الفصل الثانى – رسالة الأنجيل في المفهوم الأرثوذوكسي – معهد فلاديمير الروسي- القمص أشعياء ميخائيل

هذا الفصل هو جزء من كتاب: رسالة الأنجيل في المفهوم الأرثوذوكسي – معهد فلاديمير الروسي- القمص أشعياء ميخائيل.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الفصل الثانى

خليقة الله وسقوط الإنسان

إن الأصحاحات الأحد عشر الأولى من سفر التكوين تتحدث عن قصة العالم الأول والجنس البشرى وشعب بنى إسرائيل. وقد حرر الله شعب بنى إسرائيل منذ ثلاثة عشر قرناً قبل الميلاد من عبوديتهم فى مصر وأعطاهم أن يمتلكوا الأرض الموعود بها.

ولقد تحدث سفر التكوين Genesis عن نقطة البداية مع بنى إسرائيل حيث اختارهم الله. ويعتقد بعض الدارسين أن سفر التكوين قد تم تجميعه من الوثائق القديمة والتقاليد الشفاهية التى كوّنها جماعة اليهود المتدينين أصحاب السلطة فى القرن الخامس قبل الميلاد. ولا تنكر الكنيسة الأرثوذكسية تلك الحقيقة ولكنها تُعلّم بأن سفر التكوين قد وجد وكتب وجمع عن طريق الوحى الإلهى بالروح القدس. ولم تكتب الأصحاحات الأولى من سفر التكوين من أجل العلم أو الخبرة التاريخية بل من أجل التاريخ المقدس واعلان الحقائق الدينية التى تربط علاقة الله بالإنسان وبالكون كله وعلى وجه الخصوص بشعب بنى إسرائيل. ولم تكن هذه الفصول من الكتاب المقدس فصول علمية عن أصل الإنسان والكون ولكن هو شرح لاهوتى تاريخى لتوضيح أصل نسب الجنس البشرى وحكم شعب (بنى إسرائيل) تحت خطة العناية الإلهية من أجل العالم.

إن الإصحاحات الاحد عشر الأولى من سفر التكوين تحوى حقائق هامة عن خلقة الله للعالم، وإن الإنسان مخلوق على صورة الله، وإن الجنس البشرى قد تغرب عن الله كنتيجة للخطية، وأن العالم الذى أخطأ واقع تحت دينونة الله، وإن مراحم الله تعمل من أجل فداء خليقته من قوى الشر والموت.

ومع أن بعض الأشخاص والحوادث موجودة فى الفولكلور اليهودى (مثل آدم وحواء وهابيل وشيث ونوح وقصة الطوفان) ولكن يجب أن نقبل حرفياً كل ما جاء فى الأصحاحات الأحد عشر الأولى وأنها حقائق نقبلها بكل تفاصيلها.

ونميل إلى قبول الرأى الله قد خلق الإنسان بعد حوالى 120 ساعة من خلقة العالم، وان النور قد وجد قبل خلقة الشمس (تك 1: 3 - 5، 14 - 19) لأن العالم كان محاطاً بالمياه (تك 1: 6 - 8) وان عمر الكون لا يزيد عن ستة أو سبعة آلاف سنة. وإن لغة الجنس البشرى كانت واحدة حتى سقوط برج بابل وان اللغات المختلفة للجنس البشرى لا يزيد عمرها عن أربعة آلاف سنة (تك 11: 1 - 9).

ولكن هناك بعض العلماء لا يقبلون حقائق الإنجيل بخصوص خلقة الكون وتاريخ الإنسان، فهم على سبيل المثال يقولون ان عمر الكون هو ملايين من السنين وأن الكون لم يكن محاط بالماء، وان الإنسان قد ظهر إلى الوجود منذ حوالى مليونين من السنين وان هناك لغات متعددة قبل برج بابل.

ولكن يجب أن تقبل حرفية كل ما جاء فى الاصحاحات الأحد عشر من سفر التكوين. وان سفر التكوين لم يكتب من أجل اثبات أى حقيقة علمية بخصوص الخلقة والكون، ولكن لاعلان أن الله هو خالق العالم والجنس البشرى، وان بنى البشر قد انفصلوا عن الحضرة الإلهية ولكى يخلصوا من قوى الشر والموت يجب أن يرجعوا إلى الله من أجل الحب والطاعة. وان الاصحاحات الأولى للخلقة هى مجرد اعلان من الروح القدس من أجل خلاص البشر والعالم. وان تلك الاصحاحات هى تاريخ مقدس يحوى وقائع متطابقة وسليمة، ولا يمكن اعتبارها خرافات بأى حال من الأحوال، ولكن هى اعلان لطبيعة الله وخطته من أجل خلاص البشر والعالم.

أما محتويات الاصحاحات الأحد عشر الأولى من سفر التكوين فهى تشمل موضوعين أساسين:

1 - الموضوع الأول هو العلاقة الأصلية بين الله والإنسان والعالم، ثم دخول الخطية – التى هى التعدى – إلى العالم (ص1، ص2) ز.

2 - الموضوع الثانى يشمل انفصال الإنسان عن الله كنتيجة للخطية وقضاء الله ودينونته لهذه الخطية ومراحمه المعلنة لفداء الإنسان والعالم من عبودية الشر (ص3 حتى ص11). إن الاصحاحين الأول والثانى يتحدثان عن العلاقة بين الله والإنسان كما كانت وعن الطبيعة كما أوجدها. بينما الاصحاحات من (3 - 11) تتحدث عن تلك العلاقة بعد أن فسدت وتدمرت عن طريق عناد الإنسان الشرير ضد حب الله وإرادته.

1 - الله والإنسان والكون:

إن محور الاصحاح الأول والثانى من سفر التكوين هو خلقة الله للعالم وللإنسان.

ففى الاصحاح الأول يتم تقسيم أيام الخليقة إلى ستة أيام. وبعد تلك المقدمة «فى البدء خلق الله السموات والأرض» (تك 1: 1)، تحدث عن خلقة الله لنور النهار « وقال الله ليكن نور فكان نور» (تك 1: 3)، ثم مناخ الأرض « وقال الله ليكن جلد... وفصل بين المياه التى تحت الجلد والمياه التى فوق الجلد» (تك 1: 6 - 8)، ثم الأرض والنباتات (تك 1: 9 - 13)، ثم الشمس والقمر والنجوم (تك 1: 14 - 19)، ثم المخلوقات البحرية والطيور (تك 1: 20: 23)، وأخيراً حيوانات الأرض ثم جنس البشر (تك 1: 24 - 30). ثم يضيف الأصحاح الثانى السبت العظيم وهو راحة الله بعد أيام الخليقة الستة بعد أن أوجد الله جنة عدن ليسكن فيها بنى البشر.

ومعظم الدارسين يعتقدون بأن الأصحاح الأول والثانى من سفر التكوين يتحدثان عن نوعين من قصص الخليقة مأخوذين من مصدرين أثنين من التقليد عن إسرائيل القديمة. ان أيام الخليقة الستة تنتهى بيوم الله السابع، واليوم السابع أوجده الله للراحة.

إن هذين الأصحاحين كتبا فيما بين القرن العاشر والقرن الخامس قبل الميلاد وهى تشرح تقاليد بنى إسرائيل القديمة والتى ترجع إلى عهد موسى 1300ق. م وآبرام 2000 ق. م وتحوى أسفار موسى الخمسة هجرة بنى إسرائيل من قوت إبراهيم إلى وقت سبى بابل فى القرن السادس قبل الميلاد.

اما مصادر أسفار موسى الخمسة فهى أربعة مصادر عرفت بالاختصارات الآتية J. E,D. P.

1 - المصدر الأول يُرمز له بحرف «J» لأنه كتب فى منطقة يوآب (Judab) فى جنوب إسرائيل. وكتبت عن الله الذى هو يهوه Jahveh وفقاً لتقاليد بنى إسرائيل الدينية القديمة.

