الفصل الثالث والعشرون الكنيسة القبطية والحركة الرهبانية

هذا الفصل هو جزء من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ3 – الكنيسة ملكوت الله على الأرض – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

الفصل الثالث والعشرون

الكنيسة القبطية والحركة الرهبانية

1 - هل النسك (التقشف أو الزهد) فى الكنيسة القبطية إنجيلى؟

تعرف الكنيسة القبطية باتجاهاتها النسكية، ليس فقط بسبب انطلاق الحركات الرهبانية فيها، وإنما كملامح تمس حياتها كلها وعبادتها. قامت هذه الاتجاهات ليس بكون النسك هدف فى ذاته، ولا على أساس أن الجسد بطبيعته شرير، وإنما يحمل فكراً إنجيلياً سماوياً.

"لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ (مت16: 26).

"بع كل مالك، ووزع على الفقراء... وتعال اتبعنى" (مر10: 21؛ لو18: 22).

"أقمع جسدى واستعبده، حتى بعد ما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسى مرفوضاً" (1كو9: 27).

هذا الفكر الإنجيلى وجد استعذاب عند الأقباط الذين التهبت قلوبهم بمحبة الأبدية.

2 - ما هى غاية الحياة النسكية عند الأقباط؟

بينما ارتبطت أغلب الحضارات القديمة بالحياة الزمنية، فكانوا يسعون وراء الملذات الوقتية، إذا بالفكر المصرى يُبتلع بالعالم الآتى. فكان المصريون القدماء يعتقدون فيما يسمى بالقيامة، أى فى إمكانية عودة الميت إلى الحياة أبدياً إن مورست بعض الطقوس. لهذا يلزم تحنيط الأجساد فى مقابر مختومة، حتى لا يقدر أحد أن يزور القبر ويسكن فيه غير النفس.

لذلك كانت المقابر تزود بكل احتياجات الحياة اليومية من ملابس وطعام وشراب وأوان وسكاكين وكراسى وأسلحة ومركبات وحلى للنساء وأدوات لعب للأطفال.

عندما قبل الأقباط المسيحية ازداد شوقهم للعالم الآتى، والتهب حنينهم إليه، لكن على أساس إنجيلى. فعوض انشغالهم بعودة الأرواح إلى الأجساد المحفوظة فى المقابر، اشتهوا أن ترتفع أرواحهم وأفكارهم وقلوبهم لتنعم بالحياة السماوية حتى وهم بعد بأجسادهم يسلكون على الأرض. بمعنى آخر، شوقهم للعالم الآتى دفعهم لممارسة الحياة النسكية على أساس إنجيلى.

3 - ما هو الدافع للنسك عند الأقباط؟

النسك فى الكنيسة القبطية ليس غاية فى ذاته يشتهى المؤمنون بلوغها، إنما هو تجاوب عملى للمحبة الإلهية. فإن كان ربنا قد قدم حياته لأجلنا، يليق بنا نحن من جانبنا أن نتوق إلى تقديم حياتنا ذبيحة حب من أجل الله. إننا نزهد الملذات الزمنية كعلامة عن شوقنا الداخلى للتمتع بالنعيم الأبدى خلال الحياة الجديدة فى المسيح يسوع. المؤمنون خاصة الرهبان لهم هدف واحد ألا وهو التمتع بملكوت الله الداخلى كعربون لملاقاة الله وجها لوجه فى الحياة الأبدية.

4 - ما هو ارتباط النسك بالحياة الكنسية؟

كثيراً ما تحدثت عن النسك فى الكنيسة القبطية ومفاهيمها اللاهوتية وحياتها التعبدية وسلوكها. لذا اكتفى هنا بإبراز النقاط التالية:

1. أثر الحياة النسكية على الكنيسة القبطية واضح فى عبادتها، فالألحان طويلة لكنها ممتعة ومبهجة للنفس، أصوامها كثيرة تتعدى النصف سنة سنوياً، ليتورجياتها تتركز حول انتظار مجئ السيد المسيح (بفكر اسخاتولوجى).

2. عُرفت الكنيسة القبطية بكثرة عدد شهدائها حتى يتطلع البعض إلى بقائها كعمل إلهى معجزى. مدن بأسرها استشهدت، وكان الشهداء يواجهون مضطهديهم بفرح إذ ينتظرون التمتع بإكليل الاستشهاد.

