اَلأَصْحَاحُ السَّابِعُ عَشَرَ – سفر أخبار الأيام الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 13- تفسير سفر أخبار الأيام الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

اَلأَصْحَاحُ السَّابِعُ عَشَرَ

داود يعزم على بناء الهيكل.

ابنك يبني لي بيتًا!

ما كان يشغل قلب داود، لا أن يسكن ويستقر في وسط شعب الله، بل يجتمع مع كل القادة والشعب في حضرة الله. فقد أدرك أن الله هو سرُّ حياته وبنيانه الدائم ونجاحه في كل ما تمتد إليه يداه وفرحه وسعادته ومجده. أدرك أن الله هو مصدر البركات، بل ويجعل منه بركة لكل من يلتقي به.

رأينا في الأصحاح السابق كيف صار فرحٌ في كل إسرائيل، واشتهى داود أن تُسَبِّحَ الأرض كلها الرب وتُبَشِّر بخلاصه (1 أي 16: 23).

الآن وقد بذل حيرام ملك صور كل جهده ليبني قصر داود، لم يحتمل الأخير أن يجد نفسه ساكنًا في قصرٍ عظيمٍ بينما يُوضَع تابوت العهد المُمَثِّل للحضرة الإلهية في خيمة. اشتهى داود أن يبني لله بيتًا علامة حضور الله وسط شعبه، بل دعوة للقاء العالم كله مع الله.

داود وبناء الهيكل.

يُبرِز الكاتب أن إقامة هيكل للرب في أورشليم هي فكرة داود أولاً. في سفر الملوك الأول نُسِبَ بناء الهيكل لسليمان كتحقيق لنبوة داود وللوعد الإلهي له، وقد أوضح سفر أخبار الأيام الأول أن دور سليمان هو تنفيذ خطة أبيه داود.

جاءت مزامير الصعود تؤكد هذه الفكرة، كمثال جاء في المزمور 132 [131 LXX]: "اذكر يا رب داود كل ذُلِّه. كيف حلف للرب، نذر لعزيز يعقوب. لا أدخل خيمة بيتي، لا أصعد على سرير فراشي. لا أعطي وسنًا لعيني، ولا نومًا لأجفاني. أو أجد مقامًا للرب، مسكنًا لعزيز يعقوب" (مز 132: 1 - 5).

لم يُذكَر اسم سليمان في أحد مزامير الصعود التي يَتَغَنَّى بها القادمون للاحتفال بالعيد في الهيكل، إنما يطلبون من الله أن يذكر داود وبيته، كما يذكرون هم أنفسهم داود.

ليس عجيبًا أن يشتهي داود أن يبني للرب بيتًا [1 - 2]، ويبني الرب نفسه بيتًا لداود [10]، ويقصد به عرش داود. يقول الرب: "وأقيمه في بيتي وملكوتي إلى الأبد، ويكون كرسيه ثابتًا إلى الأبد" [14].

يرى المؤمن المسيحي في هذا صورة حيَّة لتجسد كلمة الله، الذي يصير ابنًا لداود حسب الجسد.

لقد سُرَّ الله برغبة داود أن يبني له بيتًا حتى سمح الوحي الإلهي أن يُعَاد تسجيل سلسلة الأحداث كما وردت في (2 صم 7)، ويمكن الرجوع إلى التأملات التي ذكرت في كتابنا عن تفسير وتأملات الآباء الأولين لسفر صموئيل الثاني. وهذا الأصحاح يشمل موضوعين رئيسيين:

1. رأفة الله في قبول رغبة داود لبناء بيت له، والوعد الذي منحه الله لداود كرَدِّ فعل [1 - 15].

2. قبول داود بتسليمٍ كامل ومسرة لوعد الله ببناء بيته بواسطة سليمان ابنه، وصلاة داود كرَدِّ فعلٍ.

1. حديث مع ناثان النبي 1 - 3.

2. الله يرافق شعبه أينما وُجِدوا 4 - 6.

3. مسرة الله في إقامة قادة 7 - 8.

4. مسرته في راحة شعبه 9.

5. مسرته أن يبني بيتًا لمحبوبيه 10 - 12.

6. مسرته في أُبوَّتِه ورحمته لنا 13.

7. مسرته في إقامتنا ملوكًا 14 - 15.

8. داود يُقَدِّم ذبيحة شكر لله 16 - 27.

عاد داود الملك إلى قصره، وقد اهتزَّت أعماق قلبه بفرح الشعب بكل فئاته بتابوت العهد، فاشتهى أن يبني لله بيتًا يضع فيه تابوت العهد.

  1. ارتبط داود بناثان بعلاقة صداقة قوية، فطلب من ناثان النبي أن يبني للرب بيتًا، ولثقة ناثان في نقاوة قلب داود، قال له في الحال: "افعل كل ما في قلبك". كان يُشَجِّع صديقه على العمل.
  2. تتكرر كلمة "عبدي" وما يعادلها 10 مرات. حسن أن يطلب العبد لسيده (الله) ما لمجده، لكن يليق به أن يسأل ما هي مسرة سيده.
  3. رعاية الله لعبده في الماضي: "أنا أخذتك من المربض" [7]، وقائمة في الحاضر "أنا معك حينما توجَّهت" [8]، وتبقى في المستقبل: "أقيم بعدك نسلك... وأثبت مملكته" [11]. غير أنه وعده أن الذي يبني بيت الله هو سليمان لا داود.
  4. "دخل الملك داود، وجلس أمام الرب وقال": [16]. جلس كطفلٍ صغيرٍ يشكر أبيه على وعوده: "افعل كما نطقت" [23]. لقد ذاق عذوبة أبوَّة الله له، وانعكس ذلك على حياته فحمل نوعًا من الأبوَّة أو الحب الأبوي لأهل بيته، بل ولكل الشعب.
  5. يحتضن طلبته من الرب بتحقيق وعوده بالتسبيح قبل الطلبة وبعد الطلبة.

الأعداد 1-3

1. حديث مع ناثان النبي

يؤكد الرب أن مملكة داود ومملكة سليمان مجرد مساهمة في مملكة الله نفسه، إذ يقول الرب: "وأقيمه في بيتي وملكوتي إلى الأبد" [14]. في (2 أي 9: 8) الملك الحقيقي لإسرائيل هو الله نفسه.

وجَّه ربُّنا ناثان بأن داود ليس بالرجل المختار لهذا العمل.