2 - المصدر الثانى يُرمز له بحر «E» لأنه كُتب فى منطقة افرايم Ephraim أى شمال إسرائيل وهو يستخدم كلمة الوهيم Elohim كأسم من أسماء الله. وكتبت هذه المصادر فيما بين 900 – 750 ق. م.

3 - المصدر الثالث ويُرمز له بالحرف «D» لأنه يكوّن اساسيات سفر التثنية Deuteronmy وكُتبت نحو القرن السابع قبل الميلاد.

4 - أما المصدر الرابع «P» الذى كُتب فيما بين القرن السادس والخامس قبل الميلادى فهو يحوى التقاليد القديمة المحفوظة عن طريق الكهنوت Priesthood ولذلك اطلق عليه رمز «P» إشارة إلى تقاليد الكهنوت فى أورشليم.

وهذه المصادر الأربعة قد تجمعت معاً فى مراحل مختلفة وفى أوقات متباينة واحتوتها أسفار موسى الخمسة وقد اكتملت عام 400 ق. م، وان التقاليد الشفاهية التى دونت فى هذه الوثائق المكتوبة ترجع بنا إلى وقت موسى النبى والخروج وبنى إسرائيل الأوائل. ويرجع المسيحيون إلى الأسفار الخمسة على أنها أسفار موسى النبى.

ويحوى سفر التكوين مادته من المصادر «J. E. P» وان الأصحاح الأول من سفر التكوين حتى العدد الثالث من الأصحاح الثانى مأخوذ من المصدر «P» أما الأصحاح الثانى من العدد 4 إلى العدد 25 فهو مأخوذ من المصدر «J» ولذلك نقول بان هناك مصدرين للأصحاح الأول والثانى هما «P and J».

والأصحاح الأول يتحدث عن مكانة الإنسانية بالنسبة لله وخطته وعنايته ومكانة الإنسان أيضاً بالمقارنة مع المخلوقات الإلهية للكون كله. ويتحدث الأصحاح الثانى على خليقة الله وقصده من الجنس البشرى.

أ - الله والخليقة:

لم يُكتب الأصحاحان الأول والثانى من سفر التكوين لتسجيل حقائق علمية أو لوصف أمور تاريخية ولكن كُتبْ لاعلان معانى لاهوتية.

فهذان الأصحاحان هما اعلان ان الله واحد ويفوق كل الوجود وهو الذى خلق العالم من لا شئ وهو الذى يسود على كل العالم والخليقة. وهذا الفكر يختلف تماماً عن فكر الوثنيين فى مصر القديمة وبابل وإيران والهند واليونان وروما.

وفى تأكيد وحدانية الله Monotheism إنما هو رفض لفكر الوثنيين واعتقادهم بتعدد الآلهة Polytheism. وفى القول بأن الله يفوق ويعلو على كل العالم إنما يعبر عن رفض وجهة نظر الوثنيين بأن الآلهة هى جزء من مكونات العالم Pantheism.

وفى التمسك بأن الله هو رب كل العالم وليس إسرائيل فقط إنما هو رفض لفكر الوثنيين فى عبادة إله القبيلة أو العشيرة فقط. ويجب أن نعرف أن آلهة الوثنيين كثيراً ما تكون عديمة الاخلاق Immoral رغم تصوير قوتها. أما فى سفر التكوين فإنه يتم تصوير الله بأنه صالح تماماً وبار وعادل.

ومن نقطة البداية فإن إله إسرائيل هو إله واحد يفوق الادراك صالح صلاحاً تاماً ويسود على الخليقة كلها.

وإن الاعلان الإنجيلى بأن الله هو خالق العالم من لا شئ إنما يبيّن الاختلاف عن الفكر الوثنى القديم. لأن الفكر الوثنى يعلن أن الكون خالد وأبدى وبالتالى غير مخلوق أو هو مخلوق بالقوة الإلهية ولكن من بعض المواد السابق وجودها.

وبمعنى آخر حين يتحدث الوثنيون عن الخلقة فهم يصورون الآلهة على انهم فنانين أوجدوا الكون من المواد السابق وجودها من قبل مثل الأرض والهواء والنار والماء. فالآلهة – فى نظر الوثنيين – هم الذين أوجدوا الكون من أشياء سابق وجودها مثل الفنانين من بنى البشر. ولكن وفقاً لسفر التكوين فان الله الخالق قد خلق الكون بمجرد عمل المشيئة «فى البدء خلق الله السموات والأرض» (تك 1: 1)، فالله لم يوجد الكون من مواد سابق وجودها. ولكن بكل ما تحتويه هذه الكلمة (من لا شئ) وكما يقول البعض ان الله خلق العالم بارادته الذاتية التى هى الحب.

وهكذا فإن سفر التكوين يعتبر الله هو المصدر المطلق للوجود. والله فائق فى قدرته على كل شئ ولا يمكن أن يوجد شئ بدون الله وبدون إرادته. والله لم يكن مجرد صانع ماهر بل هو خالق وأصل لكل الوجود. وان تعاليم الإنجيل فى الخلقة ان الله اوجد المخلوقات من لا شئ تعتمد على سمو الله وان الله – حسب تصوير سفر التكوين ص 1، ص2 – موجود قبل الخليقة وهو يفوق ويسمو على كل الخليقة. والله لم يوجده آخر ولا يتساوى مع أى شئ آخر من مكونات هذا العالم، بل هو يفوق كل عناصر هذا الكون. ومن خلال سفر التكوين نستطيع أن نقول بان الله كلى الحضور Omni Present أى حاضر فى كل مكان ويعمل فى كل الخليقة كخالق، وهو دائماً مركز كل شئ وأصل لكل شئ فى الوجود، فالله يفوق كل شئ وهو أيضاً حاضر فى كل شئ immanent وهو الذى أوجد كل شئ إلى الوجود فهو يعمل فى كل شئ وهو فى نفس الوقت يفوق كل شئ.

ونستطيع أيضاً – من خلال التعاليم الإنجيلية بأن الله هو خالق كل شئ – ان نرفض كل أنواع عبادة الطبيعة فى الوثنية القديمة. فالوثنيون يعبدون الطبيعة كقوة إلهية، فكانوا يعبدون الشمس والقمر والنجوم وكثيراً ما كانوا يعتبرون الكواكب آلهة ويمجدونها، وهذا ما كان حادث عند قدماء المصريين واليونان والرومان. ولكن سفر التكوين يقدم لنا الله كخالق لهذه الأنوار الفلكية Celestial lights ولقد أوجدها الله فى السماء لغرض اضاءة الأرض (تك 1: 14 - 19). وكثيراً ما كانت بعض القبائل الوثنية تؤله الحيوانات وتعبدها، ولكن سفر التكوين يقدم لنا الحيوانات كمخلوقات خلقها الله. وهذه الحيوانات خاضعة لله وخاضعة للإنسان أيضاً (تك 1: 20 - 26).

فالطبيعة ليست آلهة ولكن هى مخلوقات خلقها الله. وهكذا فإن الاصحاح الأول من سفر التكوين يدين عبادة الطبيعة وهذه الدينونة وردت فى الكتاب المقدس بعد ذلك « ولئلا ترفع عينيك إلى السماء وتنظر الشمس والقمر والنجوم وكل جند السماء والتى قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التى تحت كل السماء فتغتر وتسجد لها وتعبدها» (تث 4: 19). وعبادة الطبيعة هى نوع من عبادة الأصنام والآلهة المزيفة False Gods. وهكذا فإن آباء الكنيسة مثل القديس أوغسطينوس يدينون عبادة الكواكب ويعتبرونها نوع من عبادة الطبيعة كقوة ذاتية وهم فى ذلك لا ينظرون إلى الله أصل كل شئ. وانه لأمر ضرورى جداً أن نعتبر أن الطبيعة ليست هى الله، وهذا واضح جداً من قصة أيام الخليقة لأن الطبيعة خاضعة لأمر الله مثل الإنسان. « ورأى الله كل ما عمله فاذا هو حسن جداً» (تك 1: 31) ولذلك فإنه من وجهة النظر الأرثوذكسية يعتبر خطأ جداً اعتبار المواد الطبيعية أو الطبيعة البشرية شر بالوراثة لأن الإنسان والطبيعة هما مخلوقات الله، وان الله قد حكم عليها بأنها حسنة. ولكن سوف نرى – الإنجيل يعلمنا ان الإنسان والطبيعة فى حالة سقوط كنتيجة لخطأ الإنسان ضد الله، إذا سلك فى طريق الشر وحينما ترفض الطبيعة أن ترجع لأصلها فى الخضوع لأمر الله فإن طبيعة الإنسان والكون تظل مخلوقات إلهية وتبقى صالحة فى أساسها.