3. كان للفكر النسكى الروحى أثره على اللاهوت الإسكندرى، إذ حمل اتجاهاً خلاصياً، فتركز اللاهوت فى التمتع بالخلاص (سوتيريولوجى). اللاهوت ليس موضوع أفكار فلسفية للمباحثات بقدر ما هو متعة لتذوق عمل الله الخلاصى فى حياة المؤمن.

4. الحياة النسكية لا تعنى معاداة الجسد وحواسه وطاقاته، وإنما بالحرى التطلع إليه بقدسية خاصة كمعين للنفس.

5. إن كانت الحياة النسكية قد مهدت الطريق لبدء انطلاق الحركات الرهبانية بكل صورها من نظام الوحدة، ونظام الجماعات، ونظام الشركة، فإن هذه الحركات كانت تهدف إلى حياة الاتحاد مع الله، بصورة أو بأخرى. لهذا فهم المؤمنون الوحدة لا بمعنى العزلة عن الناس بل الوحدة مع الله. فالراهب حتى وإن عاش فى البرية وحده لا يعتزل بقلبه البشرية، بل يحملهم بالحب فى قلبه، يصلى من أجلهم، ويئن مع أنينهم، مشتاقاً نحو خلاص الكل.

6. قاوم كثير من الآباء المصريين المبالغة فى النسك، خاصة إن كان بدون إفراز (تمييز) أو بدون حكمة.

5 - كيف بدأت الحركات الرهبانية فى مصر؟

من مصر انطلقت كل النظم الرهبانية المنتظمة إلى العالم كله، وذلك فى القرن الرابع، لترد قلب الكنيسة إلى الحياة الداخلية بعد أن قبلت الدولة المسيحية، وانفتح باب الإمبراطور أمام الأساقفة والكهنة. غير أن هذه النظم التى أسسها الأقباط لم تظهر خلال خطة كنيسة مُسبقة، إنما ظهرت إلى النور خلال حب طبيعى التهب بقوة فى قلوب كثير من المسيحيين الأوائل.

1. فى العصر الرسولى، مارس كثيرون النسك بغية التمتع بكمال الإنجيل.

2. أشعل الاتجاه الإسخاتولوجى (الأخروى) فى الكنيسة شوق المؤمنين نحو مجئ عريسهم، فاستحسن بعض المؤمنين أن يعيشوا فى حياة البتولية مكرسين كل أقواتهم للعبادة كتهيئة لوليمة العرس السماوى. وفى القرن الثانى، كانت العذارى المسيحيات فى سميرنا وكورنثوس يسرن فى مواكب الليتورجية خلف الكهنة، أمام الأرامل. كذلك وُجدت جماعات كثيرة من العذارى فى الإسكندرية وفى مدن كثيرة من العالم، وكانت المقالات الخاصة بالبتولية تمثل جزءاً حياً من كتابات الآباء فى الثلاثة قرون الأولى.

3. شعر بعض العذراى والنساك بالحاجة إلى جو روحى معين، فكانت العذراى يعشن معاً واستحسن الرجال ترك المدن ليعيشوا فى أكواخ بسيطة فى القرى، وكانوا يُدعون "مكرسون". وإذ شعر البعض بالعطش نحو الحياة الملائكية هربوا إلى البرية، ولم نعرف منهم إلا القليل مثل القديس الأنبا بولا السائح الذى عاش قرابة تسعين عاماً فى البرية (حوالى 250 - 341م).

4. بظهور القديس أنبا أنطونيوس تأسست الحركة الرهبانية، وأعتبر أب الرهبنة فى العالم كله، وإن كان قد سبقه كثيرون، ذلك لعلاقته الوثيقة بقادة الكنيسة خاصة البابا أثناسيوس الذى كتب عنه للعالم الرومانى. ولأنه فتح مغارته بعد حوالى عشرين عاماً من العزلة التامة ليتتلمذ على يديه قادة رهبان، ويحاور الفلاسفة ببساطة إيمانه، ويستقبل الحكام كما كان للقديس دوره الحى فى الكنيسة فنزل إلى الإسكندرية يسند الشهداء ويقف ضد الأريوسية.

