الأصحاح السادس – تفسير إنجيل متى – القمص أنطونيوس فكري

هذا الفصل هو جزء من كتاب: انجيل متى – القس أنطونيوس فكري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الإصحاح السادس

هنا يرفع السيد مستوى العبادات، من صدقة وصلاة وصوم، إلى مستوى العلاقة الشخصية مع الله، وهذا مخالف للفكر اليهودى. فقد كان الفريسيين يصلون ويصومون ويتصدقون فى مظهرية ليحصلوا على مديح الناس وإعجابهم. أماّ السيد هنا فيقول وماذا تستفيد من إعجاب الناس، السيد يطلب أن نكف عن المظهريات، وأن ندخل فى علاقة حب، وحياة حب عميق يربطنا مع الله أبينا. السيد يعطينا مفهوماً جديداً للعبادة أنها دخول إلى حضن الآب السماوى فى المسيح يسوع، وهذه علاقة خاصة سرية ليست للإعلان. ولكن هناك فهم خاطىء لهذه الأيات.. فهناك من إمتنع عن الصلاة لأن أهل بيته يرونه وهو يصلى!! لو كان هذا المفهوم صحيحاً لإمتنعنا عن الصلاة فى الكنيسة إذ أن الناس يروننا ونحن نصلى ولكن قصد المسيح أن لا نسعى لأن يرانا أحد، لا نسعى وراء مجد من الناس. وبنفس المفهوم يمكن أن نعطى أمام الناس لكن لا نبحث عن المظهرية. والسيد هنا يبدأ بالصدقة إمتداداً لكلامه السابق عن المحبة.

(مت1: 6 - 15).

الأعداد 1-4

الآيات (مت1: 6 - 4): -

"1«اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 2فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 3 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.".

احترزوا = فقد تتسلل محبة المديح إلى قلوبنا.

صدقتكم = تشير حسب أصل الكلمة لأعمال البر عامة، وأعمال المحبة للآخرين.

لكي ينظروكم = أى نصنعها بهدف الفوز بمديح الناس. المراؤون = يظهرون (عمل الرحمة) غير ما يبطنون (طلب مديح الناس فى كبرياء).

فلا تصوت قدامك بالبوق = كان الفريسيون يصنعون هذا، ليقدموا دعاية لأنفسهم، فعبادتهم كانت نوعاً من الرياء، لتزداد كرامتهم وسط الناس، وكانوا يدعون من يفعل هذا أبو المحسنين، عطوفة الرابى فلان صانع الحسنات. وكان الفريسى من هؤلاء ينال أجره من الناس كرامة وتعظيم. والمسيح حتى يعطينا أن لا نبحث عن كرامة من أحد وضع نفسه مكان المحتاج فقيراً كان أم مريضاً.

ما تفعل يمينك = اليمين هو عمل الخير الذى تقوم به.

لا تعرف شمالك = هو الشعور بالبر الذاتى، وبأننى صنعت شيئاً، وهو الشعور بالرغبة فى المديح أو طلب الأجر من الله، وهو الشعور بأننا معجبون بأنفسنا. جميل ما قاله داود إذ أعد الكثير لبيت الرب إنه قال "من يدك أعطيناك".

الأعداد 5-8

الآيات (مت5: 6 - 8): -

"5« وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7 وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ.".

كان الفريسى يتعمد أن يراه الناس مصلياً فيحمدوه على بره وتقواه لذلك طلب السيد المسيح أن نصلى سراً فى المخدع فالصلاة هى صلة وعلاقة شخصية مع الله ليس لأحد أن يطلع عليها، هى شركة حب مع الله. ولو إهتم أحد بأن يراه الناس مصلياً فيمدحوه سيكون هذا عائقاً عن لقاء الله.

ادخل إلى مخدعك = هذا يعنى خصوصية وسرية العلاقة مع الله فى الصلاة.

إغلق بابك = ليس فقط باب الغرفة، بل أبواب العالم كله بمشاكله ومغرياته وأحزانه، حتى لا يشغلنا شىء عن لقاء الحبيب.

لا تكرروا الكلام باطلاً كالأمم = كما كان كهنة البعل يفعلون أيام إيليا النبى (1مل 26: 18). وكما كان الفريسيين يطيلون صلواتهم لعلة (مت 14: 23) فقد كان الفريسيون يذهبون لبيوت الأرامل ويطيلون الصلوات ليحصلوا منهم على أجر عالٍ. ويطيلون صلواتهم ليمدحهم الناس على برهم وتقواهم، أو لظنهم أن الله يُخدع بكثرة الكلام. مثل هذا النوع من التكرار مرفوض. فالسيد المسيح كرر صلواته (مت 44: 26) فتكرار الصلوات من قلب ملتهب بالحب ليس فيه عيب، ولكن تكرار الكلام والعقل غائب وراء أفكار أخرى مرفوض. إذاً فلنكرر الصلوات ولكن لا نقول كلمات لا نعنيها بل نفكر ذهنياً فيما نقول (1كو14: 14 - 18)، ولا نقول سوى ما نقصده. والسيد نفسه طلب اللجاجة فى الصلاة، وهو فعل هذا (لو 44: 22 + لو 1: 18 - 7). فلنصلى ونكرر لكن بقلب شاكر طالب رحمة الله. نكرر بإلحاح ولجاجة (لو 7: 18، لو 8: 11) وإيمان. وهذا ما يستجيبه الله.

