الأصحاح الثالث – تفسير رسالة كورونثوس الأولى – القمص أنطونيوس فكري

هذا الفصل هو جزء من كتاب: رسالة بولس الرسول الأولى إلى كورنثوس – القس أنطونيوس فكري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الإصحاح الثالث

العدد 1

آية (1): -

"1 وَأَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ، بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَال فِي الْمَسِيحِ،".

وإذا كانت الروحيات لا تفهم إلاّ من الروحيين، فأنى أجد نفسي عاجزاً عن أن أخاطبكم كمسيحيين روحيين متقدمين في الروحيات. ولكنى أكلمكم كما أكلم أناساً لا يزالون بعد في حالتهم الطبيعية (لم تصلحهم النعمة)، ولم يتركوا تماماً الإهتمامات الجسدية، كأطفال في الروحانيات، لأنكم لازلتم متعلقين بالأمور الجسدية والدليل ما بينكم من حسد وخصام وشقاق.

العدد 2

آية (2): -

"2سَقَيْتُكُمْ لَبَنًا لاَ طَعَامًا، لأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ تَسْتَطِيعُونَ، بَلِ الآنَ أَيْضًا لاَ تَسْتَطِيعُونَ،".

اللبن = الكرازة بالتجسد وبيسوع المسيح المصلوب كفارة لنا، وبها نصير أبراراً.

الطعام = هو الشيء المشبع، هو عمق الحياة الروحية، هو إكتشاف شخص المسيح المشبع، وعمق المحبة له. وبالتالي إنفتاح العيون على ما أعده الله في المجد لمحبيه والتي بها يحتقر الإنسان المسيحي العالم بما فيه ويحسبه نفاية. وهذا الطعام هو لمن له القوة الروحية الكافية أى المملوء بالروح. وهم لا يستطيعون ذلك بسبب نقص محبتهم والذي ظهر في شقاقاتهم وخصوماتهم. وكل من لا يزال غذاءه هو اللبن أى لم يدخل للعمق تجده مشغولا بالناس، ويحكم على الخدام أيهم أعظم كما حدث فى كورنثوس.

تأمل للخدام: - الأم تأكل وتحول الطعام إلى لبن بعد أن هضمته وعاشت به وتحول إلى شئ يسري في دمها، وأعطت الخلاصة لطفلها. ويفهم من هذا أنه على الخادم أن ينفذ الوصايا ويشبع بالمسيح ويفرح به ثم يعلم أولاده بعد أن تتحول الوصايا والممارسات الروحية إلى حياة يحياها، كما تحول الطعام لحياة تحيا بها الأم أولاً.

كلام الرسول عن الإنسان الروحى والإنسان الجسدانى يتلخص فى أن الروحى هو مملوء بالروح، والروح يفتح عينيه على المسيح فيراه بوضوح فيحبه ولا يعود ينشغل بسواه. أما الجسدى فهو مشغول أساسا بنفسه ويتعصب لرأيه ولمن هو يتبعه أو يتحزب له.

العدد 3

آية (3): -

"3لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ، أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟".

هم جسديون والدليل أن بينهم حسد أدى لخصام وهذا أدى لإنشقاق. والحسد هو مجرد مشاعر ولكنها حينما تنتقل للأقوال تجد أن كل شخص يريد أن ينتصر لرأيه فيتولد الخصام. ويتولد عن الخصام الإنشقاق، هنا خرج الخصام من حيز الأقوال لحيز الأعمال. وكل هذا معناه أنهم يسلكون بحسب أهوائهم الجسدية لم يولدوا بعد من الروح، فالمولود من الروح يقوده الروح فتكون أول صفاته المحبة، ويندفع لحب السلام مع الآخرين ويتغلب على أنانيته وشهواته. عموماً كيف يتحزب إنسان روحي عرف المسيح وأحبه وشبع به لإنسان آخر، أو حتى لرأيه ويحدث بسبب هذا شقاق وخصام.

العدد 4

آية (4): -

"4لأَنَّهُ مَتَى قَالَ وَاحِدٌ: «أَنَا لِبُولُسَ» وَآخَرُ: «أَنَا لأَبُلُّوسَ» أَفَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ؟".

تحزبهم لأشخاص دليل أنهم مازالوا جسدانيين لم يتجدد داخلهم بعد. فالجسدى لا يقوده الروح القدس بل الأنا التى فى داخله، فإذا إختلف الآخر معه لا بد وأن يحدث شقاق. أما الروحى المنقاد بالروح القدس، فالمحبة التى يسكبها داخله الروح القدس تجعله ينتصر على الأنا التى فى داخله، فالمحبة داخله تستوعب أى خلاف.

فيما يلي نجد الرسول قد إستخدم ثلاثة تشبيهات للكنيسة: -.

1 – أنها فلاحة الله = غرس وسقى. وهذا التشبيه نجده أيضاً في (عب 6: 7).

2 – أنها بناء الله = ونحن أحجار حية في البناء (أف2: 20 – 22 + 1بط2: 5).

3 – أنها هيكل الله = آية 16 ز.

العدد 5

آية (5): -

"5فَمَنْ هُوَ بُولُسُ؟ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا، وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ:".

