الفصل الخامس اتفاق البشرين الثلاثة (متى – مرقس – لوقا) – رسالة الأنجيل في المفهوم الأرثوذوكسي – معهد فلاديمير الروسي- القمص أشعياء ميخائيل

هذا الفصل هو جزء من كتاب: رسالة الأنجيل في المفهوم الأرثوذوكسي – معهد فلاديمير الروسي- القمص أشعياء ميخائيل.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الفصل الخامس اتفاق البشرين الثلاثة (متى – مرقس – لوقا)

كتب العهد الجديد باللغة اليونانية (مثل النسخة السبعينية)، وكلمة عهد Testament وباللاتينية Testamentum هى ترجمة للكلمة اليونانية diatbeke ومعناها ميثاق Covernant.

والعهد القديم يتحدث عن هذا الميثاق الذى كان بين الله وبين إسرائيل الأولى، أما العهد الجديد فهو اعلان عن الميثاق الجديد بين الله وبين إسرائيل الجديدة التى هى الكنيسة المسيحية. وانبياء العهد القديم كما رأينا كانوا ينتظرون مجئ المسيا وتأسيس العهد الجديد بين الله وبين شعبه المؤمن. ووفقاً للعهد الجديد فإن يسوع المسيح هو المسيا، الملك الإلهى الإنسانى الذى فيه تحققت نبوات ووعود العهد القديم. أما ميثاق العهد الجديد فإنه يجعل الخلاص ممكناً لكل الذين يعرفون الرب يسوع المسيح انه هو المخلص ويسلمون حياتهم له. وفى المسيح «الذى وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته» (عب 1: 3) قد أكمل وعد العهد القديم بالخلاص، ووعد الخلاص هذا قد أكمله يسوع المسيح ابن الله المتجسد الذى هو وسيط العهد الجديد «لأجل هذا هو وسيط عهد جديد لكى يكون المدعوون... ينالون وعد الميراث الأبدى» (عب 9: 15) وفى المسيح يسوع قد منح الخلاص لكل العالم. ولقد دعى كل الجنس البشرى – بنعمة الرب – لكى يقبلوا المسيح بإيمان وطاعة. وأولئك الذين قبلوه صاروا وارثين للخلاص وشعب الله المختار وإسرائيل الإلهية التى هى الكنيسة، وذلك هو محور رسالة العهد الجديد.

مشتملات العهد الجديد

يحتوى العهد الجديد على سبعة وعشرين سفراً تتكون من الأناجيل الأربعة التى للقديسين متى ومرقس ولوقا ويوحنا ثم سفر أعمال الرسل الذى يحوى تاريخ الكنيسة الأولى الذى كتبه القديس لوقا ثم إحدى وعشرين رسالة كتبها القديس بولس الرسول وآخرون ثم سفر الرؤيا الذى كتبه القديس يوحنا ويحوى رؤية الكمال الإلهى لقصد الله فى الكون. وكل أسفار العهد الجديد كُتبت باللغة اليونانية العامة (Koine) فى العصر الهلينى (Hellenestic Age) والأناجيل تحوى أموراً أكثر مما تحويه الرسائل لأن غالبية رسائل بولس الرسول وأيضاً رسائل يعقوب وبطرس ويهوذا كتبت قبل عام 65م بينما الأناجيل كتبت فيما بين عام 65م – 90م، أما سفر أعمال الرسول فهو منفصل عن الأسفار الأخرى وهو سفر مستقل أعترف به خلال القرن الثانى بعد أن انتشرت الأناجيل الأربعة وتمت الكرازة بها كسجل يحوى أخبار خدمة الرب يسوع المسيح أما رسائل يوحنا الرسول وسفر الرؤيا قد كُتبت فى الفترة من 90 - 95م. وفيما كان الرسل وبقية التلاميذ الآخرين على قيد الحياة كان الإنجيل الذى يبشرون به هو العهد القديم المترجم لليونانية، وكانت الكنيسة تفسر العهد القديم على ضوء الرسالة الرسولية التى تحوى حياة الرب يسوع المسيح وعمله. ولقد كان الرسل يدرّسون للناس حياة السيد المسيح وتعاليمه المقدسة ضمن تعاليمهم حتى منتصف القرن الأول، وكان الرسل قد تسلموا هذه التقاليد الشفهية من المعلم وأودعوها بدورهم إلى أولئك الذين يدخلوا الإيمان المسيحى، ثم بعد ذلك بدأت مرحلة كتابة التقاليد الرسولية لاستخدامها لجماعات الموعوظين لتكون نظاماً وقانوناً لهم، وكذلك وضعت هذه التقاليد فى نصوص الليتورجية التى استخدمت فى العبادة المسيحية واستخدمت هذه التقاليد فى الرسائل الرسولية.

ولما تقدم الرسل فى السن ودخلوا فى مرحلة الشيخوخة والانتقال بدأت الكنيسة تحتاج لتدوين تلك التقاليد الرسولية، وهذا الاحتياج هو الذى دفع الرسل لأهمية كتابة البشائر الأربعة والوثائق الأخرى خلال السنوات الأخيرة من القرن الأول. وبدأ الاحتياج لتجميع مجموعة من رسائل بولس الرسول (ما عدا رسالة العبرانيين) فيما بين عام 80 – 85م.

ومن أجل حفظ التقاليد الرسولية مكتوبة فإن الكنيسة لم تضع فى البدء قانوناً قاطعاً لأسفار الكتاب المقدس ولكن فى نهاية القرن الأول وبداية القرن الثانى ولسبب تكاثر ونمو المسيحية وازدياد الكتابات المسيحية وظهور الهرطقات المتعددة لذلك بدأ كثيراً من آباء الكنيسة يطالبون بالدعوة لإصداء صيغة بقانونية أسفار العهد الجديد.

وكان يجب على جميع الوثائق أن تدخل فى اختبارات ثلاثة:

1 - يجب أن تكون هذه الوثائق مكتوبة عن طريق أحد رسل المسيح أو تلاميذه.

2 - يجب أن يحكم بأن هذه الوثيقة حقيقية (غير مزورة) ويتم هذا الحكم عن طريق أحد الجماعات الكنسية Ecclesiastical Community فى الكنيسة الأولى.

3 - يجب أن تكون الوثائق مطابقة لتقاليد الكنيسة الحية وأن يكون الإيمان الذى تحويه هذه الوثائق موجوداً فى الوثائق الرسولية الأخرى التى تحوى قواعد الإيمان.

ولقد حدث فى القرنين الثانى والثالث عن طريق المجهود الضخم الذى قام به كل من القديس اريناوس الذى من ليونز St. Irenaeus of Lyons والقديس هبيوليتس الذى من روما Hippoly of tus Rome والقديس ترتليان Tertullian والقديس أكليمنضس الاسكندرى Clement of Alexandria والعلامة أوريجانوس Origen أن نوقشت شروط هذا القانون (لأسفار العهد الجديد) واستعرضت وجهات النظر المختلفة وتم الموافقة على الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول وكذلك رسالة بطرس الأول ورسالة يوحنا الأولى ولكن البعض أعترض على قانونية رسائل العبرانيين ويعقوب ويوحنا الثانية والثالثة ويهوذا والرؤيا وتم استبعاد بعض الوثائق تماماً من مكونات العهد الجديد مثل كتاب الراعى لهرماس ورسالة برنابا. أما رؤيا بطرس الرسول Apocalypse of Peter فلم يقبلها سوى قلة قليلة من آباء الكنيسة.

وقبل نهاية القرن الرابع الميلادى كانت الكنيسة قد انتهت من حل مشكلة قانونية أسفار العهد الجديد ووضعت حداً لمناقشة هذا الموضوع. وقد أعلن القديس أثناسيوس الرسولى عام 367م فى رسالته الفصحية مشتملات العهد الجديد وهى أسفاره السبعة والعشرين التى نعرفها نحن وحسم هذا الموضوع حسماً قاطعاً. وصدر قرار من مجمع قرطاجنة عام 397م بعد منافشات من القديس أوغسطينوس أسقف هبو وهذا القرار يطابق ما أعلنه القديس أثناسيوس فى ذلك الأمر وهكذا فإن أسفار العهد الجديد السبعة والعشرين قد قبلتها الكنيسة الأرثوذكسية بأكملها كأسفار موحى بها حاملة الشهادة الرسولية للتقليد المقدس للكنيسة.

الأناجيل الأربعة

الجزء الأول من أسفار العهد الجديد هو الأناجيل الأربعة وكلمة إنجيل معناها (الأخبار السارة) التى هى ترجمة للكلمة اليونانية Euaggelion التى ترجمت بالإنجليزية إلى Tidings Glad وقد استعملت الكلمة اليونانية لتعبر عن الأخبار السارة للخلاص بالمسيح يسوع، والأخبار السارة هى كرازة الرسل وتلاميذ المسيح الذين كانوا يعلمونها للناس.

والعهد الجديد لم يستخدم كلمة euaggelia التى هى صيغة الجمع للمفرد euaggelion لأنه توجد رسالة واحد فقط للخلاص ولكن تم التعبير عنها بصور مختلفة حسبما دونها جماعة الرسل فكانت هذه الكتابات تصف التعاليم الأساسية والأعمال التى قام بها السيد المسيح ولذلك سُميت الأخبار السارة. وهكذا فى العهد الجديد نحن نجد الإنجيل الواحد المعلن فى أربعة كتب (حسبما كتبه القديس متى أو القديس مرقس أو القديس لوقا أو القديس يوحنا) ويحوى الإنجيل إيماناً رسولياً واحداً وكل كاتب من كتاب البشائر الأربعة يختلف عن الآخر من حيث مواجهته للأمور والتعبير عنها ولكنهم يتحدون جميعاً فى التقاليد الكنسية والإيمان الكنسى الواحد، وهكذا كان إيمان وحياة الكنيسة هما اللذان يقودان الأفكار والمبادئ فى كتابات البشائر الأربع.

ولقد تحدث الأستاذ Veselin Kesick أستاذ العهد الجديد فى كتابه The Gospel image of Christ عن المراحل الثلاث فى نمو الإنجيل (الأخبار السارة) وانتشاره فقال:

المرحلة الأولى: هى أعمال المسيح والأحداث التى وقعت خلال حياته على الأرض (الأناجيل).

ثم تأتى المرحلة الثانية وهى: نقل هذه الأمور (حياة المسيح وأعماله) والبشارة بها من الذين كانوا (معاينين وخداماً للكلمة) وهذا هو سفر أعمال الرسل.

ثم تأتى المرحلة الثالثة وهى: كتابات الأخبار السارة عن طريق رسائل الرسل.

