الاصحاح الثامن – سفر الأمثال – القمص أنطونيوس فكري

هذا الفصل هو جزء من كتاب: سفر الأمثال – القس أنطونيوس فكري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الإصحاح الثامن

على النقيض من الإصحاح السابق نصل هنا للتأمل في الحكمة ونميز شخص المسيح اللوغوس وراء كلمة الحكمة. المسيح الذي يحاول أن يجذب كل نفس إليه لتترك طريق الجهل وتسلك طريق المعرفة والفهم. نصل في هذا الإصحاح إلى ذروة السلسلة عن الحكمة والحديث عن الحكمة. ونجدها في صورة مخالفة تماماً للمرأة الشريرة، فهذه أسلوبها ملق مخادع وحبها فاسد يقود للموت. أما الحكمة فهي تنادي بكل جلاء ووقار في الأماكن العامة، تدعو كل الناس أن يقبلوها وتعلن لهم أن من يقبلها تكون هناك كنوز من نصيبه. ولقد أجمع معظم المفسرين أن هذا الإصحاح يتكلم عن المسيح أقنوم الحكمة، وهذا هو تفسير كنيستنا الأرثوذكسية لهذا الإصحاح. وفي الإصحاح آيات وعبارات لا يتحقق معناها الكامل إلا في المسيح قوة الله وحكمة الله فهو حكمة الله المشخصة أو المتجسدة (1كو24: 1 + لو49: 11) وفي (لو49: 11) نرى حكمة الله شخصاً يرسل الأنبياء للعالم. ما بين هذا الاصحاح والاصحاح السابق ما يسمي بالـcontrast أى تضاد وتناقض كامل بين طريق الموت وطريق الحياة.

الأعداد 1-11

الآيات (1 - 11): -

"1أَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ لاَ تُنَادِي؟ وَالْفَهْمَ أَلاَ يُعْطِي صَوْتَهُ؟ 2عِنْدَ رُؤُوسِ الشَّوَاهِقِ، عِنْدَ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَسَالِكِ تَقِفُ. 3بِجَانِبِ الأَبْوَابِ، عِنْدَ ثَغْرِ الْمَدِينَةِ، عِنْدَ مَدْخَلِ الأَبْوَابِ تُصَرِّحُ: 4«لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُنَادِي، وَصَوْتِي إِلَى بَنِي آدَمَ. 5أَيُّهَا الْحَمْقَى تَعَلَّمُوا ذَكَاءً، وَيَا جُهَّالُ تَعَلَّمُوا فَهْمًا. 6اِسْمَعُوا فَإِنِّي أَتَكَلَّمُ بِأُمُورٍ شَرِيفَةٍ، وَافْتِتَاحُ شَفَتَيَّ اسْتِقَامَةٌ. 7لأَنَّ حَنَكِي يَلْهَجُ بِالصِّدْقِ، وَمَكْرَهَةُ شَفَتَيَّ الْكَذِبُ. 8كُلُّ كَلِمَاتِ فَمِي بِالْحَقِّ. لَيْسَ فِيهَا عِوَجٌ وَلاَ الْتِوَاءٌ. 9كُلُّهَا وَاضِحَةٌ لَدَى الْفَهِيمِ، وَمُسْتَقِيمَةٌ لَدَى الَّذِينَ يَجِدُونَ الْمَعْرِفَةَ. 10خُذُوا تَأْدِيبِي لاَ الْفِضَّةَ، وَالْمَعْرِفَةَ أَكْثَرَ مِنَ الذَّهَبِ الْمُخْتَارِ. 11لأَنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنَ الَّلآلِئِ، وَكُلُّ الْجَوَاهِرِ لاَ تُسَاوِيهَا.".

الحكمة تنادي = الحكمة تدعو الجميع، كل بنى آدم، وتستميل الناس، وهي تقنعهم حتى يأتوا (مت1: 22 - 14). ودعوة الحكمة لنا لها وسائل متعددة، أولاً بصوت الكتاب المقدس، وصوت خدام الله، وتبكيت وتعليم الروح القدس، وإن لم يأتي كل هذا بنتيجة فهناك الإنذارات والضربات للتأديب، فالله له وسائله المتعددة. وهكذا كان المسيح ينادي الجميع (يو37: 7) فالحكمة هي المسيح. والمسيح ليس بعيداً عن أحد بل هو في متناول الجميع (رو6: 10 - 9 + تث11: 30 - 14).