الآيات (مت9: 6 - 15) الصلاة الربانية + (لو 1: 11 - 4).

الأعداد 9-13

الآيات (مت9: 6 - 15): -

"9«فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. 10لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 11خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. 12 وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. 13 وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. 14فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. 15 وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ.".

الآيات (لو 1: 11 - 4): - "1 وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَارَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ». 2فَقَالَ لَهُمْ: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 3خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، 4 وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ».".

هنا يعلم السيد تلاميذه صلاة محفوظة فلماذا تنكر علينا بعض الطوائف أن نصلى المزامير والأجبية كصلوات محفوظة. والكنيسة المقدسة تفتخر بهذه الصلاة الربانية فهى نموذج من وضع السيد نفسه، نبدأ به كل صلواتنا وننهيها بها، فهى نموذج حى نتفهم خلاله علاقتنا بالله ودالتنا لديه، نرددها لنحيا بالروح الذى يريده الرب نفسه. ونبدأها بإجعلنا مستحقين أن نصلى لأننا نقول أبانا. ومن إنجيل معلمنا لوقا نفهم أن التلاميذ سألوا السيد المسيح أن يعلمهم الصلاة لما رأوه يصلى، فهو بصلاته أمامهم تذوقوا معنى جديد وصورة جديدة للصلاة لم يعرفوها من قبل. فالمسيح يعلم ليس بالإلزام ولكن بالإقناع الداخلى وفتح الوعى الداخلى، صلاة المسيح وحرارتها وهيئته وربما نورانيته كانت ليس كما كان الفريسيين يصلون، بل تركت أثراً عميقاً فى نفوس التلاميذ فإشتهوا أن يصلوا مثله وبنفس الروح.

والمسيح كان يصلى كنائب عن البشرية وكرأس للكنيسة، يصلى لحسابنا، حملنا بصلاته إلى حضن أبيه. ولكن أيضا هى صلة الإبن بأبيه. هذه الصلة هى ما إشتهى التلاميذ أن يعيشوه حينما رأوا المسيح يصلى فطلبوا من الرب أن يعلمهم كيف.

أبانا الذى فى السموات = المسيح جعلنا فيه أبناء الله، إذ وحدنا فى شخصه كإبن لله. ونقول أبانا بالجمع، فلسنا وحدنا فى وقوفنا أمام الله، لأن المسيح جمعنا كأعضاء جسده ووحدنا فى نفسه. وكون أبانا هو فى السموات، إذاً لنفهم أننا أصبحنا سماويين، وغرباء فى هذه الأرض بل هو ساكن فى قلوبنا فأصبحت قلوبنا سماء وهذا معنى "طأطأ السموات ونزل" (مز18: 9). لقد أتى لنا المسيح بتجسده بالسموات على الأرض، هو فى السموات وعلى الأرض وفى كل مكان، ولكن السيد يريد أن يرفع عيوننا إلى السموات حيث أعد هو لنا مكاناً سنذهب إليه "أنا ذاهب لأعد لكم مكاناً" (يو 2: 14 - 3) بل أعطانا إمكانية أن نحيا الحياة السمائية ونحن على الأرض.

وقولنا أبانا تحمل معنى أنه حتى لو صلينا بمفردنا فى مخدعنا فإننا نصلى ونقدم صلواتنا بإسم الجماعة كلها، فأنا عضو فى جسد المسيح أهتم بكل عضو آخر فى هذا الجسد، فهو مكمل لى. وبنفس المفهوم نكمل خبزنا كفافنا وليس خبزى، نحن نصلى لأجل شعب المسيح كله لأننا جميعاً جسد واحد والمسيح رأس هذا الجسد.

فى بداية الصلاة نصلى بقولنا أبانا فندرك مركزنا الجديد بالنسبة لله والذى حصلنا عليه بالمعمودية. بل أن الروح القدس فى داخلنا يشهد لأرواحنا أننا صرنا أولاداً وأبناء لله فنصرخ يا آبا الآب (رو16: 8 + غل6: 4).