ثم يتحدث الأستاذ كيزيك Kesick عن الكنيسة الأولى التى اعتبرت الإنجيل الأول والرابع (متى ويوحنا) تم كتابتهم من التلميذين متى ويوحنا بينما الإنجيل الثانى والثالث (مرقس ولوقا) منسوبين للرسولين مرقس ولوقا الطبيب الذى كان يتحدث اليونانية وكان صديقاً حميماً للقديس بولس الرسول. ووفقاً لشهادة القديس أريناوس (200م) فإن إنجيل مرقس يحوى تعاليم بطرس الرسول عن المسيح بينما انجيل لوقا هو تعبير عن رسالة الخلاص التى أعلنها بولس الرسول. وخلال تاريخ الكنيسة بأكمله لم يشك أى أحد فى السلطة الرسولية للبشائر الأربعة. ولقد كُتب إنجيل مرقس حوالى عام 65م فى روما وقد كُتب للمسيحيين من الأمم (الرومان) وفيه إشارات كثيرة من العهد القديم، وهدف إنجيل مرقس هو اظهار السيد المسيح انه المسيا المصلوب الذى هو كمال رجاء إسرائيل. أما انجيلى متى ولوقا فتم كتابتهما فى أوائل السبعينات من القرن الأول الميلادى ولقد كتب إنجيل متى فى أنطاكية (سوريا) وهو موجه إلى اليهود الذين آمنوا بالمسيحية. والموضوع الأساسى فى انجيل متى هو كمال رجاء الأمم فى المسيا فى شخص الرب يسوع المسيح وأعماله. وأما القديس لوقا فقد كتب إنجيله وسفر أعمال الرسل ككتابين لعمل واحد يصف خدمة الرب يسوع المسيح (إنجيل لوقا) وتاريخ الكنيسة (سفر أعمال الرسل) فى الجماعة المسيحية الأولى، وقد كتب لوقا انجيله – فى جنوب اليونان للأمم الذين تحولوا إلى المسيحية (اليونانيون) ويصف عظمة وسمو الإنجيل المسيحى حيث صار فى المسيح امكانية للخلاص ليس فقط اليهود بل لكل الجنس البشرى.

أما انجيل القديس يوحنا فقد كُتب فى أفسس (آسيا الصغرى) خلال الفترة الأخيرة من القرن الأول (85 - 90م) ويخبرنا القديس يوحنا فى انجيله مَنْ هو المسيح وما هو عمله للعالم كله ويتحدث أيضاً عن الكنيسة وما أعد لنا.

فالبشائر الأربع كُتبت للتعبير عن الرسالة الرسولية للخلاص بالمسيح. وهناك ملامح لكل بشارة تحوى التقاليد الرسولية. واعتمدت البشائر الثلاث الأولى (متى – مرقس – لوقا) على مصادر واحدة بينما اعتمد انجيل يوحنا على مصادر أخرى. ويختلف إنجيل يوحنا أيضاً على البشائر الثلاث الأخرى فى محتوياته.

وحينما نضع محتويات البشائر الأربع جنباً إلى جنب (اتفاق البشيرين Synoptic) فإننا نجد اتفاقاً بين البشائر الثلاث الأولى وكثيراً ما نجد تطابقاً فى استخدام نفس الكلمات التى تصف أعمال المسيح أو تسجل أقواله.

وفى هذا الفصل نتحدث عن محتويات ولاهوت وتوافق البشائر الثلاث ثم نتحدث عن لاهوت إنجيل يوحنا.

الأفكار الرئيسية فى توافق البشائر الثلاث:

إن غالبية دارسى الإنجيل يتفقون أن أول بشارة كتبت هى بشارة القديس مرقس ويتفقون أيضاً ان إنجيل مرقس هو أحد المصادر التى أخذ منه اكل من انجيل متى ولوقا فى محتوياتها، إن انجيل متى يحتوى على 1068 آية من بينها توجد 500 آية متفقة مع 606 آية من آيات إنجيل مرقس الذى يحتوى على 673 آية ومن بين آيات إنجيل لوقا التى هى 1149 آية توجد 380 آية أخذت من انجيل مرقس.

وفى إنجيل مرقس توجد 31 آية فقط لم تتكرر فى بشارتى متى ولوقا. ويتفق متى ولوقا فى 250 آية غير موجودة فى إنجيل مرقس وأحياناً تتفق هذه الآيات ال 250 فى المعنى اللغوى بينما يختلف عنها فى أحياناً أخرى. ويتفق الدارسون بأن الآيات التى لم تؤخذ من إنجيل مرقس مصدرها هو الكتابات الأولى.

ولقد كتب كل من متى ولوقا مستقلين أحدهما عن الآخر. ويحتوى إنجيل متى على 300 آية غير موجودة مثلها فى إنجيل مرقس أو لوقا بينما توجه 520 آية فى إنجيل لوقا مميزة عن غيرها فى الأنجيل الأخرى. ويظن البعض أن هذه الآيات لها مصدر فى الكنائس الموجودة فى اليهودية بينما يظن البعض الآخر أنها مأخوذة من التقاليد الموجودة فى كنائس قيصرية. وموضوع اتفاق البشيرين تم بحثه بطريقة معينة وهو تقديم الرسالة الرسولية للخلاص خلال الحوادث الرئيسية فى حياة السيد المسيح. ولكن الحقيقة أن تلك الحوادث قليلة جداً خصوصاً فى فترة ما قبل سن الثلاثين، لأنهم لم يتحدثوا عن ظهوره أو تعليمه أو كيفية نموه السيكولوجى ولكنهم يركزون على خلاص المسيح لكافة أبناء البشر ولكل العالم. فهم يخبرونا مَنْ هو المسيح يسوع وماذا قال وماذا فعل وما هى تعاليمه وأعماله التى تجعل خلاصنا من الخطية والموت ممكناً.

ويقول الأستاذ كيزيك Kesick إن كتابات البشائر الأربع ليس المقصود بها هو الوصف الأدبى ولكن هى صورة تأملية (غير فوتوغرافية) فالأناجيل هى أيقونة للسيد المسيح لم يرسمها الانجيليون كموهبة منهم ولكن جاءت هذه الصورة من التقليد الذى كانوا يعرفونه ويساهمون فيه وقد استقوا من هذا التقليد مادة الأناجيل نفسها].

ولذلك فإن اتفاق البشيرين هو تفسير لاهوتى لخدمة الرب يسوع المسيح على الأرض وهى كتبت لتعبر عن الاعلان الرسولى للخلاص. ولم يكن هدف البشيرين هو تقديم دراسة تاريخية لحياة الرب يسوع ولكن لكى يشهدوا باكمال وعد الله بالفداء الموجود فى شخص المسيح وأعماله. ويتفق البشيرون فى شرح فترتين فقط من فترات حياة السيد المسيح على الأرض – والقديسان متى ولوقا يتحدثان أساساً عن فترة ميلاد السيد المسيح وفترة طفوليته، ثم يتحدث كل البشيرين عن خدمة الرب يسوع المسيح العامة التى استغرقت حوالى ثلاث سنوات من خدمة الرب يسوع المسيح على الأرض – ولقد صمت القديسان مرقس ولوقا صمتاً مقدساً عن السنوات التى بين طفولة الرب يسوع المسيح والخدمة الجهارية التى بدأها – باستثناء واقعة دخول المسيح إلى الهيكل وحديثه مع الشيوخ (لو 2: 41 - 51) - وكل ما قيل عن تلك الفترة الصامة من حياة الرب يسوع المسيح هو: « وكان الصبى ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه» (لو 2: 40)، وكذلك: «أما يسوع فكان يتقدم فى الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس» (لو2: 52). أما عمر الرب يسوع وقت الصلب هو ثلاثة وثلاثين عاماً كما يخبرنا القليد بذلك. ولكن لم يخبرنا البشيرون بشئ عن فترة ما قبل الثلاثين عاماً. وخلال سنين الصمت هذه أو كما يسميها البعض سنين الاستعداد هى بلا شك فترة شركة مع الآب والروح القدس وكانت فترة استعداد لخدمة المسيح الجهارية. ولكن حقيقة ان ما حدث بالضبط فى هذه الفترة لم يعلن للعالم. وهناك كتابات أبو كريفا Apocryphal قديمة تحوى تأملاً فى وقائع فترة شباب المسيح غير المعروفة ولكن تاريخ الكنيسة قد رفض هذه الكتابات ولم يعترف بها واعتبرها كتابات غير قانونية ونوعاً من الهرطقة. ومن وجهة نظر الأرثوذكسية فإن فترة الصمت هذه تخص الله فقط. ولم يخبرنا البشيرون من حياة المسيح إلاَّ ما يخص خلاصنا من العبودية للخطية والموت. وهكذا فإن إنجيلى متى ولوقا يخبرانا فقط بما نحتاج أن نعرفه عن الفترة الأولى من حياة السيد المسيح على الأرض.

1 - ميلاد السيد المسيح وطفولته:

لقد كانت الامبراطورية الرومانية مسيطرة على الشرق الأوسط بعد عام 63ق. م وبإذن من الرومان كان هيرودس الكبير يحكم كملك على اليهود فى فلسطين منذ عام 37ق. م حتى موته فى العام الرابع من ميلاد السيد المسيح. ولقد ولد يسوع فى بيت لحم اليهودية (مدينة داود) فى الأيام الأخيرة من مُلك هيرودس الملك (مت 2: 19، 1) وتوجد معجزتان كبيرتان حدثتا فى ميلاد الرب يسوع المسيح وردت فى الأصحاحين (2، 1) من إنجيل متى ولوقا (الحبل من الروح القدس وميلاد المسيح من العذراء) فكل من هذين الإنجيلين تحدثا عن الميلاد البتولى للسيد المسيح ولقد وردت البشارة للعذراء مريم بميلاد المسيح عن طريق الملاك غبريال (إنجيل لوقا 1: 26 - 38).

والكنيسة الأرثوذكسية تعلم بأن العذراء مريم خضعت بإرادتها لإرادة الله التى أعلنت لها من الملاك والمتضمنة خطة الله فى التجسد. وهذا الخضوع الإرادى من العذراء القديسة مريم «هوذا أنا أمَةُ الرب. ليكن لى كقولك» هو الأساس والشر لاتحاد الله مع الإنسان فى المسيح. فالتجسد ليس هو عمل الآب والروح ولكن للعذراء القديسة مريم دوراً من حيث الإرادة والإيمان. ولان العذراء القديسة لها دوراً ايجابى فى قبول البشارة فإن خلاصنا فى المسيح يسوع أصبح ممكناً. ولذلك فإن الكنيسة الأرثوذكسية حينما تكرم العذراء فهو ليس لأن الله قد اختارها فقط ولكن أيضاً لأنها هى قد اختارت الحق وقبلته.

وفى الوقت المعين وجدت العذراء حبلى من الروح القدس (مت 1: 18) وحينما اكتشف يوسف النجار خطيب العذراء انها حبلى أراد تخليتها سراً، ثم ظهر له الملاك فى حلم وأخبره أن يأخذ مريم إمرأته لأن الذى حبل به فيها هو من الروح القدس، ولقد أخبر الملاك يوسف أيضاً بالطفل الذى سوف تلده العذراء مريم انه سيدعى يسوع (الذى تفسيره الرب يخلص) «لأنه سوف يخلص شعبه من خطاياهم» (مت 1: 20 - 21).

