدين القادر على مقاومة هؤلاء فلماذا الخوف.

وكان أنتيباس أسقفاً على برغامس وكان مشهورا بكرازته وبإخراج الأرواح النجسة. ولما إستشهد جاء بعده من لم يكن على نفس الدرجة من القوة، ربما بسبب الخوف فوجه له السيد هذه الرسالة وذكره بمن قبله أى أنتيباس ليكون أنتيباس قدوة له. ويكون بلا عذر إذ غلب أنتيباس فى نفس الظروف. وبالنسبة لنا فأنتيباس غلب وهو يسكن حيث كرسى الشيطان ونحن ما زلنا نقدم أعذار لأن الجو المحيط بنا معثر.

شَهِيدِي = هى نفس كلمة شاهد (فى اللغة اليونانية هما كلمة واحدة). وفى اللغة العربية واضح التقارب الشديد بينهم، فالشاهد هو من يشهد للمسيح أما الشهيد فهو من يشهد للمسيح حتى الموت حتى سفك الدم، بسبب إيمانه بالمسيح.

الأعداد 18-29

الآيات (18 - 29): -

"18 وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي ثَيَاتِيرَا: «هذَا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ، الَّذِي لَهُ عَيْنَانِ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَرِجْلاَهُ مِثْلُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ: 19أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخِدْمَتَكَ وَإِيمَانَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّ أَعْمَالَكَ الأَخِيرَةَ أَكْثَرُ مِنَ الأُولَى. 20لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّكَ تُسَيِّبُ الْمَرْأَةَ إِيزَابَلَ الَّتِي تَقُولُ إِنَّهَا نَبِيَّةٌ، حَتَّى تُعَلِّمَ وَتُغْوِيَ عَبِيدِي أَنْ يَزْنُوا وَيَأْكُلُوا مَا ذُبحَ لِلأَوْثَانِ. 21 وَأَعْطَيْتُهَا زَمَانًا لِكَيْ تَتُوبَ عَنْ زِنَاهَا وَلَمْ تَتُبْ. 22هَا أَنَا أُلْقِيهَا فِي فِرَاشٍ، وَالَّذِينَ يَزْنُونَ مَعَهَا فِي ضِيقَةٍ عَظِيمَةٍ، إِنْ كَانُوا لاَ يَتُوبُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ. 23 وَأَوْلاَدُهَا أَقْتُلُهُمْ بِالْمَوْتِ. فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ الْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبِ، وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ. 24 وَلكِنَّنِي أَقُولُ لَكُمْ وَلِلْبَاقِينَ فِي ثَيَاتِيرَا، كُلِّ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ هذَا التَّعْلِيمُ، وَالَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا أَعْمَاقَ الشَّيْطَانِ، كَمَا يَقُولُونَ: إِنِّي لاَ أُلْقِي عَلَيْكُمْ ثِقْلاً آخَرَ، 25 وَإِنَّمَا الَّذِي عِنْدَكُمْ تَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى أَنْ أَجِيءَ. 26 وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلَى الأُمَمِ، 27فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ، كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضًا مِنْ عِنْدِ أَبِي، 28 وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ. 29مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ».".

كنيسة ثياتيرا.

معنى كلمة ثياتيرا هو مسرح أو تمثيلية. وسنلاحظ أن شعب ثياتيرا يتظاهرون بالتقوى والقلب مبتعد بعيدا عن الله وفى هذا ينطبق اسم ثياتيرا على حال شعبها. ونلاحظ أن هذه الكنيسة أتت بعد برغامس (حيث إعتمدت الكنيسة على الدولة فبدأت تضعف ودخلتها خطية الزنا). وكانت نتيجة أن الكنيسة إعتمدت على قوة غير الله، أن فقدت الكنيسة قوتها وتحولت عبادتها إلى مظهريات وهذا معنى كلمة ثياتيرا. وفى وسط هذا الجو يسهل أن تجد الهرطقات من يسير وراءها. فالناس فى المسارح يحبون ما هو جديد وماله شكل مظهرى جذاب. ويترك الناس تقاليد وتعاليم أبائهم القديسين ويتركون الإيمان المسلم مرة للقديسين (يه 3) ويسيرون وراء التعاليم الجديدة. بل أن هناك من القيادات الكنسية الذين عاشوا هذه الحياة المظهرية من سقط فى هذه البدع، فقد كان آريوس وغيره من أصحاب البدع من الإكليروس، وكان منهم بطاركة وأساقفة وكهنة.

