الأصحاح الحادي عشر – سفر يهوديت – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 18- تفسير سفر يهوديت – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الأصحاح الحادي عشر

لقاء يهوديت مع أليفانا.

1. أليفانا يطمئن يَهوديت 1 - 4.

2. يَهوديت تقدم مشورة لأليفانا 5 - 19.

3. إعجاب أليفانا بحكمة يَهوديت 20 - 23.

الأعداد 1-4

1. أليفانا يطمئن يَهوديت

فقالَ لَها أليفانا: "تشَجَّعي، يا امرَأَة،.

ولا يَضطَرِبْ قَلبُكِ،.

لأَنِّي لم أُسِئْ قطّ إلى إِنْسان اختارَ أَن يَعمَلَ لِنَبوخَذنَصَّر،.

مَلِكِ الأَرضِ كُلِّها [1].

كانت خيمة أليفانا أشبه بحجرة عمليات عسكرية مع مسكن خاص لأليفانا كقائد عام لجيش أشور المتحرك للاستيلاء على الأمم والمناداة بملك أشور إله الأرض كلها.

في هذه الخيمة تم اللقاء الأول بين أليفانا ويهوديت، وذلك في حضرة ضباطه الواقفين بين يديه، وهو جالس على سريره أو عرشه.

إذ تطلع أليفانا إلى يهوديت بُهر بجمالها، وصار أسير شهوته، يود أن يكسب ودها بكل وسيلة.

بدأ حديثه معها يطمئنها، فقد ظن أنها في حالة رعبٍ شديد، لأنها أمام أقوى رجال العالم في ذلك الحين، يقطن في خيمته الواسعة مملوءة بالأثاث الثمينة ويحوط به قواده، فأراد أن يوحي إليها بأنه رجل مُسالم خاضع للملك، لا يُسر بالحرب والتدمير، إنما يعمل كل جهده لكي لا يظلم أحدًا.

أعلن أليفانا ليهوديت محبته لها، وتقديره لشخصيتها وحكمتها، واعتزازه بها لأنها لجأت إليه ليحميها من الهلاك.

كثيرون في دراستهم لموقف أليفانا هنا بما ورد في القصة العالمية عن "الطفلة الصغيرة صاحبة القبة الحمراء". فقد رآها ذئبًا مفترسًا وأراد التهامها، فارتدى زي جدتها، وقدم لها كلمات معسولة ليفترسها. هكذا إذ ثارت الشهوة في القائد الجبار الذي وقع رعبه على جميع سكان الأرض، لم يرد اغتصابها بالعنف، وإنما بكلمات معسولة أراد أسرها! دخل معها في حوارٍ رقيقٍ ذاك الذي لا يعرف اللطف والحنو. الذي دمرّ مدنًا كثيرة وحطم وقتل يحاور أرملة شابة ويعدها أنها تكون لا بين نساء الملك العظيم، بل وتصير مشهورة على مستوى الأرض كلها!

هوذا الذئب يحاور حملاً صغيرًا، حاسبًا نفسه أنه في مركز القوة وصاحب سلطان، وهو عاجز عن أن يضبط شهوته، ويسيطر على إرادته الضعيفة التي أذلته!

ذاك الذي كان يعتز بحملته العسكرية التي هزت الأمم، فقبلوا هدم هياكل آلهتهم ومذابحهم ليعبدوا ملك أشور، بكونه الإله الوحيد، صار عبدًا لشهوته، وانهزم أمام جمالها الجسدي، وسلم رقبته للذبح! أراد أن يخدعها بكلماته المعسولة، ولم يدرك أنه بشهوته الشريرة يُعد نفسه للدمار التام.

يُدعى إبليس "المخادع" (رؤ 9: 12؛ 3: 20)، في كل الأزمنة يحاول الخلط بين الكذب والحقيقة، وبين الشر والخير. ويكمن سرّ نجاحه المؤقت في خداعه في الآتي:

ا. جهل بعض المؤمنين حيله (أف 11: 6).

ب. رتبته الأولي كشاروب، له قدراته التي يسيء استخدامها.

ج. له خبرة طويلة ومعرفة عبر الأجيال.

د. قدرته أن يتشكل حتى يظهر كملاك نور.

هـ. استخدامه كل وسيلةٍ ممكنةٍ، وكل شخصٍ ينضم إلى حزبه، فهو الروح الذي يعمل في أبناء المعصية (أف 2: 2).