5. ظهر القديس باخوميوس أب الشركة الذى شعر أن نظام التوحد لا يناسب كل راغبى الرهبنة، فأقام جماعة رهبانية داخل أسوار الأديرة، وقد مدحه المتوحدون على ذلك.

6. أقام القديسون أنبا مقاريوس الكبير وأنبا أمون وغيرهما نظام الجماعات فى منطقة وادى النطرون. حيث جاء كثيرون من أنحاء العالم يمارسون الحياة النسكية على أرض مصر، ويكتبون عنها لينقلوا الفكر إلى الخارج. هذا ويلاحظ أن قادة هذه الأنظمة الثلاثة لم يتعصبوا لأنظمتهم، بل كانوا يتزاورون ويمتدح كل منهم النظامين الاخرين.

7. قامت الحركة الرهبانية النسائية جنباً إلى جنب مع حركة الرهبنة للرجال، وساهم الرهبان فى بناء أديرة النساء. وظهرت قيادات نسائية لها دورها الفعال مثل الأم سارة والأم ثيؤدورة. كما تخفى بعض النساء المصريات والأجانب فى زى رجال وعشن حياة ناسكة فى أديرة الرجال وغلبن بنسكهن وجهادهن وروحانياتهم الكثيرين.

6 - من هم أهم القيادات الرهبانية؟

1 - القديس بولا الطيبى (رئيس السواح): كتب سيرته القديس جيروم عام 374 أو 375م. نشأ فى شمال الصعيد، نال قسطاً وافراً من العلوم اليونانية والمصرية، وإذ بلغ السادسة عشرة من عمره نال قسطاً وافراً من الميراث عن والديه. وفى أثناء اضطهاد داكيوس (حوالى سنة 250م) انطلق إلى البرية بعد أن تعرض لرغبة بطرس اخوه فى اغتصاب ممتلكاته. وإذ بلغ من العمر المئة والثلاثة عشرة سنة يمارس الحياة الملائكية وهو على الأرض التقى به القديس أنطونيوس، حيث ناداه الأنبا بولا باسمه، وصارا يتحدثان عن عجائب الله ويسبحانه. عند الغروب نزل غراب كان مستقراً على نخلة والقى خبزة كاملة أمامهما، مع أنه كان قد اعتاد أن يلقى نصف خبزة للقديس الأنبا بولا. فى اليوم الثالث صرف الأنبا بولا الأنبا أنطونيوس ليُحضر له ثوب القديس أثناسيوس الذى وهبه إياه، لكى يكفنه به. وإذ عاد الأنبا أنطونيوس وجد الأنبا بولا راكعاً كمن يصلى، وأخيراً اكتشف أنه قد رقد. جاء أسدان وحفرا فى الرمل حتى يدفن القديس بولا.

2 - القديس انطونيوس الكبير: ولد حوالى سنة 251م فى مدينة كوما (قمن العروس) بمصر الوسطى. فى الثامنة عشرة من عمره، إذ سمع الإنجيل: "إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء. وتعال اتبعنى" (مت19: 21)، قام ببيع ممتلكاته وأودع أخته فى بيت العذارى، وسكن فى كوخ يتتلمذ على يدى رجل قديس. بعد فترة رحل إلى الصحراء الغربية ليجاهد بنفسه فى قبر منحوت فى جانب الجبل. وفى سن الخامسة والثلاثين استقر على الضفة الشرقية من النيل فى منقطة بسبير، حيث عاش متوحداً، فجاء كثيرون يطلبون التلمذة. انطلق إلى البرية الداخلية بجبل القلزم ليعيش فى هدوء. لكن محبته الداخلية ألزمته بزيارة الإسكندرية ليسند الشهداء عام 316م، ويسند البابا أثناسيوس ضد الأريوسية عام 352م. جاء إليه كثيرون يتتلمذون على يديه. وتنيح عام 352م.