ليتقدس إسمك = كلمة قدوس باليونانية هى أجيوس ومعناها لا أرضى أي متسامى ومرتفع عن الارضيات. والإسم فى الكتاب المقدس يعبر عن حقيقة الجوهر وهدفنا هو مجد الله، نقدس إسمه فى قلوبنا ونتمنى أن يكون هو ممجداً فى قلوب كل الناس أى يتسامى ويعلو فى قلوبنا وفى قلوب كل واحد. يتقدس فينا ويرانا الناس فيقدسوا إسمه. ويكون هذا بسلوكنا فى كمال مسيحى، نسلك بما فيه تقديس إسمه، يرانا الآخرون ويروا أعمالنا فيمجدوا أبانا الذى فى السموات (مت16: 5). صارت شهوة قلوب أبناء الله أن يصرخ الجميع كما يفعل الملائكة قائلين قدوس قدوس قدوس.

طبعاً قولنا ليتقدس إسمك لا يعنى أننا نطلب أن يرتقى الله فى القداسة أو يزداد فيها بصلاتنا، فهو كامل من كل وجه، بل نشتاق أننا نَكْمُلْ ويقدسنا الله ويكون ذلك سبباً أن كل الناس يمجدون الله.

ليأت ملكوتك = الله يملك الآن على الملائكة وعلى قلوب أولاده المؤمنين به، ولكن مازال هناك شياطين يقاومون ملكوت الله، وأشرار على الأرض غير خاضعين لناموس الله، والله يترك الجميع، ولكن فى حدود يسمح بها، كما قال بولس الرسول "على اننا لسنا نرى الكل بعد مخضعا له" (عب2: 8) والمسيح أتى ومن يقبله ويثبت فيه يصير الكل جسدا واحدا هو رأسه، وهذا الجسد يخضع للآب فى حب (1كو28: 15 = المسيح هنا كرأس للكنيسة يقدم الخضوع لله الآب). أما أعداء الله فيكونوا خاضعين تحت قدميه.

فالمؤمن الحقيقى يشتهى أن يأتى هذا اليوم الذى يخضع فيه الكل لله، هو الشوق لمجئ السيد المسيح الثانى فى مجده ليسود الرب على كل الخليقة ويصير الله الكل فى الكل، وتبطل مقاومة كل الأعداء.

والمؤمن الحقيقى يشتهى أن يمتد وينمو ملكوت الله الآن على الأرض ويزداد المؤمنين بالمسيح عدداً، ويزداد التائبين من المؤمنين.

والمؤمن الحقيقى يشتهى أن يملك عليه المسيح تماماً فلا يعود هناك مكان فى قلبه لمشاغبات الجسد ولا لأى محبة للعالم والزمنيات، بل يطيع الله طاعة كاملة ومن له هذه الشهوات المقدسة، أن يأتى الله فى ملكوته سيكون له معه نصيب فى ملكوته. من له شهوة أن لا يكون للشيطان ولا للخطية أى نصيب فى قلبه، بل يكون قلبه كله لله، ومن يجاهد لأجل هذا سيكون له نصيب فى ملكوت المسيح حين يجئ. بهذه الطلبة نشتاق لإضمحلال مملكة الشيطان وأن يخضع الجميع وأولهم أنا للملك الحقيقى. وبها نتذكر أن نصيبنا هو فى السموات فننصرف عن الإهتمام بالأرضيات.

لتكن مشيئتك = مشيئة الله هى الخير المطلق، فهو صانع خيرات، لا يعرف أن يعمل ما فيه ضرر لأحد. ومشيئة الله قد تتعارض مع مشيئتى لأننى محدود فى كل شىء. فبولس الرسول صلى ثلاثة مرات ليُشفَى وكانت مشيئة الله عكس مشيئة بولس، ورفض الله شفاءه، وكان هذا لخلاص نفسه لئلا يرتفع من فرط الإستعلانات (2كو7: 12 - 9) وبهذا الإرتفاع يتكبر وينتفخ فيسقط ويهلك. فمشيئة الله ليست فى شفاء الجسد والغنى المادى والمراكز العالية، فهذه كلها قد تُضَيِّع صاحبها، ولكن مشيئة الله هى خلاص النفوس (1تى 4: 2) فالله قد يسمح ببعض التجارب والألام لخلاص النفس وبهذا تكون كل الأشياء تعمل معاً للخير (رو28: 8). ما نظنه خيراً بحسب فكرنا البشرى وما نظنه شراً (كالمرض والفشل) بحسب فكرنا البشرى، كل هذا بسماح من الله وللخير، أى لخلاص نفوسنا (1كو 22: 3). فلنطلب من أبونا السماوى كل ما نريده ولكن يا ليتنا ننهى صلاتنا بأن نقول لتكن مشيئتك. هذه صلاة إبن يثق فى محبة أبوه.

إذاً لنصلى بثقة لتكن مشيئتك يارب وليس مشيئتى، فأنا لا أعرف ما هو الخير لنفسى، والروح القدس عمله فى الصلاة أن يجعلنا نقبل مشيئة الله (رو 26: 8). وقال الأباء "المر الذى تختاره لى يا رب خير من الشهد الذى أختاره لنفسى".