  • لا يستغرب أحد للهرطقات الموجودة اليوم، إذ أنها كانت منذ البدء، وذلك لأن الشيطان يحاول بمهارة الخلط بين الكذب والحقيقية. وكما أن الله منذ البدء وعد الإنسان بخيرات كثيرة، كذلك الشيطان يُغري دائمًا بوعوده المخادعة. الله زرع لهم جنة عدن، وجاء الشيطان وقال لهم: "ستكونون مثل آلهة" وفي الواقع لم يقدر أن يعطيهم شيئًا، كل ما في الأمر أنه بهرهم بوعوده فقط. وهذا ما يفعله المخادعون[174].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

وأَمَّا شَعبُكِ المُقيمُ في النَّاحِيةِ الجَبَلِيَّة،.

فلَو لم يَستَهِنْ بي،.

لَما رَفعتُ رُمْحي علَيهِم.

ولكِنَّه هو بالحري الَّذي فَعَلَ ذلك بِنَفسِه [2].

حاول أن يبرر أليفانا موقفه أمام يهوديت، أنه من جانبه لم يكن يود أن يحاصر شعبها ويحرمهم من ينابيع المياه. إنما الخطأ منهم لا منه، لأنهم استخفوا به واستهانوا بقدرته العسكرية.

أشد ما كان يضايق أليفانا أن اليهود قد استهانوا به، فلم يستسلموا ككثيرٍ من الأمم المحيطة بهم والتي طلبت السلام.

في قوله هذا كان أليفانا يكذب، فقد أساء إلى الأمم التي طلبت السلام وأعلنت خضوعها لأشور، إذ دمَّر مدنهم ومعابدهم.

لم يكن سهم أليفانا (آسرحدون) الذي ارتفع في غضب ضد الإسرائيليين أقل من رمح إلهه Assur: [ثُرت مثل أسدٍ، التحفت بدرعي، وخوذتي، وضعتها على رأسي علامة النصرة. لقد التقطت في يدي السيف... مثل نسر عنيف بسطت جناحي... أما فرق جيشي، تقدمت مثل فيضان اكتسح أمامي، فإن رمح أشور Assur انطلق بلا توقف وبعنف وسرعة... كان الإلهان Shar - ur وShar - gaz في صفي بجانبي[175].].

والآن قولي لي: لِمَاذا هَرَبتِ مِن عِندِهم وأَتَيتِ إِلَينا؟

فلَقَد أَتَيتِ إلى مكانٍ آمنٍ.

تشَجَّعي!

ففي هذه اللَّيلةِ ستَحيَينَ،.

وكذلك في ما بَعد [3].

بعد أن مدح يهوديت، ولبس ثوب الحمل الوديع الذي لم يكن يشتهي الدخول في معركة مع شعبها، أراد أن يتحقق بنفسه ما هو حال شعبها، وماذا يتوقعون.

بقوله: "في هذه الليلة تحيين"، نتلمس أنه كان في نيته أن يبدأ الحرب، وفي مخيلته أنه سيهلك بني إسرائيل تمامًا، ولن ينجو أحد منهم.

كان يتوقع أليفانا من يهوديت أن تبلغه رسالة خاصة من رؤساء شعبها، أو أنها هاربة لتنجو من الموت المترقب عندما يقتحم جيشه المدينة، فسلمت نفسها في لجوءٍ سياسيٍ!

لَن يُؤذيكِ أَحد،.

بل يُحسِنونَ إِليكِ،.

شأَنَ كل عَبيدِ سَيِّدي نَبوخَذنَصَّر المَلِك "[4].

وعدها ألاَّ يسلمها لأحد من ضباطه وجنوده، بل يضمها إلى سراريه وجواريه، فيُحسن إليها الجند.

ظن أنه قد ضمها إلى مملكته، وصارت تحت حمايته، ولم يعلم أنه سيكون غنيمتها. هكذا يطمع عدو الخير إبليس في الإنسان واعدًا إياه أنه يضمه إلى مملكته، ويفيض عليه بالعطايا، ويشبع شهواته، ولن يصيبه سوء.

الأعداد 5-19

2. يَهوديت تقدم مشورة لأليفانا

عندئذ قالَت لَه يَهوديت: "تَقَبَّلْ كَلامَ أَمَتِكَ،.