فهناك أناس يعيشون فى مظهرية التدين وينخدع فيهم الآخرين ويصلون إلى أعلى الرتب الكنسية بينما هم فى حقيقة الامر يأخذون الديانة والعبادة كمظهر وكماليات يتحلون بها أمام الناس بينما هم فارغين من الداخل. وفى مثل هذا الجو تحدث بلبلة للناس ويضلون وتتوه الحقيقة. وهذا ما حدث فى هذه الكنيسة إذ إنتشرت بدعة إيزابل.

إِيزَابَلَ = هناك آراء عمن هى إيزابل فقد تكون هناك إمرأة بهذا الإسم فى هذه الكنيسة وقد إدعت أنها نبية أى أنها على إتصال بالله، بينما هى فى الحقيقة تنشر تعاليما منحرفة، فهى تدعو للزنا والأكل مما ذبح للأوثان (أى الإشتراك فى طقوس العبادة الوثنية وهذه تشتمل على الزنا).

أو هى إشارة لصاحبة هرطقة بهذا المفهوم وأطلق عليها إسم إيزابل، فإسم إيزابل فى الكتاب المقدس هو إسم إمرأة شريرة هى زوجة لملك شرير هو أخاب الملك ملك إسرائيل. وهما أدخلا العبادة الوثنية، عبادة البعل، إلى إسرائيل وعبادة البعل تشمل الزنا وعبادة الأوثان.

وأغلب الظن أن الرأى الأول هو المرجح وأن إيزابل هذه هى شخصية حقيقية وقد إدعت النبوة أى صار لها تعاليم خاطئة أسماها هنا معرفة أَعْمَاقَ الشَّيْطَانِ وهى بدعة نادى بها بعد ذلك بعض الفلاسفة والمعلمون المنحرفون وقالوا "أنه حتى نتعرف على الشر فنكرهه علينا أن نختبر أعماق الشر، أى أحقر ما فى الخطايا" وغالبا كان هذا تعليم إيزابل. وكانت دعوتها للناس أن يزنوا معها = الذين يزنون معها = وهذه تعنى إما الزنا معها فعلا أو إتباع تعاليمها المنحرفة والأولى أرجح. والمشكلة أن أسقف هذه الكنيسة خاف منها لشعبيتها، وخاف أن يواجهها لذلك يعاتبه السيد قائلا = أَنَّكَ تُسَيِّبُ الْمَرْأَةَ إِيزَابَلَ. وقد قال البعض أنها كانت زوجة الأسقف. وكانت تبشر بتعاليم النيقولاويين أى الزنا والإباحية وما يسمى شيوعية الزواج أى إباحة إقامة علاقة مع أى زوجة لأى شخص.

وواضح طبعا من هذا التعليم أنه تعليم شهوانى صرف، لقد إنفجرت شهوات هؤلاء الناس بسبب ضعف تدينهم، وقد إدعوا أن هذا التعليم تعليم إلهى وأنه بنبوة ولكن من يسلم نفسه لشهواته فهو قد وقع فى يد الشيطان وإرتبط برباطات قاسية مع الشيطان بل نقول لقد إستعبده الشيطان وهذا ما سمى هنا الأكل مما ذبح للأوثان، بل ما قيل عنه معرفة أعماق الشيطان، هؤلاء لم يعد لهم سلطان أن يدوسوا الحيات والعقارب (لو 19: 10) بل صار الشيطان يدوسهم.