وَكَانَ لَمَّا سَكَنَ دَاوُدُ فِي بَيْتِهِ، قَالَ دَاوُدُ لِنَاثَانَ النَّبِيِّ:

"هَئَنَذَا سَاكِنٌ فِي بَيْتٍ مِنْ أَرْزٍ،.

وَتَابُوتُ عَهْدِ الرَّبِّ تَحْتَ شُقَقٍ! "[1].

كثيرًا ما كرَّر السفر نبوة ناثان الواردة في (2 صم 7)، وهي في نظره على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية. فإنها تُعَبِّر عن العهد المقطوع بين الله وداود، وعن استمرارية سلالته الملوكية، حتى جاء ابن داود الملك الأبدي.

كان قلب داود مُلتهِبًا بالحبِّ لله، فلم يطق أن يكون له قصر فخم، بينما تابوت العهد موضوع في خيمة. لذا أراد أن يبني هيكلاً للرب. لكن كل شيء عند الرب له زمان خاص به. إذ شعر داود باستقرارٍ في قصره الذي بناه أراد أن يبني بيتًا للرب يُوضَع فيه تابوت العهد. لم يكن بال داود مرتاحًا أن يسكن هو في بيت من أرز، بينما التابوت موضوع في خيمة.

انظر كيف كان اهتمام داود ومشروعاته عندما كثُرَتْ ثروته وعظمت قوته، إنه لم يفكر ماذا يعمل لأولاده ليُشْرِكَهم في الثروة، أو كيف يملأ خزائنه ويوسع سلطانه، بل بالحري فكر ماذا يفعل لكي يخدم ويُمَجِّد الله.

هكذا يليق بنا أن نهتم بخدمة ملكوت الله في العالم، وبكنيسته.

فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: "افْعَلْ كُلَّ مَا فِي قَلْبِكَ،.

لأَنَّ الله مَعَكَ ". [2].

حالما علم ناثان النبي برغبة داود، قال له: "افعل كل ما في قلبك لأن الله معك"، لأنه لم يكن لديه أدنى شك في أن الله كان مع داود. من الواجب على خدام الله أن يُثِيروا في أنفسهم وفي الآخرين حركة النعمة والمواهب التي فيهم.

وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَانَ كَلاَمُ الله إِلَى نَاثَانَ: [3].

يرى بعض الشُرَّاح (مثًل J. H. Blunt) أن نصيحة ناثان النبي قد عُدِّلَت بعدما جاءت إليه كلمة الله تلك الليلة، فإنه يُحتمَل أن الأنبياء لم يكونوا دائمًا تحت الإلهام الإلهي وفي الإمكان أن يتكلموا في بعض الأمور تحت تأثير فكرهم البشري فقط.

الأعداد 4-6

2. الله يُرافِق شعبه أينما وُجِدُوا

"اذْهَبْ وَقُلْ لِدَاوُدَ عَبْدِي:

هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَنْتَ لاَ تَبْنِي لِي بَيْتًا لِلسُّكْنَى، [4].

جاءت إجابة الله على طلب داود هكذا: داود لا يبني هذا البيت إنما يُعِدّ له ولا يبنيه، مثلما أتى موسى بشعب إسرائيل بالقرب من كنعان، ولكن ترك يشوع ليُدْخِلهم إليها. إنه من حق السيد المسيح وحده أن يكون رئيسًا لعمله ومكملاً له.

الله يتنازل ويَقْبَل الآراء الجيدة من شعبه، حتى وإن منعهم من تتميمها، فقد أرسل ناثان النبي ليُطَيِّب خاطر داود، ويقول له:

1. يا داود، إن ترقيتك للمنصب الرفيع لم تضع سدى، أنا أخذتك من المربض من وراء الغنم، ليس لبناء الهيكل، بل لتكون رئيسًا على شعبي إسرائيل، وهذا شرف كافٍ لك. اترك البناء لآخر يأتي بعدك [7]، لماذا يظن أحد بأنه يقوم بكل شيءٍ، ويُتَمِّم كل عملٍ صالحٍ إلى النهاية؟ فليترك شيئًا لمن يخلفونه. فالله أعطى داود انتصارات وعمل له اسمًا [8]، وفوق ذلك عزم أن يُعَيِّن خلاله مكانًا لشعبه إسرائيل ويُحَصِّنه ضدّ أعدائه، فذلك يجب أن يكون عمله كرجل حرب، وأن يترك بناء الكنائس لمن لم يَتَعَيَّن أبدًا أن يكون جنديًا.

2. يا داود، لا تظن أن غرضك الحسن قد ضاع سدى، أو أنك ستفقد جزاءه، فبالرغم من أنني أمنعك من أن تنفذه إلاَّ إنك ستُجازَى كما لو كنت قد عملتَه، "فالرب يبني لك بيتًا، ويضم تاج إسرائيل إليه" [10]، فحينما توجد الإرادة الحسنة، فهي لا تُقْبَل فقط بل تُجازَى أيضًا.

3. يا داود، لا تظن إني أمنعك من القيام بهذا العمل الجليل، فلا يتم أبدًا وأن تفكيرك فيه قد ضاع سُدَى، فإنني سأقيم نسلك وهو يبني لي بيتًا [11 - 12]. فهيكل الله سوف يُبنَى في الميعاد المُحَدَّد ولو لم يكن لنا شرف المساعدة في بنائه أو الفرح لرؤيته مستكمًلا.

4. يا داود، يجب ألا تحصر أفكارك في الرخاء الدنيوي لأسرتك، بل أن تُعلِّل نفسك بمملكة المسيا المرتقبة، فهو الذي يأتي من بين حقويك ويكون عرشه ثابتًا إلى الأبد [14]. فسليمان نفسه لم يكن قد تثبَّت في بيت الله كما كان يجب، ولم تُثبَّت أسرته في المملكة: "ولكن سيأتي من نسلك الذي أُثبِّته في مملكتي". وهذا يعني أنه سيكون رئيس كهنة على بيت الله، ويكون له وحده السلطان على أعمال مملكة الله بين البشر، وكل القوة في السماء وعلى الأرض، في البيت وفي المملكة، في الكنيسة وفي العالم، فيكون كاهنًا على عرشه، وتكون مشورة السلامة بينهما كليهما، وسوف يبني هيكل الرب (زك 6: 12 - 13).

الأعداد 7-8

3. لم يطلب الله بيتًا للتابوت بل خيمة

لأَنِّي لَمْ أَسْكُنْ فِي بَيْتٍ مُنْذُ يَوْمَ أَصْعَدْتُ إِسْرَائِيلَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ،.