ولْتَتَكَّلَمْ خادِمَتُكَ في حَضرَتِكَ،.

ولا أُخبِرُ سَيِّدي بِالكَذِبِ في هذه اللَّيلة [5].

ظن القائد في يهوديت أنها مضطربة القلب، وأنها تخشاه كقائدٍ جبارٍ عنيفٍ يسيء إليها، لذلك حاول أن يطمئنها أنه لن يسيء إلى من يختار العمل لحساب الملك آسرحدون بكونه ملك الأرض كلها.

جاء خطاب يهوديت مقاربًا لخطاب أبيجايل في لقائها مع داود لتهدئة ثورة غضبه ضد زوجها نابال الكرملي (١ صم ٢٥). اتسمت أبيجايل ويهوديت بالحكمة مع الشجاعة، وكانت كل منهما تطلب الخلاص، لا لشخصيهما، بل لجماعة كبيرة. فأنقذت أبيجايل رجلها وكل أهل بيته حتى عبيده والأجرى العاملين عنده، وأنقذت يهوديت الشعب كله.

بدأت حديثها الطويل مع أليفانا في تواضع، فكانت تكرر تعبيري: "أمتك"، و "خادمتك".

وإِنِ اتَّبَعتَ كَلامَ خادِمتِكَ،.

يُتمِمُّ اللهُ عَمَلَه مَعَكَ،.

ولا يُخفِقُ سَيِّدي في مَساعيه [6].

تحدثت معه بحكمة، فأبرزت له وإن كانت تحمل إعلانات إلهية، فإنها تساعده في تحقيق أهدافه كقائدٍ عظيمٍ دون أية خسائر، لا في المعدات ولا في الرجال.

لِيَحْياَ نَبوخَذنَصَّر، مَلِكُ الأَرضِ كُلِّها،.

ولتدمْ قُدرَتُه، فهُو الَّذي أَرسَلَكَ لِتُؤَجه كُلَّ نَفْس،.

لأَنَّه لَيسَ النَّاسُ وَحدَهم يَعمَلونَ لَه عن يَدِكَ،.

بل وُحوشُ البَرِّ والقُطْعانُ وطُيورُ السَّماءِ تَحْيا لِنَبوخَذنَصَّر ولكُلِّ بَيتِه [7].

حديث يهوديت يكشف عما كان في فكر الملك الأشوري وقائده، أن نبوخذنصر ملك الأرض كلها، عظيم في إمكانيته وقدراته، أرسل القائد القوي القادر أن يوَّجه الأمم المقاومة إلى الخضوع له. كما كان الملك وقائده يظنان أن وحوش البرية والغنم وطيور السماء تحيا بقدرته المتجلية في القائد العسكري أليفانا لحساب الملك وبيته.

كانت كلمات يهوديت في مديح أليفانا وملكه تنزل على أذنيه كالموسيقى، حاسبًا ما قالته حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد أو برهان: [كنت أسير منتصرًا... من قوتي لا تُنافس، ولم يوجد بين الرؤساء من يسبقني، لا لن يوجد... [176]].

من الحكمة أنها مدحت سيده نبوخذنصر، ودعت له بالحياة، وهذا ما يتمناه كل عظيمٍ أن يبقى في عظمته. وأعلنت سلطانه على الأرض لاستيلائه على كثير من مدن العالم المحيط به. استراح أليفانا لكلماتها، لأنها تبرزه كقائدٍ أمينٍ لسيده يطلب له العظمة والسلطان قبل أن يطلبه لنفسه.

في نفس الوقت مدحت أليفانا نفسه كمندوبٍ عسكريٍ يوجه كل الأمم لتخضع للملك الأشوري.

فلَقَد سَمِعْنا بِحِكمَتِكَ وبِانجازات حياتك،.

ويُخبَرُ في الأَرضِ كُلِّها بأَنَّكَ وَحدَكَ صالِحٌ في المَملَكَةِ كُلِّها،.

ومُقتَدِرٌ في العِلْم،.

وعَجيبٌ في قِيادة الحَرْب [8].

امتدحت يهوديت أليفانا بالحكمة البشرية والذكاء والقيادة الناجحة للجيش، وهذه صفات حقيقية في أليفانا، أفسدتها حياته الشريرة، وفساد قلبه، وتشامخه، وانحراف إرادته، ومقاومته لله الحقيقي.