فيما يلي يثبت الرسول أن الفضل في الكرازة ليس للكارز بل الله هو الذي يعمل في النفوس لتؤمن. فلماذا التحيز وراء الخدام. فبولس سبق وبذر كلمة الكرازة أي علم الإيمان بالمسيح وفدائه. ثم أتى أبلوس ورواها بتعاليمه أي علم الجهاد والنمو وحب المسيح. ولكن بدون الأساس الذي غرسه بولس، ما كان عمل أبلوس سيثمر شئ. عموماً لكلٍ دوره في الخدمة، ولكن الله هو الذي ينمى الكلمة في قلوبهم أي يعطى قوة التغيير في قلوبهم والإقناع. وكما أن أبلوس أكمل عمل بولس، أي إحتاج بولس لأبلوس وإحتاج أبلوس لبولس ليكمل العمل، هكذا ومع أن الله هو الذي ينمى لكن الله يحتاج لمن يغرس ويروى، ولذلك طلب السيد المسيح منا أن نصلى ليعطى الله فعلة لحصاده (مت 9: 37، 38). فعمل الله لا يظهر إلاّ بخدام يظهرونه. فالكنيسة هي جسد المسيح، والمسيح هو رأس الكنيسة، ولا يوجد جسد بدون رأس، وأيضاً لا يوجد رأس بدون جسد، فلا يصح أن ننام ونقول الله يعمل، فالله خلقنا لأعمال صالحة (أف 2: 10). بل منذ البدء خلق الله آدم ليعمل (تك 2: 5، 15). بهذا نرى أهمية عمل الخدام. والله سيعطى كل واحد بحسب تعبه (آية 8). ومن هنا نرى أهمية الجهاد والتعب. ولكن قول الرسول إذاً ليس الغارس شيئاً (آية 7) يريد به أن يظهر أن نجاح الخدمة سببه هو الله، الذي يعمل في الخادم وفى السامع. يعمل مع الخادم ولذلك يقول الرسول "لا أنا بل نعمة الله" (1كو 15: 10) ويعمل في السامع وينمى (آية 7). وهدف الرسول أن يقول لأهل كورنثوس إن كان الله هو الذي يعمل فينا كخدام وفيكم كمؤمنين فلماذا التحزب لبولس أو أبلوس. الله هو صاحب الفضل في نمو بذرة الإيمان في قلوبكم. بل أن الرسول في نهاية هذا الإصحاح نراه في الآية (22) يرى أن كل الأمور الحادثة في حياتنا هدفها هو خلاص نفوسنا، الله سمح بها لأنها تساعدنا على خلاص نفوسنا، إذاً الخدام الذين علمونا طريق الإيمان مثل بولس وأبلوس وضعهم الله في طريقنا لأجل خلاص نفوسنا، لذلك فلا نفتخر بهم بل بالله الذي أرسلهم لنا والذي أحبنا وبحث عن خلاص نفوسنا وإهتم بنا (آية 21) فأرسل لنا خدامه، بل أتى هو وتجسد ومات عنا ومازال يعمل في قلوبنا لنؤمن وننمو فلنفتخر به وبمحبته.

الأعداد 6-7

الآيات (6 - 7): -

"6أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي. 7إِذًا لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئًا وَلاَ السَّاقِي، بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي.".

لكل خادم عمله ودوره، ولكن الله هو الذي ينمى الإيمان، وبدون عمل الله يصبح عمل كل الكارزين والخدام بلا فائدة وبلا ثمر، أي بدون قوة الإنماء التي يهبها الله. والرسول لا يقلل من شأن عمل الخادم في الخدمة، لكنه يرد نجاح الخدمة إلى الله أولاً الذي يعمل مع الخادم ومع السامع. وعمل الكرازة أمر مهم وضروري كما أن الغرس والسقى مهمان للإنبات، فلن يكون هناك زرع وثمار بدون غرس وسقى. لكن الله هو الذي يعطى قوة لنمو الغرس.

العدد 8

آية (8): -

"8 وَالْغَارِسُ وَالسَّاقِي هُمَا وَاحِدٌ، وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ.".

وَالْغَارِسُ وَالسَّاقِي هُمَا وَاحِدٌ = أي عملنا نحن الإثنين (بولس وأبلوس) هو عمل متكامل، كل منا يكمل عمل الآخر، فالجسم يتكون من آلاف الأعضاء ولكنهم كلهم واحد هو الإنسان. وعملنا هو عمل واحد وهدفنا واحد هو خلاص النفوس، حقاً نحن قناتين مختلفتين بعملين مختلفين (غرس وسقى)، ولكن يجرى في القناتين نعمة الله الواحدة، ونحن نقوم بعملين مختلفين لكن الثمر واحد. ليس المهم حياة كل منّا الخاصة، بل المهم أننا أدوات في يد الله الواحد ولهدف واحد، لذلك فلا معنى للإنقسام أو تفضيل أحدنا عن الآخر. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ = الله هو الذي سيجازى كل واحد بحسب تعبه وهذا ليس شأنكم، فلا تحكموا على أيٍ منا قبل الوقت. ولاحظ أنه قال بِحَسَبِ تَعَبِهِ ولم يقل بحسب نجاحه في العمل، فالنجاح هو عمل الله والخادم وسيلة، ومثال لذلك إرمياء النبي الذي تعب كثيراً ولم يكن لخدمته ثمر، لكن الله سيكافئه بحسب جهاده وتعبه.

العدد 9

آية (9): -

"9فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اللهِ، وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ، بِنَاءُ اللهِ.".

نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اللهِ = ما أعظم هذه الكرامة أن يعمل إنسان مع الله.

فلاحة الله. بناء الله = إذاً نحن ملك الله ولسنا ملك رسول أو خادم معين. البناء هو الكنيسة التي يربط الروح القدس بين أعضائها بالمحبة. والله مَالِكْ البناء.

العدد 10

آية (10): -

"10حَسَبَ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ قَدْ وَضَعْتُ أَسَاسًا، وَآخَرُ يَبْنِي عَلَيْهِ. وَلكِنْ فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْهِ.".

حَسَبَ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي (أي موهبة الرسولية والكرازة) كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ = نعمة الله صيرته بَنَّاء حكيم يؤسس كنائس بين الأمم، والحكمة التى يقصدها هنا أن الأساس الذى أسس عليه كرازته وتعليمه هو المسيح. قَدْ وَضَعْتُ أَسَاسًا = كل ما يتعلق بالرب يسوع من حقائق، ليقبلوا الرب يسوع كأساس يفهمون به كل ما يقدم لهم من تعاليم فيما بعد. وبولس وضع الأساس أي الإيمان بالمسيح المخلص، وجاء أبلوس كآخَرُ يَبْنِي عَلَيْهِ. وكل من يأتى ليبنى يبنى على هذا الأساس.