ولذلك فإنه تم مجرد زواج يوسف ومريم وفقاً للناموس اليهودى، وفيما هما فى الطريق ليكتتبا فى بيت لحم – وفقاً لأوامر اغسطس قيصر – ولدت العذراء مريم هناك ذلك الابن الذى حبلت به حبلاً إلهياً (لو 2: 1 - 7) ولقد فسر القديس متى الميلاد البتولى للسيد المسيح على أنه اكمال لنبوة إشعياء النبى « وهذا كله كان لكى يتم ما قيل عن الرب بالنبى القائل: هوذا العذراء تحب وتلد ابناً ويدعون إسمه عمانوئيل الذى تفسيره الله معنا» (مت 1: 23، 22؛ إش 7: 14).

ويتحدث متى ولوقا عن تقليدين اثنين حدثا بعد ميلاد السيد المسيح. فتحدث القديس لوقا عن اعلان الملاك لميلاد المسيح لجماعة الرعاة الساهرين على قطيعهم، الذين فرحوا عند سماعهم بخبر ميلاد المسيح فذهبوا إلى بيت لحم ليروا الصبى الذى أعلن لهم خبر ميلاده (لو 2: 8 - 10) ثم أخبرنا القديس لوقا انه عندما بلغ من العمر ثمانية أيام تم ختانه وسمى يسوع وبعد ثلاث وثلاثين يوماً من الختان كان هناك طقس التطهير فى هيكل أورشليم حيث تم تقديمه لله وفقاً لعادة اليهود (لو 2: 21 - 27).

وتحتفل الكنائس الكاثوليكية وبعض جماعات البروتستانت سنوياً بتذكار تقديم المسيح للهيكل أو تطهير العذراء مريم ولكن فى الكنيسة الأرثوذكسية يتم الاحتفال بعيد دخول المسيح إلى الهيكل فى اليوم الثمن من شهر أمشير ويعرف هذا العيد فى الكنيسة الأرثوذكسية بأنه عيد لقاء الرب مع شعبه Meeting of our Lord أى لقاء الرب يسوع المسيح مع شعبه. لانه فى تقديم يسوع فى الهيكل تم التعرف عليه انه هو المسيا، وهذا هو ما أعلنه سمعان الشيخ وحنة النبية (لو 2: 25 - 38). لأن الرب يسوع المسيح – الذى قدمته أمه العذراء القديسة مريم ويوسف النجار. يلتقى الآن مع شعبه المختار الممثلين فى أشخاص سمعان الشيخ وحنة النبية ولقد كشف الروح القدس لسمعان الشيخ انه لن يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الرب (لو 2: 26) وحين رأى سمعان الشيخ الطفل يسوع أوحى إليه الروح القدس أن يصرخ قائلاً: «الآن يا سيدى تطلق عبدك بسلام» (لو 2: 29 - 32) وهى أنشودة سمعان الشيخ الشهيرة الذى قال للعذراء مريم «إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين فى إسرائيل ولعلامة تقاوم. وأنتِ أيضاً يجوز فى نفسكٍ سيف. لتعلن أفكار من قلوب كثيرة» (لو 2: 35، 34) وقامت حنة النبية وشكرت الله وتحدثت: «فهى فى تلك الساعة وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء فى أورشليم» (لو 2: 38).

وبعد لقاء الرب يسوع المسيح مع شعبه المختار يقول لوقا البشير ان العذراء القديسة مريم ويوسف النجار أخذا الطفل يسوع ورجعا إلى الجليل حيث مدينتهم الناصرة (لو 2: 39).

أما القديس متى الانجيلى ففى حديثه عن ميلاد المسيح تحدث عن أمور أخرى خلاف تلك التى أوردها القديس لوقا، فقد تحدث عن جماعة المجوس الذين جاءوا من المشرق (مت 2: 1 - 2) ووفقاً للتقاليد المسيحية الشهيرة كان يوجد ثلاث مجوس ولم يكونوا منجمين بل كانوا ملوكاً وكان هيرودس يعلم فى نفسه انه هو فقط ملك اليهود ويعلم أن المسيا سوف يولد فى بيت لحم ولذلك أرسل المجوس إلى تلك المدينة وأوصاهم أن يبحثوا عن الصبى المولود لكى يأتى هو أيضاً ويسجد له (مت 2: 3 - 8) ولكن كان القصد الحقيقى لهيرودس هو بلا شك أن يقتل المسيح بعد أن يجده. وقاد نجم بيت لحم جماعة المجوس إلى حيث العائلة المقدسة فانحنوا وسجدوا وقدموا هداياهم للمسيح والطفل (مت 2: 9 - 11) وكانت هذه الهدايا ترمز إلى حياة المسيح إلى الملك واللاهوت والناسوت. لان الفكر القديم فى الشرق الأوسط أن الذهب هو ما يستخدمه الملوك والبخور هو ما يقدم لله والمر يستخدم كدواء للجسد البشرى.

وبعد تقديم الولاء والإكرام للطفل يسوع حذر الله جماعة المجوس من قصد هيرودس السيئ فرجعوا إلى مدينتهم دون أن يخبروا الملك الشرير بما تم بخصوص لقائهم مع المسيا. وتم تحذير يوسف النجار أيضاً بخطة هيرودس فقام وهرب مع مريم وأخذا الصبى إلى مصر. وفى غضب هيرودس بسبب عدم رجوع المجوس إليه أمر بقتل جميع أطفال بيت لحم من ابن سنتين فما دون. ثم مات هيرودس عام 4 ميلادية بعد مذبحة أطفال بيت لحم الأبرياء. ورجعت العائلة المقدسة – كما رجع بنى إسرائيل – من مصر إلى فلسطين. وعاش يوسف مع مريم وابنه المتبنى فى الناصرة التى هى قرية صغيرة فى الجزء الشمالى من مقاطعة الجليل (مت 2: 13 - 23) ولقد اختلفت الحوادث التى تلت الميلاد فى إنجيل متى عن إنجيل لوقا. فواقعة المجوس التى رواها القديس متى ربنا تكون تمت بعد فترة من الميلاد وبعد قيامهم باحتساب وقت الميلاد. وربما تكون هذه الواقعة تمت فى حدود عام أو اثنين من الميلاد (مت 2: 16، 7) فهذه الواقعة تمت بعد تقديم الطفل يسوع إلى الهيكل وقبل واقعة الرجوع إلى الناصرة. ولذلك يجب أن ننظر إلى الحوادث التى تمت بعد الميلاد فى كل من إنجيل متى ولوقا وكلاهما يكون أيقونة للمسيا المخلص لكل من اليهود (الرعاة) والأمم (المجوس) لأن القديس لوقا يركز (فى هذا الفصل) أن اعلان المسيح تم لجماعة اليهود أولاً (الرعاة) ويتحدث عن اتمامه لطقس الختان وتقديمة للهيكل إنما هو لاتمام الناموس الموسوى. أما القديس متى فإنه على عكس القديس لوقا يتحدث (فى هذا الجزء) عن علاقة المسيح مع أمم العالم حيث أورد قصة المجوس وسجودهم وتقديمهم العبادة والوقار للمسيح كإشارة ورمز للكنيسة التى هى إسرائيل الجديدة حيث تكون العضوية فيها حسب الإيمان وليس حسب الميراث والنسب. والنسب فى إنجيل متى (مت 1: 1 - 18) يختلف اختلافاً بيناً عن النسب فى إنجيل لوقا (لو 3ك 23 - 38) ونحاول ان نتعرف على سلسلة النسب فى كل منهما. ففى كلتا البشارتين هناك حقيقة هامة واحدة وهى أن الرب يسوع المسيح من نسب يوسف النجار (الأب المتبنى Foster Father) وهو من نسل داود النبى ووفقاً لنبوات العهد القديم، وانه هو المسيا. ولكن القديس متى رجع فى نسب السيد المسيح إلى إبراهيم الذى هو أب لمملكة بنى إسرائيل. فهو فى ذلك يركز على علاقة المسيح مع شعب الله المختار فى العهد القديم. ولكن القديس لوقا يرجع إلى ما وراء إبراهيم إلى آدم الذى كان أصلاً ابن الله (لو 3: 38). والقديس بولس (الذى كان لوقا تلميذاً له) تحدث عن المسيح انه آدم الجديد (1كو 15: 45، 22 - 49) الذى فيه ننال التبنى ونصير أولاد لله (رو 8: 14 - 17).

وكانت هذه التعاليم التى نادى بها بولس الرسول لها تأثير على القديس لوقا. وفى رجوع القديس لوقا بالنسب إلى آدم إنما لكى يركز على تضامن السيد المسيح مع كل الجنس البشرى وعلى النبوة المقدمة للكل فى المسيح وسلسلة النسب فى كل من إنجيل لوقا ومتى تؤكد الاعلان بأن يسوع المسيح هو ابن داود وهو أيضاً ابن إبراهيم ولكن هو فى الواقع ابن الله.

2 - خدمة يوحنا المعمدان:

بينما يتحدث متى ولوقا عن نسب السيد المسيح وميلاده وطفولته راح البشيرون الثلاثة يتحدثون عن خدمة الله الجهارية، وكل روايتهم تبدأ بوصف العلاقة بين خدمة يوحنا المعمدان وبشارة السيد المسيح.

لقد كان يوحنا المعمدان حلقة انتقال فى تاريخ الخلاص فقد أظهر الحلقة الأخيرة من العهد القديم والبداية للعهد الجديد. ولقد كان المعمدان ناسكاً عاش فى الصحراء اليهودية قبل بداية الخدمة الجهارية. والبشيرون الثلاثة يقدمون كنبى تقدم المسيح كمرسل من الله لكى يهيئ الطريق لعمل يسوع (مت 3: 1 - 6؛ مر 1: 1 - 6؛ لو 3: 1 - 6) ولقد كان اليهود فى وقت المسيح ينتظرون رجوع إيليا ثانية إلى العالم قبل مجئ المسيا ليعلن مجئ يوم الرب العظيم «هأنذا أرسل إليكم إيليا النبى قبل مجئ يوم الرب العظيم والمخوف. فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتى واضرب الأرض بلعن» (ملا 6، 5، 4).

وهكذا يعلن البشيرون فى أناجيلهم بأن عمل يوحنا المعمدان مرتبط بنهاية خدمة إيليا النبى، ووفقاً لما رواه (متى 3: 4؛ ومر 1: 6) كان يوحنا المعمدان يلبس وبر الابل ويمنطق حقويه بمنطقة من جلد وهى نفس الملابس التى كان يلبسها إيليا البنى (2مل 1: 8) ويخبرنا لوقا البشير ان يوحنا المعمدان ارسل أمام المسيح فى روح وقوة إيليا (مت 11: 14؛ لو 1: 17) فى خدمة يوحنا المعمدان التى بدأت فى حدود السنين الأخيرة من العشرين سنة الأولى من القرن الأول المسيحى حيث بدأ يوحنا المعمدان يحذر من يوم الدينونة العظيم الذى سوف يسبق مجئ ملكوت الله. وبدأ يدعو اليهود تابعية أن يتوبوا ويرجعوا عن الشر ويلتجئوا إلى الله (مت 3: 2، 1؛ 7 - 10؛ مر 1: 4؛ لو 3: 7، 3 - 9) وفى اشارته إلى يوم الدينونة والاحتياج إلى توبة بدأ يوحنا يعمد أولئك الذين يطلبون غفران الله لخطاياهم (مت 3: 6، 5؛ مر 1: 5، 4؛ لو 3: 7، 3 - 14) ولم تصف الأناجيل تلك المعمودية التى كان يمارسها يوحنا المعمدان ولا كيفية وجودها ولكن يبدو ان تلك المعمودية كانت عادة موجودة خاصة بالتطهير والتنظيف.