وقد سَمِعْنا كَلِمات الخِطابُ الَّذي فاهَ بِه أَحْيورُ في مَجلِسِكَ،.

لأَنَّ رِجالَ بَيتَ فَلْوى قد أَبقَوا علَيه،.

فأَخبَرَهم بِكُلِّ ما تكَلَّمَ بِه لَدَيكَ [9].

بحكمة عجيبة تحدثت بعد ذلك عن حديث أحيور رئيس بني عمون معه، وما رواه عند مجيئه إلى اليهود:

أ. لم تتحدث عنه في البداية حتى لا تثيره، لأنه كان يحسب أحيور قد أهانه بكلماته عن إله اليهود المحارب عنهم. إنما تركت الحديث عنه بعد أن مدَّحت ملك أشور وأليفانا، وبعد أن أظهرت أن شعبها في حالة رعبٍ شديدٍ، فاستراحت نفس أليفانا لكلماتها.

ب. بحديثها عن أحيور شعر أليفانا أن يهوديت لم تخفِ عنه شيئًا فاطمأن لمشورتها وأحاديثها.

ج. أدرك أليفانا أن حديث يهوديت يحقق بالأكثر ما كان يشتهيه، وهو موت أهل المدينة ومعهم أحيور.

د. لم يقدم أحيور الوسيلة العملية لكي يرتكب اليهود إثمًا ضد إلههم، أما يهوديت فأبرزت – بالصدق – أمورًا كانت مخفية عنه في هذا الشأن فقد بدأوا بالفعل في كسر الشريعة، مثل عجزهم عن تقديم العشور والبكور التي كانوا يقدسونها لله، وذلك بسبب شدة العطش والجوع وحلول مجاعة قاسية [13]. ومن جانب آخر طلبوا السماح لهم أن يذبحوا البهائم لشرب دمائها بسبب نقص المياه مع العطش الشديد، وهذا يخالف الشريعة [12].

فيا أَيُّها السَّيِّد، لا تُهمِلْ خِطابَه،.

بلِ احفَظْه في قَلبِكَ، لأَنَّه حقّ.

فلا تُُعاقَبُ أمتنا، ولا يَقْوى سَيفٌ علَيهِا،.

إِن لم تَخطئ إلى إِلهِهِا [10].

بحكمة مع شجاعة أكدت يهوديت ما قاله أحيور القائد العموني أنه حق، وأنه يستحق الدراسة. لكن شتان ما بين أسلوب أحيور وأسلوب يهوديت. كلاهما قالا الحق، غير أن حديث أحيور أثار أليفانا للانتقام منه، أما حديث يهوديت بحكمة، فجعله يقبل مشورتها بتأجيل التحرك للمعركة، في رضا وارتياح.

والآن، فلِئَلاَّ يَكونَ سَيِّدي مَنْبوذًا أَو فاشِلاً،.

فالمَوتُ يَنقَضُّ علَيهِم،.

وقَدِ استَولَت علَيهِمِ الخَطيئَة،.

تِلكَ الخطيئةُ الَّتي يُثيرونَ بِها غَضَبَ اللهِ كلَما ارتكبوا مُخالَفة [11].

لم تكذب يهوديت فإن شعبها يعاني من الجوع والعطش حتى اقترب الموت إليهم.

استطاعت يهوديت أن تنفذ الوصية: "الجواب اللين يصرف الغضب" (أم 15: 1).

وبِما ًأنَّ الطَّعامَ قد أَعوَزَهم،.

وأَنَّ كُلَّ ماءٍ قد شحَّ،.

فقَد عَزَموا على تَعْويضِ أَنْفُسِهم مِنها بِقُطْعانِهم،.

وقرَّروا استِعْمالَ كُلِّ ما نَهاهمُ اللهُ في شَرائِعِه عن أَكْلِه [12].

أوضحت يهوديت أن سقوط الشعب اليهودي صار على الأبواب، فقد صارت الضرورة ملَّحة أن يشربوا دم الحيوانات لإروائهم من العطش بسبب نقص الماء.

وأَمَّا بكور الحِنطَةِ وعُشورُ الخَمرِ والزَّيتِ الَّتي حافَظوا علَيها،.

لأَنَّهم كَرَّسوها لِلكَهَنَةِ القائمينَ في أُورَشَليمَ أَمامَ وَجهِ إِلهِنا،.

فقَد حكَموا بِتَناوُلِها،.

مع أَنَّه لا يَحِلُّ لأَي شخصٍ أَن يَلمُسَها بِيَدَيه [13].

صورت يهوديت ما حلّ بشعبها حقيقة كأنه خطية قد سقطوا فيها، ألا وهي أن الشعب قد أصرّ أن يسمح له رئيس الكهنة أن يأكل البكور والذبائح والتقدمات التي من حق الهيكل، وذلك بسبب المجاعة التي حلت بهم. هذا وقد جاء في الترجمة اللاتينية أن الشعب طلب أن يشرب دم المواشي بسبب العطش الشديد. هذا قد حرَّمته الشريعة، وطالبت أن يُسفك على الأرض (تث ١٥: ٢٣). الآن قد سلبوا حق الله، وكسروا الشريعة، فصار هلاكهم قريب للغاية، متى سمح لهم رئيس الكهنة بطلبتهم.

وأرسَلوا أناسًا إلى أُورَشليم،.

لأَنَّ السُّكَّانَ هُناكَ أَيضًا قد فَعَلوا مِثلَ ذلك،.

أُناسًا يَنقُلونَ إِلَيهِمِ الإِعْفاءَ مِن قِبَلِ مَجلِسِ الشُّيوخ [14].

قدمت يهوديت خبرًا مفرحًا لأليفانا، وهو يمثل جزءًا من الحقيقة، لا الحقيقة الكاملة. فقد طلب الشعب من مجلس الشيوخ التوسط لإعفائهم من تقديم البكور، مما يسبب غضب الله عليهم لعدله، وأخفت أن الله رحوم لا يطلب من شعبه ما هو فوق إمكانياتهم.

ويكونُ، إِذا ما بَلَغَهم هذا الإِعْفاءُ وعَمِلوا بِه،.

أَنَّهم في ذلك اليَومِ يُسلَمونَ إِلَيكَ لِهَلاكِهِم [15].

إذ اقترب وقت هلاك شعبها يليق به أن ينتظر قليلاً، لقد دفعته إلى تأجيل الهجوم حتى يحقق الله على يديها قتله وخلاص شعبها منه ومن جيشه.

وكذلك أَنا أَمَتَكَ، لَمَّا عَلِمتُ بِكُلِّ ذلك،.

هَرَبتُ مِن هؤلاء الناس،.

وأَرسَلَني اللهُ لأَعمَلَ مَعَكَ أَعْمَالاً تَدهَشُ لَها الأَرضُ كُلُّها،.

إِذا سَمِعَت بِها [16].

ما تقوله حق، إذ شعرت وتيقنت أن ما تفعله هو من قِبل الله، وأنه هو الذي أرسلها إلى أليفانا، وأن ما ستفعله من أعمال تدهش لها الأرض كلها. لم يكن يدرك أن ما تفعله معه هو قطع رأسه.

كان الملوك والقادة العسكريون قديمًا يجلون كهنة الأوثان والأنبياء، فلا يتحركون خاصة للهجوم في معركة إلاَّ بعد استشارتهم. وقد ظن أليفانا في يهوديت كأحد هؤلاء الكاهنات أو النبيات الوثنيات. لذلك وافق على تأجيل الهجوم، كما سمح لها بالخروج والدخول من وإلى المعسكر مع وصيفتها لتمارس العبادة، وتستشير الله عن موعد هجومه. حسبها أنها ستعمل لحسابه وحساب أشور.

فإِنَّ أَمَتَكَ تَخاف الله، تَخدُمُ لَيلَ نهارَ إِلهَ السَّماء.

والآن سَأُقيمُ عِندَكَ، يا سَيِّدي،.

وستَخرُجُ أَمتُكَ لَيلاً إلى الوادي،.

وأُصَلِّي إلى الله،.

فيَقولُ لي متى يَرتَكِبونَ خَطاياهم، [17].

في تواضعٍ، تكرر مرة ومرات تعبير "أمتك"، وتدعوه: "يا سيدي".

كم كانت مسرته وهي تكشف له رغبتها "سأقيم عندك"، فإن هذا قمة ما يشتهيه في قلبه حتى يمكنه أن يداهنها ويغتصبها برضاها. أما عن السماح لها بالعبادة ليلاً في الوادي فمن أجل منفعته، إذ يخبرها الله متى يرتكبون خطاياهم، فيكون ذك مؤشرًا للتحرك لا للدخول في معركة بين فريقين أحدهما أقوى من الآخر، إنما يدخل بجيشه ولا يجد أحدًا يقف أمامه.