كما فى السماء كذلك على الأرض = هى شهوة قلب المؤمن أن يرى الكل، من على الأرض، يعملون وفق إرادة الله ومرضاته كما تفعل الملائكة فى السماء، وأن يتمم الله مشيئته فى كل من على الأرض كما يفعل فى السماء. فإرادة البشر قد تعطل إرادة الله من ناحية خلاص نفوسهم، فالله كما قلنا يريد أن الجميع يخلصون، ولكن إن قاومت إرادة الله، فالله لن يقدر أن يخلصنى (مت 37: 23 - 39). وقال القديس أغسطينوس "الله الذى خلقك بدونك لا يقدر أن يخلصك بدونك".

هذه الطلبة تعنى إجعلنا يارب قادرين أن نتبع الحياة السماوية فنريد ما تريده أنت. وإذا كانت السماء تشير للمؤمنين فى الكنيسة، فشهوة قلب المؤمن أن يصير غير المؤمنين (الأرض) مؤمنين أى سماء. يقول المرنم أن "الله طأطأ السموات ونزل" (مز 9: 18) أى جعل للأرض إمكانية أن تحيا فى السماويات (أف 6: 2) فهل نُفرح قلب الله ونحيا فى السماويات، وبهذا نحقق ما أراده. والسماء من الفعل سما أى هى ارتفاع عن الشهوات الأرضية، وهذا ما طلبه الرسول (كو 1: 3) إن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق....

خبزنا كفافنا أعطنا اليوم = يقول الدارسين للغة اليونانية أن كلمة كفافنا المستخدمة هنا تعنى خبزنا الذى يكفينا لليوم، وتعنى أيضاً خبزنا الذى للغد، الخبز الجوهرى الأساسى. فالله هو المسئول أن يقوتنا بالخبز الجسدى والملبس وإحتياجات الحياة، وهو المسئول أيضاً عن الإحتياجات الروحية والغذاء الروحى. والله يغذى أرواحنا بكلمته فى الكتاب المقدس وبالأسرار الكنسية ومنها التناول الذى يفتح أعيننا فنعرف الله كما فُتِحت أعين تلميذى عمواس بعد كسر الخبز. والله هو الذى سيعطينا الشبع بمعرفته فى الحياة الأبدية (يو3: 17). هذا نطلبه الآن أن نعرف الله فتحيا نفوسنا ونحيا منتصرين على ألام هذه الحياة، فمعرفة الله تعطى عزاء وحياة وشبع فلا نحتاج لغيره. وإذا فهمنا الكلمة بمعنى كفافنا، نفهم أننا نطلب الله ليعطينا ما نحتاجه فقط وليس عطايا التدليل التى تفسد وتعطينا أن لا ننشغل بالغد.. وإذا فهمنا الكلمة بمعنى الذى للغد فنحن نعنى بها الحياة الأبدية. وكلا المعنيين صحيح وضرورى. ولكن الكنيسة فضلت أن تصلى وتقول "خبزنا الذى للغد" فالأهم من الإهتمام بالخبز المادى أن نهتم بالشبع بشخص المسيح من الآن، كما سنشبع به فى الأبدية. وهذا تنفيذا لوصية المسيح "أطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت6: 33).

تأمل: - المسيح خبز الحياة (يو35: 6) ونحن نحتاجه كخبز سماوى يومى، بدونه تصير النفس فى عوز.

وإغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبيين إلينا = هذا إعتراف بأننا خطاة ونقدم توبة ونحن محتاجين لمغفرة مستمرة فنحن مازلنا فى الجسد. من يتصور أنه بلا خطية يضل نفسه ويكون متكبراً (1يو 8: 1). نحن فى إحتياج أن نصرخ لله دائماً مع العشار "اللهم إرحمنى أنا الخاطىء" (لو 13: 18). فلنذكر دائماً أننا خطاة ونطلب الرحمة والغفران ونرى أن هناك شرطاً لكى يغفر لنا الله وهو أن نغفر للآخرين. ولنعلم أن طبيعتنا الفاسدة ودس الشيطان يمنعوننا من أن نغفر، ولكن ذلك يؤدى لفقدان سلامنا على الأرض وأبديتنا فى السماء. ولنلاحظ أن من يخطىء فى حقى فخطيته صغيرة لأننى صغير، ولكنى حين أخطأت إلى الله فخطيتى كبيرة جداً بل غير محدودة لأن الله غير محدود، فإن لم أغفر الخطايا الصغيرة كيف يغفر الله لى الخطايا الكبيرة. ونلاحظ فى هذه الطلبة أننا نقدم إعتراف مستمر بخطايانا ولا نلتمس الأعذار وفيها أيضاً إلتزام بأن نغفر للآخرين.