عند رؤوس الشواهق = ناموس موسى، استلمه موسى على جبل، والمسيح علَّم على الجبل أهم تعاليمه (عظة الجبل). وهكذا طلب من اللاويين أن يصرخوا بصوت عالٍ (تث14: 27) ليسمع الجميع، وطلب من التلاميذ أن يبشروا ويكرزوا للجميع. وهذا عكس المرأة الشريرة التي عند كل زاوية تكمن (12: 7). ولاحظ أن الحكمة تتكلم عند رؤوس الشواهق فهي تجذب من يستجيب للسماويات. عند الطريق بين المسالك تقف = لتجذب كل الناس وترشد الناس حينما يختلط عليهم الطريق الصحيح، وحيثما تتشعب المسالك ترشد الحكمة للطريق الصحيح. ولاحظ أن المسيح هو الطريق. بجانب الأبواب = حيث يجتمع الشيوخ داخل المدينة. عند ثغر المدينة أي خارج المدينة، فالدعوة هي في كل مكان. وهكذا المسيح تكلم علانية (يو20: 18). والحكمة لا تنتظر أن يأتي إليها الناس، بل هي تذهب لكل واحد، ترشد الكل للطريق الصحيح، وإن ضل أحد في طريق شرير ترشده ليتوب. ويعود لطرقها الشريفة = وأصل كلمة شريفة هو الشئ الخاص بالأمراء، ليعود الضال كما يليق بأولاد الله. كل كلمات فمي بالحق = كثيرين يرفضون كلمات الله، ربما لعدم الفهم، أو لأنهم لم يجربوا قوتها وفائدتها، والله يشدد أن كلامه بالحق وما علينا سوى أن نصدق ونجرب فنختبر أنها حق فعلاً (مت7: 24 – 27)، ولكن علينا أن نتضع أمام كلمة الله فنعرف أنه لا عيب فيها مطلقاً وسنكتشف أن العيب فينا نحن، بل سنكتشف أن كلمة الله أثمن من كنوز الدنيا. كلها واضحة لدى الفهيم = قارن مع (مت16: 13) فكلمة الله واضحة لكل عين مفتوحة، أما الأشرار فلقد أغلقت الخطية عيونهم وصاروا غير قادرين على الفهم.

الأعداد 12-21

الآيات (12 - 21): -

"12«أَنَا الْحِكْمَةُ أَسْكُنُ الذَّكَاءَ، وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ التَّدَابِيرِ. 13مَخَافَةُ الرَّبِّ بُغْضُ الشَّرِّ. الْكِبْرِيَاءَ وَالتَّعَظُّمَ وَطَرِيقَ الشَّرِّ وَفَمَ الأَكَاذِيبِ أَبْغَضْتُ. 14لِي الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ. أَنَا الْفَهْمُ. لِي الْقُدْرَةُ. 15بِي تَمْلِكُ الْمُلُوكُ، وَتَقْضِي الْعُظَمَاءُ عَدْلاً. 16بِي تَتَرَأَّسُ الرُّؤَسَاءُ وَالشُّرَفَاءُ، كُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ. 17أَنَا أُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَنِي، وَالَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي. 18عِنْدِي الْغِنَى وَالْكَرَامَةُ. قِنْيَةٌ فَاخِرَةٌ وَحَظٌّ. 19ثَمَرِي خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ وَمِنَ الإِبْرِيزِ، وَغَلَّتِي خَيْرٌ مِنَ الْفِضَّةِ الْمُخْتَارَةِ. 20فِي طَرِيقِ الْعَدْلِ أَتَمَشَّى، فِي وَسَطِ سُبُلِ الْحَقِّ، 21فَأُوَرِّثُ مُحِبِّيَّ رِزْقًا وَأَمْلأُ خَزَائِنَهُمْ.".

أسكن الذكاء = أي الحكمة والذكاء موجودين معاً. والذكاء هو القدرة على التمييز وعلى التصرف السليم. ومن يقتني الحكمة (يثبت فى المسيح حكمة الله ويمتلئ بالروح القدس روح الحكمة) يظهر هذا في سلوكه في وسط العالم (2كو12: 1). وهذا عكس من يسلك سلوك شهواني فهذا تجد فكره كله متجه لشهواته فلا يرى ولا يدرك شئ آخر.

أجد معرفة التدابير = التفكير السليم والمشورة الصالحة.

مخافة الرب بغض الشر = من يخاف الرب ويخاف من ضياع أبديته يبغض الشر الذى يقود للهلاك. عموما فالحكمة مرتبطة مع مخافة الرب، أي كراهية فعل الخطية، نكره الخطية ليس عند الآخرين بل نكره خطايانا. ولا يمكن كراهية الشر إلا لمن أحب المسيح. الكبرياء والتعظم.. أبغضت = المسيح، وهو وحده الكامل بلا خطية يبغض كل هذه الخطايا. ومن يريد أن يتشبه بالمسيح يبدأ بالتغصب يرفض هذه الخطايا، ومع جهاده يمتلئ من الروح القدس الذى يجعله يبغض كل هذه الخطايا دون تغصب.