وَلكِنْ فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْهِ = يجب على كل من يأتى ليبنى أن يحترس كيف يبنى على هذا الأساس. هذا الكلام موجه لكل معلم ولكل خادم، فكثيرين بدأوا بالروح وأكملوا بالجسد (غل 3: 3). فعلى كل من يبنى أن يفهم أن الأساس هو المسيح. الأساس هو الإيمان بالمسيح والبناء هو التعرف على شخص المسيح والشبع بشخص المسيح، وبهذا يفرح المخدوم بشخص المسيح ولا يجد تعزية سوى في شخص المسيح، يكتشف محبة المسيح المتناهية، والتي تحصرنا (2كو 5: 14). وأنه صانع خيرات ولا يبخل علينا بشيء، فإنه إذ بذل نفسه لأجلنا كيف لا يعود يعطينا ما نريده (رو 8: 32) هذه المفاهيم تسندنا في أي تجربة (وهناك تجارب كأنها نار). وفى وسط هذه التجارب تأتى الشكوك التي يثيرها عدو الخير بأن الله لا يحبنا أو أنه يقسو علينا. لكن من عرف المسيح حقيقة لن يشك فيه ولن يصطدم به ولن يضعف إيمانه إذ سيجد في المسيح تعزيته، وسيسمع صوت الروح القدس أن كل الأشياء تعمل معاً للخير (حتى هذه التجربة) (رو 8: 28) فيسلم أمره للمسيح، والمسيح يحمل عنه نيره وألمه. ولكن هناك أشكال خطأ للخدمة، فهناك خدام لا يهتمون سوى بجذب أكبر عدد بأي وسيلة (خدمات إجتماعية ورياضية وترفيهية.... الخ) وهذه مع أنها مهمة، لكن الأساس هو إكتشاف شخص المسيح. وشرح أن العالم سيكون فيه ضيق (يو 16: 33) ولكن المسيح قادر أن يحمل عنا النير فيصبح هين على الخادم: -.

1) أن يقدم شخص المسيح المشبع لشعبه، ويعلمهم كيف يفرحوا بالمسيح.

2) أن يقدم لهم الحقائق، وأن التجارب والآلام لابد وستأتى وهذا هو أسلوب المسيح الذي لم يخدعنا وقال "في العالم سيكون لكم ضيق".

3) أن الطريق الوحيد للتعزية وسط الضيق هو الله وليس سواه. هذا هو طريق الخدمة الصحيح، وطريقة البناء الصحيحة. ومن فهم هذا يكون كمن بنى البيت على الصخر، فإذا جاءت الرياح.. (التجارب) لا ينهار البيت (مت 7: 24 – 27). والكنيسة بناء يبنيها الله المهندس الأعظم وفق خطة وضعها هو.

العدد 11

آية (11): -

"11فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ، الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ.".

المسيح هو الأساس، هو صخرة الدهور وحجر الزاوية (مت 16: 16 – 18 + إش 28: 16). كل آخر يبنى، يجب أن تكون كل تعاليمه مؤسسة على شخص المسيح وعلى ألوهيته وتجسده وموته وقيامته وفدائه الذي قدمه لنا ومحبته العجيبة لنا. هذه هي القواعد التي ينبغى أن يقام على أساسها أي تعاليم. لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ = تعنى ليس من حق أحد أن يبنى على أساس آخر سوى المسيح. وتعنى أن من لا يبنى على هذا الأساس فهو لا بد وسيفشل ولن يقوم البناء. والله يبنى البناء ليسكن فيه. الكنيسة هى بناء، مهندس البناء وواضع التصميم هو الله، وبولس وأبلوس عمال، والمجد كله لمن صمم البناء.

تعليق على الآيات 12 – 15 من كتاب المطهر.

لقداسة البابا شنودة.

في (الآية 13) إشارة لنار تمتحن عمل كل واحد فهمها الإخوة الكاثوليك أنها نار المطهر. ولكن النار هنا ليست نار مطهر كما فهموها لأن الرسول لم يقل يخلص في نار أو في النار وإنما كما بنار، فإن كلمة نار إستخدمت هنا بطريقة مجازية وليست حرفية، فهي تشير للضيقات والتجارب التي يُمتحن بها عمل الخادم، أي أنها ليست للتعذيب كنار المطهر، إنما هى تحرق نوعيات معينة من الخدمة ولا تطهرها. وضياع عمل الخادم وإحتراقه يكون بالنسبة له كالنار التي إذا إجتازها بثبات في الرب ولم يفقد رجاؤه في المسيح فإنه سيخلص بالرغم من فشله في الخدمة. وهناك عدة ملاحظات: -.

1 – هذه الآيات قيلت أثناء الحديث عن الخدمة والخدام وليست في مجال الدينونة والعقاب، فلا نفصل الآية عن المناسبة التي قيلت فيها، فبولس وضع أساس الخدمة أي الإيمان بالمسيح وسيترك البناء لباقي الخدام البنائين، ويرى كيف يبنون عليه. وبولس بَشَّر أهل كورنثوس ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد حدث إنقسام يهدد العمل كله وقال البعض أنا لبولس والبعض أنا لأبلوس فما هو مصير العمل الكرازى؟ يقول الرسول.. إن من يبنى فوق الأساس الذي وضعه يبنى إمّا ذهب أو... قش. والنار تظهر ماذا يُبنى. إذاً هو يتكلم عن العمل وليس الأشخاص، يتكلم عن خدمة الخدام وليس عن عامة الناس. وهناك من يحترق بسرعة كالقش ولا يمكن إنقاذه، ومنهم من يمكن إنقاذه كالخشب. ومنهم من يتنقى بالنار كالذهب (1بط 1: 7). إذاً بولس لم يقل أن الأشخاص سيحترقون بنار بل أن عملهم سيحترق.

2) من يخدم بطريقة روحية وهدفه الوحيد هو الله وملكوته ويشجع الناس على الصلاة ويشرح لهم التجارب الروحية ويثبتهم على الإيمان ويصلى عنهم، فهذا يبنى ذهب وفضة لا تتزعزع لأنه يربط النفوس بالله.

3) النار هي نار التجارب والإختبارات الروحية والضيقات هنا على الأرض، وعلى الأرض سيظهر عمل كل خادم، واليوم هنا هو يوم التجربة. والنار أيضاً هي نار العدل الإلهي واليوم هنا هو يوم الدينونة. ونار العدل الإلهي ستظهر طبيعة وحقيقة كل نفس. والنار هي إشارة لحريق يقوم في مدينة بعض بيوتها من حجارة (رخام) ومغشاة بذهب، وهذه تقاوم عمل النار وبعضها من قش وطين فستحترق.