لا تدخلنا فى تجربة لكن نجنا من الشرير = نحن نثق فى أن الله قادر أن يحفظنا من تجارب إبليس الشريرة، ولكننا لا نندفع بتهور نحو التجربة، بل فى تواضع نطلب أن لا يدخلنا الشيطان فى تجربة، نطلب من الله أن يُبعد عنا تجارب إبليس. فالله لا يريد النفس المتشامخة التى لا تحتاط من التجربة بل يريد النفس المتضعة. وبصراخنا لله يهرب الشيطان، فصراخنا هو سر نجاتنا أماّ لو إتكلنا على أنفسنا فهذا هو الكبرياء. وبداية سقوط بطرس فى الإنكار كان كبرياءهُ إذ قال لا أنكرك، والمسيح سمح بسقوطه فى الإنكار حتى يتضع. والشرير هو الشيطان ونحن نطلب أن ننجو من سهامه الملتهبة ونجنا من الشرير = أى نجنا من خداعاته وإسندنا ضد حيله. ولنلاحظ أن قولنا لا تدخلنا فى تجربة لا تعنى أننا لن ندخل أبداً فى تجربة، أى لن نجرب، وإلاّ لما أضاف الرب "لكن نجنا من الشرير" فالشرير لابد سوف يجربنا، ونحن نصرخ بإتضاع يا رب أنا لست كفؤاً لتجارب إبليس فإن سمحت بتجربة فنجنى منها وإسندنى حتى لا أهلك، وستكون هناك تجارب طالما نحن فى الجسد. ولكننا نعلم أنه إذا سمح الله بتجربة فهى حتى ننمو روحياً، هو يسندنا خلالها، ونخرج وقد اكتسبنا شيئاً لذلك نصرخ له. وأضاف الأباء بعد هذا "بالمسيح يسوع ربنا" وهى مستنتجة من قول المسيح مهما سألتم بإسمى فذلك أفعله (يو 13: 14 + يو 23: 16).

لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد = بعد أن نطلب أن ينجينا الله من الشيطان الشرير. نقول هذه التسبحة فتعطينا راحة وثقة أننا فى يد الله محفوظين فلا نخاف من إبليس وتجاربه. الملك = هو يملك على الإنسان وعلى الشيطان وعلى كل الخليقة. والقوة = هو أقوى بما لا يقاس من عدونا الذى يجربنا. والمجد = هو مستحق أن نمجده.

آمين = كلمة عبرية تعنى ليكن هذا وباليونانية آمين تعنى حقاً.

الأعداد 14-15

الآيات (مت14: 6 - 15): -

"14فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. 15 وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ.".

لم يعلق السيد المسيح على أى طلبة فى الصلاة الربانية سوى هذه الطلبة أى حتمية أن تغفر للناس كشرط ليغفر الله لنا، وليستجيب الله صلواتنا ونكون مقبولين أمامه يجب أن نغفر. راجع مت (21: 18 - 35).

الأعداد 16-18

الآيات (مت16: 6 - 18): -

"16« وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. 17 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.".

الصوم هو تقديم الجسد ذبيحة أمام الله وتذلل حقيقى للنفس فى حضرة الله لنوال رحمته. وعلينا أن يكون صومنا فى الخفاء وبخشوع أمام الله، وبإنكار ذات فى صورة رفض شهوات الجسد لكى تنطلق الروح فى عبادة بلا قيود. أما حب الظهور كما كان يفعل الفريسيين رغبة منهم فى مديح الناس فيجعل الصوم شكليات بلا روح، ولا يقود لحياة سماوية. بل هو بلا قيمة أمام الله فقد استوفوا أجرهم.

إدهن رأسك وإغسل وجهك = المقصود أن تظهر نفسك بشكل طبيعى كما فى الأحوال العادية، أما الفريسيين فكانوا يظهروا بثياب غير منسقة وشعر غير مدهون وعابسين ليظهروا للناس صائمين وينالوا مجداً من الناس.

سيرتنا هى فى السموات (فى3: 20).

وصايا الرب فى الآيات السابقة تهدف إلى أن نحيا فى السماويات، وهذا قد صار متاحا إذ هو "طأطأ السموات ونزل" (مز18: 9) أى أتى لنا بالحياة السماوية على الأرض: -.

الصدقة = أعمال المحبة التى نقدمها لمحتاج هى مقدمة لشخص المسيح السماوى.

الصلاة = هى علاقة بالله أبينا السماوى.

الصوم = هو زهد فى الملذات الدنيوية وبالتالى إبتعاد عنها متجهين للسماويات.

الصلاة الربانية = هى إتجاه للسماويات، فأبونا سماوى وبأعمالنا وسلوكنا السماوى يتقدس إسمه، ونصلى لكى تكون الأرض سماء ويملك الله على الكل ويخضع الكل له، ونصلى لكى يكون المسيح هو مصدر شبعنا الآن وفى السماء. وحين نغفر يغفر لنا أبونا السماوى، وننعم بأحضانه الأبوية كما فرح بها الإبن الضال الذى غفر له أبيه.