دائما هذه هى حرب الشيطان ضد أولاد الله - دَفْع الإنسان للحصول على أقصى المتع والملذات الحسية. وهذا بدافع إبعاده تماما عن معرفة الله، وهذه تعطى السلام والفرح الحقيقى. بل إن الله حين يُعطينا فهو "يُعطى بسخاء ولا يُعَيِّر" (يع1: 5). أما الشيطان حين يُعطى فهو يطلب السجود له (لو4: 7) أى يستعبد من يأخذ شئ من يده، وهو لا يعطى إلا ملذات خاطئة فانية. أضف لهذا أننا ونحن فى هذا الجسد فنحن فى حرب مستمرة بين الجسد والروح (غل5: 16 - 25). الروح القدس يجذبنا لأعلى فنتذوق السماويات ونفرح، أما ملذات العالم فهى كماء البحر المالح لا تروى ولكن دائما تطلب المزيد حتى يموت الإنسان عطشا. وروحيا فطالما قبل الإنسان أن يسعى وراء شهوات الجسد، فهو يندفع بلا توقف كمن يتدحرج على منحدر حتى يُستعبد تماما للشيطان ويهلك روحيا. وراجع تفسير الآية (رؤ1: 9) لترى أنه كلما زهد الإنسان فى هذا العالم وعاش حياة الإماتة تنطلق الروح لتذوق السماويات وهذا ما لا يريده عدو الخير. لذلك يظل سلاحه الوحيد هو الملذات الحسية. والمرعب أنه يأتى فى لحظات الموت ليطالب بحسابه عما أعطاه للإنسان من ملذات. وهو فى الحقيقة يأتى ليأخذ معه النفس إلى مكانه المرعب. لذلك قال رب المجد الذى لم يقبل خطية منه "رئيس هذا العالم يأتى وليس له فىَّ شئ" (يو14: 30).

والآن ماذا عنا نحن الخطاة؟ ليس أمامنا سوى تنفيذ وصية الرب "إثبتوا فىَّ وأنا فيكم" (يو15: 4) وراجع تفسير الآية. فمن هو ثابت فى المسيح لا يستطيع عدو الخير أن يقترب منه، بل تأتى الملائكة لتأخذ نفسه كما حدث مع لعازر المسكين (لو16).

كيف ظهر المسيح لهذه الكنيسة: ابْنُ اللهِ وَرِجْلاَهُ مِثْلُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ = إبن الله إشارة للاهوته ورجلاه مثل النحاس إشارة لناسوته. والنحاس يحمل معنى الدينونة فهو دك برجليه أعدائه أى الشياطين والموت والخطية. وهو قادر أن يدين الخطية داخل من يريد أى يخمدها داخله فيريحه من حروبها وشهواتها، وهذا ما نسميه عمل النعمة (راجع تفسير رو8: 3). وقوله النُّحَاسِ النَّقِيِّ إشارة لناسوته وأنه كإنسان كان بلا خطية = النقى.

ورآه يوحنا فى (رؤ1: 15) ورجلاه كنحاس نقى كأنهما محميتان فى أتون إشارة لإتحاد لاهوته بناسوته. وهو قادر أن يدك الهراطقة ويفنيهم ويبيدهم.

وكونه إبن الله فهو عالم بكل شىء وله قوة لا نهائية. عَيْنَاه كَلَهِيبِ نَارٍ = له نظرات غاضبة مرعبة للأشرار، حين يروها يقولوا للجبال غطينا (رؤ 16: 6) ولأولاد الله هو قادر أن يحرق شهواتهم داخلهم ويضع بدلاً منها محبة ملتهبة لله فى القلب. وهو قادر بعينيه الناريتين على معرفة ما فى قلوب المرائين.

الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبِ = هو قادر أن يكشف الأعماق، أعماق المتظاهرين بالتدين ولكن تحركهم شهواتهم، ويفحص أعماق الهراطقة ويكشف زيف تعاليمهم. هو قادر أن يعرف من له تدين حقيقى ومن له تدين مظهرى، ومن يبحث عن المسيح حقيقة. إذاً المعنى أن السيد المسيح يريد أن يقول أنا عارف ما فى أعماقكم وقادر أن أدك وأدين وأخمد الشهوات التى فى داخلكم، وأعطيكم قلبا ملتهبا بحب الله عوضا عن الشهوات. الْقُلُوبِ مركز المشاعر والْكُلَى مركز لتنقية الدم، أى أن المسيح فاحص كل مشاعرنا ومدى نقاوتنا، وهل ننقى أنفسنا بالتوبة أم لا.

أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ. وَإِيمَانَكَ = هذه توجه لإخوتنا الذين لا يؤمنون بأهمية الأعمال للخلاص. ولاحظ أنه قدم الأعمال على الإيمان. فالأعمال تظهر حقيقة الإيمان إن كان حيا أو ميتا. فالله لا يرضيه الإيمان النظرى بل العامل بمحبة.

أيها الأحباء علينا أن ندخل فى عبادتنا للعمق حتى لا نعيش فى سطحية ومظهرية، وحتى لا نضل وراء كل ما هو غريب عن تعاليم الآباء. وكل من يحيا فى عمق يكشف له الله عن زيف أى هرطقة فيرفضها.

أَعْطَيْتُهَا زَمَانًا لِكَيْ تَتُوبَ = الله يعطى كل إنسان فرصة للتوبة، فإذا لم يستجب لها الإنسان، يبدأ الله فى تأديبه بضربات تصاعدية. فمن ضربة بسيطة لضربة أشد وتصل الضربات لموت الإنسان وهلاكه. والله يعطى فرصاً للتوبة فإن أهملها الإنسان ربما لا تأتى فرصة أخرى، ربما يموت قبل أن يتوب. فالله أعطى لفرعون فرصا عديدة لكى يتوب ولما رفض هلك. فعلينا أن لا نعتبر طول أناة الله علينا أنها تساهل من الله، بل علينا أن نعتبرها زمانا لكى نتوب، فإن لم نتب تضيع منا الفرصة ويبدأ الله فى تأديباته، وربما تنتهى الفرص ويسمع الشخص القول المرعب "يا غبى فى هذه الليلة تؤخذ نفسك".

وضربات الله التصاعدية التى نجدها هنا: - المرض = أُلْقِيهَا فِي فِرَاشٍ.. ثم الموت = أَوْلاَدُهَا أَقْتُلُهُمْ بِالْمَوْتِ = قد يكونوا من تبعوا ضلالتها ولاحظ ففراش زناها صار فراش مرضها. أَنَّكَ تُسَيِّبُ الْمَرْأَةَ = فواجب الراعى أن يسهر على حفظ الإيمان بالتعليم المستمر وكشف الهرطقات للشعب حتى لا ينخدعوا. ومهاجمة الأفكار الخاطئة الصادرة من أى شخص مهما كان مركزه فى الكنيسة. ويكون هذا بكل حزم. وعلى الراعى ألا يكون خروفاً متساهلاً ولا يكون أسداً أى قاسيا على شعبه. كلا من الشعب والراعى يحتاجون للإفراز. الشعب يحتاج للإفراز ليعرف التعليم الصحيح من الخاطىء. والأسقف يحتاج للإفراز ليعرف كيف يتعامل مع شعبه.

أَقُولُ لَكُمْ وَلِلْبَاقِينَ = الواو ليست للعطف والمعنى أقول لكم أنتم الباقين فى ثياتيرا الذين لم يقبلوا هذا التعليم ولم يسيروا وراء إيزابل.

لاَ أُلْقِي عَلَيْكُمْ ثِقْلاً آخَرَ = لا أقدم لكم وصايا ولا شرائع ولا واجبات جديدة سوى أن تمتنعوا عن تعاليم إيزابل وتقاوموها وتعلنوا رفضكم لها.

الوعد لمن يغلب: - سُلْطَانًا عَلَى الأُمَمِ = ما نحصل عليه هنا هو عربون ما سنناله فى السماء. هنا لنا سلطان على الحيات والعقارب والخطايا التى يثيرها إبليس (لو10: 19). وسلطان لكل منا على شهواته وخطاياه. الأُمَمِ هم الغرباء وهنا المقصود الغرباء من الناحية الروحية وفى هذا إشارة لكل شهوة غريبة وكل فكر ردىء بعيد عن الله، والله يعطينا سلطانا أن ندوس كل هذا ببساطة = كآنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ... يَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ = هنا على الأرض لنا سلطان على الأعداء الشياطين. والنعمة هى قوة عمل الروح القدس فينا التى تخمد نار الشهوات. أما الغالب سيكون فى السماء، هذه التى لا يدخلها شئ دنس، والشهوات التى كنا نظنها جبارة ستنكسر وتكون كخزف مكسور بلا قيمة فلا جسد ولا حروب من إبليس. (رؤ21: 27). والشياطين سينكسرون كخزف لا يصلح للإستعمال فهم لن يوجدوا فى أورشليم السمائية. وهلاك الأشرار سيكون بلا رحمة.