والآيات (14 - 17): هنا يتكلم المسيح الأقنوم الثاني، أقنوم الحكمة، فهو هنا يعلن سلطانه على الملوك = بي تملك الملوك = فالملك لا يملك إلا من عند الله (رو1: 13، 2 + دا 32: 4). وهذا دليل أن الحكمة التي تتلكم هنا ليست سوى المسيح ملك الملوك فضلاً عن هذا فإن الملك التقي يكون مملوءاً حكمة كسليمان، فمن يملك الله عليه يملك جيداً على شعبه.

أحب الذين يحبونني = من يحب المسيح يحفظ وصاياه. ونحن نغصب أنفسنا ونمتنع عن ما يغضبه لأننا نحبه، ومن يفعل يحبه الله ويسكن عنده (يو14: 23). ونحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً. والتغصب وحده لن يغير طبيعتى بل سيكون نوعا من البر الذاتى والفريسية. لكن المسيحى يجاهد ويطلب الله، فيعطيه الروح القدس المحبة، فالروح القدس يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5: 5)، ومن إمتلأ بالروح سيجد أن تنفيذ الوصية صار سهلا (عب12: 1). وكلما إزدادت محبة الله في القلب نكتشف محبته لنا ويزداد إحساسنا بمحبته التي تحصرنا، وهذا يدفعنا أن نحبه بالأكثر. والبداية أن نطلب الحكمة التي تكشف لنا الطريق، طريق كراهية الشر، فهي ترينا نتائجه فنكرهه وحينما نكرهه لا نطلب سوى الله. وهذا هو عمل الروح القدس الذي يبكت علي خطية... (يو 16: 8، 9) ويبكت تعني (يقنع ويوبخ ويلوم) ويبدأ بإقناعنا ببشاعة نهاية طريق الخطية. والذين يبكرون إلىَّ يجدونني = الذين يطلبونني في شبابهم المبكر مثل يوسف وصموئيل وداود يجدون النجاح والبركة فى كل حياتهم، ويجدون كنوز حكمة في طريقهم. ونلاحظ أن سليمان الذي طلب الحكمة في شبابه أخذ غنى أكثر من أي واحد = عندي الغني والكرامة. فكل من يطلب المسيح في شبابه يكتسب حكمة وبركة في كل طرقه. وهذه الآية "الذين يبكرون إلىَّ يجدونني = تنطبق أيضاً على من يبدأ يومه بطلب الله فيبارك له الله في هذا اليوم ومن يذهب للكنيسة مبكراً يجد تعزية وفرح بالقداس والتناول.

قنية فاخرة وحظ = كلمة فاخرة لم تأتي سوى هنا ومعناها موروثة أو أثرية، فعطايا الله لكل من يطلبه هي دائماً وعبر العصور، وأمانة الله نحو شعبه هي حقيقة موروثة يعرفها الكل. والمسيح هو هذه القنية الفاخرة، هو الجوهرة الكثيرة الثمن ومن يجدها يبيع كل ما عنده من لآلئ = ثَمَرِي خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ وَمِنَ الإِبْرِيزِ، وَغَلَّتِي خَيْرٌ مِنَ الْفِضَّةِ الْمُخْتَارَةِ.

في طريق العدل أتمشى = الحكمة تقود أبنائها ومحبيها في سبيل الحق. ولكن هذه الآية يمكن أن ننظر لها بمنظار آخر، فالمتكلم هو المسيح، وطريق العدل هو طريق الصليب، طريق دينونة الخطية. فكأن المسيح يقولها وهو حاملاً صليبه سائراً للجلجثة طريق عدل الله الذي يستوفيه ليورث كل محبيه ملكوت السموات (رو17: 8 + مت29: 19). فاورث محبيّ رزقاً = لقد صار المسيح رزقنا وخيرنا وغنانا وشبعنا ليس في الأبدية فقط بل وفي هذا العالم. هنا نجد المسيح فينا يرشدنا للطريق، يقودنا فلا نضل، يحمينا من ذكاء الحية ومن أن نضل وراءها، يرشدنا كيف نعمل الصالح لأنفسنا ولمن حولنا، هنا نجد الحكمة قد استعلنت فينا وتقودنا.

نحن بذكائنا البشري قد نربك أنفسنا، ندبر كثيراً ويكون تدبيرنا لهلاكنا، أما المسيح أقنوم الحكمة فدبر مرة لخلاصنا ويدبر لنا العمر كله لنسير في طريقه.