ومن يحيا هذه الحياة السماوية يكنز له كنوزا فى السماء. فمن يعمل ويجد فى الأرض يكنز أموالا تنفعه على الأرض، أما من يجاهد ليحيا فى السماويات فهو يكنز كنوزا سماوية وهذا ما يطلبه الرب فى الآيات الآتية.

الأعداد 19-21

الآيات (مت19: 6 - 21): -

"19«لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، 21لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا.".

الفريسيين محبين للمال وهم يعتبرون أن جزاء تقواهم لابد أن يكون غنى فى الأموال (لو 14: 16). والسيد هنا ينهى أن يكون كل همنا هو جمع الأموال (يع 1: 5 - 3). ولنفهم أن الطمع فى جمع الأموال يلازمه صلاة فارغة من الروح. فالسيد المسيح فى الآيات (1 - 18) أوضح أن حب الظهور والمجد الزمنى يفقدنا روحياتنا ويفقدنا المكافأة السماوية التى ينالها من يقدم عبادته فى الخفاء. وفى هذه الآيات يقدم ربنا سبباً آخر لفقدان الروحيات ألا وهو محبة المال. لأن من يفعل هذا يضع رجاؤه (ضمان مستقبله) فى المال، فصار المال إلهاً له. من يظن أن المال يُؤَمِّن له مستقبله فهو يجعل من المال إلها له، وهل يليق أن نثق فى أوراق ملونة أكثر من ثقتنا فى الله.

لا تكنزوا على الأرض = بكنز الملابس والأوانى والمال وهذه كلها معرضه للضياع.

إكنزوا لكم كنوزاً فى السموات = وهذا يكون بالتصدق على الفقراء وعمل البر والصلوات والأصوام وفى هذا كله نقضى أوقاتاً سماوية وتتعلق قلوبنا بهذا المكان الذى أحببناه أى السماء وإكتشفنا جماله فأصبحنا نريد أن نقضى أوقاتاً أطول مع الله. فكما أن من يقضى أيامه يكنز أموالاً فيتعلق قلبه بهذه الأموال، هكذا من يعيش أيامه فى السمويات يتعلق قلبه بالسمويات ويكون له كنزاً سماوياً. وهكذا ننشغل بالمصير المبارك الذى لنا فى الأبدية. وليس معنى قول السيد المسيح هنا منع الإدخار، ولكن أن لا يعتقد الإنسان أن مستقبله يكون آمنا لو امتلك الكثير من المال. فبهذا هو يؤله المال. السؤال المهم ما الذى يجعلك تشعر بأمان تجاه المستقبل هل وجود أموال كثيرة لديك... أم الله القادر أن يدبر؟ وهذا قطعا لا يعنى أن لا نعمل ونقول الله يرزقنا "فمن لا يريد أن يشتغل فلا يأكل" (2تس3: 10).

لنلاحظ أن تعليم السيد هنا عن الصلاة والصوم والصدقة أى عمل البر وخدمة الناس الهدف منه هو أن نحيا الحياة السماوية على الأرض فالصلاة هى إلتصاق بالله أبونا السماوى والصوم هو زهد وإبتعاد عن الأرضيات أى إرتفاع إلى السماويات والصدقة هى خدمة للسيد المسيح فالفقير والمحتاج هم إخوته "فبى فعلتم" (مت25: 31 - 40) فإن زرت مريض فقد زرت المسيح السماوى.

الأعداد 22-23

الآيات (مت22: 6 - 23): -

"22سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، 23 وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!".

بعد أن تكلم السيد عن الكنز السماوى يكلمنا هنا عن العين البسيطة. والعين البسيطة هى عكس المركبة. فالعين المركبة تطلب الله يوماً وتطلب العالم أياماً، ولا تشبع من العالم بكل ملذاته. أماّ من يبحث عن أن يكون له كنز سماوى فمن المؤكد أن عينه ستكون على السماويات يريد أن يحياها على الأرض ويشتهيها كأبدية لهُ مستهيناً بالعالم حاسباً إياه نفاية (فى 8: 3). مثل هذا الإنسان تكون عينه بسيطة لأنها تبحث فقط عن الله ومجده. مثل هذا الإنسان يكون المسيح فى داخله، يستريح فيه تكون له الحياة هى المسيح (فى 21: 1) والمسيح نور، فيكون جسده نيراً. سراج الجسد هو العين = سراج أى المرشد فى السير والعمل. والعين رمز للإهتمامات والرغبات والمطامح التى يُجتذب إليها الإنتباه، وهذا دليل على طبيعة حياة الإنسان كلها.

والعين البسيطة بهذا تكون هى الغير طامعة فى أمجاد العالم وملذاته، راضية بما هى فيه، لا تهتم إلاّ بأبديتها وبعشرتها مع الله، لا تبحث إلاّ عن مجد الله.