بَلْ سِرْتُ مِنْ خَيْمَةٍ إِلَى خَيْمَةٍ،.

وَمِنْ مَسْكَنٍ إِلَى مَسْكَنٍ. [5].

لم يكن قد حان الوقت لإقامة التابوت في بيتٍ للرب.

فِي كُلِّ مَا سِرْتُ مَعَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ،.

هَلْ تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ مَعَ أَحَدِ قُضَاةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَمَرْتُهُمْ،.

أَنْ يَرْعُوا شَعْبِي إِسْرَائِيل، َ.

قَائِلاً: لِمَاذَا لَمْ تَبْنُوا لِي بَيْتاً مِنْ أَرْزٍ؟ [6].

الله لا يريد المظهر الخارجي في الأبَّهة والفخامة في خدمته، فتابوت عهده كان راضيًا بخيمةٍ، ولم يطلب بناء بيتٍ له، حتى بعدما أراح الله شعبه في مدن عظيمة جيدة لم يبنها (تث 6: 10)، وقد أمر القضاة أن يرعوا شعبه، ولكنه لم يسألهم قط أن يبنوا له بيتًا [6]، فليتنا نقنع أحيانًا بوسائل راحة متواضعة كما كان تابوت الله.

3. مسرة الله في إقامة قادة.

وَالآنَ فَهَكَذَا تَقُولُ لِعَبْدِي دَاوُدَ:

هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ:

أَنَا أَخَذْتُكَ مِنَ الْمَرْبَضِ مِنْ وَرَاءِ الْغَنَمِ،.

لِتَكُونَ رَئِيسًا عَلَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ، [7].

وَكُنْتُ مَعَكَ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ،.

وَقَرَضْتُ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ مِنْ أَمَامِكَ،.

وَعَمِلْتُ لَكَ اسْمًا كَاسْمِ الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ. [8].

هذه هي مسرة الله أن يقيم من كل إنسانٍ قائدًا لمشاعره وأفكاره وكلماته وتصرفاته، كما يسلك بروح الثقة لا الخوف.

يرى القديس كيرلس أن الذين لا يخافون الله لا يستحقون أن يذكر المرتل أسماءهم بشفتيه [4]، أما المسكين فيذكر الله اسمه بلسانه (لو 16: 19، 20) [253]. فهو عظيم في عيني الله، ويجعله عظيمًا أمام السمائيين وبني البشر.

العدد 9

4. مسرته في راحة شعبه

وَعَيَّنْتُ مَكَاناً لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ،.

وَغَرَسْتُهُ فَسَكَنَ فِي مَكَانِهِ،.

وَلاَ يَضْطَرِبُ بَعْدُ،.

وَلاَ يَعُودُ بَنُو الإِثْمِ يَبْلُونَهُ كَمَا فِي الأَوَّلِ [9].

5. مسرته أن يبني بيتًا لمحبوبيه.

وَمُنْذُ الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا أَقَمْتُ قُضَاةً عَلَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ،.

وَأَذْلَلْتُ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ،.

وَأُخْبِرُكَ أَنَّ الرَّبَّ يَبْنِي لَكَ بَيْتًا [10].

يقول الكتاب عن القابلتيْن اللتيْن رفضتا أن تقتلا الأطفال الذكور لبني إسرائيل: "وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع الله لهما بيوتًا" (خر 1: 21)، فهل يصنع الله بيوتًا؟! إذ تشير القابلتان إلى الكتاب المقدس، فإنه إذ يُدرَس بمخافة إلهية، ويعيشهما المؤمنون كما يجب، يُقِيم الله للكتاب موضعًا في أماكن كثيرة، أي ينفتح مجال الخدمة وتُقَام بيوت لله. هكذا يحتاج العالم أن يرى فينا كلمة الله عاملة في قلبنا بخوفٍ إلهيٍ، فيجد الإنجيل له موضع في كل قلب. يرى العلامة أوريجينوس[254] في القابلتين "المعرفة" التي تسند أولاد الله في ولادة الذكور كما الإناث، أي يكون لهم ثمر في التأمل العقلي الإلهي، وفي تقديس العواطف. لأن الذكور يشيرون إلى العقل والإناث إلى العاطفة. وتشير القابلتان أيضًا إلى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، خلالهما ينعم أولاد الله بالثمر المتزايد عقليًا وعاطفيًا، أو روحيًا وجسديًا.

وَيَكُونُ مَتَى كَمُلَتْ أَيَّامُكَ لِتَذْهَبَ مَعَ آبَائِكَ،.

أَنِّي أُقِيمُ بَعْدَكَ نَسْلَكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَنِيكَ،.

وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ. [11].

هُوَ يَبْنِي لِي بَيْتًا، وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّهُ إِلَى الأَبَدِ. [12].

إن كان داود قد التزم بالدخول في معارك كثيرة، لأجل استقرار الشعب وأمانه، لم يسمح له الرب ببناء الهيكل، لأن يديه سفكتا دماء كثيرة.

من هو هذا الذي يبني بيتًا لله وكرسيه يدوم إلى الأبد، إلا السيد المسيح ابن داود الذي بنى كنيسته على الصخر. يرى يوسابيوس القيصري أن الآية 13 لا يمكن أن تنطبق على سليمان، إنما على المسيح ملك السلام.

  • لا يوجد شك في أن سليمان كان ابن داود، وهو خليفته في المملكة. وهو أولاً بنى هيكل الله في أورشليم، وربما يفهم اليهود أنه هو موضوع النبوة. لكننا بحق نسألهم إن كان الوحي ينطبق على سليمان، الذي يقول: "وأنا أُثَبِّت كرسيه إلى الأبد" [12]. وأيضًا أين أقسم الله بتأكيد أنه قدوسه: كما يُنبئ عن عرشه أن يكون كالشمس وأيام السماء.

فإن كانت سنوات مُلْكِ سليمان محصية فهي أربعين لا أكثر. فإن أُضيفت إليها سنوات مُلك كل نسله، فإنها لا تبلغ 500 عامًا. وإن افترضنا أن خطهم (في المملكة) استمر حتى إلى آخر هجوم على الأمة اليهودية بواسطة الرومان، كيف تتحقق النبوة القائلة: "كرسيك يبقى إلى الأبد، ويكون كالشمس وأيام السماء؟" وأيضًا الكلمات: "أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا" [13].