ولقد أعلن يوحنا أيضاً مجئ المسيا (مر 1: 8، 7؛ مت 3: 12، 11؛ لو 3: 15 - 18) ولقد أعلن البشيرون ان يسوع الناصرى هو المسيا الموعود به والذى كانت ينتظره يوحنا المعمدان وبقية اليهود الاتقياء أيضاً (مت 11: 2 - 19؛ 7: 8 - 35) وبعد بداية الخدمة الجهارية للسيد المسيح تم القبض على يوحنا المعمدان وتم ذبحه بأمر هيرودس انتيباس ابن هيرودس الكبير الذى كان إنساناً عديم الخلق جداً وكان يوحنا المعمدان يشجب علانية طرقة الشريرة (لو 3: 20، 19؛ مت 14: 1 - 12).

3 - عماد السيد المسيح والتجربة:

لقد بدأ السيد المسيح خدمته الجهارية بخضوعه ليوحنا المعمدان وقبول العماد من يديه (مت 3: 13 - 17؛ مر 1: 9 - 11؛ لو 3: 21 - 22).

تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعماد السيد المسيح يوم الحادى عشر من شهر طوبة وهو عيد الثاوفانيا أى الظهور الإلهى. وحقيقة فان عماد المسيح هو اعلان الله للعالم أولاً لبدء خدمة المسيح الجهارية وأيضاً لانه اعلان للثالوث المقدس، لان الأقانيم الثلاث ظهرت معاً فى وقت واحد: الآب يشهد لبنوة المسيح الإلهية والابن يستقبل شهادة الآب، والروح القدس ظهر فى شكل حمامة مستقراً من الآب على الابنز.

لقد كانت معمودية يوحنا هى معمودية توبة، فلماذا إذن تقدم المسيح الذى هو بلا خطية ليعتمد من يوحنا؟ تجيب الكنيسة الأرثوذكسية على هذا السؤال بأن السيد المسيح حين ثار إنساناً فى تجسده وأصبح آدم الجديد وجمع فى نفسه كل الجنس البشرى كما كان آدم الأول أيضاً يجمع فى نفسه كل الجنس البشرى حين سقط فى الخطية وهكذا فإن المسيح فى عماده طهر كل خطية البشر وقدم نفسه عوضاً عن كل خطايانا بل وعن سقوط كل العالم أجمع (الذين تم على الصليب). وهكذا فإن المسيح افتدى كل البشر وكل العالم من عبودية الشر وكان عماده علامة لهذا الفداء المجيد. وهكذا فإن المسيح لم يعتمد عن نفسه ولكن نيابة عنا جميعاً بل ونيابة عن كل العالم أجمع.

وقصة الإنجيل عن تجربة المسيح هى إتمام لسفر الخروج ورموزه فى شخص المسيح وفى أعماله. وهكذا فان عماد إسرائيل الأول فى البحر الأحمر قبل دخولهم أرض كنعان وعبورهم أربعين سنة فى تجارب برية سيناء هو فعلاً ما تم بعد عماد السيد المسيح من يوحنا حيث أمضى أربعين نهاراً واربعين ليلاً فى برية الأردن يجرب من إبليس. وهكذا فإن المسيح وأولئك الذين يتحدون معه فى الإيمان والطاعة يكوّنون إسرائيل الجديدة. وكما دخلت إسرائيل الأولى أرض كنعان الموعود بها فهكذا سوف تدخل إسرائيل الجديدة (الكنيسة) أرض الموعد الحقيقية التى هى ملكوت الله. والخروج فى المسيح هو الخروج الجديد الذى هو خلاصنا.

وأيضاً تجربة المسيح هى خلاصة تجربة آدم وحواء كما رواها سفر التكوين فى الأصحاح الثالث. والسيد المسيح سمح للشيطان أن يجربه نيابة عن أولاد آدم وبنات حواء. ولقد هزم السيد المسيح الشيطان فى برية اليهودية محققاً بذلك ما فشل فيه آدم فى جنة عدن. وهكذا فى آدم الأول ابتعد البشر عن الله بسبب غواية الشيطان ولكن فى آدم الجديد الذى هو المسيح أصبح الخلاص من عبودية الشيطان والصلح مع الله ممكناً.

والتجارب الثلاث للمسيح كانت موجهة بجسارة من الشيطان إلى ناسوت الرب Humanity of The Lord وكان الشيطان يهدف فى ذلك إما إلى التشكيك فى بنوة المسيح الإلهية أو لاعلان تلك البنوة. وكذلك تم تجربة الكائنات البشرية لكى يتم انشغالها بالأمور الجسدية ونترك الاحتياجات الروحية وان يطلبوا عمل المعجزات كعلامة تسهل لهم عدم الشك فى وجود الله أو فى صلاح الله. لانه بعد صوم المسيح جاع وهذا اثبات لحقيقة تأنس المسيح، وفى تتبع جوع الرب حاول الشيطان أن يوجه نظر الرب يسوع المسيح إلى الاحتياج إلى الخبز أو الاحتياجات الجسدية بصفة عامة ليحاول بذلك أن يجعله ينحرف عن الهدف الروحى ولكن الرب يسوع المسيح أعلن أن كمال حياة البشر ليس هو الشبع الجسدى ولكن باعلان كلمة الله وهكذا فان التجربة الأولى (طلب تحويل الحجارة إلى خبز) تعلمنا وتحذرنا من الأخطار الروحية التى تأتينا من عدم ضبط البطن والشهوات الجسدية الأخرى.

أما كلمة «إن كنت ابن الله» التى ظهرت فى التجربتين الأولى والثانية فهى محاولة من الشيطان لرع الشك فى فكر المسيح من ناحية بنوته لله الآب. ولقد اقتبس الشيطان من (مز91) محاولاً أن يحث الرب أن يقمع كل شك لعمل المعجزات معلناً بذلك بنوته الإلهية. وفى رفض السيد المسيح أن يفعل ذلك (أى يلقى بنفسه من فوق جناح الهيكل وتحمله الملائكة لو كان هو ابن الله حقيقة) إنما قهر الرب تجربة الشك حين رفض أن يعلن مجده وقوته أو يفعل ذلك من أجل المجد الباطل. ولكن دون أن يطلب المسيح فان الآب يحب الابن وقد أرسل الملائكة لكى تخدمه وتخضع له. ووفقاً لرأى القديس يوحنا فم الذهب فإن هذا الذى حدث هو من أجلنا نحن الذين نطلب أن نتصالح مع الله. لذلك يقول:

[يجب علينا أن نقهر الشيطان ليس بالمعجزات ولكن بالاحتمال وطول الأناة.. ولا يجب ان نفعل أى شئ من أجل الظهور والمجد الباطل].

وفى التجربة الثالثة (طلب الشيطان السجود له) أقام الشيطان نفسه مكان الله وحاول أن يستخدم الرغبات البشرية فى شهوة الغنى والقوة والشهوة لكى يبعد المسيح عن الآب. ولكن المسيح طلب من الشيطان أن يبعد معلناً أن الإنسان يجب أن يعبد ويخدم الله فقط مفضلاً عضوية ملكوت الله عن امتلاك المجد العالمى والتمتع به. ويجب أن تأخذ عضوية ملكوت الله الاهتمام الأول فى حياتنا.

4 - خدمة المسيح فى الجليل:

بعد تجربة السيد المسيح ابتدأ الرب خدمته الجهارية. وقد قدم البشيرون الثلاثة بياناً عن خدمة الرب يسوع المسيح وركزوا على تعاليمه ومعجزاته، وقدموا ذلك حسب ترتيب الموضوعات وليس حسب التاريخ والتقويم وذلك لان هذه المادة قد حفظت شفوياً حسب التقليد الخاص بالآباء الرسل فى العصر الرسولى. ولقد ركز البشيرون الثلاثة على أمرين فقط من خدمة الرب يسوع المسيح الجهارية:

أولهما – هى خدمة المسيح فى منطقة الجليل:

وثانيهما – هى رحلته الأخيرة من اليهودية إلى أورشليم.

ولكن يجب أن نحفظ فى ذاكرتنا ما سجله القديس يوحنا بصراحة أن الرب يسوع المسيح قد انتقل كثيراً أثناء اقامته على الأرض فيما بين الجليل وأورشليم وقد أمضى وقتاً فى أرض اليهودية. ولقد وصف إنجيل متى خدمة الرب يسوع المسيح فى الجليل (مت 3 - 18؛ مر 1 - 9؛ لو 3 - 9) وبعد عماد الرب وتجربته والتعاليم الأولية التى أعطاها فى اليهودية والسامرة بدأ فى اجتذاب تابعيه (يو ص 1 - 4) ثم غطت خدمة الرب يسوع على خدمة يوحنا المعمدان، والحقيقة أن يوحنا المعمدان قبل باتضاع الخطة الإلهية للفداء (يو 3: 25 - 30). وبعد القبض على يوحنا المعمدان رجع يسوع وبعض التلاميذ من اليهودية إلى الجليل وأسس مركزاً للقيادة فى كفرناحوم (فى الشمال الغربى لشاطئ بحر الجليل) ولما بدأ تابعى يسوع فى الازدياد بدأ فى الطواف فى منطقة الجليل يعلم فى مجامعهم ويكرز بإنجيل الملكوت ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب (مت 4: 23).

وأثناء خدمة الرب يسوع المسيح فى الجليل تم اختيار تلاميذه الاثنى عشر ليكونوا رسله الخصوصيين لانتشار رسالته. وكان التلاميذ الاثنى عشر ممثلين للرب يسوع المسيح وهم خاصته القريبون إليه جداً وأعطاهم سلطاناً أن يكرزوا ويشفوا باسمه أمراضاً كثيرة (مت 10: 1 - 15؛ مر 6: 7 - 13؛ لو 9: 1 - 6).

وكما كان أبناء يعقوب الاثنى عشر هم آباء العهد القديم هكذا أصبح التلاميذ الإثنى عشر هم آباء إسرائيل الجديدة التى هى الكنيسة. وخلال وقت خدمة المسيح على الأرض كان التلاميذ الاثنى عشر يعملون معه ثم بدأوا يستعدون للخدمة التى كان عليهم أن يؤدوها بعد إتمام خدمة الرب يسوع المسيح.

ولقد لخص القديس مرقس تعاليم المسيح عن إنجيل الملكوت فيما يلى: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر 1: 15).

وفى عظات السيد المسيح وأمثاله وحديثه عن الملكوت علم المسيح بما علم به يوحنا المعمدان وبقية الأنبياء الذين سبقوه وهو أنه لكى يدخل الإنسان الملكوت يجب أن يتوب وأن يحتقر العالم والجسد والخطية وأن يرجع إلى الله فى إيمان وحب وطاعة. ولقد تحدث المسيح بسلطان الحق بعكس أحادث الأنبياء «الحق الحق أقول لكم».