فأَجيءُ في تلك الساعة وأُخبِرُكَ،.

فتَخرُجُ بِجَيشِكَ كُلِّه،.

وما مِن أَحَدٍ مِنهم يَقدر أن يقاومكَ [18].

لم تكن في نية يهوديت أن تفعل هذا، لأنها كانت تثق أنه وإن كان الشعب يرتكب خطايا، غير أن الله غافر الخطية ينظر إلى انسحاق نفوسهم أمامه، وأنه سيهلك أليفانا قبل أن يتحرك بجيشه ليستلم المدينة دون أن يقف أحد أمامه.

ربما رأت يهوديت أنها وأن قدمت نوعًا من الخداع لكن بالحق إن تحرك أليفانا لا يقدر أحد من أهل المدينة أن يقف أمام أليفانا وجيشه، إنما يقف الله نفسه وقوات السماء ضده، فيتحقق قول إليشع النبي لتلميذه جيحزي: "الذين معنا أكثر من الذين معهم".

لن يوجد أحد من البشر يقف أمام أليفانا، لكن رب القوات نفسه يحطمه!

لقد آمنت يهوديت أن الحرب القادمة لا تقوم على معركة بشرية، بل يتدخل الله نفسه كطرفٍ فيها. هذه هي خبرة أولاد الله عبر العصور، فإن شعبه لم يتحرر من عبودية فرعون بذراع بشري ولا بسيف مادي، وإنما بدم الحمل واهب الخلاص. قال موسى للشعب: "لا تخافوا؛ قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم... الرب يُقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 13، 14). وقد رنم الكل قائلين: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر؛ الرب قوّتي ونشيدي؛ وقد صار خلاصي... الرب رجل حرب" (خر 15: 1 - 3).

لم يغلب موسى عماليق بالسيف وإنما ببسط يديه كما على مثال الصليب.

وعند دخول يشوع أرض الموعد حطم أسوار أريحا لا بالسيف بل بأبواق الهتاف وتابوت العهد (يش 6: 4).

وقال داود الصبي لجليات الجبار: "أنت تأتي إليّ بسيف وبرُمح وبترس؛ وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (1 صم 17: 45).

لسنا نرث أرض الموعد، أورشليم العليا، بسيفنا وإنما بسيف الرب الخارج من فمه (رؤ 1: 16؛ 19: 15) القادر أن يفصل الحق عن الباطل، يبتر فينا ما هو دنس.

قيل عن فرعون: "هأنذا على فرعون ملك مصر فأكسر ذراعيه القوية والمكسورة، وأُسقط السيف من يده... وأشدد ذراعيّ ملك بابل وأجعل سيفي في يده، وأكسر ذراعي فرعون فيئن قدامه أنين الجريح..." (حز 20: 22 - 24). إذ يمسك الشرير أسلحته يحطم الله ذراعيه، فتنهار قوته ويخسر سلاحه، ويبقى الله نفسه سندًا لأبراره، يحملونه فيهم كذراعين للعمل المستمر لحساب مملكته:

"قم يا رب تقدمه، اصرعه، نج نفسي من الشرير بسيفك" (مز 17: 13).

"أنقذ من السيف نفسي، من يد الكلب وحيدتي" (مز 22: 20).

"الأشرار قد سلوا السيف، ومدوا قوسهم لرمي المسكين والفقير، لقتل المستقيم طريقهم" (مز 37: 14).

"سيفهم يدخل في قلبهم وقسيهم تنكسر" (مز 37: 15).

"لأنه ليس بسيفهم امتلكوا الأرض، ولا ذراعهم خلصتهم، لكن يمينك وذراعك ونور وجهك، لأنك رضيت عنهم" (مز 44: 3).

"لأني على قوسي لا أتكل، وسيفي لا يخلصني" (مز 44: 6).

"تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك" (مز 45: 3).

"المعطي خلاصًا للملوك المنقذ داود عبده من السيف السوء" (مز 144: 10).

  • بك نذرّي أعداءنا. فسيأتي وقت فيه يُذرَّى أعداء المسيحيين كالقش، يُنفخون كالتراب، ويُطردون من الأرض (الجديدة أي الأبدية)... هذا بخصوص المستقبل.