فكلمة بسيطة تترجم Simple وتترجم فى الكتاب المقدس فى غالب الأحيان Single hearted أى بمعنى إتجاه واحد فقط.

عينك شريرة = قلب مظلم لا يشتهى سوى العالم الباطل، بأمواله وملذاته. هذه لا تقنع بحالها وتورث صاحبها الهم، وتفقده الرؤية الصحيحة فتنحاز للأباطيل، تجمع وتكدس ولا تقنع أبداً. فالمال سيد قاسٍ يستعبد محبيه، وإذا أحبوه سقطوا فى سجنه المظلم، لا يتركهم إلاّ مرضى مهمومين متألمين يعيشون فى قلق وخوف فاقدين السلام والصحة والفرح والحرية وأخيراً يفقد حياته الأبدية = جسدك كله يكون مظلماً فإن كان النور فيك ظلاماً = النور هو العقل والذى يتخذ القرارات، وهذا تعبير تصويرى دقيق يصف القلب الذى هو ميت بالنسبة للأشياء التى لله. فإن كان العقل قد صار ظلاماً وإتخذ قرارات خاطئة بالإنحياز للعالم فماذا سيكون حال باقى أعضائك والتى هى بطبيعتها خاضعة للشهوات = فالظلام كم يكون = بالقطع مستعبد للشهوات والأحقاد والحسد.... الخ. من تكون عينه بسيطة أى لا يقبل إلا أن يبحث عما يريده الله فقط، هذا يسكن فيه المسيح النور الحقيقى ويستخدم أعضاءه كألات بر (رو 6) فيظهر فيه نور المسيح. والعكس فمن يبحث عن شهوات هذا العالم ويتجاوب مع إغراءات الشيطان سلطان الظلمة يقود أعضاءه كألات إثم فيظلم كله.

العدد 24

آية (مت24: 6): -

"24«لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ.".

هى تتمة ما سبق فلا يمكن لأحد أن يعبد سيدين الله والمال = لأنه لا يستطيع أحد أن يحيا فى النور والظلمة معاً. فالمال كما قلنا سيد قاسٍ يجعل من يعبده يتخلى عن الله وضميره وأحباءه ويجرى فقط وراء المال، أماّ راغب القداسة فيبيع كل شىء ويطلب الله = عينه تكون بسيطة أى أعطى قلبه بلا إنقسام لله = يبغض الواحد ويحب الآخر. والله ليس ضد الأغنياء فإبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب كانوا أغنياء، ولكن الله ضد أن نكون عبيداً للمال متكلين على المال كضمان للمستقبل (مر 24: 10). وكلمة المال هنا كلمة عبرية تشير إلى المقتنيات المادية بشكل عام، وكانت فى الأصل تشير إلى ما يعتز به الإنسان من مال ومقتنيات لكنها تطورت لتعنى المال كإله يستعبد له الإنسان.

الآيات (مت25: 6 - 34): -.

"25«لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 27 وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ 28 وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29 وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 31فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. 33لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ.".

حين يقول السيد لا تهتموا بالمال سيثور سؤال هام.... وكيف نؤمن مستقبلنا من مأكل وملبس؟ وهنا السيد يقول أن الله هو المسئول عن حياتنا ومستقبلنا ومعيشتنا. وهل نثق فى مال يأكله السوس ويسرقه اللصوص ولا نثق فى الله كأب سماوى يعولنا. المسيح هنا يريد أن ينزع منا كل قلق وهم لنعيش فى طمأنينة تحت تدبير الله الذى يرعى حتى الطيور. فلنعمل ونكد ونبحث عن القوت ولكن بلا قلق ولا هم فالله هو الرازق "إلق على الرب همك فهو يعولك" (مز 22: 55 + 1بط 7: 5) أليست الحياة أفضل من الطعام = الحياة هى هبة من الله والجسد هو هيكل لله أما الطعام واللباس فهما وسيلة فقط. والذى وهب الحياة وخلق الجسد ألا يستطيع أن يمنح القوت والكسوة. أى إذا كان يمنح العطايا الكبيرة ألا يمنح العطايا الصغيرة.

العدد 25

آية (مت25: 6): -

"25«لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟".

ذراعاً واحدة = فى ترجمات أخرى يزيد على قامته أقل وحدة قياسية.

العدد 26

آية (مت26: 6): -

"26اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟".

الأعداد 27-28

آية (مت27: 6): -

"27 وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟".

يزيد على قامته = اللفظة اليونانية قد تعنى عُمر بدلاً من قامة. أى يكون المعنى أنه لا.

يمكن إضافة شىء إلى مسافة رحلة العمر. وإذا أخذناها كما هى يكون المعنى أنك لا يمكنك أن تزيد إلى طول قامتك شىء.

العدد 29

آية (مت29: 6): -

29 وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا.

لا تقلقوا = الكلمة الأصلية تفيد تعلق الفكر بشىء يتأمل فيه بغير استقرار.

تأمل = أهم من لباس الجسد أن الله قادر أن يعطينا بهاءً بأن نلبس ثوب البر = نلبس.

المسيح (رو 14: 13).

الأعداد 30-31

آية (مت30: 6): -

"30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟".

التنور = الفرن. ولندرة الخشب كانوا يستخدمون الحشائش الجافة والأشواك وفروع الأشجار الصغيرة كوقود.

الأعداد 32-33

آية (مت32: 6): -

"32فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا.".

تطلبها الأمم = الذين هم ليسوا قادرين على النظرة الإيمانية الهادئة والواثقة فى الله، فأفكارهم عن الله وعنايته أفكار قاصرة، ويطلبون ما يظنونه لسعادتهم أى الأكل والشرب والملبس.

أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره = راجع تفسير ليأت ملكوتك. أى أطلبوا أن يملك الله بالكامل على قلوبكم ولا يكون للشيطان مكاناً فيه. واطلبوا نمو ملكوت الله بين غير المؤمنين. وأن يملأ الله قلوبنا ببره. ونطلب الإمتلاء من الروح القدس ونطلب توبة الخطاة. ولنطلب ثانياً أو ثالثاً الأمور الزمنية، بل أن الله سيعطيها لنا حتى لو لم نطلبها.

العدد 34

آية (مت34: 6): -

"34فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ.".

لاتهتموا بالغد = لم يقل لا تهتموا باليوم، فعلينا أن نعمل بجدية من أجل قوتنا، ولكن لا نحمل هم الغد أى المستقبل (1تس 9: 2).

يكفى اليوم شره = لا يعنى بالشر الخطية لكن التعب والمشاكل التى نقابلها.

الآيات (لو 22: 12 - 31): "22 وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «مِنْ أَجْلِ هذَا أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. 23اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ اللِّبَاسِ. 24تَأَمَّلُوا الْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ، وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلاَ مَخْزَنٌ، وَاللهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ الطُّيُورِ! 25 وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ 26فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ وَلاَ عَلَى الأَصْغَرِ، فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِالْبَوَاقِي؟ 27تَأَمَّلُوا الزَّنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو: لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ، وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 28فَإِنْ كَانَ الْعُشْبُ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ فِي الْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 29فَلاَ تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ تَقْلَقُوا، 30فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ. 31بَلِ اطْلُبُوا مَلَكُوتَ اللهِ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.".

نجد هنا نفس الكلام يكرره القديس لوقا. ولكن إستبدل كلمة الطيور بالغربان. لأن الغراب إذا ما أفرخ يترك أولاده بلا طعام لأن الفراخ يكون لونها أبيضاً فينفر منها، والله أعطى لهذه الفراخ أن تفرز رائحة من فمها تجذب إليها البعوض، ويدخل لداخل فمها فتتغذى عليه، حتى يظهر ريشها الأسود فيأتى لها أبواها لتغذيتها. فإن كان الله يدبر هذا للغربان أفسيترك أولاده ويهملهم (مز 9: 147).

ونلاحظ أن السيد وجه هذا الحديث فى إنجيل لوقا بعد حديثه عن الأغنياء، وهو يوجه هذا الحديث لتلاميذه الفقراء، فإبليس يجرب الفقراء بأنه يوهمهم أنهم سيكونون أكثر سعادة وإطمئناناً لو إمتلكوا المال الكثير. وقوله لا تهتموا = حتى لا تمتص الزمنيات كل تفكيرنا فننشغل عن السماويات فنحرم من أن يملك الله على قلوبنا. ولاحظ أن هذه هى مشكلة البشر، أن التفكير فى المشاكل والماديات والزمنيات يستغرقهم، بل يقودهم ذلك للكآبة. والسيد المسيح يدعونا أن نثق فيه أنه هو يدبر كل شئ وهذا يجعلنا نحيا فى فرح، وهذا ما يريده لنا.

الأصغر = وهو زيادة القامة. البواقى = الأمور الأكبر شأناً فى الحياة، المعنى أن الله خلقنا لنحيا وهو مسئول أن يحفظ حياتنا ويعولنا. زيادة القامة شئ لا أهمية له ونحن غير قادرين حتى على هذا الشئ، فما بالكم بالحفاظ على الحياة نفسها. عموما الرب يريد أن يقول أننا غير قادرين على شئ بدونه (يو15: 5).

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الاصحاح السابع - تفسير إنجيل متى - القمص أنطونيوس فكري

الأصحاح الخامس - تفسير إنجيل متى - القمص أنطونيوس فكري

تفاسير إنجيل متى الأصحاح 6
تفاسير إنجيل متى الأصحاح 6