وهناك ملاحظة أخرى من الأصحاح الأول والثانى من سفر التكوين تستحق الاهتمام وهى أن الله موجود بذاته وينظم الكون وفقاً لخطته وقصده ويهتم برعاية الإنسان وهو قريب جداً لخليقته ومرتبط بها ويعمل فيها ويهتم بها.

ووفقاً للفكر الأرثوذكسى فإن الله كائن فى الثالوث المقدس. فهناك ثلاثة أقانيم الله الآب والله الابن والله الروح القدس. فهو ليس ثلاثة آلهة Tritheism ولا هو ثلاثة أجزاء منقسمة Modalism ولكن الله واحد Ousia له ثلاثة أقانيم Hypostases.

وهناك بعض الشراح الأرثوذكس يعلنون عن وجود الثالوث المقدس فى الأصحاح الأول من سفر التكوين فالآية التى تقول: «قال الله» تكررت تسع مرات فى الأصحاح الأول. فالله خلق العالم بكلمته «بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها... لأن قال فكان. هو أمر فصار» (مز 33: 9، 6). وفى إنجيل يوحنا يقدم لنا الأصحاح الأول كلمة الله انه هو الله الابن الأقنوم الثانى من الثالوث الذى صار إنساناً فى المسيح يسوع «فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله... فيه كانت الحيوة والحيوة كانت نور الناس... والكلمة صار جسداً وحل بيننا» (يو 1: 14، 4، 1).

وهكذا فإن إنجيل يوحنا هو المفتاح الذى لا غنى عنه لفهم الأصحاح الأول من سفر التكوين وبهذا المفهوم رب اللاهوتيون الأرثوذكس بين إنجيل يوحنا وسفر التكوين واستطاعوا أن يفسروا الأصحاح الأول من سفر التكوين على أنه اعلان للثالوث الذى هو الله الآب الخالق للعالم عن طريق الابن الذى هو الله الكلمة والحى بالروح القدس.

ب - الله والإنسان:

إن العلاقة بين الله والإنسان لها مدلول خاص فى سفر التكوين خصوصاً فى الأصحاح الأول والثانى. ففى الأصحاح الأول يتحدث عن تلك العلاقة « وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا... فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم» (تك 1: 27، 26). وهنا ما يقوله أيضاً الأصحاح الثانى:

« وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض. ونفخ فى أنفه نسمة حيوة. فصار آدم نفساً حية. وغرس الرب الإله جنة فى عدن شرقاً. ووضع هناك آدم الذى جبله. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل. وشجرة الحيوة فى وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر» (تك 2: 7 - 9).

« وأخذ الرب الإله آدم ووضعه فى جنة عدن ليعملها ويحفظها. وأوصى الرب الإله آدم قائلاً من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت» (تك 2: 15 - 17).

والمعانى اللاهوتية لتلك النصوص:

† إن الفكر الإنجيلى بان الإنسان قد خُلق على صورة الله ومثاله قد أخذ مكانة كبيرة.

فى اللاهوت الأرثوذكسى. فالإنسان قد أعطيت له حياة روحية وذكاء وعقل وشعور وأخلاق وحياة اجتماعية حتى يصير أيقونة للثالوث المقدس، وأعطاه الله أيضاً حرية الابتكار وأصبح كل إنسان له سماته الخاصة الروحية التى لا تتكرر فى الإنسان الآخر. وأعطى للإنسان أن يحيا فى علاقة مع الآخرين وله القدرة من خلال الضمير أن يحكم على الأمور، وان يحيا وفقاً لهدف معين (الأبدية) ولقد أعطى الله الإنسان السلطة على كل ما تدب فيه الحياة على الأرض (تك 1: 28، 26) وهذه هى علامة صورتنا ومثالنا.

† ان اللاهوت الارثوذكسى يتبع ما سار عليه القديس اريناوس الذى من ليونس St. Irenaeus of Lyons (130 - 200م) وآباء آخرون من آباء الكنيسة الذين يميزون بين صورة الله Image ومثاله Likeness وكما يقول البعض إن الصورة Image تشير إلى امكانية حياة الإنسان فى الله أما المثال Likeness فهو إدراك هذه الامكانية. ان الإنسان لم يُخلق كمخلوق روحى كامل ولكنه خُلق فى صلاح وبراءة ودعى ليكون خالداً وكاملاً روحياً ليصير مثل الله. ورمز هذا الخلود والكمال الروحى فى الإنجيل هو شجرة الحياة لأنها مصدر عدم الفساد. ومع أن الإنسان خُلق مثل بقية المخلوقات الأخرى لكن الله ميّزه بأن جعله على صورته. ومنح الله آدم وحواء امكانية العقل والحكمة والشبه الروحى لله Likeness وان يشتركا فى صلاح الله وحكمته وحياته، وخلال الحب الإرادى وطاعة الله يستطيع الإنسان أن يدخل إلى الأبدية والشركة الحقيقية مع الله ويستطيع أن يتحد مع الله خلال شركته فى الحياة الأبدية وصلاح الثالوث المقدس الخالق. وبمعنى آخر فإن الإنسان حين خلقه الله كان بريئاً وقادراً على الروحانية The Image ولكن هذه الحالة التى خُلق عليها الإنسان هى ليست حالة حتمية يسير عليها رغماً عن إرادته، لأن الإنسان مدعو لأن يشترك مع نعمة الله وعن طريق استخدامه الصحيح للإرادة الحرة وبنموه التدريجى يصير كاملاً فى الله Likeness.

فالإنسان له غرض محدد هو أن يصير واحداً فى الله، لأن الإنسان خُلق لكى يكون له شركة مع الله وهذا هو الغرض النهائى للوجود البشرى وهو ان يكون شريكاً للطبيعة الإلهية. ومعنى أن نؤمن بأن الإنسان قد خُلق على صورة الله هو أن نؤمن بأن الإنسان قد خُلق للشركة والاتحاد مع الله. وإذا ما كف الإنسان عن الشركة مع الله فإنه يكف عن أن يكون انساناً.

† حينما يتحدث اللاهوتيون الأرثوذكس عن العبادة إنما يتحدثون عن نمو الحكمة الروحانية حتى يكمل الإنسان الاتحاد مع الله. والبعض يتحدث عن العبادة إنها عملية النمو غير المحدود حيث يصل الإنسان خلال حرية الاتحاد مع الله إلى كمال الشركة مع الثالوث المقدس فى الوجود والحياة الأبدية.

† سر شركة الإنسان فى الطبيعة الإلهية هو تجسد الله الابن فى الإنسان يسوع المسيح. ووفقاً للتقاليد الأرثوذكسية فان الله هو الذى قرر – عن طريق سر التجسد – دعوة الإنسان إلى الاشتراك فى قداسته. وكما رأينا أن الله قد خلق الإنسان صالحاً ولكنه أصبح غير كامل حين سقط فى جنة عدن. وهكذا يقول اللاهوتيون الأرثوذكس بإن حركة الإنسان – بعد السقوط – نحو الاتحاد مع الله أصبحت تحتاج إلى حركة من الله للإتحاد مع الإنسان. وأصبح الإنسان محتاجاً إلى تنازل الله ليصير واحداً مع الإنسان حتى يجعل للإنسان قدرة أن يتحد ويصير واحداً مع الله. وهكذا فإن تجسد الله الكلمة هو الذى جعل الله يتحد مع الإنسان فى شخص يسوع المسيح وهذا هو قصد الله للخطة الأبدية للعالم. وحتى لو لم يقع الإنسان تحت عبودية الخطية فإنه مازال محتاجاً للتجسد الإلهى.

ولكن حين سقط الإنسان وخالق أوامر الله انفصل عن شجرة الحياة وعندئذ أصبح موت المسيح – لفداء الإنسان – ضرورياً. ففى سر التجسد تشابه الله مع جنس البشر فى كل شئ – عدا الخطية – حتى فى الموت، وكان عليه أن يموت لكى يعيدنا للحياة الأبدية. ولو لم يخطئ الإنسان ضد الله ما كان هناك إحتياج لاتحاد الله مع الإنسان فى سر التجسد حيث اتحد الله مع الإنسان وصار واحداً.

ولكن خلال الإيمان وعن طريق الاشتراك الكامل فى حياة الكنيسة يصير الإنسان واحداً مع الله، لأن ناسوت المسيح أصبح واحداً مع لاهوته. وخلال غنى عمل الروح القدس أصبح للمسيحيين القدرة على الاتحاد مع الله وأصبحت عبادة الإنسان لله هى النمو فى الحكمة الروحانية نحو الله الآب عن طريق الابن الكلمة فى الروح القدس، وعندئذ يستطيع أن يصير الإنسان شريكاً للطبيعة الإلهية (2بط 1: 4) وعندئذ يستطيع أن يشترك الإنسان فى الأعمال والحياة الأبدية التى للثالوث المقدس.

† حين صور الكتاب المقدس طرد الإنسان من الجنة أصبح لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا بالرحمة والنعمة التى يمكن أن يمنحهما الله. والبشرية المخلوقة تعتمد أولاً على إرادة الله وعمله وأيضاً سلام الإنسان مع الله ومع العالم يتوقف على خضوع الإنسان واعتماده على الله.

وحين أعطى الله للإنسان سلطة على الأرض كان عليه أن يمارس تلك السلطة باسم الله، وهكذا فإن سلطة الإنسان هو سلطان الوكيل، لأن سلطة الوكيل يمارسها تحت قيادة السيد الذى منحه اياها. وجنة عدن هى رمز لعلاقة الإنسان مع الله ومع الطبيعة التى تدمرت بعد ذلك بسبب خطية الإنسان.

† وظهر أيضاً مجال آخر لتدبير الله للإنسان المخلوق وهو منع الإنسان والحيوان من أن يقتل كلاهما الآخر وكان كل من الإنسان والحيوان نباتيان « وقال الله إنى قد اعطيتكم كل بقل يبذر بذراً على وجه كل الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبذر بذراً. لكم يكون طعاماً. ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعاماً. وكان كذلك» (تك 1: 29 - 30) وكان كل من الإنسان والحيوان يحيا تحت القواعد الإلهية لله الخالق. ولكن بعد سقوط الإنسان أصبحت سلطته محدودة عما كانت من قبل.

† وهكذا كان وجود الإنسان الجسدى والروحى يتوقف على أمانته ومحبته وطاعته لله.

ولأن الإنسان لم يطع الله وابتعد عن شجرة الحياة فإنه فقد مصدر الحياة الأبدية وأكل من شجرة معرفة الخير والشر.

إن منع الله للإنسان من الأكل من شجرة معرفة الخير والشر إنما هو إعلان لسيادة الله واحتياج الإنسان لطاعة الله الخالق. ولكن لماذا أصبح مجرد الأكل من شجرة معرفة الخير والشر يعتبر إنفصال الإنسان من حياة الله؟ وفقاً للإنجيل فإن المعرفة هى الاختبار والعمل وليست المعرفة هى زوال الغموض فى فهم الأمور، ولكن المعرفة هى العمل وممارسة ما نعرفه بالدخول فى عمقه، وهكذا حين يقول الإنجيل عن الرجل إنه عرف إمرأته (تك 4: 1) إنما هو إشارة إلى العمل الجنسى بين الرجل والمرأة. وهكذا فإن معرفة الخير والشر هنا تعنى العلاقة الشخصية فى عمل كل من الخير والشر وهذا يعنى انغماس الإنسان فى طرق العالم حيث يختلط الخير والشر معاً ورمزها فى الإنجيل هو شجرة معرفة الخير والشر وهذا هو ما يمنعه الله الآن.

وهكذا فإن الكتاب المقدس يقدم لنا الإنسان كمخلوق إلهى على صورة الله ومثاله وإن عمل الجنس البشرى هو النمو نحو الاتحاد بالله متكلاً فى ذلك على الإيمان والمحبة والطاعة، والإنسان عليه أن يحفظ فى ذهنه دائماً الله الخالق للطبيعة البشرية Creatureliness.

ويتضمن أيضاً الأصحاحات الأولان من سفر التكوين العلاقة الأصلية بين الرجل والمرأة «فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم اثمروا واكثروا واملأوا الأرض» (تك 1: 27 - 28) وواضح من هذا النص أن كلاً من الرجال والنساء قد خُلقوا على صورة الله وان كليهما قد أعطى أن يمارس السلطة على الأرض. وان وصية الله لهما هى أن يثمرا ويملئا الأرض أى ينجبا أولاداً. وهكذا فإن انجاب الأولاد هو بركة كبيرة وفقاً لوجهة نظر الإنجيل.

وتحدث سفر التكوين عن طبيعة الرجل الأجتماعية واحتياجه لمن يزامله، وهذا الاحتياج لم يكمل فى علاقته بالحيوانات « وقال الرب الإله ليس جيداً أن يكون آدم وحده. فأصنع له معيناً نظيره» (تك 2: 18) فالإنسان يحتاج إلى أعضاء الآخرين من جنسه «عظم من عظامى ولحم من لحمى» (تك 2: 23) لكى يسعد بزمالته فى الاقامة. وهكذا فإن الرجل محتاجاً إلى المرأة حتى يكتمل الكيان البشرى وهذا يتحقق فى إطار الزواج فيصير جسداً واحداً وشخصاً واحداً وتكمل صورتهما أى صورة الله.

أما قول الإنجيل: « وكان كلاهما عريانين آدم وإمراته وهما لا يخجلان» (تك 2: 25) فهذا يشير إلى حالتهما قبل السقوط، أما خجلهما بعد ذلك من عريهما فهو يشير إلى خطيئتهما ضد الله وضد بعضهما بعضاً. فقبل السقوط كانت العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة تساوى وتبادل وتوافق تحت الأمر الإلهى. وكان على الرجل والمرأة أن يحتفظا ويقويا علاقة الزمالة ولكن بسبب الخطية فإن العلاقة الأولى التى كانت بين الرجل والمرأة وبين الجنس البشرى والله قد تهدمت وتحطمت.

2 - السقوط وانتشار الشر والبداءة الجديدة (أصحاح 3 حتى أصحاح 11)

إن الأصحاحات الأولى من سفر التكوين تحوى صوراً متعددة لبر الله ودينونته للخطية وقصد الله لفداء الإنسان والطبيعة. ويظهر فى الأصحاح الثالث حساب الله للإنسان على خطيته الأولى واستمرار انفصاله عن الحياة الأبدية فى الله. وتحدث سفر التكوين عن انتشار الخطية فى كل العالم بعد طرد آدم من الجنة. فالطوفان الذى حدث أيام نوح لم يستطع أن يوقف استمرار عمل الخطية فى العالم ولذلك أصبح من أعمال مراحم الله أن يعمل لأجل فداء العالم عن طريق – الشعب المختار – وهى مملكة إسرائيل.

وكل أحاديث الإنجيل عن الدينونة الإلهية والفداء بحسب ما أوجبته خطية الإنسان هو ما صوره الإنجيل عن حالة الإنسان واحتياج البشرية لخلاص من الخطية والصلح مع الله.

سقوط الإنسان:

لم يشر الأصحاح الثالث من سفر التكوين إلى الشيطان أو إلى إسمه، ولكن التقليد المسيحى يعتبر الحية التى ذكرت فى هذا الأصحاح انها رمز للشيطان. وحقيقة ان بعض فصول الانجيل حين تتحدث عن الشيطان إنما تعتبره هو حية جنة عدن (حكمة 2: 24؛ يو 8: 44؛ رؤ 12: 9؛ رؤ 20: 2):

قبل خلقة الجنس البشرى طلب أحد ملائكة الله (لوسيفورس) أن يصير مثل الله وقاد معه طغمة من الملائكة للعناد وعصيان أوامر الله ولكن هذا العصيان قد تم إخماده عن طريق رئيس الملائكة ميخائيل هو وجنوده. وطردت هذه الطغمة من السماء وعندئذ عرف رئيس هذه الطغمة العاصية باسم الشيطان Satan ومعناها المقاوم أو المشتكى أو العدو. ومعنى كلمة إبليس devil (diabolos باليونانى) هو biter أى المكار أو الخبيث.

وتتحدث التقاليد المسيحية واليهود القدامى عن الشيطان انه كان ملاكاً معيناً من الله لحراسة الأرض وخصوصاً جنة عدن (حز 28: 11 - 19) والله قد سمح للشيطان وجنوده demons أن يحاربوا فى الأمور الأرضية. ووفقاً لرأى القديس إريناوس الذى من ليون والقديس أغريغوريوس أسقف نيصص أن حرب الشيطان (ضد البشر) هى بسبب تجسد المسيح وظهوره كإنسان لكى يرفع الجنس البشرى فوق الملائكة بقوة التجسد والصعود، ففى التجسد ينزل الله وفى الصعود يرفع الإنسان. إن خطية الملائكة الذين أخطأوا انهم رفضوا أن يدركوا عظمة آدم الذى خُلق على صورة الله وأن يقبلوا رجاء التجسد الإلهى. ولذلك كان وعد الشيطان (لآدم وحواء) بأن يصيرا مثل الله إذا أكلا من الشجرة الممنوعة هو وعد كاذب. ولكن بقبولهما كلام الشيطان أصبح انتماؤهما إلى الملائكة الذين سقطوا أكثر من إتحادهم مع الله نفسه. ولما فشل الشيطان أن يحل محل الله أصبح يغوى الإنسان لكى يفقد مجد الله عن طريق شهوة ما هو ضد مشيئة الله وهى عصيان أوامره المقدسة.

فهناك إذن خطأ مضاعف أولهما هو خطية الملائكة وثانيها هو خطية البشر (آدم وحواء). إن التجربة الشيطانية للإنسان أخذت شكل تحريف الحق وذلك حين قامت الحية التى هى أحكم من جميع الحيوانات المتوحشة بغواية حواء لتأخذ من الثمرة الممنوعة حين أكدت لها انها لن تموت، لأن الله – كما إدعت الحية – عارف أنهما حين تأكل منها فإن أعينهما سوف تنفتح ويصيران مثل الله عارفين الخير والشر (تك 3: 5، 4، 19). وهكذا فإن إبليس يزرع الشك والحيرة والكبرياء فى ذهن الإنسان ولقد حول إبليس حق الله فى ا لتحذير من الأكل من الشجرة الممنوحة إلى شهوة فى الأكل وشهوة فى العيون والكذب بأن الشجرة الممنوحة سوف تجعل الإنسان حكيماً وأنها سوف ترفع آدم وحواء إلى مرتبة الملائكة. وهكذا فإن الشيطان قاد الإنسان إلى الشك فى الحق الإلهى والشك فى نوايا الله وانه يجعل الإنسان يطلب فى كبرياء تعظيم ذاته بدلاً من تنفيذ مشيئة الله. وهذا ما حدث أيضاً فى تجربة الشيطان للمسيح (مت 4: 1 - 11، لو 4: 1 - 13) ولكن المسيح على خلال آدم وحواء نجح فى رفض غواية الشيطان. وهذا ما تقوله الأرثوذكسية ان الإنسان نجح فى المسيح ما فشله فى آدم.

طبيعة الشر والخطية:

إن الأصحاح الثالث فى سفر التكوين يعلمنا شيئاً جديداً عن طبيعة الشر والخطية أنه ليس لهما طبيعة ضعيفة ولكنهما فشل سلوكى. والإنجيل يشرح لنا الشر والخطية فيما يتعلق بحرية البشر والملائكة وان الشر هو عمل إرادى لعصيان الله ومخالفته وهو حرية مقاومة حب الله، وإن الخطية هى حرية الانحراف من نحو الله إلى الذات. لانه قبل عصيان بعض الملائكة وسقوط الإنسان كان البشر والخطية كائنين فى امكانية السقوط لكى تبقى الحرية الروحية لسلوك الإنسان والملائكة، لانه حيث لا توجد قابلية لحرية الخطأ فلا يمكن أن توجد حرية السلوك أو الروحانية لانه وفقاً لتدبير الله الأصلى فإن الخطأ هو فى امكانية حدوثه فى حرية الاختيار. والخطية لم توجد وفقاً لعمل الله ولكن وفقاً لسوء إستعمال الحرية من الملائكة والبشر. وهكذا لأن الله يحترم حريتنا لذلك أصبح هناك إمكانية للسقوط فى الخطية نتيجة سوء الإختيار السلوكى والروحانى. ويستحيل أن نقول على الله الكلى الصلاح إنه هو السبب فى الخطية والشر – لان الله لم يخلق الخطية – ولكن خلق للإنسان والملائكة حرية الإرادة.

استمرار الخطية:

إن عصيان الإنسان ضد الله هو الذى قاد العالم إلى الخراب والانقسام والتناقض والعداوة والألم والموت والقلق ووفقاً لنصوص الإنجيل فإن نتيجة الخطية هى التعرية والخجل. ولقد أدرك آدم وحواء أن كليهما عرياناً، ولقد إكتشفا عريهما امام نفسيهما وأمام الله كنتيجة لخطأهم الإرادى ضد مشيئة الله (تك3: 7). ولكن بعد أن قام آدم وحواء بقبول وعد الشيطان المزيف ادركاً أن الله كشف سلوكهما واخلاقهما الساقطة. ان عريهما والروحى قاما بتغطية نفسيهما بملابس مصنوعة من أورق التين لكى يختبئا من الله ويتهربا من مسئوليتهما عن خطأهما ضد الله خالقهما (تك 3: 7 - 13) ووفقاً للإنجيل فإن آدم لام حواء عن خطيته ثم قامت حواء بتحويل عبء خطيتها على الحية. وفى الواقع إن آدم لم يحول مسئولية خطيته على زوجته بل على الله «فقال آدم المرأة التى جعلتها معى هى أعطتنى من الشجرة فأكلت» (تك 3: 12). ولم يتحدث آدم عن خطيته هو التى فعلها بإرادته بل ركز على ما فعلته حواء وعلى ما فعله الله، ولقد حاول آدم أن يتهرب من خطيته عن طريق إلتماس الأعذار لنفسه وهو بذلك لم يتحمل مسئولية الفعل الذى فعله هو. وهكذا فإن البشر يحاولون أن يتنصلوا من مسئوليتهم عن أخطائهم، فنحن نلوم غرائزنا أو الوسط الخارجى او والدينا أو زوجآتنا أو جيراننا، وإذا استمررنا فى الخطية فانه من الجائز لنا أن نلوم الله. ولكن إلتماس الأعذار لأنفسنا لا يفيد شيئاً ولا يمكن أن تكون قد دخلت على الله حيلة صنع أوراق التين أو التماس الأعذار لأن خطأ الإنسان لابد أن يدان ويحكم عليه.

وهكذا فإن العلاقة الجنسية المتجاوبه قد تهدمت وأصبح الزوج حاكماً وسيداً لزوجته (تك 3: 16) كنتيجة للخطية وانكسرت الوحدة الأولى التى بين الزوج وزوجته، وبدأت الحرب بين الجنسين تشتعل. وامتد الإنقسام بين الرجل والمرأة إلى انقسام بين الجنس البشرى ونفسه. وبعد أن كانت صورة الله متمثلة فى الوحدة بين الرجل وإمرأته (تك1: 27) وبين الزوج وزوجته (تك 2: 24 - 25) أصبحت نتيجة الخطية هو الإنفصال بين الرجل والمرأة وتهدد سلام الحياة البشرية ذاتها. حتى أن علاقة الإنسان بالطبيعة أصبحت أيضاً متهدمة. وأصبح ألم للمرأة فى الولادة. وأصبح على الرجل أن يتألم ويتعب حتى يأخذ ثمرة الأرض (تك 3: 17 - 19) وأصبح التعب والألم هما القانون الذى يحكم علاقة الإنسان مع الطبيعة. ولكن النتيجة الأكثر حزناً لخطية الإنسان هى تغربه عن الله وحرمانه من الحياة الأبدية وأصبح هناك احتياج دائم لنمو الإنسان حتى يصل إلى صورة الله التى خُلق عليها «بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التى أخذت منها» (تك 3: 19) وأصبح مصير الإنسان الحتمى يزعجه ويقلقه لأنه طرد من جنة عدن وفقد الصلة المباشرة الفورية مع الله ومع شجرة الحياة. وهذا هو المفهوم الأرثوذكسى لحالة الإنسان بعد السقوط:

إن آدم وحواء وهما مخلوقان إلهيان حولا حبهما وطاعتهما لله وخصصا إرادتهما لتجربة الشيطان واهتما بمحبة ذواتهما عوضاً عن محبتهما لله وكنتيجة لهذا العصيان والتمرد ضد الله انفصل الجنس البشرى عن الحياة مع الله، ولهذا أصبح محكوماً على العالم بالموت بسبب الخطية. وأصبح سهلاً على العالم أن يفعل الشر عن أن يفعل الخير وأصبح يستحيل على الإنسان أن يرجع إلى الجنة عن طريق أى مجهود سلوكى أو روحى، لأن الخطية أصابت كل الجنس البشرى.

البشارة (وعد الله بالخلاص):

يتحدث الأصحاح الثالث من سفر التكوين عن التفسير اللاهوتى لطرد الإنسان من الجنة والوعد الإلهى بخلاص الإنسان فى الآية « واضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلِك ونسلها. وهو يسحق رأسكٍ وأنتٍ تسحقين عقبه» (تك 3: 15) ولقد فسر اللاهوت الأرثوذكسى هذه الآية على أنها ظل لإنجيل المسيح كنبوة للبشارة بالخلاص وهذا هو الوعد الأول بالفداء. والصراع بين نسل المرأة ونسل الحية هو ما تحتويه الأجيال كلها ولكن فى النهاية سوف ينتصر المسيح الفادى على الشيطان وكل جنوده. وكذلك سوف يسمح الله للشيطان بأن ينفذ خطة الصليب عند الجلجثة. وهنا الإشارة الوحيدة لنسل المرأة (المسيح المتجسد) فى الإنجيل كله. وكثير من الشراح يفسرون هذا النصر على أنه نبوة لولادة المسيح من العذراء.

إن البشارة بالخلاص موجودة أيضاً فى النص « وصنع الرب الإله لآدم وإمرأته أقمصة من جلد وألبسهما» (تك 3: 21) لقد قام الله بكسوة آدم وحواء بثياب الحيوانات عوضاً عن خطيتهم واستمرار طردهم الروحى والسلوكى وهنا تظهر نتيجة الخطية فى زوال التوافق بين الله والإنسان والطبيعة حيث أصبح لازماً أن يموت الحيوان لكى يحيا الإنسان. وهذا النص يشير إلى استمرار العناية الإلهية لجنس البشر حتى يأتى وقت الدينونة. وإن جلد الحيوان الذى أعطاه الله للإنسان – ولم يكن للإنسان تدخل فى صنعه – هو رمز للمسيح. وإذا ما رغب الإنسان للرجوع إلى حضرة الله فإنه يجب عليه أن يخلع الطبيعة القديمة (أوراق التين) ويلبس الطبيعة الجديدة التى هى الرب يسوع المسيح (الاقمصة الجلد) «ان تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور» (أف 4: 22). وأن «تلبسوا الرب يسوع المسيح» (رو 13: 14).

وهكذا فإن الإنسان الخاطئ يجب أن يلبس بر المسيح إذا رغب ان يسترد مكانته الإلهية. وأن يظل الإنجيل فى سفر التكوين «نسل المرأة يسحق رأس الحية (الأقمصة الجلدية) » هو الرمز الأول لفداء الله للإنسان والعالم من عبودية الشيطان.

تزايد الشر والطوفان العظيم:

ويوجد أيضاً وصف آخر للدينونة الإلهية والفداء ورد فى (تك 4: 8) « وحدث إذ كانا فى الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله» وهكذا بعد أن تحدث الإنجيل عن طرد الإنسان من جنة عدن أخبرنا بحادثة القتل الأول من قايين الابن الأكبر لآدم وحواء الذى ذبح أخاه الأصغر هابيل (تك 4: 1 - 16) وبدون الدخول فى تفاصيل هذا الجزء نستطيع أن نقول بان تمرد الإنسان ضد الله هو الذى قاده إلى تمرده ضد زميله الإنسان، وجريمة القتل أكدت حالة سقوط الإنسان وبعد قتل قايين لأخيه هابيل ابتعد أكثر من الوجود فى حضرة الله وأرسل بعيداً عن والديه إلى أرض نود Nod شرق عدن (تك 4: 16) ومن هنا انقسم الجنس البشرى إلى قسمين وأصبح التمييز بين نسل قايين (تك 4: 17 - 24) ونسل شيث (تك 4: 25؛ 5: 32) فأصبح نسل قايين معروفاً بالقتل والانتقام كالذى حدث من قايين ولامك (تك 4: 24، 23) أما شيث فهو الابن الثالث لآدم وحواء وهو النسل الحقيقى لآدم (تك 5: 3) وأصبح معروفاً بالقداسة الأولى (تك 5: 18 - 24) وبالتكريس لله (تك 4: 26) وأصبح شيث ونسله يدعون باسم الرب (تك 4: 26). وبأسلوب آخر عوض عن قطع نسل قايين من نسب آدم واستمراره فى الشر أصبح نسل شيث هو إستمرار لنسل آدم الذى صار متألقاً بعبادة الله.

ثم تحدث الأصحاح السادس من سفر التكوين على نمو الشر فى العالم وعن قرار الله بتحطيم الحضارة البشرية بارساله طوفاناً عظيماً على وجه الأرض ويبدأ الأصحاح السادس بتلك الآيات العجيبة « وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات. أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فأتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما أختاروا. فقال الرب لا يدين روحى فى الإنسان إلى الأبد. لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان فى الأرض طغاة فى تلك الأيام. وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدت لهم أولاداً. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهور ذوو أمم» (تك 6: 1 - 4).

ويقول بعض المفسرين إن أبناء الله تزوجوا بنات الناس هم الملائكة الذين سقطوا وتزوجوا سيدات البشر واجبوا جنساً مختلطاً من الوحوش. لكن الملائكة هم أرواح، ورغم أنهم قد يظهرون فى هيئة بشرية (تك 19، 18) ولكن لا يمكنهم أن يصيروا أجساداً تتزوج وتنجب نسلاً. ولكن الواقع أن ابناء الله هنا هم نسل شيث الذين تزوجوا ببعض النساء من نسل قايين. ومن هنا أصبح نسل هذه الزيجات غير المقدسة شريراً وساقطاً وليس وحوشاً أو جبابرة. وهذا يفسر لنا تمام الإنفصال بين نسل قايين (الشرير) ونسل شيث (المقدس) فى سفر التكوين (تك 4: 17 حتى 5: 32) والاختلاط بين النسلين أمر مبغوض من الله وهو بداية لمرحلة التدهور والفساد والدينونة والمحن التى سوف تستمر بعد ذلك (تك 6: 5 - 7: 24).

وفى حل مشكلة العالم الشرير الذى نتج عن خطية البشر إختار الله أن يخلص بعضاً من البشر والحيوانات المختارين ليكونوا نواة للعالم الجديد (تك 6: 5 - 22) لقد اختار الله نوح البار الذى من نسل شيث (تك 5: 28 - 32) الذى وجد نعمة فى عينىّ الله وأمره أن يبنى فلكاً عظيماً لكى يُخلص نفسه وأسرته وعدداً كبيراً من الطيور والحيوانات من الهلاك العظيم المزمع أن يكون (تك 6: 9 - 22) والوصف الإنجيلى للطوفان العظيم أنه استمر مائة وخمسين يوماً وغطى كل الأرض لعمق خمسة أميال ولم يترك الله نفساً حية إلاّ نوح ومَنْ معه.

ويجب أن نتذكر أن الأصحاحات الأحدى عشر الأولى من سفر التكوين ليست أصحاحات تحوى حقائق علمية عن تاريخ الإنسان والعالم. وإن كان البعض يرجع قصة الطوفان إلى الفولكلور القديم الذى فى بابل الذى كان يروى نفس قصة بناء الفلك ولكن الحقيقة أن دراسات الآثار تحكى عن ذلك الطوفان الذى حدث قديماً عام 4000 ق. م فى منطقة ميسابوتوميا Mesopotamia ولكنه كان طوفان محلياً لم يغطِ كل الأرض.

ولكن يجب أن نعرف بأن هناك اختلافاً جوهرياً بين قصة الطوفان كما يرويها سفر التكوين وبين تلك التى وردت فى الأدب البابلى. لأن القصة فى الأدب البابلى تتحدث عن الوثنية ونوع من المثالية وأن هناك بعض الآلهة هى التى تسببت فى الطوفان بدون أى سبب ظاهرى، ولكن حسب القصة التى وردد فى الإنجيل فإن الله الواحد سيد كل الأرض هو الذى أمر بالطوفان بسبب خطية الإنسان وأن نوح خلص بسبب بره وأن هدف الإنجيل هو إعلان دينونة الله للخطية وإظهار حبه الثابت للأبرار وأن الله لم يحتمل الشر وان رحمته سوف تفدى البشرية التى تجاهد للرجوع للإرادة الإلهية. وهكذا فإن الطوفان فى الإنجيل تختلف عن تلك التى وردت فى الأدب البابلى وهناك علاقة بين الطوفان وسر المعمودية فى اللاهوت الأرثوذكسى. وهكذا فإن الطوفان هو معمودية كبيرة للعالم كله. فالمياه هى رمز للعالم الساقط الذى يحوى الشر والموت والهاوية. ولذلك فإن القديس متى يروى لنا قصة مشى الرب يسوع المسيح فوق المياه ثم دعوته لبطرس أن يسير فوق الماء ولما خاف بطرس وابتدأ يغرق صرخ قائلاً يا رب نجنى وللحال أمسك يسوع بيده وانتشله وقال له يا قليل الإيمان لماذا شككت (مت 14: 28 - 31) وهنا غرق بطرس فى الماء واحتياجه أن ينقذ هو رمز لفقدان الإنسان الحياة كنتيجة لفقدان الإيمان فى الله، لأن بطرس حين حول عينيه عن الرب يسوع المسيح ابن الله المتجسد ابتدأ ينزلق إلى عمق المياه والهلاك وابتدأ يواجه الابتلاع فى العالم الساقط وابتدأ يحتاج أن يُرفع ثانية عن طريق الرب نفسه.

وفى سر المعمودية يتم تغطيس الإنسان فى الماء وهذا التغطيس هو رمز لموت المسيح، وخروج الإنسان من ماء المعمودية هو إشتراك فى قيامة المسيح من الموت.

وكما رأينا من قبل أن خطية الإنسان جعلته يتغرب عن حياة الله ولكن بتجسد المسيح أعطى للإنسان فرصة ثانية لكى يتحد مع الله بالإيمان والحب والطاعة. وعن طريق موت الرب على الصليب لأجلنا حول موتنا إلى طريق الحياة الجديدة. وموت الرب حطم الموت نفسه لأن المسيح هو الحياة. وعن طريق نزول الرب يسوع المسيح فى الماء الذى يرمز للعالم الساقط امتلأ العالم من حضور الله وهكذا فإن مياه المعمودية ترمز أولاً إلى الموت وترمز أيضاً إلى العالم الذى تجلى عن طريق التجسد الإلهى وعن طريق سر المعمودية نحن نموت عن الخطية ونقوم للحياة الأبدية التى فى المسيح يسوع.

ويتحدث القديس بطرس عن العلاقة الواضحة بين سر المعمودية والفيضان فيقول: «فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا البار من أجل الأثمة لكى يقربنا إلى الله مماتاً فى الجسد ولكن محيى فى الروح... كانت أناة الله تنتظر مرة فى أيام نوح إذ كان الفلك يبنى الذى فيه خلّص قليلون أى ثمانية أنفس بالماء الذى مثاله يخلصنا نحن الآن أى المعمودية» (1بط 3: 21، 20، 18). والطوفان هو رمز لدينونة الله الأبدية للخطية. والقديس بطرس يشير ان نوح هو رمز لأولئك الذين ينظرون نحو الله بالإيمان رغم فداؤهم عن طريق مراحم الله من الهلاك الذى جلبته عليهم الخطية. وفلك نوح هو رمز للمسيح الذى فيه يخلص المؤمنون عن طريق الله (فى سر المعمودية).

البداية الجديدة:

إن قصة الطوفان العظيم تبعتها قصة عهد الله مع نوح (تك 9: 1 - 17) ووفقاً للإنجيل فإن الله قد صنع عدة عهود مع أشخاص متفرقين ومع ممالك ومع جنس البشر بصفة عامة. إن العهود هى اعلان عام يتضمن علاقة ومسئولية بين الله والإنسان. وهناك عهود لله يضع فيها شروطاً للوجود البشرى وعهود أخرى بخصوص المستقبل. وهناك عهود تتم بلا شروط بينما يوجد عهود أخرى تتوقف على إيمان الإنسان وتجاوبه مع وصايا الله. وكل عهد لابد أن يضمن علاقة أو ختماً يعطى من الله كدليل على الموافقة التى تمت.

وهناك ثلاثة عهود تضمنتها أسفار موسى الخمسة:

1 - العهد الذى أعطى لنوح (تك 9: 1 - 17) وهو عهد من جانب الله فقط ولا يتضمن أى شروط من جانب الإنسان أو طاعته لله وهو ممتد لكل الخليقة وكانت العلامة الطبيعية لهذا العهد هو قو قزح.

2 - العهد الذى أعطى لإبراهيم (تك 12: 1 - 3؛ 13: 14 - 17؛ 15: 1 - 7، 8 - 21؛ 17: 18) وهذا العهد خاص بنسل إبراهيم فقط وكانت علامة هذا العهد هو الختان.

3 - العهد الذى أعطى لبنى اسرائيل (خر 19 - 24) وهو يشترط دوام الإيمان وقد امتد لأمة بنى إسرائيل وعلامته هو حفظ يوم السبت (خر 31: 16 - 17).

إن العهد الذى أعطاه الله لنوح كان عقب الانهيار السلوكى والروحى الذى سببته الخطية « وقال الرب فى قلبه لا أعود ألعن الأرض من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضاً أميت كل حى كما فعلت» (تك 8: 21). وأصبح سلطان الإنسان على الطبيعة فى قلق واضطراب وخوف وعدم سلامة « ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء... كل دابة حية تكون لكم طعاماً» (تك 9: 2 - 4) وهكذا أصبح مصرحاً للإنسان أن يذبح الطيور والحيوانات التى كانت ممنوعة من قبل وأصبح أكل الحيوانات والطيور هو سمات البشرية بعد أن كان الإنسان ممنوعاً من قبل أن يسفك دماء الحيوانات لأن الدم فى الإنجيل هو عنصر الحياة. والحياة هى فى يد الله وليست فى يد الإنسان. والعهد أيضاً الذى أعطى لنوح وبنيه تضمن أيضاً عدم قتل الإنسان للإنسان وأصبح القتل هو عقوبة لجريمة القتل «سافك دم الإنسان بالإنسان يُسفك دمه. لأن الله على صورته عمل الإنسان» (تك 9: 6) وأصبحت علاقة العداوة بين الإنسان والحيوان وبين الإنسان والإنسان التى نوه عنها هذا النص السابق هى رمز لفساد العالم الذى نتج عن شر الإنسان.

إن عهد الله لنوح هو شامل للعالم كله لأنه يمتد إلى نسل نوح وإلى حيوانات كل العالم (تك 9: 8 - 10) أما وعد الله فى هذا العهد الذى أعطى لنوح فهو «أقيم ميثاقى معكم فلا ينقرض كل ذى جسد أيضاً بمياه الطوفان. ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض» (تك 9: 11). ولكن هذا الوعد لا يفيد أن الله لن يدين أو يلعن أو يعاقب على الخطية ولكنه يفيد أن قوى الشر لن تهلك خليقة الله بعد ذلك وأن فداء الله سوف يعمل فى البشرية. وكانت علامة الله التى أعطيت لنوح هى قوس القزح (تك 9: 11 - 17) وكانت هذه هى علامة الوعد الإلهى للفداء لنوح وكل العالم (وهى ترمز إلى الصليب).

استمرار عمل الشر:

لقد رأينا أن وعد الله لنوح دل على استمرار وجود الخطية فى العالم حتى بعد الطوفان العظيم (تك 9: 18؛ 11: 9) وهو يتضمن الإشارة إلى استمرار شر بنى جنس البشر. ويتحدث الأصحاح التاسع عن خطية حام أحد أولاد نوح الثلاثة كما وردت فى (تك 9: 20 - 27). « وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. فأبصر حام أبوه كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه... » وفى هذا النص أمران نتساءل عنهما. أولهما ما هى بالضبط خطية حام؟ وثانيهما لماذا صب نوح اللعنة على كنعان ابن حام ولم يصبها على حام نفسه؟

لقد كانت خطية حام انه «أبصر عورة أبيه» وهذا النص يتم فهمه على ضوء الأصحاح 18 من سفر اللاويين حين يقول: «لا يقترب إنسان إلى قريب جسده ليكشف العورة... » (اللا 18: 6 - 16) فالدينونة هنا لأى عمل من أعمال الزنا مع الأقارب وهذا واضح من التعبير أنه «كشف عورته» وهو يشير إلى صورة من صور الشذوذ الجنسى وهو أمر مبغوض فى سفر اللاويين (اللا 18: 22؛ 20: 13) ورسالة رومية (1: 26 - 27) وان ما فعله حام هو عمل من أعمال الشذوذ الجنسى مع والده. أما لعنة كنعان الى صبها نوح فهى لسبب أنه فى القديم كان النجاح والأمل يعود على إزدهار نسل الإنسان والعكس أيضاً صحيح لأن اللعنة المنصبة على كنعان هى منصبة على حام ويخبرنا الإنجيل بأن البشاعات الجنسية التى انتشرت بين قبائل الكنعانيين فى أرض فلسطين القديمة هى نتيجة لاستمرار خطية حام ولذلك حاربهم أخيراً شعب بنى إسرائيل وانتصروا عليهم. وكما سوف نرى أن شعب بنى إسرائيل من نسل سام الذين تباركوا من نوح والذين صار لهم كنعان عبداً. ولذلك كان هذا المرض المعدى الذى هو الخطية البشعة (الشذوذ الجنسى) هو صورة من صور الشر البشرى العميق.

وإن استمرار تفشى الشر فى عصر ما بعد الطوفان تحدث عنه الكتاب المقدس فى الأصحاح العاشر من سفر التكوين. وان نسل نوح انقسم إلى ثلاثة مجموعات رئيسية:

  • المجموعة الأولى: أبناء يافث (تك 10: 1 - 5).
  • المجموعة الثانية: أبناء حام (تك 10: 6 - 20).
  • المجموعة الثالثة: أبناء سام (تك 10: 21 - 32).

وهذه الاجناس الثلاث توزعت بعد ذلك إلى شعوب متزايدة من البشر والأمم والحضارات. وهذا النسل هو محاولة مبدئية جغرافية لتوزيع السلالات البشرية. ولكن الفكر اللاهوتى الرائع لهذا الجزء هو الحديث عن توزيع وتقسيم جنس البشر الناتج عن كبرياء الإنسان على الإنسان، وهذا الانقسام بين البشر والأمم راجع إلى فقدان اتضاع الإنسان تحت يد الله. وفقدان هذا الاتحاد هو إشارة واضحة إلى شر البشر. وأخيراً إن قصة برج بابل كما وردت فى تكوين (11: 1 - 19) هى إشارة أخيرة إلى فساد البشر الذى تفشى فى العالم بعد الطوفان، وأصبح قصاص الله فى هذه القصة هى تنوع لغات بنى البشر وصعوبة واستحالة التفاهم حتى بين أبناء اللغة الواحدة وأصبح البشر يواجهون صعوبة التفاهم مع بعضهم بعضاً. وهذه الصعوبة فى التعامل هى أيضاً علامة لسقوط الإنسان وإشارة إلى محاولة الإنسان فى الاستقلال عن الله وهى نتيجة لخطية الإنسان وعناده ضد الله واستمرار ادانة الله للإنسان والعالم.

وإننا فى هذا الفصل الثانى – الذى تناول الأصحاحات الاحد عشر من سفر التكوين – تم بحث الموضوعات الكبيرة التى تتعلق بخليقة الله من البشر والعالم وخطية الإنسان واستمرار تغربة عن الله ودينوة الله الأبدية وعقاب الله ولعنته للخطية وقصد الله فى فداء الإنسان والعالم.

أما رسالة الأصحاحات الأحدى عشر الأولى من سفر التكوين فهى إيضاح فشل الإنسان فى حب الله وطاعته ورغبة الإنسان فى الحياة حسب هواه وبدون المثول أمام حضرة الله، وهذا هو مصدر كل قلق الإنسان وفقدان الهدف ووجود الرعب فى حياة الإنسان. أما هدف الإنجيل فهو إيضاح أن الله هو أساس ومصدر الحياة وأن حب الله هو كمال الإنسان، لأننا نجد أنفسنا ونجد خلاصنا فى الله فقط.

أما النسل الذىنزل من سام إلى إبرآم (تك 11: 10 - 32) فهو العلامة الأخيرة. وفى إبرآم إختيار الله للبقية لأن نسل إبراهيم سيصير شعب بنى إسرائيل المختار ومن هذا الشعب المختار سيتم وعد الفداء وان الوعد الذى ورد فى (تك 3: 15) «هو يسحق رأسكِ وأنتِ تسحقين عقبه» سوف يتم، وان نسل المرأة الذى جاء من آدم وشيث ونوح وسام وإبراهيم وإسحق ويعقوب وداود هو يسوع المسيح ابن داود الذى ولد من العذراء وسيكون العظيم فى نسل أبناء الله (مت 1: 1 - 18؛ لو 3: 23 - 38). وبمجئ إبراهيم أبو الآباء وجد الأمل الجديد لظهور الفداء الإلهى الذى هو الوعد الإلهى بمجئ الرب يسوع المسيح.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الفصل الثالث تاريخ بنى إسرائيل فى العهد القديم - رسالة الأنجيل في المفهوم الأرثوذوكسي - معهد فلاديمير الروسي- القمص أشعياء ميخائيل

الفصل الأول - رسالة الأنجيل في المفهوم الأرثوذوكسي - معهد فلاديمير الروسي- القمص أشعياء ميخائيل

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

جدول المحتويات