إنني لا أثق في قوسي، كما لم يثق آباؤنا في سيفهم؛ وسيفي لن يخلصني.

  • إنك تخلصنا من أعدائنا، إذ تعطينا ملكوتًا أبديًا، وفينا تتحقق الكلمات: "طوبى للذين يسكنون في بيتك، أبدًا يسبحونك".
  • هل يؤذيك شر فاعل الإثم ويبقى هو بلا ضرر؟ أما يحدث أن حقده الذي ينفجر من حمو غضبه وكراهيته ليهدف إلى العصف بك أن يدمره هو أولاً، ويهلك أعماق نفسه قبلما يهاجمك علانية؟!

سيفَهُمْ يدخل في قلبهم؛ من السهل أن يمس سلاحه أي سيفه جسدك كما بلغ سيف المضطهدين أجساد الشهداء فاخترقها، لكن بقيت قلوبهم سليمة بلا ضرر؛ لكن من الواضح أن الذي أنتزع السيف ليضرب به جسد البار لا يسلم هو من الضرر. لقد وضع في قلبه أن يقتل جسد إنسان؛ دعه يجتاز موت النفس!

  • المملكة هي للرب، لا للإنسان المتكبر، وهو يتسلط على الأمم.

القديس أغسطينوس.

وأَقودُكَ في وَسَطِ اليَهوديَّة،.

إلى أَن تَصِلَ أَمامَ أُورَشَليم،.

وأَجعَلُ مركبتكَ في وَسَطِها،.

فتَسوقُهم كَخِرافٍ لا راعِيَ لَها،.

ولا يَنبِحُ أَمامَكَ كَلْبٌ.

قِيلَ لي كُلُّ ذلك بِحَسَبِ سابِقِ عِلْمي.

وأُرسِلتُ لأُخبِرَكَ بِه "[19].

"كخرافٍ لا راعي لها" تعبير شائع يشير إلى انهيار الحاكم وانفلات زمام الأمور. ليتحول الشعب إلى برية بها خراف لا تجد من يقودها (عد ٢٧: ١٧؛ ١ مل ٢٢: ١٧؛ مت ٩: ٣٦).

"لا ينبح أمامك كلب" عبارة سامية تدل على عدم وجود أية مقاومة ولا معارضة، كأنه يعمل في هدوءٍ شديدٍ وبنجاحٍ، فلا يشعر به كلب حارس للموقع ينبح عليه.

الأعداد 20-23

3. إعجاب أليفانا بحكمة يَهوديت

وحَسُنَ هذا الكَلامُ لَدى أليفانا، ولَدى جَميعِ خدامه،.

وأُعجِبوا بحِكمَتِها وقالوا: [20].

"لا مَثيلَ لِهذه المرأَةِ مِن أَقْصى الأَرضِ إلى أَقْصاها،.

في جمالها وحِكمةِ الكَلام "[21].

إنها نعمة الله التي يفيض بها على أولاده، فيجعل أهل العالم يمجدونهم ويخضعون لهم. لأن القوة الحقيقية في الإنسان كامنة في داخله، أي قوة الله الساكن فيه، والعامل فيه وبه، وليست قوة المظاهر الخارجية. هذه القوة الحقيقية هي التي تخضع الكل له[177].

"جمالها وحكمة الكلام"، ذات الوصف الذي قيل عن أبيجايل: "جيدة الفهم، وجميلة الصورة" (١ صم ٢٥: ٣). هكذا أعطاها الله نعمة في أعين أليفانا وضباطه.

وقالَ لَها أليفانا: "أَحسَنَ اللهُ في إِرسالِكِ أَمامَ الشَّعب،.

لِتكونَ القُدرَةُ في أَيدينا،.

ويكونَ الهَلاكُ في الَّذينَ استَهانوا بِسَيِّدي "[22].

يا للعجب! تحول أليفانا عن طلبه الدائم من كل الأمم أن يعبدوا ملك أشور كملك الأرض كلها، وليس إله آخر غيره، إلى مدح الله إله يهوديت الذي أحسن بإرسالها أمام الشعب لكي تخطط لأليفانا للنصرة وللمقاومين له للهلاك.

سرّ إعجابه بإلهها أنه يحقق له منافع شخصية.