3 - القديس باخوميوس (الأنبا باخوم أب الشركة): وُلد بصعيد مصر حوالى سنة 290م، وقبل المسيحية فى مدينة إسنا بالصعيد بسبب كرمهم وحبهم للأعداء، فترك الجيش واعتمد حوالى سنة 307 فى "شينوفسكيون". تتلمذ على يدى القديس أنبا بلامون المتوحد، حتى ظهر له ملاك وأرشده لتأسيس نظام الشركة. كان قائداً ناجحاً محباً لخلاص النفوس، فأسس أديرة كثيرة بصعيد مصر بنظام دقيق مُحكم، كما أنشأ دير للراهبات تحت قيادة أخته. ترجمت أصول نظامه إلى اليونانية واللاتينية، استخدمها الأنبا باسيليوس الكبير، كما اُستخدمت فى بلاد الغال فى القرن الخامس، تبناها بندكت أب الرهبنة الغريبة وقيصريوس أسقف أرل.

4 - القديس آمون: عاصر الأنبا أنطونيوس، ولد حوالى سنة 275م، ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره ألزمه عمه بالزواج، فعاش مع زوجته فى نتريا كناسكين وبعد 18 سنة طلبت منه زوجته أن ينفرد عنها، فخرج إلى جبل نتريا والتف حوله كثيرون، فأسس نظام الجماعات جنباً إلى جنب مع الوحدة. نظام الجماعات هو نظام وسط فيه لا يلتزم الرهبان بالشركة اليومية فى العبادة معاً والطعام وإنما يومى السبت والأحد فقط. غالباً ما كانوا يسكنون فى قلال أو مغائر متقاربة، حول كنيسة فى الوسط.

5 - القديس مقاريوس الكبير: (حوالى سنة 300م – 390) مؤسس رهبنة الجماعات ببرية الإسقيط، زار القديس أنطونيوس على الأقل مرتين. ألزمه والده بالزواج، لكن الله سمح بانتقال زوجته البتول. سكن فى كوخ بقرية يمارس الحياة النسكية حوالى عشرة سنوات تحت مشورة أحد النساك. تاق إلى الوحدة فسكن فى الإسقيط. وكان يرافقه شاروب. عاش محباً للعبادة والنسك بقلب متسع بالحب فتتلمذ على يديه كثيرون، فجاء إلى البرية شرقيون وغربيون للتلمذة.

6 - القديس شنوده رئيس المتوحدين: كان أباً (رئيساً) للدير الأبيض فى أتريب بصحراء طيبة لأكثر من 56عاماً (القرن الرابع / الخامس)، قاد 2200 راهباً، و1800 راهبة. دعى رئيس المتوحدين إذ مارس الوحدة من حين إلى آخر، كما شجع رهبان ديره على الانسحاب نحو البرية بعد ممارستهم حياة الشركة. فى سنة 431 رافق القديس كيرلس الكبير فى مجمع أفسس المسكونى. اشتهر بحركة تحرير الأدب القبطى من كل ثقافة هيلينية، ولم يسمح لأجنبى أن يلتحق بجماعاته، لذا حُسب قائداً سياسيا ومصلحاً اجتماعياً بجانب عمق روحانياته.

7 - القديسة الام سارة: وجدت أول جماعة رهبانية نسائية فى العالم فى مدينة الإسكندرية على نحو القديس سينكليتيكي وحفظ البابا أثناسيوس سيرتها وتعاليمها كما اسس القديس باخوميوس ديرين للراهبات، وظهرت راهبات متوحدات فى البرية. وجاء إلى مصر بعض أمهات دير أجنبيات مثل القديسة ميلانيا الكبرى (سنة 374) وحفيدتها ميلانيا الصغرى (سنة418). هذا ولا نتجاهل القديسة مريم المصرية التى تابت فى أورشليم، وعاشت 48سنة فى البرية عبر الأردن لم تر وجه إنسان سوى القديس سوزيما مرتين فى السنتين الأخيرتين من حياتها.

كثير من الراهبات نلن عطية القيادة الحقيقية والتمييز الروحى، منهم القديسة سارة التى قيل عنها إنها عاشت 60 عاماً بجوار النهر لم ترفع عينيها قط لتنظره. لها أقوال كثيرة حفظت مع أقوال آباء البرية.