كيف تشير إلى سليمان؟ فإن تاريخه يخبرنا الكثير عنه بما يضاد عن التبني لله وغريب عنه. لا؛ اسمعوا الاتهام الموجَّه ضده: "وأحب الملك سليمان نساءً غريبة كثيرة مع بنت فرعون موآبيات وعمونيات وأدوميات وصدونيات وحثّيات، من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: لا تدخلون إليهم، وهم لا يدخلون إليكم" (1 مل 11: 1 - 2).

أضيفوا إلى هذا القول: "ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتروث إله الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين. وعمل سليمان الشر في عينيّ الرب" (1 مل 11: 4 - 6). مرة أخرى قيل بعد ذلك: "وأقام الرب الشيطان ضد سليمان، هدد الأدومي" (انظر 1 مل 11: 14 LXX).

الآن من يستطيع أن يتجاسر ويقول إن الله أبوه، هذا الذي سقط تحت اتهامات خطيرة؟... لذلك يلزمنا أن نسأل عن آخر يُعلَن عنه أنه من نسل داود... لكن لا يوجد آخر وُلِدَ منه، كما سُجِّل إلا ربنا ومخلصنا يسوع مسيح الله وحده، الذي دُعِي في العالم كله ابن داود حسب ميلاده جسديًا، ومملكته ها هي مستمرة وستستمر إلى الأبد. لقد هوجمت بواسطة كثيرين، لكنها تبقى دائمًا بالسلطان الإلهي الفائق للبشرية، لتؤكد أنها موحي بها ولا تُقهَر كما سبق فأَخْبَرَتنا النبوة[255].

يوسابيوس القيصري.

الأعداد 10-13

6. مسرته في أبوته ورحمته لنا

أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا، وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا،.

وَلاَ أَنْزِعُ رَحْمَتِي عَنْهُ كَمَا نَزَعْتُهَا عَنِ الَّذِي كَانَ قَبْلَكَ. [13].

اقتبس الرسول بولس هذه العبارة، إذ أدرك أنها وعد إلهي لا لسليمان الحكيم بكونه ابنًا لداود يبني الهيكل، بل إعلان عن المسيَّا ابن داود الذي فيه ننعم بالتبنِّي للآب.

الأعداد 14-15

7. مسرته في إقامتنا ملوكًا

وَأُقِيمُهُ فِي بَيْتِي وَمَلَكُوتِي إِلَى الأَبَدِ،.

وَيَكُونُ كُرْسِيُّهُ ثَابِتاً إِلَى الأَبَدِ ". [14].

فَحَسَبَ جَمِيعِ هَذَا الْكَلاَمِ وَحَسَبَ كُلِّ هَذِهِ الرُّؤْيَا كَذَلِكَ كَلَّمَ نَاثَانُ دَاوُدَ. [15].

قَدَّمَ الله لداود وعديْن عن طريق ناثان النبي:

الوعد الأول: أنه يجعل ذريته ملوكًا لإسرائيل [10]؛ هذا الوعد مشروط بالتزامهم بحفظ وصاياه والطاعة له.

الوعد الثاني: وهو وعد غير مشروط، أنه يُقِيم من بعده ابنًا يُرَسِّخ عرشه إلى الأبد [12، 14]. هذا الابن هو رُّبنا يسوع المسيح، كلمة الله المتجسد، ابن داود، الذي يُقِيم ملكوته في قلوبنا. فالمسيا في العهد القديم هو الملك الأبدي البار الممسوح ليُقِيم خيمة داود الساقطة، تَمْتَدُّ مملكته إلى أقاصي الأرض، ناموسها الحق والعدل الإلهي، نقتبس هنا بعض نبوات عن شخصه العجيب كملكٍ سماوي ومملكته الفائقة:

"أقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك وينجح ويُجري حقًا وعدلاً في الأرض" (إر 23: 5).

"اسألني، فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك" (مز 2: 8).

"كرسيُّك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البرَّ وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك... جُعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير..." (مز 45).

"اللهم أعطِ أحكامك للملك، وبِرَّك لابن الملك. يدين شعبك بالعدل ومساكنك بالحق... يملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (مز 72).

"وفي أيام هؤلاء الملوك يُقِيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدًا، ومُلكها لا يُترَك لشعبٍ آخر، وتسحق وتفني كل هذه الممالك، وهي تثبت إلى الأبد" (دا 2: 44).

"كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتي وجاء إلى القديم الأيام، فقرَّبوه قدامه، فأعطي سلطانًًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة سلطانه سلطان أبدي ما لا يزول، وملكوته لا ينقرض" (دا 7: 13 - 14).

  • عندما جلس الرب على الجبل مع تلاميذه رأى الجموع قادمة إليه، فنزل من الجبل وأشبعهم في الأماكن السفلية للجبل. إذ كيف كان يمكن له أن يهرب إلى هناك مرة أخرى لو لم يكن قد نزل قبلاً من الجبل؟

يحمل ذلك معنى، نزول الرب من العلا ليُطعِمَ الجموع ويصعد...

لقد جاء الآن لا ليملك في الحال، إنما يملك بالمعنى الذي نُصَلِّي من أجله: "ليأتِ ملكوتك". إنه يملك على الدوام مع الآب بكونه ابن الله، الكلمة الذي به كان كل شيء. لكن الأنبياء يخبروننا عن ملكوته الذي فيه هو المسيح الذي صار إنسانًا ويجعل مؤمنيه مسيحيين...

يمتد ملكوته ويُعلن عندما يُعلن مجد قديسيه بعد أن تتم الدينونة بواسطته، الدينونة التي تحدث عنها قبلاً، إن ابن الإنسان يتممها. ذلك الذي يقول عنه الرسول: "عندما يُسلَّم ملكوت الله للآب" (انظر 1 كو 15: 24). وقد أشار عليه بنفسه قائلاً: "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المُعَدّ لكم منذ بدء العالم" (مت 25: 34).

لكن التلاميذ والجموع التي آمنت به ظنوا أنه قد جاء لكي يملك حالاً، لهذا أرادوا أن يختطفوه ويجعلوه ملكًا (يو 6: 15). أرادوا أن يسبقوا الزمن الذي أخفاه بنفسه لكي يعلنه في الوقت المناسب[256].

القديس أغسطينوس.

الأعداد 16-27

8. داود يُقَدِّم ذبيحة شكر لله

سبق أن قدمت تفسيرًا لصلاة داود هذه في (2 صم 7).