  • انظروا! تقدم يهوديت نفسها إليكم كمن هي مستحقة للإعجاب. لقد اقتربت من هولوفرنيس Holophernes، إنسان يخافه الجمهور، يحيط به فرق من الأشوريين منتصرة. في البداية أثرت عليه بنعمة شكلها وجمال ملامحها. بعد ذلك اصطادته برقة حديثها. أول نصرة لها أنها عادت من خيمة العدو وطهارتها لم تُمس. والثانية أنها نالت نصرة على رجلٍ، وأعطت للشعب أن يهرب بمشورتها[178].

القديس أمبروسيوس.

والآن فأَنتِ لستِ جميلة في طَلعَتِكِ فحسب، بل وحكيمةٌ في كَلامِكِ.

فإِن عَمِلتِ بِما قُلتِ، يكونُ إِلهُكِ إِلهي،.

وأَمَّا أَنتِ فتُقيمينَ في بَيتِ نَبوخَذنَصَّر المَلِك،.

وتكونينَ مَشْهورةً في كل الأَرضِ "[23].

لم يقف الأمر عند إعجابه بيهوديت ومديحه لإلهها، وإنما وعدها أنه سيشاركها العبادة: "إلهك إلهي".

لا يُفهم من قوله "إلهك إلهي" أنه سيقبل العبادة لله الحيّ، لكنه حسبها كاهنة أوثان يشاركها عبادة صنمها الذي تتعبد له. شتان ما بين اعتراف أحيور لإله هذا الشعب واعتراف أليفانا. ما يشغل الأول هو عمل الله العجيب عبر الأجيال، أما الثاني فتشغله الشهوات والمجد الباطل.

ظن أليفانا أنه يبهج قلب يهوديت، بقوله: "وأما أنتِ فتقيمين في بيت نبوخذنصر الملك، وتكونين مشهورة في أنحاء الأرض كلها". ولعله قصد أن العالم كله سيشهد للخدمة التي ستقدمها لمملكة أشور.

من وحي يهوديت 11.

هب لي روح الحكمة يا رب القوات.

  • لقاء خطير بين أرملة ضعيفة البنية وأعظم قائد!

التقت به دون أن تفارق الحضرة الإلهية عينيها.

كانت في خيمة خطيرة،.

يخشى القواد الدخول إليها.

يرتعب الكل إن استدعاهم أليفانا، حتى للتشاور معهم.

  • تقدمت يهوديت، وقد تسلحت بالله إلهها!

ظنها أليفانا أنها ترتعب أمامه وحوله كبار القادة.

حاول أن يطمئنها أنه رجل سلام لا يعرف الظلم.

حاول أن يتحدث معها في حوارٍ طويل.

أخذ موقف الحية في حديثها مع حواء.

لكن بنت حواء هذه كانت صورة لحواء الجديدة.

حواء الأولى اشتهت أن تصير مع رجلها مثل الله.

بنت حواء اشتهت أن تختفي في الله.

تكلمت بروح التواضع وفي حكمة.

  • حاول أليفانا أن يخدعها ليغتصبها.

أما هي فتسَّلحت بالقدوس القدير الذي لا يُخدع.

  • ألقت بالصنارة أمامه، فهو ابن إبليس المتعجرف،.

استراح لمديحها وُأعجب لحكمتها.

وحسب الله إلهها قد أحسن بإرسالها له.

  • امتدح رسالتها، وظن أنه يغريها،.

أكد لها أنها ستقيم في بيت الملك،.

وتكون مشهورة في أنحاء الأرض.

أما هي فكانت تقيم في حضن الله،.

وتُسر بها قوات السماء!

  • هب لي يا رب روح التواضع مع الشجاعة.

أعطني روح الحكمة مع الشركة المقدسة.

اكشف لي عن الرسالة التي تخططها لي.

أنت سرّ نجاحي ونصرتي وفرحي مجدي!


[174] In 2 Tim. hom. 8.

[175] Luckenbill, p. 561.

[176] Luckenbill, p 507, 521.

[177] القس يوحنا باقي: دراسات في سفر يهوديت، 1997، ص 65.

[178] Duties of the Clergy, Book 3: 13: 82.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الثاني عشر - سفر يهوديت - القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح العاشر - سفر يهوديت - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر يهوديت الأصحاح 11
تفاسير سفر يهوديت الأصحاح 11