8 - القديسة إيلاريا: فى القرن الرابع، ابنة الإمبراطور زينون، هربت إلى شيهيت حيث مارست الحياة النسكية فى زى راهب، ولما أصيبت أختها ثيؤبستا بروح شرير أرسلها شيوخ البرية إليها لتصلى عليها دون أن يعرفوا أنها فتاة. فصلت عليها طوال الليل وكانت تقبلها، وإذ شفيت أخبرت الإمبراطور عن الراهب (ايلارى) الذى شفاها وكان يقبلها فانزعج، وإذ دعاها إلى القصر كشفت له أمرها أنها ابنته بعد أن وعدها ألا يعوقها عن العودة إلى مغارتها.

9 - سينكليتيكى القديسة: يعدّها بعض المؤرخين نداً للقديس الأنبا أنطونيوس كوكب البرية، فكما كان الأنبا انطونيوس أباً لجميع الرهبان، كانت سينكليتيكى أماً لتلك المجموعة المتناسقة من العذارى المتبتلات، اللاتى جعلن من وادى مصر الخصيب مقراً للنعمة الإلهية. وُلدت من أبوين شريفين استقرا فى الإسكندرية ليكونا على مقربة من مدرستها العظيمة، وكانا قد أنجبا ولدين وبنتين فأرادا أن يثقفانهم بأسمىَ أنواع الثقافة التى لم تكن متوفرة سوى فى مدرسة الإسكندرية. فُجعت هذه الأسرة بوفاة أصغر إخوة سينكليتيكى فى صباه، أما الأكبر فقد انتقل إلى عالم الخلود ليلة زفافه، وكان من أثر الصدمتين أن اندفعت سينكليتيكى إلى التفكير والتأمل فى مباهج العالم ومفاتنه فى نظرها سراباً خادعاً.

ظلت سينكليتيكى مداومة على أصوامها وصلواتها ونسكها وتعبدها فى بيت أبويها إلى أن انتقلا إلى عالم النور، وعند ذاك وزعت أموالها على الفقراء وأخذت أختها وذهبت إلى مقبرة العائلة حيث عاشت بضع سنوات، وفى تلك الفترة ضاعفت أصوامها وصلواتها وتأملاتها.

جاء لزيارتها عدد غير قليل من الشابات. البعض منهن لمجرد رؤيتها وأخذ بركتها، والبعض الآخر مستفسرات عن حل مشاكلهن. وكان من الطبيعى أن تتأثر بعضهن بقدوتها ويمكثن معها ويشاركنها حياة النسك والتأمل.

تركت مقبرة العائلة وأخذت زميلاتها ليعشن معاً فى مبنى خارج المدينة، وكرست حياتها لخدمتهن صائرة قدوة وصورة حية لما تنادى به من تعاليم، ولذلك أحبتها زميلاتها وأخلصن الولاء لها وأطعنها عن رضى وحبور. تزايد عدد الشابات اللواتى خضعن لرياستها سنة بعد الأخرى، وكان بعضهن يقضين معها فترة من الزمن يعدن بعدها إلى بيئتهن ليحملن إلى أهلهن النعمة المنعكسة عليهن من حياة سينكليتيكى.

بلغت القديس الثمانين من عمرها وكانت حتى ذلك الوقت تتمتع بصحة تامة، وفجأة أصيبت بمرض مزعج، فقد غطت القروح جسمها من قمة الرأس إلى أخمص القدم حتى أفقدها القدرة على النطق. تضاعف ألم القروح بحمى عالية موجعة فكان صبر القديسة شبيهاً بصبر أيوب إذ تحملت كلما أصابها برضى وطول أناة. وقبل انتقالها بثلاثة أيام رأت جمهوراً من الملائكة ومعهن عدد من العذارى، وتقدموا إليها قائلين: "إننا أتينا لندعوك فتعالى معنا". وما أن سمعت هذه الكلمات حتى تبدل حالها فبدت كشخص جديد إذ اكتنفها نور بهى، وعاشت بعد ذلك ثلاثة أيام كاملة استنار الراهبات خلالها بالنور السماوى المنعكس عليهن من رئيستهن المريضة، ثم انتقلت إلى كنيسة الأبكار.

لقد أراد البابا أثناسيوس الرسولى أن يبين عظمة قداسة هذه الراهبة المكرسة فكتب سيرتها هو بنفسه فبذلك يكون قد كتب سيرة الأنبا أنطونيوس بوصفه أباً للرهبان كما كتب سيرة القديسة سينكليتيكى بوصفها أماً للراهبات.