4) هناك خدام يبنون ويخدمون بأسلوب خاطئ فهم يعطون معرفة بلا روح، وهؤلاء نجد تلاميذهم مملوئين معرفة بلا روح. وهذا الأسلوب تحاشاه بولس الرسول (1كو 2: 1، 4 + 1كو 1: 17). وهذا العمل يمكن أن يحترق فهو بفلسفة وحكمة الناس، فصاحة الخادم تعجب السامعين ولكنهم لا يتعرفون على الله، فإذا صادفتهم التجارب يفشلون، ويجد الخادم أن عمله قد إحترق فيخسر تعبه ويخسر مخدوميه ويخسر مكافأته ولكنه يخلص كما بنار.

5) هناك خدام يحولون خدمتهم لأنشطة وعمل كثير دون التركيز على الجانب الروحي، وهؤلاء ممكن أن يحترق عملهم.

6) يخلص كما بنار = أي يخلص بصعوبة كبيرة، وبجهد كمن يمر في نار ينتشله الله منها قبل أن يحترق (وفى هذا يقول بولس الرسول من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب) عمل الخادم الذي يخدم بطريقة خاطئة يحترق، ولكن الله لا ينسى تعبه وينتشله من النار ولا يسمح له بأن يحترق. والنار هنا ليست نار مطهر، لأنه لم يقل يخلص في نار أو في النار، وإنما كما بنار، فالنار هنا لم تكن له وإنما كانت لعمله (آية 13). يخلص كما بنار، كما إنتشل الرب يهوشع من النار (زك 3: 1، 2). وهذا مثل قطعة خشب وقعت في النار ولكن رحمة الله تدخلت وإنتشلتها وهى مشتعلة في النار قبل أن تحترق ومنحتها حياة. ولم تكن النار التي إنتشل منها يهوشع نيراناً مطهرية، إذ كان حياً على الأرض ولم يمت بعد، ولكنها الإثم الذي تعرض له، أو تعرضت له الأمة كلها ممثلة في شخصه (زك 3: 4، 9). والخادم يخلص هنا إذا إنسحق قلبه وقدم توبة بسبب خدمته التي ضاعت وندم على الوسائل الخاطئة التي إتبعها ويخلص كما بنار إشارة لآلامه إذ يرى هلاك من خدمهم. وبنفس المعنى يقول يهوذا "خلصوا البعض بالخوف مختطفين من نار" (آية 22، 23).

7) الكاثوليك يقولون أن البعض يذهب للمطهر، وهذا ضد الآية التي نرى فيها الكل يتعرض للنار، إن كان ذهب أو فضة (قديسين) أو خشب أو قش (أناس عاديين).

8) هذه النار التي يشير لها الرسول هي للإمتحان ليظهر قيمة العمل وليست نيراناً للعذاب.

9) النار هنا تحرق البعض وتبيده، بينما المفروض أن نار المطهر تطهر وتنقى، فكيف تنقى النار القش، هذا لا يمكن تطهيره بالنار، أمّا الذهب فلا يحتاج لتطهير النار.

10) نار المطهر لها تأثير واحد وهو التطهير. بعكس النار في هذا المثل التي تنقى الذهب وتحرق القش.

تعليق على فكرة المطهر: - هل ما لم ينقيه دم المسيح ستنقيه بعض النيران، ألم يكن دم المسيح كافياً. والرسول يقول دم المسيح يطهرنا من كل خطية (1يو 1: 7) ونرى في (رؤ 7: 14) أن من يلبسون ثياباً بيض (أي تم تبريرهم) كان هذا بأنهم غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم المسيح. لذلك هناك طريقين فقط إمّا السماء لمن كان يسير مع الله، طالباً الله، وإمّا الهلاك لمن رفض الله. والله ليس بمنتقم يأخذ حقه بنيران مطهرية، هل ينتقم منى الله بعد أن مات لأجلى.

الأعداد 12-13

الآيات (12 - 13): -

"12 وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدُ يَبْنِي عَلَى هذَا الأَسَاسِ: ذَهَبًا، فِضَّةً، حِجَارَةً كَرِيمَةً، خَشَبًا، عُشْبًا، قَشًّا، 13فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِرًا لأَنَّ الْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ، وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ.".

ذَهَبًا، فِضَّةً، حِجَارَةً كَرِيمَةً (رخام وجرانيت) = إذاً هذا إشارة لنوعية عمل الخادم. وليفكر كل خادم يبنى على أساس المسيح، هل سيحتمل بناؤه نار التجارب والضيقات الكثيرة التي في هذا العالم. والذهب والفضة والحجارة الكريمة إستعملت في بناء هيكل الله، أما العشب والقش فلقد إستعملت في المباني الوقتية الحقيرة، وبيت الله هو هيكل سليمان. لأَنَّ الْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ = يوم التجربة في هذا العالم، أو دينونة اليوم الأخير. لأَنَّهُ بِنَارٍ = تجارب هذا العالم أو نار الأبدية. عموماً قيل عن الله "الهنا نار آكلة". فهي تنقى المخدومين (العينات الجيدة كالذهب والفضة) وتحرق القش منهم (مز 50: 3 + ملا 3: 2، 3 + ملا 4: 1). وهنا في (ملا 3: 2، 3) يذكر بنى لاوى إذ هم خدام الهيكل. وقد يخدع الخادم الكل بخدمته لكنه لن يخدع الله الذي هو كنار يكشف عمل كل واحدٍ. وإمّا ينقى وإما يبيد. ولاحظ أن الرسول يقصد بالقش والعشب المخدومين الذين بسبب ريائنا في الخدمة صار لهم صورة التدين وهم غير مثمرين، هذا يحدث مع الخادم الذي يجمع الثمر لحساب نفسه، وهؤلاء سيحترقون. يمْتَحِنُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ = ولم يقل يمتحن كل واحد، فالنار هي إختبار لعمل الخادم.

العدد 14

آية (14): -

"14إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً.".

مكافأة الله للخادم الذي يبنى على أساس المسيح هي مكافأة إضافية علاوة على مكافأته لأجل جهاده لخلاص نفسه.

العدد 15

آية (15): -

"15إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلكِنْ كَمَا بِنَارٍ.".

إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ = يخسر المكافأة أو الأجر الإضافي عن خدمته.