ولاحظ أن الكلام موجه لكنيسة ثياتيرا التى إشتعلت شهوات أفرادها وصاروا تحت أقدام إبليس، يشعرون أن الخطية تستعبدهم ولا فكاك لهم منها. وهنا كإمتداد للشكل الذى ظهر به المسيح. فعلى الأرض يبدأ أولاد الله فى التحرر من سلطان هذه الشهوات، فمسيحنا المتحد بنا قادر أن يدين الشهوات ويدكها برجليه اللتين كنحاس نقى. وفى السماء سلطان كامل عليها ويصبح إبليس تماما تحت الأقدام. فأورشليم السماوية لا يدخلها شئ دنس (رؤ21: 27). فما نحصل عليه هنا كأولاد لله هو عربون ما سنحصل عليه هناك.

كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضًا مِنْ عِنْدِ أَبِي = المسيح لم يقبل خطية من يد إبليس، بل كان الجسد بلا خطية كنحاس نقى. ولكن الشيطان دبر مؤامرة وأهاج الكل عليه حتى صلبوه ولكن بقيامته صار له كل المجد ووضع الله أعداءه تحت قدميه (مز 1: 110) بعد أن جلس عن يمين الآب.

كَوْكَبَ الصُّبْحِ = كوكب الصبح هوالمسيح نفسه (رؤ 16: 22 + 2 بط 19: 1) أى من يغلب أعطيه ذاتى تطبيقاً لقول عروس النشيد "انا لحبيبى وحبيبى لى" (نش 3: 6) هذه مثل "أعطيه من المن المخفى". ولكن قوله المن يشير للشبع بالمسيح، أما قوله كوكب الصبح يشير لأننا بالمسيح نستنير ونستطيع ان نميز بين الأشياء المتخالفة (فى 10: 1) أو التمييز بين ما هو نور وما هو ظلام. فكوكب الصبح هو كوكب يظهر والظلام باق بعد، وظهوره يكون إيذانا بظهور النور، نور الشمس، إذاً هو إعلان بقرب ظهور النهار فهذا الكوكب يعتبر الفيصل بين النور والظلام. والمعنى أن المسيح يقول لهذا الأسقف لماذا أنت خائف من هؤلاء الهراطقة أنا قادر أن أكشف زيفهم فأنا فاحص القلوب والكلى، بل سأعطيك ذاتى كنور لك، لتستمتع بنورى. سأنير عليك بنورى الإلهى وأعطيك أن تكشف بين ما هو نور وما هو ظلام فى تعاليمهم وأنا قادر أن أدينهم ولنذكر نهاية آريوس الرهيبة حين إندلقت أحشاؤه خارجاً. ما عليك يا أسقف ثياتيرا إلا أن تعلن مواجهة لكنيستك وشعبك عن خطأ إيزابل والهراطقة. وأنا سأعينك وأدينهم وأعطيك سلطانا عليهم. مَنْ يَغْلِبُ = هنا يعطينا الله نعمة قادرة أن تخمد شهواتنا فلا ننساق وراءها، وهذا عربون ما سنحصل عليه فى أورشليم السماوية التى لا يدخلها شئ دنس.

الشكل: إبن الله له رجلان نحاس عينان كلهيب نار، فاحص القلوب والكلى

.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الثالث - تفسير رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي - القمص أنطونيوس فكري

الأصحاح الأول - تفسير رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي - القمص أنطونيوس فكري

تفاسير رؤيا يوحنا اللاهوتي الأصحاح 2
تفاسير رؤيا يوحنا اللاهوتي الأصحاح 2