وكل من الإنجيليين الثلاثة قدم لنا مجموعة من تعاليم المسيح عن ملكوت الله (مت 5 - 25، 24، 13، 7؛ مر 13، 4؛ لو 10، 8، 6 - 19).

ولقد تلخصت تعاليم الرب يسوع فى الجليل فيما أورده إنجيل متى بالتفصيل فى الأصحاح الثالث عشر من إنجيله فى مجموعة الأمثال الخاصة بملكوت السموات. وفى هذه الأمثال علم الرب يسوع المسيح ان ملكوت الله هو هدف كل إنسان الذى يجب أن يهتم به أقصى اهتمام (مت 13: 44 - 46) وان الملكوت موجود الآن وينمو فى شخص المسيح وحياته فى الكنيسة (مت 13: 31 - 33). ولكى ندخل ملكوت الله يجب أن نحيا فى إيمان وطاعة ليسوع الذى هو كلمة الله المنيرة. وسوف يحرم فى يوم الدينونة من الحياة فى الملكوت أولئك الذين لم يعيشوا وفقاً لمشيئة الله (مت 13: 24 - 30؛ 36 - 43؛ 47 - 52).

ولقد ألقى الرب يسوع عدة عظات عن ملكوت الله وهى الموعظة على الجبل كما وردت فى إنجيل متى (ص 5 حتى ص 7) وهى فى الواقع مجموعة عظات ألقاها الرب يسوع المسيح فى عدة مناسبات خلال خدمته فى الجليل. ويصعب أن نتحدث هنا عن تفاصيل تلك الموعظة على الجبل ولكننا سوف نتحدث عن الموعظة على الجبل بشئ من الاجمال. فهى تبدأ بالتطويبات وكلمة طوبى Beatitude هى بركة Elessing والموعظة على الجبل هى وصف لطريقة التلمذة الحقيقية لأولئك الذين يستحقون أن يدعوا شعب الله (مت 5: 1 - 16) لأن ابن الله يجب أن يكون مسكيناً فى الروح لان هذا هو طريق الاتكال على الله، ويجب أن ينوح على خطاياه وعلى آلام البشرية وأن يكون وديعاً أمام الله. وأمام أولاده ويجب أن يكون عطشاناً وجائعاً للبر ولملكوت الله الذى هو الوجود المطلق وأن يكون رحوماً تجاه الآخرين لانه يعرف أن الله رحوم معه، وأن يكون نقى القلب بأن يطلب الله دون أن يخضع لأهواء الجسد وأن يصنع سلاماً مع الله ثم يبعث هذا السلام على كل مَنْ حوله، وأن يكون شغوفاً بأن يُضطهد من أجل البر، ويحمل دائماً الحق الإلهى ويرفض أن يكون له نصيب مع الوسائل العالمية. وكل مَنْ يسلك هذا السلوك فإنه يستحق أن يصير ملح الأرض ونور العالم فى الشهادة لمجد الله.

وإذ نتابع التطويبات فان المسيح له المجد يشرح الناموس الإلهى الذى اعلن لموسى النبى وسجله العهد القديم (مت 5: 17 - 48) فهو أيضاً يشرح طبيعة التقوى والتدين الحقيقى (مت 6: 1 - 8) ويعلن أن مفتاح كمال البشرية هو التكريس الكامل لله (مت 6: 19 - 34).

وملخص الموعظة على الجبل هو التعليم عن كيفية الحياة فى تواضع مع الله وفى بر وتقوى مع الآخرين والحذر من الانحراف الروحى الذى يحرمنا من الدخول إلى ملكوت السموات (مت 7: 1 - 29) إن الموعظة على الجبل تصف طبيعة البر والعدل الحقيقيين وتكشف عن قانون ملكوت الله والمبادئ التى تسود على مدينة الملكوت. وتكشف لنا الموعظة على الجبل كيف انه خلال الإيمان بالمسيح والتجاوب مع الروح القدس يمكننا أن نجاهد لكى نحيا وفقاً لهذا القانون وأن ننمو فى النعمة لنصل إلى الاتحاد الكامل مع الله. وهكذا فإن الموعظة على الجبل هى رسالة الوحى والحرية، ولكن بالنسبة لمَنْ يرفض المسيح هى رسالة الإدانة. لانه فى المسيح فقط لنا رجاء فى الدخول إلى ملكوت الله وبالحق قد قيل بان المسيح هو أرض الموعد لاننا نتوج فيه فى ملكوت الله، ولان فيه الملكوت.

ويقر البشيرون الثلاثة ان المسيح له المجد صنع شفاء ومعجزات كثيرة خلال خدمته فى الجليل وهذه الأعمال الخادمة هى إتمام لعملِ المسيا الذى تنبأ عنه العهد القديم (مت 11: 2 - 6؛ لو 7: 18 - 23) ولهذا فإن المسيح قد شفى مرضى وأخرج شياطين وسار فوق بحر الجليل (مت 14: 22 - 36) وأشبع الجموع بمعجزة (لو 9: 10 - 17) وأقام موتى (مت 9: 18 - 26؛ مر 5: 21 - 34؛ لو 7: 11 - 17؛ 8: 40 - 56) وكانت كل هذه الأعمال عبارة عن علامات لمجئ ملكوت الله فى المسيح.

وخلال الأيام الأولى لخدمة المسيح فانه لم يعلن عن نفسه أنه هو المسيا، ولم يعلن عن بنوته الإلهية للآب ولكن كانت أعماله وبشارته وكرازته فعّالة ومطابقة ومساوية للاعلان عن لاهوته، لذلك أصبح التلاميذ وكثير من شعب الجليل واليهودية يرون أنه هو المسيا الذى كان ينتظره اليهود وبدأوا يؤمنون انه عن طريقه يستطيع أن يتحرر شعب الله من عبودية الخطية.

ولكن طبيعة يسوع المسيانية كانت غير مفهومة حتى من تلاميذه، وفى الطريق إلى قيصرية فيلبس سأل يسوع الاثنى عشر: «مَنْ يقول الناس إنى أنا ابن الإنسان» (مت 16: 13 - 28) لأن كثيرين فى يهود تلك الأيام كانوا يظنون فى المسيا انه قائد إلهى سياسى وحربى وبطل يحرر اليهود من سلطان الرومان ويعيد إليهم قوتهم الأرضية وهذا التحرر السياسى يقود إلى تحول الأمم (إلى اليهود) والقيامة الأخيرة للموتى والدينونة والفداء الكامل لكل الخليقة فى ملكوت الله. ولكن فكر الأنبياء عن المسيا انه ملك إلهى عليه أن يتألم ويموت لكى يفدى شعبه والعالم لم يكن مقبولاً للفكر اليهودى فى وقت يسوع. ولهذا السبب وحتى الفترة الأخيرة من خدمة يسوع كان يخفى لاهوته وعمله كمسيا كسر لا يكشف.

وحينما تقدمت خدمة يسوع الجهارية اقترب مصيره إلى الضيق والألم بسبب سلطة طوائف اليهود المتدينين. وقد أشار الإنجيل إلى طائفتين من طوائف اليهود وهم جماعة الفريسيين والصدوقيين، والفريسيين (المعتزلين) كانوا يتبعون الناموس الشفهى لجماعة الكتبة وهم يكوّنون مدرسة من المعلمين الذين يتبعون المبادئ الموجودة فى أسفار موسى الخمسة فقط. فى كل تفاصيل الحياة. وحينما جاء الرب يسوع المسيح وجد أن هذا الناموس الخاص بالكتبة قد تطور خلال القرون ونما وتحول إلى قواعد معقدة لتحكم كل تفاصيل الحياة. وكان الفريسييون مثل معظم يهود ذلك الوقت ينتظرون المسيا ويؤمنون بقيامة الموتى. أما جماعة الصدوقيين فكانوا طائفة قليلة من الارستقراط والأغنياء ويمثلون معظم الوظائف الكهنوتية والمراكز فى مجمع السنهدريم (وهو مجمع الحكم اليهودى خلال القرن الثانى قبل الميلاد حتى القرن الميلادى الأول) والصدوقيون – على خلال الفريسيين – يرفضون ناموس الكتبة ولا يؤمنون بمجئ المسيا، وينكرون التعليم بقيامة الموتى. وكان كل من الفريسيين والصديقيين يمثلون حكم الأقلية ويحتقرون الجهال والأميين وهما الجنس المبغوض من السامريين والأمم.

وكان الفريسيون والصدوقيون لديهم شغف فى التمسك بالطبقة الاجتماعية والسياسية فى فلسطين، لانه وفقاً للقانون الرومانى فانه كلاً من هاتين الطائفتين كان يتمتع بالازدهار والاستقلال.

ولقد جذب الرب يسوع المسيح الكثير من عامة الشعب فى الجليل واليهودية لكى يتبعوه. وفيما كان يكرز وسط اليهود خدم أيضاً وسط السامريين والأمم (مت 8: 5 - 13؛ لو 17: 11 - 19). وكان كثيراً ما يهاجم تشريح الفريسيين وناموس الكتبة (مر 2: 1 حتى 3: 6)، وكثيراً ما انتقد الرب يسوع المسيح جماعة الصدوقيين بسبب جهلهم بالكتاب المقدس وبقوة الله (مر 12: 18 - 27).

ولذلك فإن كلاً من الفريسيين والصدوقيين – بسبب منطقهم الخاص – أعتبروا ان يسوع ليس هو المسيا الحقيقى الذى ينتظرونه، وكلاهما كان يخاف من أن تقدمه وظهوره ربما يثير جماعة الرومان فيأمرون بالحد من شئون اليهود.

وهذا الاصطدام بين يسوع وبين سلطات اليهود المتدينين وصلت إلى الذروة خلال الأسبوع الأخير فى أورشليم حيث تم القبض عليه ومحاكمته وصلبه.

5 - تجلى السيد المسيح:

بعد قطع رأس يوحنا المعمدان وبعد اعتراف بطرس الرسول فى قيصرية فيلبس أن يسوع هو المسيح ابن الله الحى، ابتدأ الرب أن يعد نفسه ويعد تلاميذه للأحداث الأخيرة من حياته وآلامه على الأرض، فأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا على قمة جبل طابور فى الجليل « وتغيرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور» (مت 17: 1 - 9؛ مر 9: 2 - 13؛ لو 9 - 28 - 36).

تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعيد التجلى كأحد الأعياد السيدية الصغرى فى اليوم الثالث عشر من شهر مسرى. ومن وجهة النظر الأرثوذكسية فان التجلى هو الظهور الثانى للثالوث المقدس – بعد عيد الغطاس – وهو اعلان للاهوت المسيح الابن ولطبيعة الثالوث المقدس. وعلى جبل طابور تحدث الآب من السماء كما حدث فى العماد فى الأردن وشهد للاهوت المسيح الابن، وكان الروح حاضراً فى التجلى، بصورة غير صورة العماد فى الأردن حيث كان فى العماد فى شكل حمامة، أما فى التجلى فكان فى صورة النور اللامع المتألق الذىكان يحيط بشخص المسيح ويغطى كل الجبل، وكان هذا النور هو نور الروح القدس. ويمثل التجلى مكانة كبيرة فى التعاليم الأرثوذكسية بخصوص مشاركة الإنسان للطبيعة الإلهية Deification والمجد الذى أشع من يسوع على جبل طابور هو المجد المدعو إليه كل الجنس البشرى لكى يشترك فيه. ونحن نرى على جبل طابور ناسوت الرب يسوع المتألق بالمجد، وما حدث لناسوت الرب يسوع المسيح يمكن أن يحدث لإنسانية الذين يتبعون يسوع أيضاً. وهكذا فإن التجلى يظهر لنا كمال فاعلية الطبيعة الإنسانية التى لنا، فهو يكشف لنا المجد الذى يمتلكه الإنسانية بالنعمة التى يكسبها الله فينا ويكسبنا إياها فى اليوم الأخير. وحين كشف الرب يسوع المسيح مجده لكل من بطرس ويعقوب ويوحنا فإنما كان يعدهم للصليب ولمجد القيامة الذى يتبع الصليب.

وكان حضور موسى وإيليا اللذان تحدثا كلاهما مع الله على جبل سيناء كان علامة للرسل أن يسوع هو كمال الناموس والأنبياء فى العهد القديم. ووفقاً لرواية القديس لوقا عن التجلى فإن موسى وإيليا يمثلان الناموس والأنبياء، وقد تحدث عن خروج الرب الذى أكمله فى أورشليم (لو 9: 30 - 31).

وبعد التجلى تحدث الرب يسوع المسيح ثانية مع الرسل عن آلامه المقبلة وأنه سوف يُسَلّم لأيدى أبناء البشر الذين سوف يقتلونه وفى اليوم الثالث يقوم من الموت (مت 17: 23، 22) ولكن مازال الرسل لم يفهموا ما قاله المعلم بل وتضايقوا جداً من ذلك الكلام. ولكن فقط بعد القيامة ابتدأوا يفهموا خطة الله فى الخلاص عن طريق شخص المسيح.

6 - رحلة المسيح من اليهودية إلى أورشليم:

وبعد التجلى بفترة قليلة ثبت المسيح وجهه ليذهب إلى أورشليم (لو 9: 51) وقد أعطى إنجيل متى ومرقس الاحساس بأن رحلة الرب الأخيرة من اليهودية إلى أورشليم كانت قصيرة (مت 19: 20؛ مر 10) ولكن التفاصيل التى أوردها إنجيل لوقا عن التعاليم التى أعطاها الرب يسوع فى تلك المرحلة يوحى لنا بأنها استغرقت فترة طويلة من الزمن فى اليهودية.

أما إنجيل يوحنا فهو يشير بأن الرب قد أمضى على الأقل عدة أشهر فى اليهودية قبل ذهابه ليمضى الأيام الأخيرة من حياته على الأرض فى أورشليم وانه قد زار المدينة المقدسة (أورشليم) أكثر من مرة خلال ذلك الوقت (يو 7: 1 حتى 12: 11). وخلال خدمة الرب فى اليهودية (وفقاً لرواية القديس لوقا) أعطى الرب تعاليم عن الروحانية الحقيقية وطريق الخلاص ومجئ ملكوت الله (لو 10 25 - 37؛ 11: 1 - 13؛ 12: 49 - 59؛ 13: 22 - 30؛ 14: 7 - 24؛ 15: 3 - 32؛ 16: 1 - 31؛ 17: 20 - 37؛ 18: 1 - 30).

ولقد ابتدأ الأسبوع الأخير من خدمة المسيح فى العالم بدخوله الانتصارى إلى أورشليم، ولقد دخل أورشليم راكباً حماراً (مت 21: 1 - 99 مكملاً بذلك نبوة زكرياً بأن المسيا سوف يعلن نفسه ملكاً ليس فى الحرب بل فى السلام بدخوله المتواضع إلى المدينة المقدسة راكباً على حماراً (زك 9: 9) والجموع رحبت به ووضعوا ملابسهم وأغصان النخيل قدامه وصرخوا قائلين أوصنا (معناها خلّص الآن) وكانوا يترجون أن المسيح كابن لداود يستطيع أن يقودهم للنصر ضد أعدائهم وأن يعيد تأسيس مملكة إسرائيل. وفى نهاية الأسبوع كشف لهم يسوع انه ليس هو الملك المسيا الذى توقعوه فاتحدت الجموع مع السلطات اليهودية والرومان فى الحكم عليه بالموت، وكان ذلك وقت الاحتفال السنوى بالفصلح.

ولقد حدث فى ليالى أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء من هذا الأسبوع أن يسوع كان يقيم مع خاصته وأصدقائه فى مدينة بيت عنيا على جبل الزيتون خارجاً عن أورشليم (لو 21: 37 - 38)، وفى هذه الليالى كان يسوع يعلم الرسل والتلاميذ كل ما يخص الفترة من موته ومجيئه الثانى. وكانت هذه التعاليم الخاصة بالأيام الأخيرة من حياة الرب أعطيت فى جبل الزيتون وأوردها القديس متى فى الأصحاح (25، 24) والقديس مرقس فى الأصحاح (13) والقديس لوقا فى الأصحاح (21).

وفى هذه الأحاديث تكلم الرب يسوع عن خراب أورشليم على أيدى الرومان (الذى تم عام 70) وعن الضقة العظيمة التى سوف تسبق المجئ الثانى لابن الإنسان (باروسيا Parousia) والدينونة الأخيرة والتأسيس الأخير لملكوت الله.

وخلال الأسبوع الأخير من الأحد إلى الأربعاء – كان يسوع يقضى كل يوم فى الهيكل بأورشليم ويعلم الجموع ويشفى المحتاجين للشفاء وكان يفحم أعداءه من الفريسيين والصدوقيين (مت 21 - 23) وطرد الصيارفة وباعة ذبائح الحمام من الدهليز معلناً انتهاء هذه الذبائح الحيوانية من الطقوس الدينية (مر 11: 16، 15).

ولقد أخذ مجمع السنهدريم (رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ) موضوع تطهير الهيكل كأنه هجوم مباشر ضد قيادتهم، وبدأوا يخافون من زوال سلطتهم على الشعب. وكانوا مهتمين بنشاط يسوع الزائد لئلا يتسبب ذلك فى اضطراب مع الرومان، ولذلك فان قادة السنهدريم بدأوا يبحثون عن وسيلة لكى يتخلصوا منه (مر 11: 18).

7 - محاكمة وموت يسوع:

تحدث الإنجيل عن المؤامرة ضد يسوع وعن القبض عليه ومحاكمته وموته. وقد وردت قصة آلام المسيح فى إنجيل متى أصحاح (27، 26) وإنجيل مرقس أصحاح (15، 14) وإنجيل لوقا أصحاح (23، 22).

ولقد بدأت قصة محاكمة المسيح وآلامه بالمؤامرة المقدمة لمجمع السنهدريم عن طريق خيانة يهوذا الاسخريوطى أحد التلاميذ الاثنى عشر (متى 26: 1 - 5، 14 - 16) أما سبب تحول يهوذا الاسخريوطى وانضمامه لأعداء المسيح لم يفسره أى من الأناجيل الأربعة، ولكن كان السبب الرئيسى هو محبة يهوذا للمال وكذلك خيبة أمله عند تحققه أن يسوع كان جاداً فى رفض المُلك السياسى والحربى، وهذا ما جعله فريسة آلة فى يد الشيطان وعندئذ قبضوا على يسوع.

واستمرت قصة الآلام فى وصف ما حدث من دهن الرب بقارورة الطيب من المرأة فى بيت عنيا (مت 26: 6 - 13) وهذه كانت نبوة عن موت الرب وتكفينه. ولقد بدأت المؤامرة ضد يسوع وكذلك الدهن بالطيب يوم الأربعاء من الأسبوع المقدس.

وفى يوم الخميس مساءاً احتفل السيد المسيح مع تلاميذه معاً بالفصح للمرة الخيرة (مر 14: 12 - 16) وجمع تلاميذه فى علية صهيون، وأثناء العشاء تنبأ يسوع لهم بأن أحد التلاميذ سوف يسلمه (مت 26: 20 - 25) ولما سأله يهوذا هل أنا يا سيد؟ قال له يسوع أنت قلت (مت 26: 25) ولكن بقية التلاميذ لم يفهموا هذا الحديث المتبادل بين يسوع ويهوذا وبدأوا يتساءلون فيما بينهم تُرى مَنْ هو الذى سوف يفعل هذا (لو 22: 23) ولم يشر البشيرون الثلاثة إلى ذلك ولكن القديس يوحنا أفاد يهوذا قد ترك الاحتفال بالفصح فوراً عقب تصريح يسوع عَمنْ سوف يسلمه (يو 13: 21 - 30) ولما انتهى الفصح صنع يسوع مجموعة من الأعمال فاقت الاحتفال بالفصح عند اليهود وأهم هذه الأعمال هو تأسيس السر المسيحى الذى هو الافخارستيا المقدسة. فأخذ يسوع خبزاً وباركه ثم كسره وأعطاه للتلاميذ قائلاً: خذوا كلوا هذا هو جسدى (مت 26: 26) ثم أخذ كأساً من النبيذ وباركه وأعطاه لهم قائلاً: إشربوا منه كلكم لأن هذا هو دمى للعهد الجديد الذى يُسفك عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا (مت 26: 28، 27).

لقد تم الإشارة إلى تأسيس سرالإفخارستيا فى جميع الأناجيل الثلاثة (مت 26: 26 - 29؛ مر 14: 22 - 25؛ لو 22: 20، 19) وأشار لذلك أيضاً إنجيل يوحنا. ولكن العهد الجديد قد سجل لنا أول إشارة عن سر التناول فى رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كرونثوس «لأننى تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً أن الرب يسوع فى الليلة التى أسِلمَ فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدى المكسور لأجلكم» (1كو 11: 23 - 25) وهذه الرسالة كُتبت عام 55م تقريباً، ولكن اعلان المسيح للرسل أن جسده ودمه يعطى «لهم ولكثيرين» هو اعلان أن المسيح مات من أجل خطايا الكل، وفى موته الكفارى يوجد غفران للجميع الذين يعرفونه كمخلص وسيد. وكما تحررت إسرائيل الأولى من مصر ومن الهلاك عن طريق جسد ودم خروف الفصح، هكذا فإن الإنسان يتحرر من عبودية الخطية والموت عن طريق جسد ودم المسيح، لأن المسيح هو فصحنا الحقيقى الذى خلص خطايا علالم بموته على الصليب وفى سر الافخارستيا وفى المسيح قد كمال العهد القديم بل وفاق أيضاً. وبصلب جسد المسيح وذبح دمه فانه تم تأسيس العهد الجديد بين الله وبين الجنس البشرى. وكما كان العهد القديم مدشن بدم ذبائح الحيوانات فهكذا العهد الجديد فى المسيح قد دُشن بدم الابن الحبيب.