سَيَخْلُصُ كَمَا بِنَارٍ = نار حزنه وآلامه على هلاك مخدوميه. ويخلص بصعوبة كبيرة، وجهاده لكي يخلص، وهو على الأرض، سيكون صعباً جداً، ففي حياة الخادم لا فصل بين حياته الشخصية وخدمته، فالخادم المهمل يصعب خلاصه. هو يكون كإنسان شب حريق في بيته، فخرج بملابسه فقط وبصعوبة كبيرة نجا هارباً من النيران ولكنه فقد كل ما لهُ. سيخلص هذا الخادم إن ثبت هو لنيران التجارب ثم نيران الدينونة.

والنار هنا نوعان: -.

1) حزنه علي ضياع خدمته، كذاك الذي حزن علي خسارة كل ما في بيته إذ أكلته النيران.

2) نيران الدينونة أي إمتحانه هو إن كان مخلصاً لله أم لا.

العدد 16

آية (16): -

"16أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟".

ينتقل الرسول من الكلام عن مسئولية الخدام إلي مسئولية كل فرد. فهناك من يفسد البناء، أي يفسد نفسه، بعد أن تعب الخدام في بنائه.

أَمَا تَعْلَمُونَ = من خبراتكم المسيحية ألا تعلمون أنكم أنتم كنيسة الله وروح الله يسكن فيكم. الخبرة الشخصية تعطيني أن أعرف أن الروح القدس ساكن فيَّ فهو يبكت بشدة إن إرتكبت خطية، ويمنعني أن أعمل الخطية (راجع رؤيا حزقيال والنهر حز 47: 1 – 5). الروح يضع فينا ثماره فيدفعنا أن نحب أعداءنا، ونمتلئ سلام حتى لو كان الآخرين منزعجين. وهنا الرسول يستشهد بخبراتهم الشخصية ويقول أما شعرتم بعمل الروح القدس فيكم.

هَيْكَلُ اللهِ = الكلمة الأصلية تشير لقدس الأقداس. إذاً الكنيسة هي قدس الأقداس الذي يسكنه الرب. نحن لسنا فقط فلاحة الله وبناء الله بل مسكن الله. شهوة قلب الله أن يرتاح فينا ويستقر بالحب فينا. والقديس كيرلس الكبير يرى أن آدم كان فيه الروح القدس نفخة الله، وبعد السقوط حُرِمَ الإنسان من الروح القدس حتى يوم الخمسين. وهذا معني "فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان" (تك6: 3). وكان ذلك بسبب إنتشار الخطية. ولكن كانت هناك حالات خاصة يحل فيها الروح القدس علي بعض الأشخاص من شعب الله وهم رؤساء الكهنة والأنبياء والملوك. وأمّا الآن فصار الروح القدس يسكن في كل المسيحيين ولهذا نجد أن الأطفال يتقبلون الحقائق الإيمانية بسهولة. والروح القدس الساكن فينا يكشف لنا فكر الله وأمجاد السماء، ولكن هذا لمن هو ممتلئ من الروح، أما من يقاوم عمل الروح، نجد أن الروح القدس ينطفئ فيه (1تس5: 19) فلا يعود يشعر بوجوده أو عمله بل أنه يفسد. كما سنرى. وهذه الآية مع (1كو 6: 19) تثبت لاهوت الروح القدس كما رأينا (في المقدمة – في "لاهوت الروح القدس").

العدد 17

آية (17): -

"17إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ هَيْكَلَ اللهِ فَسَيُفْسِدُهُ اللهُ، لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ.".

تأمل في (رو 1: 21 – 32): - في (رو 1: 21 – 25) نرى الناس يحزنون الروح بأفعالهم وذلك بإهانة أجسادهم بالزنا والنجاسة وعبادة آخر غير الله. ونأتى إلى (رو 1: 26، 27) لنرى أن الله أسلمهم لأهواء الهوان وهنا إنطفأ الروح. وفى (رو 1: 28) نرى فساد الهيكل إذ أسلمهم الله لذهن مرفوض لأنهم رفضوا الله وطردوه من معرفتهم ولم يسروا بطريقه، وبسبب هذا العناد تركهم الله دون رغبة منه، لعنادهم ولفكرهم العاصي المرفوض أمام الله، وبسبب كبريائهم. والنتيجة إرتكاب مالا يليق بكرامة الهيكل وبالتالي فساده، (رو 1: 29 – 31) بل في (رو 1: 32) نراهم وقد تحولوا إلى فساد متنقل، وتجاهلوا نهايتهم وموتهم.

إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ = بالجري وراء شهواته، ومنها شهوة الحسد الذي يسبب الخصام والشقاق والتحزب، أو أي خطايا أخرى فلا شركة للنور مع الظلمة.

إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ هَيْكَلَ اللهِ فَسَيُفْسِدُهُ اللهُ = أفضل شرح لهذه الآية هو ما حدث فعلاً لهيكل الله. فحينما تم بناؤه حل عليه مجد الرب (1مل 8: 10، 11) ولكن إذ أفسد الكهنة الهيكل بعباداتهم الوثنية (حز 8: 3، 4) (نلاحظ هنا أنهم وضعوا تمثالاً وثنياً داخل الهيكل لكن مجد الرب مازال في هيكله فهو يطيل أناته) + (حز 8: 9 – 12، 16)... لكن بعد هذا فارق مجد الرب الهيكل ولكن على مراحل، كأنه لا يريد أن يفارق شعبه (حز 10: 18، 19 + حز 11: 22، 23). وحينما غادر مجد الرب الهيكل لم يعد الهيكل سوى مجموعة من الحجارة لذلك إستطاع البابليون أن يهدموه ويحرقوه سنة 586 ق. م، (2أى 36: 19). إن هيكل الله الذي يسكن فيه الله، يجب أن تقدم فيه ذبائح لله. لكن هؤلاء قدموا ذبائحهم لغير الله فأفسدوا الهيكل. فأفسد الله لهم هيكلهم وأحرقه البابليون. ونحن هيكل الله فلننشغل بتقديم ذبائح التسابيح والإنسحاق وفعل الخير والصلوات ونقدم أجسادنا ذبائح حية فبهذا يسر الله ويستمر ساكناً فينا (عب 13: 15، 16 + مز 51: 17 + مز 141: 2 + رو 12: 1) ولكن من يفعل العكس يحزن روح الله (أف 4: 30) فينطفئ فيه روح الله (1تس 5: 19). وإذا فارق الرب الإنسان الخاطئ يصبح بلا حماية، فيهاجمه الشياطين ويفسدوه، يفسدوا صحته وأمواله، بل يخسر حياته الأبدية فمن يحيا مع الله ويسكن الله فيه يملأه الله من بركاته وخيراته الروحية والمادية. ومن يترك الله ويسعى وراء شهواته يتركه الله فلا شركة للنور مع الظلمة (2كو 6: 14) تخربه الشياطين. ولنرى كيف كان شعب الله يحترم قدس الأقداس ويقدسه، وهكذا ينبغى لنا أن نتعامل مع أجسادنا.

ولاحظ أن الخطية تحزن الروح، ثم تطفئ الروح، وقد تصل لأن ينزع الروح القدس من الخاطئ لذلك نصلى "روحك القدوس لا تنزعه منى" ومفارقة الروح أو إطفاؤه تعنى فساداً، كما لو فارق الروح الإنساني الجسد فإنه يفسد. وهذا ما يحدث إذا فارق الروح القدس الإنسان فإنه يفسد. وقوله يُفْسِدُهُ اللهُ = تعنى أن الله يترك الإنسان لعناد قلبه، يجنى ثمار ضلاله، ويصبح خلاصه أمراً عسيراً (راجع ما حدث مع زانى كورنثوس).

لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ = تعنى مخصص لله، ومكرس لله، وهذا تم لنا حين مسحنا بزيت الميرون، فصار علينا ختم ملكية، صار الله يمتلكنا. وزانى كورنثوس إذ أفسد هيكل الله بزناه أسلمه بولس الرسول للشيطان لهلاك الجسد (1كو 5: 5) وهذا يعنى أن الشيطان ضربه في جسده وأفسد جسده إذ أفسد هو هيكل الله أى جسده حين سمح لنفسه بأن يزنى مع زوجة أبيه.

العدد 18

آية (18): -

"18لاَ يَخْدَعَنَّ أَحَدٌ نَفْسَهُ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ حَكِيمٌ بَيْنَكُمْ فِي هذَا الدَّهْرِ، فَلْيَصِرْ جَاهِلاً لِكَيْ يَصِيرَ حَكِيمًا!".

فلا يحاول أحد أن يخدع نفسه ويحاول أن يجمع بين لذة الخطية وبركات الله، فـ "الله لا يُشمخ عليه" (غل6: 7). لا يحاول أحد أن يخدع نفسه فيعتقد أن الله لن يفسده إذا أفسد هو هيكل الله. ومن الذي يفسد هيكل الله:

  1. الإنسان يفسد هيكل الله (جسده) بإصراره على الخطية.
  2. الكنيسة ككل يفسدها أفرادها بالشقاق والنزاع والحسد والهرطقات ووراء كل هذا الأنا أو الذات.

الإنسان عموماً يفسد هيكل الله بأفكاره وخططه الرديئة. وإذا كان أحد يعتقد أنه حكيم في تصرفه هذا وهو يبتعد عن الله، فهو في الواقع يخدع نفسه، ومن الأفضل لهُ أن يصير جاهلاً في نظر العالم ويتوقف عن الثقة في حكمته، وليتوقف عن التصرف بحسب الحكمة العالمية، وليقترب إلى الله فإن في هذا الإقتراب الحكمة الحقيقية. الحكيم حقيقة هو من يصلب ذاته وشهواته والجاهل حقيقة هو من يسير وراء شهواته، ووراء ذاته المنتفخة. هذه الآية تساوى "الله لا يشمخ عليه" (غل 6: 7 – 9) فمن يظن أنه يقدر أن يجمع بين ملذات الجسد وبركات الله فإنه يخدع نفسه. أمّا من يصلب نفسه ولا يتلذذ بخطايا العالم يصير في نظر العالم جاهلاً (ففي ليلة رأس السنة مثلاً يظن العالم أن من يترك الحفلات الصاخبة ويذهب للكنيسة أنه جاهل) ولكن من يفعل هذا يكون حكيماً حقيقة إذ سيتمتع ببركات الله وبأبديته. وقد تعنى الآية لشعب كورنثوس الذي يتفاخر بالمواهب ويتحزب للحكمة البشرية والفصاحة اللغوية... أنكم رأيتم ما يكون للمعلمين من جراء تعاليمهم (يخلصوا كما بنار..) فإحرصوا على أنفسكم ولا تفتخروا بحكمة عالمية أو فصاحة بشرية بل ميلوا إلى الحكمة الإلهية. والحكيم في نظر الله هو من يقبل الصليب، أما حكمة العالم فهي ترفض الصليب وتعتبره جهالة. وهذا ينطبق على من يقبل أن يصلب شهواته فيصير جاهلاً في نظر العالم لكنه يصير حكيما في نظر الله.

العدد 19

آية (19): -

"19لأَنَّ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «الآخِذُ الْحُكَمَاءَ بِمَكْرِهِمْ».".

حكمة العالم لا توازى شيئاً بجانب حكمة الله غير المحدودة، وحكمة العالم جهالة عند الله، إذ هي تتأثر بأخلاقهم وسلوكهم وتخدم إتجاهاتهم غير الأخلاقية. ولذلك فإن الله يسخر بهذه الحكمة ويبطل عملها ويقضى على مشورات الأشرار، والله لا يهاجم كل حكيم، بل من عن عمد يفسد عمل الله بحكمته العالمية. مَكْتُوبٌ = (أى 5: 13) الآخِذُ الْحُكَمَاءَ بِمَكْرِهِمْ = مهما بلغ الحكماء من فطنة وإحتيال في مؤامراتهم فهم لا يستطيعون أن يبطلوا مقاصد الله، بل أن الله سوف يسخر منهم ويُبطل كل مشوراتهم، وهذا ماعمله الله مع هامان، ومع فرعون إذ أغرق جيشه ومركباته في البحر، وجعل إخوة يوسف يسجدون له. وقد ينتصر الشر مؤقتاً ولكن في النهاية نجده يخدم مقاصد الله ويحققها (مز 2: 1 – 5). ولذلك فالمؤمن لا يخاف من مؤامرات الأشرار ويقول داخل نفسه إنهم سوف يحققون مقاصد الله لي، وهذا ما قاله يوسف لإخوته. فلا أحد يستطيع أن يؤذيني مالم يعطه سلطان من فوق (يو 19: 11).

العدد 20

آية (20): -

"20 وَأَيْضًا: «الرَّبُّ يَعْلَمُ أَفْكَارَ الْحُكَمَاءِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ».".

الإقتباس من (مز 94: 11). وكما يقول في المزامير أن الله يعرف جيداً أفكار الحكماء بأنها عديمة الفائدة وغير مجدية. أمّا المنفعة الحقيقية فهي في الكتاب المقدس.

باطلة = بلا نفع ولا تسبب راحة أو خلاص. ولا تسبب ضرراً لأولاد الله، فلا سلطان لأحد علينا إن لم نخطئ.

العدد 21

آية (21): -

"21إِذًا لاَ يَفْتَخِرَنَّ أَحَدٌ بِالنَّاسِ! فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ:".

كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ = كل ما يضعه الله في طريقكم من ظروف أو من خدام فهو وضعه لخلاص نفوسكم. فالله وضعني أنا بولس وأبلوس في طريقكم لنخدمكم فلماذا تفتخروا بإنسان وضعه الله في طريقكم ولأجل خلاص نفوسكم.

العدد 22

آية (22): -

"22أَبُولُسُ، أَمْ أَبُلُّوسُ، أَمْ صَفَا، أَمِ الْعَالَمُ، أَمِ الْحَيَاةُ، أَمِ الْمَوْتُ، أَمِ الأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ، أَمِ الْمُسْتَقْبَلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ.".

هذه الآية تماثل تماماً "كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله" (رو 8: 28) ولكنها هنا مفصلة. ففي رومية قال كل الأشياء وهنا فصلها بولس وأبلوس والعالم والحياة والموت... وفى رومية قال للخير ولكن ما هو الخير؟ هل هو الصحة أو المال؟ لا بل هو خلاص النفوس، وهذا معنى قولـه كل شئ لكم. "فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه". بل ما نفهمه من هذه الآية أن كل الأمور التي تصادفنا في حياتنا حتى لو كانت خسارة صحة أو أموال.. هي أيضاً لخلاص نفوسنا. بولس بدأ الآية بأن الله وضع في طريقكم بولس وأبلوس وصفا (بطرس) ليعلموكم الإيمان أى لخلاص نفوسكم، ثم إمتد بصره ليرى أن كل شئ وكل الأمور هي لأجل خلاص نفوسنا. فما يريده الله لي هو خلاص نفسي، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ الله وحده يعلم. وهو يدبر كل الأمور لأجل هذا الهدف. فهناك من الظروف ما هو مفرح وهذا يشجعني، ومنها ما هو مؤلم وهذا ينقينى، ويؤدبني. وربما يسمح الله بوجود رئيس في العمل، يكون متعباً لي، أو جار في السكن أو.. كل هؤلاء ما هم إلاّ أدوات تهذبنى لأصل للسماء. لو فهمنا هذه الحقيقة البسيطة لن نعود نشتكى أو نتذمر فنحن لسنا في يد إنسان بل في يد الله، والأمور التي تحدث في حياتنا هي بسماح منه، ومن يفهم هذا لن يفكر في المستقبل، فهو أيضاً في يد الله، وأحداث المستقبل هي لخلاص نفسي. قد يسمح الله بمرض خطير ولكن هدف الله أن أصل للسماء، فما الفائدة من أن أعيش عشرة سنوات زيادة في عمري وتضيع مني السماء. فلنثق أننا في يد الله الحنون الذي لن يسمح إلاّ بما يوصلني للسماء، بل الله لو سمح بتجربة مؤلمة يكون معها العزاء (شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني). ولذلك فالنصرة في المسيحية ليست أن أعيش بلا تجربة، بل أن أمر في التجربة وأنا مملوء تعزية. وما يفتح طريق هذه التعزيات هو الإيمان والثقة بأن الله خير وأن ما يسمح به هو طريقي للسماء. بل هو بجانبي، بل هو الطريق، فهو إجتاز قبلي طريق الألم والموت، وهو قادر أن يحملني فيه ماراً بالتجربة وبالموت إلى السماء. ووجود المسيح بجانبي هو مصدر التعزية، لذلك فمن هم من خارج إذ يرونني في ألمي يستغربون كيف أحتمل هذا الألم، إذ هم لا يشعرون بما أشعر به من تعزية، لذلك فحمل المسيح هين وخفيف.

ومن لا يؤمن بأن ما يحدث له هو من محبة الله، وأن الله صانع خيرات سيشعر بمرارة وسط آلامه، ويظل يصرخ لماذا سمحت بهذا يارب؟!! مع أنني إبنك وأحيا معك في كنيستك؟! وهذه هي الهزيمة. والسبب أن من يردد هذا لم يفهم هذه الآية الهامة جداً.

أَبُولُسُ، أَمْ أَبُلُّوسُ، أَمْ صَفَا = كلنا خدام وضعهم الله في طريقكم لخلاصكم.

أَمِ الْعَالَمُ = العالم مسخر لنا لكي نستعمله ولا يستعبدنا، نعيش في العالم ولا يعيش فينا العالم. والله خلق آدم أولاً سيداً للعالم والعالم لا يسود عليه. الله خلق العالم وسيلة نحيا بها إلى أن نصل إليه، لكنه للأسف صار هدفاً فالمال صار هدف والمراكز صارت هدف. فلا مانع أن أملك مالاً ولكن إذا ضاع المال علىَّ ألاّ أحزن.

أَمِ الْحَيَاةُ = فبدون أن أخلق وأحيا ما كان سيكون لي حياة وما كنت سأذهب للسماء. الحياة هى هبة من الله، وحياتي تبدأ هنا على الأرض وتكمل للأبد في أمجاد السماء.

أَمِ الْمَوْتُ = حتى الموت هو لأجل خلاص نفوسنا، فبه نتخلص من جسد هذا الموت الذي سكنت فيه الخطية (رو 7: 17، 20، 24) إستعداداً لنأخذ الجسد الممجد الذي به سنرى الله. أما هذا الجسد، اللحم والدم لن يستطيع أن يرى الله بسبب الخطية (1كو 15: 50). وبهذا يصير هذا الجسد حاجز بيني وبين أمجاد السماء، بيني وبين أن أرى الله. لذلك أطلق الأباء على الموت "القنطرة الذهبية للسماء" وهذا ما جعل القديسين يشتهون الموت (رو 7: 24 + فى 1: 23). فهو بداية طريق الفرح والمجد.

الأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ، = كل ما يحدث، إذا آمنت بهذا يمتلئ القلب سلاماً. ولا نضطرب لأجل أى حادثة (فهناك من يضطرب إذا تأخر عليه تاكسي أو أى وسيلة مواصلات، فعليه أن يردد أن كل الأمور للخير). ومهما كانت الأمور مؤلمة فهى للخير فإلهنا صانع خيرات، وليس صانع ألام وشرور.

الأَشْيَاءُ الْمُسْتَقْبَلَةُ = علينا أن نؤمن أن حياتنا فى يد الله، فلماذا نخاف من الغد، الله ستر علىَّ من قبل وسيفعل فى المستقبل "فيسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عب 13: 8). ومن يخاف يغلق طريق التعزيات فهذا ضد الإيمان والله لا يمكن إرضاؤه إلاّ بالإيمان (عب 11: 6).

كُلُّ شَيْءٍ = الماضي والحاضر والمستقبل. يعود هنا ليجمع كل الأمور.

لَكُمْ = لأجل خلاص نفوسكم، فهذا هو غاية إيماننا (1بط 1: 9). ولاحظ أن السيد المسيح لم يعدنا نحن المؤمنين به بصحة أو مال... بل بضيق فى هذا العالم (يو 15: 20 + يو 16: 33). ولكنه قادر أن يخرج من الجافى حلاوة فهذا الضيق هو الذي يُعِدَّنا للسماء.

العدد 23

آية (23): -

"23 وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ، وَالْمَسِيحُ ِللهِ.".

وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ = من يفهم أن المسيح يدبر كل الأمور لخلاص نفسه، وأنه تجسد ومات وقام وصعد للسماء ليعد لنا مكاناً، فأقل ما نعمله له هو أن نعطيه أنفسنا ونقول له نحن لك يارب، نخدمك العمر كله ونعمل لأجل مجد إسمك. ليس هناك من أحبني مثلك فسأعطيك نفسي، جسدي الذي هو هيكلك سأستعمله إستعمال مقدس "مجدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التي هي لله" (1كو 6: 20) يارب سأضيع نفسي لأجلك، سأبيع كل شئ لأجلك، كل ما تعطيه لي سأخدمك به.

وَالْمَسِيحُ ِللهِ = المسيح تجسد وكان هدفه أن يمجد الله "أنا مجدتك على الأرض" (يو 17: 4). فالناس لم تكن تعرف الآب وكانت تجدف عليه. وكان المسيح يعلن حب الآب (يو 16: 26، 27). فكان المسيح يشفى الأعمى ليعلن أن الآب يريد لنا أن تنفتح بصيرتنا الروحية ونرى أمجاد السماء، وكان يقيم الموتى ليعلن أن إرادة الآب أن تكون لنا حياة أبدية فى السماء، ويشفى الأصم ليعلن أن الآب يريد لنا أن نسمع صوت الله. فالمسيح أعلن محبة الآب وإرادة الآب ومن هو الآب، ليحب الناس الآب وليمجدوه، فالآب يريد لنا المجد. المسيح كان هو صوت الآب، كلمنا الآب فيه فعرفنا الآب ومجدناه، بفداء المسيح صار أغلب العالم مسيحيين يمجدون الآب. والمسيح أعطانا حياته المقامة من الأموات لنسلك فى بر الله، ويرى الناس أعمالنا ويمجدوا الله. وهذا ما قصده الرسول فى (رو6: 10) "والحياة التى يحياها فيحياها لله".

والمسيح جعل الكنيسة جسده وبهذا الجسد سيقدم الخضوع للآب بعد أن كان العالم متمرداً على الآب (1كو 15: 28). المسيح كرأس لهذا الجسد سيقدم الخضوع للآب وبهذا يتمجد الآب لكي يكون الله الكل في الكل (1كو 15: 28). والآن غرض كل خدمة هو مجد الله. والمسيح كإبن لله ونحن فيه مارس نوعاً من الطاعة للآب، فهو أطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 8). وهذه هي الصورة التي خلق الله الإنسان عليها، صورة الحب، حب الله للإنسان وهذا يظهر في عطاياه. وحب الإنسان لله وهذا يظهر في طاعته وخضوعه لله. وهذه الصورة تشوهت بالخطية وأصبحنا لا نرى الكل خاضعاً لله (عب 2: 8). ولكن المسيح تجسد لكي يجمع الكنيسة كلها في جسده ويعيد الصورة التي أرادها الله منذ البدء، صورة طاعة الكنيسة وخضوعها لله الآب وبهذا يتمجد الآب ويصير الله الكل في الكل هذا هو عمل المسيح.

إذاً معنى الْمَسِيحُ ِللهِ: -.

  1. إعلان محبة الآب فنحبه ونمجده، فالمسيح هو صورة الآب، من يراه فقد رأى الآب. ننظر إلى محبته وعطفه ووداعته وأقواله... فنعرف من هو الآب فنحبه.
  2. يعطينا حياته المقامة من الأموات نحيا بها أبديا، ونسلك على الأرض فى بر الله وبأعمالنا نمجد الله.
  3. هو كرأس للجسد سيقدم بجسده أى الكنيسة خضوع المحبة للآب فى الأبدية.
  4. هو خلقنا لمجد الله (إش43: 7)، وعندما سقطنا تجسد ويجمعنا كجسد له ليحقق قصد الله أى أن تكون الخليقة لمجد الله.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الرابع - تفسير رسالة كورونثوس الأولى - القمص أنطونيوس فكري

الإصحاح الثاني - تفسير رسالة كورونثوس الأولى - القمص أنطونيوس فكري

تفاسير رسالة كورونثوس الأولى الأصحاح 3
تفاسير رسالة كورونثوس الأولى الأصحاح 3