فَدَخَلَ الْمَلِكُ دَاوُدُ وَجَلَسَ أَمَامَ الرَّبِّ وَقَالَ:

"مَنْ أَنَا أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ،.

وَمَاذَا بَيْتِي حَتَّى أَوْصَلْتَنِي إِلَى هُنَا؟ [16].

قابل داود الملك جواب الله بتواضع [16 - 18]، وشكر [19 - 20]، مُعترِفًا ببركات الله [21 - 22]، ومُرَحِّبًا بقرارات الله ومواعيده وأوامره [23 - 24].

كان داود النبي والملك في حالة دهشة عجيبة، لا تستطيع لغة بشرية أن تُعَبِّر عما في داخله. إن كان الله قد رفض أن يبني له داود بيتًا، لم يحزن داود، بل تهلَّل وشكر، لأن الحديث كله يُشِير إلى ما هو أعظم من بناء بيت للرب، إنما يأتي رب المجد، ابن داود، ليُقِيم بيتًا يبنيه بدمه المسفوك على الصليب.

لم يشعر أنه مرفوض من الله، لأنه منعه من بناء بيتٍ لله، إنما شعر بأنه في الأحضان الإلهية، يُرسِل الآب ابن داود ليُعلِنَ الحبَّ الإلهي العملي في أروع صورة.

تكشف صلاة داود [16 - 27] إنه وإن كان إنسانًا له أخطاؤه غير أنه يُظهِر ثقته في الله واتِّكاله عليه. ركَّز على أن ملك إسرائيل يلزمه ألا يحكم بسلطانه الذاتي، بل بقوة الله. فهو يخدم شعبًا يدخل في عهد مع الله له خبرته معه.

خاطب داود الله في مهابةٍ ووقارٍ، ردًا على رسالة النعمة التي استلمها من الله، فبالإيمان نال المواعيد واحتضنها واقتنع بها، كما فعل الآباء البطاركة (عب 11: 13).

جلس داود الملك أمام الرب كطفلٍ صغيرٍ يتحدَّث مع أبيه، يطلب منه بروح البنوة. إذ يَلِذُّ للأب أن يُنصِتَ إلى طلبة طفله. يُصغِي إليه باهتمامٍ عظيمٍ كمن يُسَرّ بكلماته أكثر من سروره بكلمات الفلاسفة. هكذا في دالة يطلب القدِّيس من الله كابنٍ ينطق بلغة الحُبِّ.

قد ينطق الطفل بكلماتٍ قليلةٍ، لكن بحُبِّه العظيم لأبيه، يتكلم بدالةٍ وفيضٍ، لأن الحب يُسهِّل عليه أن يُعَبِّر عمّا بداخل الإنسان.

  • يتكلم الطفل أمام أبيه بحبٍ، ويُصغِي أبوه بحبٍ إلى كل ما يقوله له.

وإذ يسمع أسئلته التي يطرحها عليه، يَقْبَلها كما لو كان يتكلم عن أمورٍ خطيرةٍ.

حتى إن ثرثر كثيرًا ولم يُمَيِّز ما يقوله، يُسَرّ بكلامه أكثر من حديث الفلاسفة.

ها أنا أتكلم مثل طفلٍ أمام أبيه، هأنذا أتكلم أمام الله بحُبٍ عظيمٍ.

هأنذا أتكلم ولو قليلاً جدًا؛ فأنا لا أتكلم قليلاً جدًا، لأنه يسهل على الحب أن يتكلم كثيرًا قدر ما يشاء[257].

القديس مار يعقوب السروجي.

وَقَلَّ هَذَا فِي عَيْنَيْكَ يَا الله،.

فَتَكَلَّمْتَ عَنْ بَيْتِ عَبْدِكَ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ،.

وَنَظَرْتَ إِلَيَّ مِنَ الْعَلاَءِ كَعَادَةِ الإِنْسَانِ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ. [17].

ما ورد في (2 صم) كسؤال "هل هذه هي عادة الإنسان يا سيدي الرب؟" وردت هنا بصيغة اعتراف: ونظرت إليَّ من العلاء كعادة الإنسان أيها الرب الإله. لقد جعلتني رجًلا عظيمًا وعاملتني كذلك. الله من خلال علاقة العهد التي يقبل بها المؤمنين يعطيهم ألقابًا، وينعم عليهم بعطايا، ويُعدّ لهم الكثير ناظرًا إليهم كأشخاص ذوي مَرْتَبَة عالية مع أنهم تراب ورماد.

يقرأ بعض الشُرَّاح هذه الكلمات كالآتي: "لقد نظرت إليَّ في هيئة إنسان في العلاء أيها السيد الرب" أو "لقد جعلتني أنظر حسب هيئة الإنسان مجد السيد الرب"، لذلك فهي تشير إلى المسيا، لأن داود كإبراهيم رأى يومه وفرح، رآه بالإيمان، رآه في شكل إنسان، الكلمة المتجسد، مع أنه رأى مجده كما لوحيد من الآب. وهذا هو ما تكلم الله عنه بخصوص بيته إلى مدى بعيد، فهذه الرؤية هي في نظر الله أعظم من أيّ شيء، أنه ليس أمرًا غريبًا أن يتكلم داود عن ناسوته ولاهوته، فدعاه ربَّي بالروح (اللاهوت) مع أنه علم أنه سيكون ابنه (مز 110: 1)، ورآه أقل من الملائكة لفترة وجيزة (الناسوت) ولكن بعد ذلك مكلًلا بالمجد والبهاء (عب 2: 6، 7).

إذ سمع داود عن الوعدين الإلهيين من فم ناثان النبي، لم يسأل عن تفاصيل معينة، وعن وقت تحقيقهما، إنما في تواضعٍ وقف أمام الله يشكره ويعترف ببركاته الإلهية.

فَمَاذَا يَزِيدُ دَاوُدُ بَعْدُ لَكَ لأَجْلِ إِكْرَامِ عَبْدِكَ،.

وَأَنْتَ قَدْ عَرَفْتَ عَبْدَكَ؟ [18].

بعد الكلمات "فماذا يزيد داود بعدلك" أضاف هنا: "لأجل إكرام عبدك [18]. لنلاحظ الإكرام الذي يُضَيفه الله على خُدَّامِه، بإدخالهم في عهد وشركة معه، على درجة عظيمة حتى أنهم لا يستطيعون ولا يرغبون أن يُكَرَّموا أكثر من ذلك، وإذا ما بدأوا يفكرون، فإنهم لا يستطيعون أن يتكلموا عن كرامتهم أكثر مما تكلم الله.