7 - ما هو أثر الرهبنة المصرية على العالم المسيحى؟

الرهبنة القبطية كأعمق حركة إنعاش روحى حدثت فى تاريخ الكنيسة، جذبت رهبان من بلدان كثيرة فجاء إلى مصر يونانيون ورومان وكبادوكيون وليبيون وسريان ونوبيون وأثيوييون وغيرهم.

فى اختصار شديد كان للرهبنة القبطية أثرها على العالم المسيحى:

1. قام البابا أثناسيوس بنشر الفكر الرهبانى أثناء نفيه فى تريف (336 - 337)، وعندما هرب إلى روما سنة 339. كما كتب "حياة أنطونيوس" سنة 357 الذى انتشر فى العالم.

2. تُرجم النظام الباخومى إلى اليونانية بواسطة بالاديوس وإلى اللاتينية بواسطة جيروم. زار القديس باسيليوس الأديرة الباخومية (337 - 358) وتأثر بها.

3. قوانين الأب بندت (480 - 550) استقاها من النظام الباخومى.

4. إذ عاش القديس يوحنا كاسيان سبع سنوات فى مصر سجل كتابية الشهيرين عن الرهبنة القبطية: "المناظرات"، "الدساتير".

5. عاش الأب أوغريس البنطى (346 - 329) الذى احتل مركزاً رئيسياً فى تاريخ المسيحية الرومانية، كراهب فى منطقة نتريا لمدة عامين، وفى منطقة القلالى لمدة 14عاماً.

6. قام القديسان جيروم (342 - 450) وروفينوس (345 - 410) بزيارة مصر.

7. قضى بالاديوس أسقف هيلينوبوليس ومؤرخ الرهبنة الأولى سنوات كثيرة مع رهبان مصر، وتتلمذ على يدى الأب أوغريس، ووضع كتاب: "التاريخ للوسياكى" حوالى سنة 419م.

8 - تتلمذ مار أوجين على يدى القديس باخوميوس، وأسس ديراً فى نصيبين ببلاد فارس، كما ترجم القوانين الباخومية إلى الفارسية والسريانية فى منتصف القرن الرابع. بحسب التقليد الكلدانى قيل أن سبعين راهباً مصرياً قاموا بمساعدته فى إنشاء عدة أديرة هناك.

9. تتلمذ القديس هيلاريون من غزة على يدى أنبا أنطونيوس وحين عاد إلى بلاده مارس الحياة النسكية.

10. تهذب القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص (حوالى315 - 403) بالفكر الرهبانى القبطى.

11. حوار سلبيكوس ساويرس حوالى 430م، سجل ما رآه الرحالة بوستيميان فى زيارته إلى مصر عام 399مقدماً نظرة رائعة للرهبنة المصرية.

12. زارت الراهبة الإسبانية إثيريا (ايجريا) مصر فى القرن الرابع.

13. زارت الأم القديسة ميلانيا الكبرى الرومانية برية مصر.

14. أقام القديس يوحنا الذهبى الفم فى أحد الأديرة الباخومية فى صعيد مصر، من سنة 373 حتى 381م.

8 - ما هى الحركة الرهبانية القبطية اليوم؟

لعل أحد ملامح الكنيسة القبطية الأرثوذكسية اليوم هو التزايد المستمر فى راغبى الالتحاق فى الحياة الديرية، حتى بدأ التفكير فى تعمير الأديرة التى خلت من الرهبان. أديرة الرجال منتشرة فى المناطق الصحراوية، أما أديرة النساء ففى داخل المدن.

اهتم البابا كيرلس السادس بتعمير دير القديس مارمينا بجوار الإسكندرية. كما اهتم البابا شنوده الثالث بتعمير دير القديس الأنبا بيشوى بوادى النطرون، حيث أقام فيه مقراً بابوياً لحبه الشديد للرهبنة، يقضى فيه قرابة نصف الأسبوع بانتظام.

هذا وقد التحق بالأديرة رهبان من الشبان الذين هاجروا إلى أمريكا وكندا وأستراليا بعد أن نجحوا فى حياتهم العملية.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الفصل الثاني والعشرون سرّ مسحة المرضى

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات