الأصحاح الرابع – تفسير رسالة كورونثوس الثانية – القمص أنطونيوس فكري

هذا الفصل هو جزء من كتاب: رسالة بولس الرسول الثانية إلى كورنثوس – القس أنطونيوس فكري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الإصحاح الرابع

إدعى المعلمين الكذبة أن الضيقات التي تواجه بولس هي علامة عدم رضا الله عنه، وبالتالي تخلى الله عنه. فنجده هنا يقدم فكر مستنير عن بركة الضيقة.

العدد 1

آية (1): -

"1مِنْ أَجْلِ ذلِكَ، إِذْ لَنَا هذِهِ الْخِدْمَةُ ­كَمَا رُحِمْنَا­ لاَ نَفْشَلُ،".

بالرجوع لما سبق وقاله في إصحاح (3) يقول.. ولأن عملنا وخدمتنا على هذا القدر من المجد الذي يتميز عن العهد القديم. وخدماتنا هذه ليست راجعة لكفاءتنا وإستحقاقنا ولكننا حصلنا عليها من فيض رحمة الله = كَمَا رُحِمْنَا وإذا كان الله هو الذي وهب لنا هذه الخدمة فإننا لا نفشل مهما قابلنا من صعاب، فالله يريد لهذه الخدمة النجاح ويعطينا إمكانيات جبارة تصاحب هذا المجد الذى نكرز به.

العدد 2

آية (2): -

"2بَلْ قَدْ رَفَضْنَا خَفَايَا الْخِزْيِ، غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ، وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ، بَلْ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ اللهِ.".

بَلْ قَدْ رَفَضْنَا خَفَايَا الْخِزْيِ = رفضنا أن نمارس الخطايا المخجلة، ولأنها هكذا يمارسونها في الخفاء. وكيف يكون لنا كل هذا المجد ونسلك في خفايا الخزى. ونعمل هذا لنكون إنجيلاً معاش وليس مكتوم، غير ظاهر، ونحن لا نتصرف في الخفاء غير ما نفعله علانية. غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ... = ونحن لا نسلك في مكر أو خبث. الرسول لا يسلك كما يفعل المعلمين الكذبة، هم إتهموه بالمكر والغش وهم الذين يسلكون هذا الطريق. مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا = التصرفات الحسنة التي نجاهد أن نسلك فيها تستجلب مدح الناس ورضاهم وثقتهم. ونتقدم بأنفسنا ظاهرين واضحين أمام الناس جميعاً غير مخفين أعمالنا، ويرى الناس أعمالنا الصالحة ويمجدوا أبونا الذي في السموات. وأيضاً قُدَّامَ اللهِ = الرسول لا يمارس فضائله ليراه الناس، بل وفى الخفاءأيضا، فهو يشعر أنه أمام الله دائما ويجاهد لكى يرضيه. والله هو الشاهد على إخلاصنا في تعاليمنا وسلوكنا.

العدد 3

آية (3): -

"3 وَلكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُومًا، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ،".

ربما عَلَّقَ البعض على كلام بولس حين قال أن هناك برقع على العهد القديم، بأن الإنجيل أيضاً غير واضح، والرسول يرد على هذا بأنه غير واضح للهالكين. فإن كان إنجيلنا غير مدرك وغير مقبول، فإن هذا يرجع إلى البشر أنفسهم أو الهالكين منهم الذين لم يقبلوا محبة الحق (2تس 2: 10). أي هؤلاء الذين بإرادتهم وبإختيارهم قد أغلقوا أذهانهم عن فهم الحقيقة وعن تقبلها. هم من بإرادتهم صاروا تحت سلطان الخطية، فصاروا عمياناً إذ أسلموا أنفسهم للشر فصار برقع على قلوبهم حجب عنهم فهم إنجيلنا وصار مكتوما فيهم، ورفضوا الإستجابة للنداء الإلهي. فليس كل إنسان يتقبل كلام الله، فيهوذا كان في حضن المسيح وهلك لأنه لا يريد. فنحن لنا إرادة حرة (مت 23: 37). والعكس فمن يحيا في طهارة، صالباً شهواته يحيا المسيح فيه (غل 2: 20). والمسيح الذي فيه يحركه وفقاً للإنجيل، فالمسيح كلمة الله، والإنجيل كلمة الله. وبهذا يتحول هذا الإنسان لإنجيل معاش. فمن ينساق وراء شهواته يصبح إنجيلاً مكتوم (هذه الآية) ومن يصلب شهواته (غل5: 24) يصير إنجيلاً معاش إذ يمتلئ من الروح الذى يجدد طبيعته. والإنجيل المعاش شئ ودارس الإنجيل كمعلومات شئ آخر، فإن لم يصلب هذا الدارس شهواته لن يصبح إنجيلاً معاش، بل يظل إنجيلاً مكتوم وسيهلك. أمّا من يحيا فيه المسيح فيكون له فكر المسيح (1كو 2: 16) وهذا سيفهم ما يقوله الإنجيل، بل سيحيا به ويطبق ما فيه، وسيكون هو بحياته إنجيلاً مقروءاً من الناس، يكرز دون أن يتكلم أو يعظ، نور المسيح الذي فيه سينعكس من عليه كمرآة.

العدد 4

آية (4): -

"4الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ.".

إِلهُ هذَا الدَّهْرِ = في حالة التمرد الحالية التي يعيش فيها البشر في هذا الدهر، نجدهم يعبدون إبليس رئيس هذا العالم كما أسماه المسيح فى (يو 14: 30 + يو 16: 11). ويسميه الرسول هنا إله هذا الدهر لأنه هو الذى يفيض بالخطايا والشهوات والمال والملذات الحسية التى يسعى وراءها هؤلاء المتمردون وهم يسجدون له ليحصلوا عليها من يده. وكل من يأخذ شئ من يد إله هذا الدهر يذله هذا الإله ويستعبده. بينما أن إلهنا يُعطى بسخاء ولا يُعَيِّر (يع1: 5). ويسمى إله هذا الدهر أيضا، لأن سلطانه وقتي إذ أن هذا العالم سيزول، والشيطان سيلقى في البحيرة المتقدة بالنار (رؤ 20: 10). والكل سيخضع لله (1كو 15: 24) ولاحظ أن من يترك الله يكون له إله آخر هو إله هذا الدهر. لذلك يقول "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت" (رو 6: 12). بل من تجذبه مراكز وعظمة هذا العالم، فبالرغم من أن هذا ليس خطية، إلاّ أن الإهتمام بهذا يعمى العين عن أن ترى المسيح، فيحرم الإنسان من النور الإلهي. وقوله هذَا الدَّهْرِ المقصود به كل الزمان الذي يسبق المجيء الثاني.

قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ = هذا هو خداع إبليس إله هذا الدهر، أنه يثير شهوات الإنسان ويغريه بملذات هذا العالم، ومن ينقاد لشهواته يصيبه العمى فلا يدرك نور الإنجيل ولا يفهمه، ولا يدرك نور الكرازة التي تبشر بمجد المسيح، ولا يدرك النور الذي يظهر مجد المسيح الذي هُوَ صُورَةُ اللهِ = فالله غير منظور ولكننا رأيناه في المسيح، كما قال المسيح لفيلبس "من رآني فقد رأى الآب".

إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ = المؤمن الحقيقي يصير في داخله إستنارة يرى بها المجد الذي في المسيح الذي هو صورة الله، بل هو يعكس هذا المجد فيراه الغير ولكن هذا لمن صلب شهواته فصار المسيح يحيا فيه وأعطاه بصيرة. أما من إنقاد لشهواته تنطفئ بصيرته الداخلية، ومثل هؤلاء أسماهم هنا غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ = فالمؤمن يعكس مجد الله، إذ يحيا المسيح فيه. ولكن من ينقاد لإله هذا الدهر حتى يصيبه بالعمى كيف يكون مؤمناً. فالخطايا والشهوات هي كطين يغطى مرآتنا فلا نعكس مجد الله، بل لن نراه ولن ندركه أصلاً. أمّا من يقدم توبة فسيشرق داخله نور بعد أن كان ظلمة، ويعود يرى مجد المسيح.

العدد 5

آية (5): -

"5فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا، وَلكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ.".

من (آية 4) رأينا أن الإنجيل يكرز بمجد المسيح، وهذا هو هدف كرازتنا. نحن نرى مجد المسيح فلا نستطيع إلاّ أن نكرز به. فنحن لا نقصد أن نكرز بأنفسنا ولا أن نمجد ذواتنا، بل نحن نعتبر أنفسنا عبيداً لكم من أجل يسوع. إن الخادم يقدم نفسه عبداً وخادماً للمؤمنين ليربح نفوسهم للمسيح وليتمجد المسيح في كل إنسان. وإن كان هدف الرسول مجد المسيح، فمن يخاصمه يخاصم المسيح. ونحن كيف نكرز بالمسيح؟ بصلب شهواتنا فيحيا المسيح فينا ويرى الناس المسيح الذي فينا دون كلام ولا كرازة.

العدد 6

آية (6): -

"6لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.".

اللهَ الَّذِي قَالَ = (تك 1: 3). هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا = هذا كان بالمعمودية التي هي سر الإستنارة، وبالمعمودية أيضا صار المسيح النور الحقيقى يحيا فينا (رو6). ومعنى كلام الرسول هنا أن في بدء الخليقة كان هناك ظلمة، وخلق الله النور في العالم. وبالمثل كان هناك ظلمة في قلوبنا، والله الذي خلق النور في العالم في اليوم الأول، خلق نور داخلنا. فالإستنارة الداخلية هي عمل إلهي، هي خلق. فالله هو الذي يعطينا أن نستمتع بهذه الإستنارة. وفي قلب كل خاطئ ظلمة، وحين يعود لله بالتوبة يعطيه الله إستنارة داخلية... هذه هي الخليقة الجديدة. والله يعطينا هذه الإستنارة ليس لنستنير فقط، بل بواسطتنا يمكن أن نكرز بهذا النور، فالله يعطينا هذا النور إذاً لسببين: -.

أ) تصير لنا البصيرة الداخلية المستنيرة التي تدرك ملكوت الله، وتنعم به، ونفهم ونعاين أسرار الحب الإلهي ونرى بوضوح الله ونعرف مشيئته ونحبه ونفرح بهذا الحب.

ب) نشهد لله بحياتنا، وخلقتنا الجديدة، نشهد لله في العالم، وهذا هو الإنجيل المفتوح عكس الإنجيل المكتوم (آية 3) = لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ = فنحن عرفنا مجد الله حين إستنرنا، ثم نعلنه للآخرين. من إستنار هو من يحيا فيه المسيح ويتحد به فيظهر المسيح الذى فيه للعالم.

فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ = هذا المجد الإلهي ظهر بواسطة شخص ربنا يسوع المسيح. فالمسيح هو صورة الله غير المنظور (كو1: 15) ومن رآه فقد رأى الآب (يو14: 9). فنحن نعرف المجد الإلهي عن طريق معرفة المسيح وحياة المسيح فينا وبها نتمتع بشركة مجده الإلهي. ولاحظ أن الله يعطينا الإستنارة: 1) بالمعمودية 2) بالتوبة. وكلاهما موت عن العالم وعن الخطية، لنقوم بحياة جديدة. كلاهما قرار بالموت يعقبه حياة، والموت ظلمة وعدم إدراك، والحياة إستنارة ومجد.

العدد 7

آية (7): -

"7 وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِللهِ لاَ مِنَّا.".

لَنَا هذَا الْكَنْزُ = معرفة المجد الإلهي / المحبة الإلهية / النور الإلهي / الروح القدس يحل فينا (وهو نار إمّا نضرمها أو نطفئها) / المسيح يحيا فيَّ (غل 2: 20) الخدمة المجيدة التي إستأمننا الله عليها.

وبالرجوع (للآية 6) نرى أن الرسول يقصد بقوله لكن لنا هذا أن الكنز هو مجد الله الذى فى داخلنا والغير مستعلن الآن. فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ = فأجسادنا ضعيفة وهي من طين، ولكننا صرنا هيكل لله. وما يحجز ظهور المجد الإلهي فينا هو هذا الجسد الترابي، ولكن يوم تكسر هذه الآنية الخزفية، أي يوم نموت يظهر هذا المجد العتيد أن يستعلن فينا (رو 8: 18). ومن حكمة الله ورحمته أن يظل هذا المجد مختفياً لئلا ننتفخ، وكانت هذه سقطة إبليس إذ إنتفخ بسبب مجده وجماله. بل لذلك أيضاً يسمح الله لنا ببعض الآلام والتجارب (2كو 12: 7). ومن هو ممتلئ من الروح والإستنارة والمجد الداخلي، يوم يموت يكون كالعذارى الحكيمات، مصابيحهن مملوءة زيتاً، ومن أطفأ الروح داخله يكون كالجاهلات. لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِللهِ لاَ مِنَّا = القوة التي نخدم بها، ونواجه الصعاب بها، هي قوة إلهية، فما نحن سوى آنية خزفية ضعيفة، ففضل نجاحنا في خدمتنا يرد أصلاً إلى عمل الله فينا ولا يرد لذواتنا.

الأعداد 8-10

الآيات (8–10): -

"8مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. 9مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. 10حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا.".

إستخدم الرسول في هذه الآيات تعبيرات رياضية تستخدم في رياضات المصارعة والجرى.

مُكْتَئِبِ = وصف لمن يسقط في يدي خصمه الذي يصارع ضده عاجزاً عن المقاومة.

مُتَحَيِّرِ = من وقف في حيرة أمام مهارة خصمه لا يعرف ماذا يفعل.

مَطْرُوحِ = مصارع سقط ملقياً على الأرض، محطما = crushed.

مُضْطَهَد = من فاته السباق وعجز عن اللحاق بالآخرين.

ولاحظ صليب الخدمة في حياة الرسول بولس... مكتئبين / متحيرين / مضطهدين / نسلم دائماً للموت / الموت يعمل فينا. فالمشاكل التي تقابل الخدام كل يوم تعمل عمل إماتة. ولكن لاحظ أيضاً عمل الروح القدس فيه داخلياً، فالروح يعطى مساندة للخادم حتى لا يفشل (آية 1).. لكن غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ / غَيْرَ يَائِسِينَ / غَيْرَ مَتْرُوكِينَ / غَيْرَ هَالِكِينَ. لذلك فالخادم المملوء من الروح القدس لا يفشل مهما زادت الضيقات والمشاكل. بل أن لهذه المشاكل فائدة عظيمة فبها ينكسر الخادم ويخضع أمام الله بدموع، إذ هو غير قادر على حلها. وبها يكتشف إمكانيات الله إله المستحيلات. وتتوالى المشاكل حتى يُمات الخادم تماماً = الموت يعمل فينا (آية 12). فتموت الأنا أو الإعتماد على الذات وتعطيه إعتماداً كاملاً على الله. فالمشاكل تحاصر الخادم ولكن لا تخلق شعوراً بالضيق داخله، قد يتحير لكن دون أن يشعر بالفشل أو اليأس فشعور الخادم باليأس قد يدفعه للإبتعاد عن الخدمة. الخادم الصحيح لا يشعر أبداً أن الله تركه، مع أن المشاكل تحاصره، وقد يبدو أحياناً أنه هُزِمَ وكما لو أن البشر إستطاعوا أن يطرحوه إلى المخاطر = مَطْرُوحِينَ كما كان بولس وسيلا في السجن، أو حين غرقت السفن وبولس فيها. ومع هذا فإن هذه المخاطر لا تقوى على أن تهلكنا، فيد الله وعنايته تحيط بنا كما أحاطت بدانيال في جب الأسود. الخادم الحقيقي لا تبتلعه الضيقات والإهتمامات.

وطالما نحن في الجسد ستظل هذه الثنائية، شئ في الخارج وشئ آخر في الداخل، دموع في الخارج وتعزيات في الداخل = "كحزانى ونحن دائماً فرحون" (2كو6: 10). فمجد إبنة الملك من داخل (مز45: 13) (سبعينية). أمّا الخارج فآنية خزفية ضعيفة. وهذا ما قاله السيد المسيح "في العالم سيكون لكم ضيق" (يو16: 33). القلب اليائس والحزين هو قلب قد إنطفأ فيه الروح القدس، ليس بسبب المشاكل ولكن لنقص جهاد هذا الخادم وفتوره (أف5: 18 – 21).

حَامِلِينَ إِمَاتَةَ الرَّبِّ = كل يوم نتعرض لمخاطر كثيرة حتى كأننا نموت مع المسيح على الصليب. ويسميها الرسول إماتة الرب يسوع = الرب يسوع قبل كل أنواع الألام حتى الموت من أجل سروره بخلاص الإنسان الذى جاء ليتممه. وبولس فى ألامه يقول... "وأنا سائر على طريق الرب". فألامنا هي مطابقة لآلام الرب يسوع، فالعالم لا يقبلنا لأنه لا يقبل الرب يسوع. فالآلام التي تقع علينا هي لنفس السبب التي وقعت به على الرب. والآلام التي تقع علينا هي واقعة على المسيح فنحن جسده (كو1: 24) وكلما قبلنا هذه الآلام إشتركنا مع المسيح في صليبه، حتى وإن وصلت هذه الآلام إلى حد الموت.

إماتة الرب يسوع = وتعنى كلمة إماتة أيضا أن نقف كأموات أمام الخطية (رو6: 11)، ونلاحظ أن قيامة المسيح بالجسد كانت بإتحاد حياته الأبدية بجسده المائت فى القبر، فكل من يعمل على أن يميت الخطية فى جسده (كو3: 5) تثبت فيه حياة المسيح لذلك يطلب منا ربنا قائلاً "إثبتوا فىَّ وأنا فيكم" (يو15: 4)، فحياة المسيح لا تثبت سوى فى جسد مات عن الخطية = تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا = والجسد المائت هو جسد مات عن الخطية + أنه وضع فى قلبه إستعدادا كاملا لأن يتحمل أى ألم من أجل المسيح، حتى لو وصل الأمر للإستشهاد، بل أن المسيح يسمح ببعض الألام ليساعدنا على موت الشهوات الخاطئة داخلنا. فبالآلام تموت فينا الشهوات الخاطئة (1بط4: 1)، وتموت الأنا والإعتماد على الذات، ومن يقبل الموت لأجل المسيح تظهر حياة يسوع فيه، وبهذا يظهر أمام الناس أن يسوع يعيش ويحيا فينا حين لا ننهزم، بل ننتصر على الضيقات. الخادم الحقيقي يتوقع في كل لحظة أن يموت كما مات الرب يسوع. وكل من يقبل الموت لأجل يسوع تعمل فيه قوة القيامة التي كانت ليسوع. ومن لا يتقبل الموت عن طيب خاطر فحياة المسيح ليست فيه، وقطعاً من يتقبل الموت سيتقبل أي ألم وأي صليب. من هنا نفهم أن بولس لا يطلب كرامة من الناس، بل هو مستعد للموت لأجل المسيح ولأجل أن يعرف الناس المسيح، وينير حياتهم بل يصير المسيح حياتهم = تُظهر حياة يسوع فيهم هم أيضاً. لن تظهر حياة يسوع في أحد، ما لم يقبل الموت عن العالم وشهواته وخطاياه وملذاته، الموت أولاً ثم القيامة فالمسيح لم يقم من الأموات إلاّ بعد أن مات. وهذا معنى "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 20) الصلب أولاً ثم القيامة.

العدد 11

آية (11): -

"11لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ.".

نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ = الإضطهاد والضيقات بل حتى الإستشهاد. ومن يسلم حياته ذبيحة بهذا الشكل يظهر في جسده المائت قوة حياة يسوع الذي يحمل عنا قوة الموت. فحياة يسوع وقوة قيامته تعمل مع من يقبل كل ألم حتى الموت.

العدد 12

آية (12): -

"12إِذًا الْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وَلكِنِ الْحَيَاةُ فِيكُمْ.".

إِذًا الْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا (في الخدام) قبول الخادم لكل ألم حتى الموت، هو سلَّم نفسه تماما، محتملا بسرور كل ألم يأتى عليه، متشبها بسيده.

وَلكن الْحَيَاةُ فِيكُمْ (في المخدومين). فكل من يعمل فيه المسيح تعمل فيه الحياة، المخدوم كان قبل المسيح ميتاً، وبعد المسيح عاش (مثال لذلك الإبن الضال). فالخادم يقابل مخاطر وضيقات مميتة وراجع (2كو11) لترى تطبيق هذا مع الرسول = الْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وذلك ليحصل المخدومين على الحياة الأبدية = الحياة فيكم.

العدد 13

آية (13): -

"13فَإِذْ لَنَا رُوحُ الإِيمَانِ عَيْنُهُ، حَسَبَ الْمَكْتُوب: «آمَنْتُ لِذلِكَ تَكَلَّمْتُ»، نَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِنُ وَلِذلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضًا.".

قال داود في المزمور آمَنْتُ لِذلِكَ تَكَلَّمْتُ (مز 116: 10) أي بسبب إيماني بالله سبحت ورنمت مزاميري بالرغم من كل الضيقات المحيطة بي واثقاً في محبته.

فَإِذْ لَنَا رُوحُ الإِيمَانِ عَيْنُهُ = الذي ظهر في داود فإنتصر على الضيق. هكذا نَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِنُ = وكما رتل داود فنحن بكل حماس وغيرة وشجاعة نعترف جهراً بكلمة الإنجيل = نَتَكَلَّمُ أَيْضًا. إن الإيمان قوة روحية جبارة تدفع الخادم للتبشير والكرازة بما آمن به كما فعلت المرأة السامرية عندما أعلنت إيمانها بالمسيح.

العدد 14

آية (14): -

"14عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ.".

نحن نعلم أن الله الذي أقام المسيح من الأموات، فإنه أيضاً بواسطته سيقربنا إلى حياة المجد لنسير معا أنا وأنتم = ويحضرنا معكم في خطوات المسيح أى ألام وموت والنهاية مجد. إذاً هل سيميتونا. إذاً أهلاً بالموت الذي به نبدأ طريق القيامة والمجد.

العدد 15

آية (15): -

"15لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ النِّعْمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ.".

لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ = سواء الأمور التي تسرون بها أو الضيقات التي تتضايقون منها، الكل لفائدتكم وخلاص نفوسكم (1كو 3: 22 + رو 8: 28). بل إن ألامي وتسليمي للموت هو لفائدتكم، فقد وصلت لكم كلمة الكرازة. وكون أن الله ينقذني بنعمته فهذا صالح لكم أيضاً، فحينما صارت لي حياة ثانية، كرزت فآمن كثيرون، وإزداد عدد المؤمنين الذين إمتلأوا من النعمة، وبالتالي إزداد عدد من يشكر الله = وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ.

العدد 16

آية (16): -

"16لِذلِكَ لاَ نَفْشَلُ، بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا.".

إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ = أي الجسد (الآنية الخزفية). هذا يتألم من الضيقات لدرجة الإقتراب من الفناء (من شدة ضعف الجسد). أمّا الدَّاخِلُ = أي إنساننا الباطن الذي وُلِدَ في المعمودية، والذي هو على إتصال بالله وهو المستنير الذي يرى الله ويسمعه ويدركه ويعرفه، فهو يكتسب فوائد روحية كثيرة من هذه الضيقات ويتجدد يوماً فيوماً: -.

  1. إنساننا الباطن تموت فيه الشهوات ويكف عن الخطية (1بط 4: 1).
  2. ويشتهى راحة وأفراح السماء بدلاً عن محبة العالم التي هي عداوة لله (يع 4: 4).
  3. مع ضعف الجسد الخارجى، وحين نرى يد الله تعمل ينمو الإيمان بالله إله المستحيلات، فنضع ثقتنا فيه لا في ذواتنا، وبدون إيمان لا يمكن إرضاءه (عب 11: 6) لذلك يسمح الله بالضيقات لنرى يده وينمو إيماننا.
  4. كلما إزدادت الضيقات نرتمى في حضن الله فنعرفه وتتفتح حواسنا على السماويات.

وأشهد أمام الله أنني رأيت هذا كثيراً في أشخاص أصابتهم أمراض خطيرة، وكان جسدهم يتآكل من شدة المرض وألامه، لكن كانت أفراحهم وسلامهم وتسليمهم لله، ومحبتهم لله تزداد يوماً فيوماً. فإن كان الله يسمح بفناء الجسد الخارجي الذي سيذهب للتراب، فإن هذا حتى ينمو الداخلي الذي سيذهب للسماء. الظروف الخارجية لا توقف التقدم الروحي، بل كلما إزدادت الشدة ينمو الداخل ويتجدد في الإيمان والرجاء وفى التعلق بالسماويات، أي تنمو الحياة الروحية.

العدد 17

آية (17): -

"17لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا.".

الضيقة ليست خفيفة، ولكنها تبدو كذلك للأسباب الآتية: -.

1) إذا وضعت في ميزان وفى الكفة الأخرى المجد الأبدي المعد لنا، تبدو خفيفة.

2) الضيقة وقتية أي لسنين مهما طالت فهي لا شئ بجانب المجد الأبدي اللانهائي.

3) هي خفيفة بسبب التعزيات الإلهية المصاحبة (1كو 10: 13 + نش 2: 6) وبالمقارنة مع (آية 16) ندرك أن ما يجدد الداخل هو المتاعب الخارجية، وما يعطينا إحتمالاً للمتاعب هو نظرنا إلى الأمجاد الأبدية، بل أنه كلما إزدادت هذه المتاعب والآلام إزداد المجد الأبدي (رو 8: 17، 18).

4) الضيقة مهما كانت صعبة فهى لا تقارن بما نستحقه من عقاب لأجل خطايانا.

العدد 18

آية (18): -

"18 وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ.".

الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى = الضيقات الحالية والآلام والناس والمجد العالمي والمال وملذات هذا العالم. والَّتِي لاَ تُرَى = الله والسماء والنعمة والملكوت والمجد المعد والقديسين والملائكة وأفراح السماء وأيضا العذاب الأبدي. ومن يثبت نظره على الفاني الذي يُرى يكون غير صالح ولا مؤهل للميراث السماوي، ومن يثبت نظره على السماء التي لا تُرى فهذا يؤهل للمجد. بل يرى أن الضيقات الحالية خفيفة جداً، وهذا حينما ننظر لما يرى بعين الرجاء. وما يساعد على إحتمال الآلام أن ننظر لما لا يرى ونتأمل في أمجاد السماء. أما الذي ينظر للأشياء الوقتية يتألم إذا كانت له خسارة فيها، بل قد يترك مسيحه هرباً من ألم أو إضطهاد أو سعياً وراء لذة.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الاصحاح الخامس - تفسير رسالة كورونثوس الثانية - القمص أنطونيوس فكري

الإصحاح الثالث - تفسير رسالة كورونثوس الثانية - القمص أنطونيوس فكري

تفاسير كورونثوس الثانية الأصحاح 4
تفاسير كورونثوس الثانية الأصحاح 4