كثيرًا ما يُكَرِّر النبي كلمة "عبدك"، وذلك باسم ابن داود الذي أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس "(في 2: 7).

يَا رَبُّ مِنْ أَجْلِ عَبْدِكَ،.

وَحَسَبَ قَلْبِكَ قَدْ فَعَلْتَ كُلَّ هَذِهِ الْعَظَائِمِ،.

لِتَظْهَرَ جَمِيعُ الْعَظَائِمِ [19].

جدير بالملاحظة أن ما ذُكِرَ في (2 صموئيل) "من أجل كلمتك"، ذُكِرَ هنا، "من أجل عبدك" [19]، فيسوع المسيح هو كلمة الله (رؤ 19: 13) وخادم الله (إش 40: 1)، فمن أجله ذُكِرَت المواعيد لكل المؤمنين، ففيه تصير هذه المواعيد نعم وآمين. من أجله عُمِلَت كل رأفة، لأجله صارت معروفة، نحن مدينون له بكل هذه العظمة، ومنه ننتظر كل هذه الأشياء، فهي غِنَى المسيح غير المستقصى، الذي إذا نظرنا إليه بالإيمان، ونظرنا إلى يد السيد المسيح، لا يسعنا إلاَّ أن نُمَجِّد لا الأشياء العظيمة فقط بل الشيء الوحيد الأعظم الذي هو عمل وغِنَى المسيح ونتكلم عنه بكرامة.

يَا رَبُّ لَيْسَ مِثْلُكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ،.

حَسَبَ كُلِّ مَا سَمِعْنَاهُ بِآذَانِنَا! [20].

وَأَيَّةُ أُمَّةٍ عَلَى الأَرْضِ مِثْلُ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ،.

الَّذِي سَارَ الله لِيَفْتَدِيَهُ لِنَفْسِهِ شَعْبًا،.

لِتَجْعَلَ لَكَ اسْمَ عَظَائِمَ وَمَخَاوِفَ،.

بِطَرْدِكَ أُمَمًا مِنْ أَمَامِ شَعْبِكَ الَّذِي افْتَدَيْتَهُ مِنْ مِصْرَ. [21].

يذكر داود النبي الخروج الذي حققه الله على يدي موسى وما تبعه من آيات وعجائب، كصورة لعمل الله الدائم مع شعبه عبر الأجيال. ولعل عزرا وهو يُسَجِّل صلاة داود هذه يربط في أذهان المعاصرين له بين أعمال الله في خروج آبائهم من مصر، وعمله معهم وهم عائدون من السبي البابلي.

كان في ذهن العائدين من السبي بعد 70 عامًا صورة خروج آبائهم من مصر، وتَحَرُّرهم من عبودية فرعون.

وَقَدْ جَعَلْتَ شَعْبَكَ إِسْرَائِيلَ لِنَفْسِكَ شَعْبًا إِلَى الأَبَدِ،.

وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّبُّ صِرْتَ لَهُمْ إِلَهًا. [22].

يا لتواضع داود الذي يعترف بعدم استحقاقه، وكيف يُعَظِّم اسم الله ويُعْجَب بتعطفه بالنعمة، وكيف بورعٍ ومحبةٍ يُعَظِّم إله إسرائيل، وأيّ تقدير يُقَدِّمه لإسرائيل الله!

وَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ، لِيَثْبُتْ إِلَى الأَبَدِ الْكَلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتَ بِهِ عَنْ عَبْدِكَ،.

وَعَنْ بَيْتِهِ،.

وَافْعَلْ كَمَا نَطَقْتَ. [23].

وَلْيَثْبُتْ وَيَتَعَظَّمِ اسْمُكَ إِلَى الأَبَدِ، فَيُقَالَ:

رَبُّ الْجُنُودِ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ.

هُوَ الله لإِسْرَائِيلَ وَلْيَثْبُتْ بَيْتُ دَاوُدَ عَبْدِكَ أَمَامَكَ. [24].

في سفر صموئيل الثاني يُذكَر "الله فوق إسرائيل" بينما هنا يُذكَر "إله إسرائيل" وهو "الله لإسرائيل" [24]، وبما أنه الله لإسرائيل فهذا يُوَضِّح استجابته للاسم، توطيده للعلاقة، وقيامه بعمل كل ما يلزمهم وما يتوقعونه منه، فهناك ما كانوا يُدعَون آلهة للأمم، كآلهة آشور ومصر، وآلهة حماه وأرفاد، ولكنهم لم يكونوا آلهة لهم، لأنهم لم يقفوا بجانبهم بالمَرَّة، بل كانوا مُجَرَّد آلهة بالاسم، ولكن إله إسرائيل هو إله لإسرائيل فكل أوصافه وكمالاته تفيض لمنفعتهم الحقيقية، فمُطَوَّب ومُثَلَّث التطويب هو الشعب الذي يهوه إلهه، لأنه سيكون إلهًا لهم بكامل الصفات.

لأَنَّكَ يَا إِلَهِي قَدْ أَعْلَنْتَ لِعَبْدِكَ أَنَّكَ تَبْنِي لَهُ بَيْتًا،.

لِذَلِكَ وَجَدَ عَبْدُكَ أَنْ يُصَلِّيَ أَمَامَكَ. [25].

وَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ، أَنْتَ هُوَ الله،.

وَقَدْ وَعَدْتَ عَبْدَكَ بِهَذَا الْخَيْرِ. [26].

وَالآنَ قَدِ ارْتَضَيْتَ بِأَنْ تُبَارِكَ بَيْتَ عَبْدِكَ لِيَكُونَ إِلَى الأَبَدِ أَمَامَكَ،.

لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ قَدْ بَارَكْتَ،.

وَهُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. [27].

الكلمات الختامية في (2 صم 7) تقول: "فلُيبارك بيت عبدك ببركتك إلى الأبد"، وهذه لغة رغبة مقدسة، أما الكلمات الختامية هنا فهي لغة إيمان مقدس: "لأنك أنت يا رب باركت وهو مبارك إلى الأبد" [27] وهنا نرى:

1. تَشَجَّع داود أن يطلب البركة، لأن الرب أظهر له أن عنده بركات مخزونة له ولنسله: "لأنك أنت يا رب باركتني، ولذلك فإنه يأتي إليك كل بشر لنوال البركة، إليك آتي (لأنال) البركة التي وعدتني بها". فالمواعيد أُعطِيَتْ لتقودنا وتُثِير فينا روح الصلاة، فحينما قال الله أنا أبارك، فلتجاوب قلوبنا نعم يا رب باركني.

2. كان داود جادًا في طلب البركة، لأنه آمن أن من يباركهم الله، بالحقيقة يكونون مباركين إلى الأبد: "قد باركت وهو مبارك إلى الأبد". الإنسان يترجَّى البركة، ولكن الله هو الذي يأمر بها، فما يُدَبِّره الله يُنفّذه، وما يَعِد به يفعله، فالقول والفعل عند الله ليسا شيئين منفصلين. حاشا! "فهو مبارك إلى الأبد"، فبركات الله لا تُرَد ولا تُعارَض، ومنافعها تتخطَّى الزمن والأيام.

يختم داود صلاته كوعد الله بما هو "إلى الأبد"، فكلام الله ينظر إلى الأبدية هكذا يجب أن تكون رغباتنا وآمالنا.

من وحي 1 أي 17.

لتبارك أحفادي وأحفاد أحفادي!

  • اختبر داود أبوّتك العجيبة له،.

فاشتهى أن يبني لك بيتًا.

لم يسترح قلبه بعد تثبيت تابوت العهد في الخيمة.

كيف يستريح في قصرٍ، ويترك التابوت في الخيمة.

بقلبه النقي الذي حسب قلبك،.

بنى روحك بيتًا مُقَدَّسًا في أعماقه.

أما هو فكان يحلم ببيتٍ لك يليق بك.

هل تسكن يا خالق السماوات والأرض في بيوت من الحجارة والخشب؟!

  • من أجل حُبِّك للبشر وتواضعك العجيب،.

استجبت لطلبة حبيبك داود.

وعدته أن يبني ابنه سليمان البيت!

حسبت الهيكل أيقونة السماء وعلامة اجتماعك بشعبك.

  • تعال أيها الرب يسوع، ولتسكن في قلبي.

يقيمه روحك القدوس، ويزيّنه بروح القداسة.

لتحسب قلبي عرشًا لك ومركبة شبه سماوية.

ماذا أقدم لك لتُقِيم مسكنك فيَّ؟!

ليس لي ما أُقَدِّمه سوى أن أنحني أمامك.

تُقَدِّس إرادتي لتتناغم مع إرادتك.

تقود أفكاري وعواطفي وكل طاقتي لحساب ملكوتك.

  • إليك أصرخ يا مُحِب كل البشر.

قد يكون لي أبناء وأحفاد.

إني أحسب الجيل القادم كله أبناءً لي، والأجيال التالية أحفادًا لي.

إني أُصلِّي من أجل أطفال وشباب المستقبل.

أطلب إليك أن تُعْلِنَ لهم حُبَّك، لكي يدخلوا معك في عهدٍ جديدٍ!

ليذوقوا سلامك وفرحك وحكمتك الإلهية.

ليدركوا أنك أحببتهم قبل أن يولدوا!

لتعلن لهم حضورك الإلهي،.

كي يتمتعوا بالشركة معك.

معارك داود ونُصرَاته.

الأصحاحات 18 - 20.

معارك داود وبناء الهيكل.

تَجاهَل السفر الخلافات الداخلية في المملكة في عصر داود، ومأساة عائلة داود الملكية، وسقوط داود في الزنا (2 صم 11 - 12)، وسقوط ابنه أمنون مع أخته، وقتل أمنون (2 صم 13)، وتَمرُّد أبشالوم (2 صم 15 - 19)، ومُعارَضة البعض له، والدسائس ضده الخ. فقد أكَّد الكاتب أن ما تَبَقَّى في صورة داود ومملكته كل ما هو مجيدٍ وبهيٍ، ذلك من أجل نقاوة قلبه، وتوبته في جدية بعد كل ضعفٍ يسقط فيه.

تخصَّصت الأصحاحات الثلاثة (الأصحاحات 18 - 20) في الحديث عن معارك داود الملك ونصراته. وقد جاءت هنا في تفاصيل أكثر مما ورد في صموئيل الثاني. سبق أن تكلمنا عنها في كتابنا عن تفسير سفر صموئيل الثاني.

أما الحروب التي دخل فيها فأوردها السفر، إنما لتأكيد أنه رجل حرب، لا يليق به أن يبني الهيكل (22: 8؛ 28: 3). وإن كانت هذه الحروب قدَّمت لسليمان مملكة مستقرّة، بجانب الغنائم التي استُخدِمَتْ لصالح بناء الهيكل.

ما أوضحه السفر هنا هو أن داود فاتح مُنتصِر عظيم، حاسبًا نصراته المستمرة لا تقوم على براعته الفائقة وشجاعته الشخصية، إنما هي عطايا تُقَدِّمها له يد الله. لذلك كل الثروات التي آلت إليه من الحروب كرَّسها داود لله، وليس لحسابه الخاص. كانت الغنائم تُجمَع وتُخَزَّن لحساب بناء الهيكل.

كان موضوع بناء الهيكل يشغل الكاتب على الدوام وهو يسرد أحداث الحروب والمعارك. اهتم سفر الأخبار بامتداد مملكة داود ونصراته على الأعداء، ومهابته أمام الأمم.

ما شغل سفر الأخبار الأول أعمال داود في السياسة الخارجية، لا في شئون البلد الداخلية، فلم يذكر حتى لطفه مع بيت شاول، وإن كان هذا لا يعني تجاهل داود للشئون الداخلية.

قائد المعركة: داود أم الله؟!

جاء السفر في أغلبه يتحدَّث عن فترة السلام في حُكْمِ داود، وقد استغلها للاهتمام بنقل التابوت وتثبيته في الخيمة بأورشليم، والإعداد لبناء بيت الرب من كل جوانبه. لم يكن ممكنًا للسفر أن يصمت عن عمل داود الحربي. فإنه رمز للسيد المسيح بكونه أبرع جمالاً من بني البشر، وفي نفس الوقت يَتَقَلَّد سيفه على فخذه ليُحَطِّم إبليس، وينزع سلطان الموت وشوكة الخطية.

لماذا الحروب؟

أثار هذا السؤال القديس يعقوب الرسول، وأجاب عليه في رسالته (يع 4: 1 - 2): "من أين الحروب والخصومات بينكم؟ أليست من هنا من لذَّاتكم المُحارِبة في أعضائكم. تشتهون ولستم تمتلكون. تقتلون وتحسدون، ولستم تقدرون أن تنالوا. تخاصمون وتحاربون ولستم تمتلكون، لأنكم لا تطلبون". بمعنى آخر، السبب في الحروب هو الخطية الرابضة في قلب الإنسان.

وقف داود وحارب ضد أعدائه ليُدافِعَ عن مملكته، والمسيحي أيضًا له أعداء ألدَّاء، فنحن نحارب أرواح الشر في العلاء، لذلك يحثنا القديس بولس الرسول، قائًلا: "البسوا سلاح الله الكامل" (أف 6: 11).

  • الْبسوا سلاح الله الْكامل لكيْ تقْدروا أنْ تثْبتوا ضدّ مكايد إبْليس "(أف 6: ١1). لم يقل ضد المحاربات، ولا ضد العداوات، وإنما ضد" المكايد ". فإن هذا العدو لا يحاربنا ببساطة علانية وإنما خلال المكايد. ماذا يعني بالمكايد؟ أي بالخداع... إبليس لا يقترح علينا الخطايا في ألوانها الطبيعية... إنما يعطيها ثيابًا أخرى، مستخدمًا المكائد...

الآن، بهذه الطريقة يثير الرسول الجنود (الروحيين) ويحثهم على السهر ويُثَقِّفهم، موضحًا لهم أن جهادنا (الروحي) يُمَثِّل أحد الحروب الماهرة، فنحن نقاتل ضد عدوٍ ليس بسيطًا ولا مباشرًا وإنما نقاتل عدوًا مخادعًا.

في البداية أثار الرسول التلاميذ ليضعوا في اعتبارهم مهارة إبليس، بعد ذلك تحدث عن طبيعته وعن عدد قواته. لم يفعل ذلك ليُحَطِّم نفسية الجنود الذين تحته وإنما لكي يُحَمِّسهم ويوقظهم ويظهر لهم مناوراته، مهيئًا إياهم للسهر، فلو أنه عدَّد بالتفصيل قوة العدو ثم توقَّف عن الحديث لتَحَطَّمت نفسيتهم... لكنه قبل أن يعرض ذلك وبعد العرض أيضًا أظهر إمكانية النصرة على عدو كهذا، مثيرًا فيهم روح الشجاعة. وبقدر ما أوضح قوة أعدائنا بالأكثر ألهب غيرة جنودنا (للجهاد الروحي).

"فإنّ مصارعتنا ليستْ مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيّة في السماويات" (أف 6: ١٢).

إذ تحدث عن الأعداء أنهم شرسون أضاف أنهم يسلبوننا البركات العظيمة، ما هذا؟ الصراع يقوم "في السماويات"، فهو ليس صراعًا من أجل الغِنَى أو المجد وإنما لاستعبادنا. لهذا فإنه لا مجال للمصالحة هنا في هذا الصراع... الصراع يكون أكثر شراسة كلما كان موضوعه هامًا، فإن كلمة "في السماويات" تعني "من أجل السماويات". الأعداء لا يقتنون شيئًا بالغلبة علينا إنما يُجَرِّدوننا... (عدو الخير) يبذل كل الجهد ليطردنا من السماء[258].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

بركات الحرب الروحية.

بعد الشركة العذبة التي استمتع بها داود مع الله خلال الكلمة والصلاة والتسبيح، كما ذكر في الأصحاح السابق، استأنف عمله بحبٍ ونشاطٍ فائقٍ "غالبًا ولكي يغلب". لقد قدَّمَتْ حروب داود صورة للبركات الروحية للحروب ضد عدو الخير والخطية، نذكر منها الآتي:

1. قهر الأعداء القدامى. فقد كان الفلسطينيون الوثنيون مصادر إغاظة لإسرائيل لأجيال كثيرة، ولكن داود قهرهم [1]، كذلك في آخر الأيام فإن كل رئاسة وسلطان وقوة مضادة ستخضع لابن داود، وأكثر الأعداء رسوخًا سيسقطون أمامه.

2. كثيرًا ما تتغيَّر أمور العالم، فيحدث أن يخسر الناس أموالهم وقوتهم عندما يفكرون في تثبيتها، كما حدث مع هدد عزر، فقد ضربه داود حين ذهب الأول ليقيم سلطته [3].

3. "باطل هو الفرس لأجل الخلاص" هذا ما قاله داود في مزمور (33: 17). كان يؤمن بما يقول، لأنه عرقب مركبات الخيل [4]، فإذ قرَّر ألا يعتمد عليهم (مز 20: 7) لم يستخدمهم، لأن الله أمر شعبه بأن ملكهم يجب ألا يُكثر خيله أو زوجاته.

4. كثيرًا ما يخرب أعداء كنيسة الله أنفسهم بمساعدة بعضهم البعض ضدها [5]، فإن شعب دمشق هُزِمُوا عندما حضروا لمساعدة هدد عزر، فعندما يتحدون معًا ضد الكنيسة يُجمَعون "كحزمٍ إلى البيدر (مي 4: 11 - 12).

5. ثروة الخاطي أحيانًا تكون موضوعة للبار، "فقد صار الأراميون لداود عبيدًا يُقَدِّمون هدايا" [6]. فأتراس الذهب والنحاس التي لهم أُحضرت إلى أورشليم [7 - 8]. كما بُنيت خيمة الاجتماع من غنائم مصر هكذا بُنِي الهيكل من غنائم أمم أخرى، وهذه إشارات لدخول الأمم إلى إنجيل الكنيسة.


[253] In Luc. Sermon 111.

[254] In Exode, hom 2: 1, 2.

[255] Proof of the Gospel, 7: 3.

[256] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25: 1 - 2.

[257] ميمر 11 على الزانيتين (راجع الأب بول بيجان، ترجمة دكتور سوني بهنام).Stephen A. Kaufman: Jacob of Sarug's Homily on the Judgment of Solomon, Gorgias, 2008.

[258] In Eph. hom 22.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

اَلأَصْحَاحُ الثَّامِنُ عَشَرَ - سفر أخبار الأيام الأول - القمص تادرس يعقوب ملطي

اَلأَصْحَاحُ السَّادِسُ عَشَرَ - سفر أخبار الأيام الأول - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير أخبار الأيام الأول الأصحاح 17
تفاسير أخبار الأيام الأول الأصحاح 17