وفى التناول من الجسد والدم الأقدسين فى سر الأفخارستيا فان المسيحيين يشتركون فى جسد ودم المسيح الحقيقيين (1كو 10: 16) ويمارسون أيضاً التذكار والاشتراك فى موت الرب. وبهذا يتحد المسيحيون ويصيرون واحداً مع المسيح عن طريق الدخول فى آلام الرب وموته ايضاً فى حياته الإلهية التى أعلنت فى القيامة. إن سر الافخارستيا المقدس هو حياة الكنيسة لأنه فى الافخارستيا تتحد الكنيسة مع المسيح الذى هو واحد مع الآب والروح القدس.

وهكذا فإن الكنيسة التى هى أعضاؤه تدخل فى الحياة الأبدية التى فى الثالوث المقدس وتصير واحداً مع الله.

محاكمة المسيح:

إن قصة الآلام فى الأناجيل الثلاثة تخبرنا انه بعد العشاء الأخير قاد الرب يسوع المسيح تلاميذه خارجاً عن أورشليم إلى مكان يدعى جثسيمانى وهو حديقة أو بستان موجود على سفح جبل الزيتون (مت 26: 36) وفى الطريق تنبأ لهم بأن كل التلاميذ سوف يتركونه وحينما اعترض بطرس وقال انه مستعد أن يموت معه قال له الرب انه فى هذه الليلة تنكرنى ثلاث مرات (مت 26: 30: 35).

وحينما وصلوا إلى جثسيمانى أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا – وهم الثلاثة الذين أراهم مجده على جبل التجلى – لكى يكونوا شهود لمجد آخر هو مجد الطاعة فى لحظة مواجهة موت الصليب.

ولقد صلى يسوع للآب لكى يعبر عنه هذه الكأس لو شاء (مت 26: 36 - 46؛ مر 14: 32 - 42؛ لو 22: 40 - 46) ففى هذا الفصل يتضح لنا اعلان الطاعة الكاملة التى للمسيح للآب فى وقت تقلب التلاميذ الذين لم يستطيعوا أن يسهروا مع الرب ويصلوا ولو لمدة ساعة واحدة.

وقصة حزن الرب فى بستان جثسيمانى ظهرت فى القبض عليه (مت 26: 47 - 56؛ مر 14: 43 - 52؛ لو 22: 47 - 53) وبينما هو يتحدث مع الرسل وصل يهوذا مع جند الهيكل الذين أرسلهم مجمع السنهدريم، وقد أعطى يهوذا الخائن علامة لهم وهى أن يقبل يسوع (مر 14: 44 - 46) وهكذا بمساعدة يهوذا تم القبض على المسيح فى ليلة يوم الخميس حيثما كان كل واحد مشغولاً فى الاحتفال بالفصح. وهكذا استطاع أعداء المسيح أن يضعوا أيديهم عليه بدون أى شغب أو صخب.

وبعد القبض على المسيح تم محاكمته أمام مجمع السنهدريم وتم اتهامه عن طريق قيافا رئيس الكهنة عن تهمة التجديف الدينية. وكانت محاكمة يسوع أمام السنهدريم مساء الخميس أو فى الساعات المبكرة من صباح الجمعة. وبعد شهادة كثير من شهود الزور الذين فشلوا فى اقناع الكهنة المجتمعين والكتبة والشيوخ أن يسوع قد فعل جرماً خطيراً (مر 14: 55 - 61) ولقد تقدم قيافا نحو يسوع بخطوة وسأله هل أنت المسيح ابن المبارك (مر 14: 61) أما يسوع – الذى كان صامتاً وقت اتهامه بشهود كذبة – فانه أجاب عن سؤال قيافا رئيس الكهنة وبشجاعة اعترف انه هو يعيشون وقت المسيح كانوا يظنون فى المسيا أنه سيكون كائن بشرى ولكن أقل من الله. ولكن كون المسيح قد أعلن لقيافا أنه هو ابن الله لذلك اعتبر هذا الاعلان انه تجديف، ولذلك فان قيافا رئيس الكهنة قد مزق ثيابه - معلناً بذلك عن جريمة التجديف – وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود، ووفقاً لناموس موسى (لا 24: 16) أخذ مجمع السنهدريم الأصوات لكى يحكموا على يسوع بالموت (مر 14: 63 - 65).

وبينما كانت المحاكمة تسير أمام مجمع السنهدريم كان بطرس ينكر علاقته بالمسيح كما تنبأ عن ذلك الرب يسوع (مت 26: 69 - 75؛ مر 14: 66 - 72؛ لو 22: 54 - 62) وندم يهوذا على ما فعله وقام وشنق نفسه (مت 27: 3 - 10).

وبعد مرور ساعات من محاكمته الدينية أمام مجمع السنهدريم (حوالى الساعة السادسة من صباح الجمعة) أخذوا يسوع إلى بيلاطس البنطى وهو الحاكم الرومانى لليهودية. وبعد أن حكم على يسوع بالموت من قبل الناموس اليهودى كان يلزم التصديق على هذا الحكم من السلطات الرومانية، لان الرومان لا يسمحون لليهود أن ينفذوا أى حكم بالموت على المجرمين بل كان الرومان هم الذين ينفذون حكم الاعدام على المجرمين الذين يحكم عليهم السنهدريم.

ولما كان الرومان لا يعتبرون التجديف على الله جريمة يعاقب عليها، لذلك كان على السنهدريم أن يقنع بيلاطس أن هذا المجدف يمثل تهديداً على قوة الرومان السياسية، وهكذا أمام الحاكم الرومانى قال أعداء المسيح انه يفسد أمتنا ويمنع أن يجمعوا جزية لقيصر وانه قال عن نفسه انه ملك (لو 23: 2) وبعد أن تحدث بيلاطس قليلاً مع يسوع لم يقتنع أن عمل يسوع يمثل جرماً خطيراً (لو 23: 4، 3) ولما علم أن (المتهم) من الجليل وحتى يتحاش رأى اضطراب مع السلطات اليهودية أرسله بيلاطس لكى يفحص من هيرودس أنتيباس بصفته حاكم الجليل الذى كان يزور أورشليم من أجل الفصح (لو 23: 5 - 7) ولذلك حين رجع يسوع ثانية إلى بيلاطس الذى أعلن أنه هو وهيرودس لم يجدا أى علة فى يسوع ولم يصنع أى جريمة ضد الدولة الرومانية (لو 33: 13 - 16) وفى ذلك الوقت (الصباح الباكر من يوم الجمعة) انتشر خبر محاكمة يسوع فى المدينة وبدأت الجموع تجتمع حول مكان أقامة الحاكم الرومانى طالبين آطلاق يسوع رغم اعتراض السلطات اليهودية. ولقد أعلن بيلاطس للجموع أنه حسب عادة الرومان يطلق لهم أسيراً كل عام وقت الفصح. وهكذا قدم بيلاطس للجموع فرصة للاختيارين بين يسوع وباراباس الذى قاد فتنة ضد الامبراطورية الرومانية وكان قاتلاً. ولكن قادة السنهدريم أثاروا الجموع ضد يسوع (مقدمين لهم دليلاً على انه المسيا الكاذب غير الحقيقى) وعلى عكس ما توقع بيلاطس صرخ الجموع لكى يطلق لهم باراباس (مت 27: 15 - 21) وطلبوا أن يصلب يسوع. وكان الصلب هو طريقة تنفيذ الرومان لعقوبة الاعدام بالنسبة للمجرمين الخطرين. ولما وجد بيلاطس أنه سوف يحدث شغب لو قاوم إرادة الجموع أعطى امراً أن يطلق باراباس ويجلد يسوع ويصلب (مت 27: 22 - 26) ولقد أفاد إنجيل يوحنا أن بيلاطس تحرك ليحكم بصلب يسوع حتى لا يعتبر القادة اليهود أن أى ترفق بيسوع (بملك اليهود) سوف يعتبرونه تمرد على قيصر (يو 19: 12 - 16).

8 - صلب وموت وقبر المسيح:

لقد حكم على السيد المسيح بالموت، ولذلك أخذه عسكر بيلاطس مع اثنين من المجرمين الذين حكم عليهما بالموت أيضاً إلى مكان يدعى الجلجثة «الذى معناه مكان الجمجمة» (مر 15: 17 - 22). وقدموا للرب خمراً ممزوجاً بمر ولكنه رفض أن يشرب (مر 15: 23) إذ كانت العادة أن يقدم هذا الشراب للإنسان المحكوم عليه لكى يقل احساسه بالألم، لأن الصليب يعطى الماً ومعاناة لا يمكن أحتمالها، ولكن يسوع رفض أن يشرب ولذلك جاز كل أنواع الألم بوعى وإدراك. ويخبرنا القديس مرقس بأن يسوع قد صُلب وقت الساعة التاسعة فى يوم الجمعة العظيمة (مر 15: 25) وكان قد كتب فوق رأسه «هذا هو يسوع ملك اليهود» (مت 27: 37؛ مر 15: 26؛ لو 23: 38).

ولقد صُلب مع يسوع اثنين من المجرمين واحد عن يمينه والآخر عن يساره (مر 15: 27) ولقد نزعوا ثيابه عنه وألقوه قرعة حتى يقتسموا ثيابه فيما بينهم (مت 27: 35) وقام الجنود بالاشتراك مع الجموع وقادة السنهدريم بالهزء والتوبيخ ليسوع المصلوب، وهم يطلبون منه أن يكشف لهم قوته الإلهية بمعجزة نزوله عن الصليب (مت 27: 39 - 43؛ مر 15: 29 - 32؛ لو 23: 35 - 37). ولكن ما صنعه يسوع تجاه هذه الإساءة هو صلاته للآب قائلاً: «يا أبتاه اغفر لهم لانهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو 23: 34) وكان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه ويشتمانه أيضاً (مر 15: 32) ولكن تحرك أحد هذين المجرمين بسبب شفقة يسوع أو يقظة حواسه فتوقف عن التعبير وطلب من يسوع أن يذكره متى جاء فى ملكوته (لو 23: 42) فقال يسوع للمجرم التائب الحق أقول لك إنك اليوم تكون معى فى الفردوس (لو 23: 43).

لقد تألم يسوع على الصليب ما يقرب من ستة ساعات من الساعة التاسعة صباحاً حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. وكانت هناك ظلمة من الساعة الثانية عشر ظهراً حتى الساعة الثالثة بعد الظهر (مت 27: 45؛ مر 15: 33؛ لو 23: 44) وقبل الساعة الثالثة صرخ يسوع قائلاً إلهى إلهى لماذا تركتنى (مت 27: 46؛ مر 15: 34). وكانت هذه الكلمات تكوّن الآية الأولى من المزمور (22) التى هى عبارة عن نبوة موت المسيا. ومن وجهة النظر المسيحية فإن المزمور (22) يتحدث عن آلام المسيح على الصليب وما عاناه من الصليب ويتحدث المزمور عن شتيمة المسيح واحتقاره والهزء وعن آلام المسيح الجسدية وعن أولئك الذين ألقوا قرعة لتوزيع ملابسه (مز 22: 1، 6 - 8، 24 - 28) ثم يقول المزمور بانه خلال آلام المسيا فإن الله سوف يخلص العالم من الشر (مز 22: 28، 27، 26، 24، 23). وفى الصليب قدم المسيح ذاته نيابة عن خطايانا واختبر الابتعاد الكامل عن الآب، هذا الابتعاد الذى نتج عن خطايانا. ولكن حين ابتدأ فى ترديد المزمور (22) فإن الله قد أعلن أنه وعد الفداء الموجود فى العهد القديم قد تم فى شخصه. وهنا يعلن الاستاذ كيزيك Kesick:

[لقد تحمل الرب كل أنواع الآلام البشرية التى سببتها الخطية التى فصلت البشرية عن الله، لان الخطاة قد تركوا الله « وأحبوا الظلمة أكثر من النور» (يو 3: 19) وان أقصى تغرب وانفصال عن الله تم حين صرخ المسيح قائلاً: «إلهى إلهى لماذا تركتنى» فهو ينطق بهذه الكلمات باسم البشرية ليضع نهاية لتغرب الإنسان، ولكى يدير وجه الإنسان نحو الله الذى يبحث عنه ولكى يتحد الإنسان مع الله ويتضامن الله مع الإنسان. والمسيح كان يصلى نيابة عنا].

وفى المزمور (22) نجد أن المسيح قد أعلن «كالماء انسكبت انفصلت كل عظامى... وإلى تراب الموت يضعنى» (مز 22: 15، 14) وهذا ما سجله إنجيل لوقا «فى يديد أستودع روحى» (لو 23: 46) وعند موت الرب انشق حجاب الهيكل إلى اثنين (مر 15: 38) والحجاب يرمز إلى الحاجز الذى يفصل بين القدس وقدس الأقداس. وقدس الأقداس يرمز إلى حضور لله غير المنظور، وكان الحجاب أو الحاجز رمز لخطية الإنسان التى جعلته يتغرب عن الله. ويخبرنا الإنجيل انه يموت الرب يسوع تم هزيمة تغرب الإنسان عن الله طريق الإيمان فى المسيح نستطيع أن ندخل إلى حضور الله الكامل.

وفى مساء يوم الجمعة العظيمة وبعد أخذ بيلاطس قام يوسف الرامى – الذى كان عضواً بارزاً فى مجمع السنهدريم – بأخذ جسد يسوع بعد أن أنزله عن الصليب. واشترك يوسف الرامى مع نيقوديموس فى لف جسد المسيح بأكفان الكتان ووضعوه فى مقبرة جديدة منحوتة فى الصخر (مر 15: 46)، ووضع حجر كبير على باب القبر، وأمام إصرار السلطات اليهودية أرسلت قوات من الجند لحراسة القبر لئلا يأتى تلاميذه ويسرقوه ويخبروا الجموع بأنه قام (مت 27: 57 - 66) وبوضع يسوع فى القبر انتهت كل آلامه.

9 - قيامة المسيح وصعوده:

يتحدث البشيرون الثلاثة عن قيامة المسيح فى الأصحاحات (مت 28؛ مر 16؛ لو 24). ان أتباع المسيح قد تأخروا فى إتمام طقوس الدفن حتى ينتهى يوم السبت (الذى يبدأ من مساء الجمعة وينتهى بمرور أربعة وعشرين ساعة) ولذلك فانه فى فجر الأحد ذهبت مريم المجدلية ونساء قليلات أخريات من تلميذات المسيح إلى القبر لكى يدهن الجسد بالأطياب، وكن متحيرات مَنْ الذى سوف يدحرج لهن الحجر عن باب القبر لكى يدخلن ويتممن خدمة الدهن (مر 15: 1 - 3).

ثم حدث زلزال عظيم لأن ملاك الرب نزل من السماء ودحرج الحجر وجلس عليه، وكان ظهوره أشبه بالنور وكانت ملابسه بيضاء كالثلج وبسبب الخوف منه فإن الحراس ارتعبوا وصاروا مثل الموتى ولكن الملاك قال للنسووة «لا تخافن انتن. فانى أعلم أنكن تطلبن يسوع المصلوب. ليس هو ههنا لانه قام كما قال» (مت 28: 2 - 7).

لقد تعجبت النسوة واندهشن لما سمعن ورأين (الملاك الذى اخبرهن بالقيامة وظهور الرب نفسه لبعضن منهن) ثم جرين من القبر ليخبرن الرسل الحزانى وبقية التلاميذ ان الرب قد قام. ولم تكن شهادة الملاك فقط وشهادة النسوة حاملات الطيب هى التى أكدت للتلاميذ والرسل بأن نبوة قيامة المسيح قد أكملت، لأن الرب نفسه الذى قام من الأموات قد ظهر لبعض منهم خلال الأربعين يوماً بين القيامة والصعود.

وعلى سبيل المثال فإن الرب نفسه قد ظهر لحاملات الطيب لما خرجن من القبر (مت 28: 10، 9) وكانت المجدلية هى أول إمرأة أدركت بأن الذى يتحدث معهن هو الرب نفسه (مر 16: 9). وبعد ظهور الرب لحاملات الطيب فى صباح الأحد الأول فإن الرب قد أعلن نفسه لبطرس الرسول (لو 24: 34)، ثم ظهر الرب فى نفس اليوم لاثنين من تلاميذه (تلميذى عمواس) اللذان كانا يمشيان من أورشليم إلى عمواس وهى قرية على قرب سبعة أميال من المدينة المقدسة (لو 24: 13 - 35). وفى مساء يوم القيامة ظهر الرب لجماعة من التلاميذ وأكل معهم وعلمهم معنى إرساليته وطلب منهم أن يكرزوا بالإنجيل لكل الأمم (لو 24: 36 - 49؛ مر 16: 14 - 18) ولما رجع جماعة الرسل إلى الجليل بعد بضعة أسابيع من القيامة التقى معهم الرب على الجبل وأعلن لهم المهمة العظيمة لكل المسيحيين «دفع إلىَّ كل سلطان فى السماء وعلى الأرض. فإذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم ان يحفظوا جميع ما أوصيتكم بهز وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر. آمين» (مت 28: 18 - 20) وبعد مرور أربعين يوماً على القيامة ظهر الرب فى بيت عنيا (قرب أورشليم) لتلاميذه وبعد أن وعدهم بموهبة قوة الروح القدس وحلوله عليهم (أع 1: 1 - 11) صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب (مر 16: 19؛ لو 24: 51، 50؛ أع 1: 9 - 11) وقبل صعود المسيح وعد تلاميذه بأن يكون معهم دائماً (مت 28: 20) وبعد مرور عشرة أيام من الصعود وأثناء احتفال اليهود بعيد الخمسين حل الروح القدس على التلاميذ والرسل، وعن طريق قوة الروح القدس تحول التلاميذ والرسل إلى الكنيسة التى هى جسد المسيح. وكان على جماعة الرسل أن ينشروا الأخبار السارة للخلاص فى كل العالم ولذلك حسناً قد قيل بأن يوم حلول الروح القدس هو يوم ميلاد الكنيسة.

ووفقاً لما رواه البشيرون الثلاثة فإن يسوع الناصرى هو ابن داود وهو المسيا وهو المسيح. ولكن لم يكن هو المسيا الذى توقعه جماعة اليهود ليؤسس لهم مملكة إسرائيل على الأرض ولكن لكى يؤسس (فى شخصه وفى الكنيسة) مملكة الله السمائية.

ولقد كان يسوع يتحدث دائماً عن نفسه انه ابن الإنسان ولقد ظن اليهود أن ابن الإنسان هذا هو كائن بشرى من أصل سمائى وليس أرضى. ولكن مع أن يسوع قدم نفسه على انه ابن الإنسان إلاَّ أنه فى نفس الوقت هو كائن إلهى. ولقد تحدث البشيرون الثلاثة عن المسيح أيضاً إنه ابن الله وانه هو الرب بالاضافة للقول ان المسيح هو ابن الإنسان، وهكذا فإن بنوة وربوبية ابن الإنسان قد ظهرت فيما رواه البشيرون الثلاثة عن ميلاد المسيح البتولى وفى الظهور الإلهى وقت العماد ووقت التجلى ووقت اعلان مجد المسيح فى القيامة والصعود. ولقد ركز كل من متى ومرقس ولوقا على إنسانية المسيح الحقيقية (على سبيل المثال فى التجربة والآلام) ولكنه كان اعلان عن بنوته الإلهية التى أفحمت مجمع السنهدريم وأثارته وقت المحكمة. ومن وجهة نظر اليهود فإن المسيا هو ممسوح إلهى وليس كائناً إلهياً بل هو كائن بشرى. وهناك بعد آخر فى حياة يسوع المسيانية لم يكن يقبله بعض من تلاميذه اليهود وهو تسليم نفسه للألم والموت لدرجة ظهوره فى صورة المهزوم فى أعين العالم فى ثبوته على آلامه (مت 16: 21 - 28؛ 17: 22 - 23؛ 20: 17 - 19) ومن حيث مواجهة الألم فإن المسيح الرب وابن الله وابن الإنسان أعلن نفسه أنه الخادم المتألم الذى تحدث عنه الله بفم إشعياء النبى. ولكن من وجهة النظر اليهودية فإن فكرة تألم المسيا حتى الموت كانت بالنسبة لهم خيالية وغير مقبولة. وكان اليهود فى الفلسفة الهيلينية يتوقعون فى المسيا انه ملك حربى ومحرر الأمم وقائد العالم.

وهكذا فإن البشيرين الثلاثة يعلنون المسيا أنه إله وإنسان معاً وهو الذى تألم ومات من أجل خطايا العالم كله. ويعلن البشيرون الثلاثة أيضاً بأن اللاهوت والناسوت معاً حررا الجنس البشرى عن طريق موته وقيامته. وعن طريق الإيمان فى المسيح كمخلص ورب وعن طريق موهبة الروح القدس التى يأخذها كل مَنْ هم فى المسيح فإن الإنسان يتصالح مع الله ويرجع إلى حالة البنوة الإلهية ثانية، لأن الطبيعة البشرية قد تقدست فى المسيح وأصبح الإنسان يستطيع أن يرجع إلى حياة الوجود مع الثالوث المقدس.

ويستطيع أيضاً أن يعود إلى التبعية الكاملة والاتحاد الحقيقى مع الله.

وهذا هو محور رسالة البشائر الثلاثة وبينما هذه الرسالة هى حجر عثرة لليهود ولكثيرين إلا أنها بالنسبة للمسيحيين فإنها «قوة الله وحكمة الله» (1كو 1: 24).

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الفصل السادس لاهوت المسيح فى إنجيل يوحنا - رسالة الأنجيل في المفهوم الأرثوذوكسي - معهد فلاديمير الروسي- القمص أشعياء ميخائيل

الفصل الرابع الحكمة والنبوة فى العهد القديم - رسالة الأنجيل في المفهوم الأرثوذوكسي - معهد فلاديمير الروسي- القمص أشعياء ميخائيل

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

جدول المحتويات