الأعداد 22-31

الآيات (22 - 31): -

"22«اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ الْقِدَمِ. 23مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ. 24إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ يَنَابِيعُ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ. 25مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقَرَّرَتِ الْجِبَالُ، قَبْلَ التِّلاَلِ أُبْدِئْتُ. 26إِذْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَنَعَ الأَرْضَ بَعْدُ وَلاَ الْبَرَارِيَّ وَلاَ أَوَّلَ أَعْفَارِ الْمَسْكُونَةِ. 27لَمَّا ثَبَّتَ السَّمَاوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا. لَمَّا رَسَمَ دَائِرَةً عَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ. 28لَمَّا أَثْبَتَ السُّحُبَ مِنْ فَوْقُ. لَمَّا تَشَدَّدَتْ يَنَابِيعُ الْغَمْرِ. 29لَمَّا وَضَعَ لِلْبَحْرِ حَدَّهُ فَلاَ تَتَعَدَّى الْمِيَاهُ تُخْمَهُ، لَمَّا رَسَمَ أُسُسَ الأَرْضِ، 30كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ. 31فَرِحَةً فِي مَسْكُونَةِ أَرْضِهِ، وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ.".

من هنا نجد الكلام يتحول ليصير واضحاً تماماً أنه عن المسيح الكلمة إبن الآب، الذي كان في البدء عند الله، المساوي للآب في طبيعته وجوهره، الأزلى غير المخلوق فهو حكمة الله، كما يقول بولس الرسول "المسيح قوة الله وحكمة الله" (1كو24: 1). وبالتالي لا يمكن تصور أن الآب خلقه، فكيف يخلق الله حكمته، وبأي حكمة يخلق لنفسه حكمة. وهو قوة الله فكيف يخلق الله لنفسه قوة وهو بدون قوة. فالحكمة هنا يتضح أنه شخص له خصائصه وأعماله وليس مجرد صفة لله. لقد كان سليمان يكتب بوحي من الروح القدس، وهو كان يظن أنه يكتب عن الحكمة، وإذا به يكتب بوحي من الروح القدس عن المسيح حكمة الله (1كو24: 1).

الرب قناني = الفعل العبري "قنا" بنفس النطق العربي، وبنفس المفهوم تقريباً، فهو يفسر بأن الشخص إقتني شئ. ولهذا فحواء أسمت ابنها قايين لانها قالت اقتنيت رجلا.. (تك4: 1) إلا أن الترجمة السبعينية ترجمت الكلمة خلقني وهذه الآية إعتمد عليها أريوس بحسب الترجمة السبعينية ليثبت أن المسيح كان مخلوقاً، وقد خلقه الآب. والكلمة في العبرية "قنا" تحتمل الترجمة السبعينية، فنص الآية بحسب السبعينية "الرب خلقني أول طرقه" وهذا ما اعتمد عليه أريوس؟ إلا أن أثناسيوس الرسولي أثبت له أن الأصل العبري للكلمة تفيد معنى الولادة وكأن المعنى "الرب ولدني" والمعنى في العربية مشابه إذ نقول "فلان قنى ولداً" أي وَلَدَ ولداً. ويؤيد هذا التفسير بحث في معنى الكلمة من أحد علماء الغرب نُشِرَ في سنة 1926 (راجع مشكاة الطلاب صفحة 241، 242 وكتاب تفسير الكتاب المقدس تأليف جماعة من اللاهوتيين برئاسة الدكتور فرنسيس دافدسن جزء3 صفحة 355) وعموماً يؤيد هذا الرأي من داخل الإصحاح آية23 حين يقول منذ الأزل، فولادة الإبن من الآب أزلية. هو نور من نور، إله حق من إله حق، حكمة نابعة مولودة من الآب، وهى حكمة خالقة بها خلق الآب كل شئ ويضبط كل شئ.

أما النص بحسب السبعينية حين قال "خلقني" ولأننا نعلم أن السبعينية تكمل المعنى العبري وتبلوره، فهي بهذا تشير لولادة المسيح من العذراء بالجسد. وفي هذا يقول ميخا النبي (مي2: 5) "أنت يا بيت لحم منك يخرج لي (ولادته بالجسد) الذي يكون متسلطاً ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل (بلاهوته)".

ويكون معنى الرب خلقني أول طرقه = أن المسيح تجسد من بطن العذراء بالروح القدس كأول طريق الخلاص الذي انتهى بالصلب والقيامة والصعود وإرسال الروح القدس، لتكوين الخليقة الجديدة أى الكنيسة التى هى جسد المسيح، وهذه الكنيسة تكون فى المسيح. ولكن يسهل تصوُّر أن الإبن أقنوم الحكمة لا يمكن أن يكون مخلوقاً، فلا يمكن وجود الآب فترة من الزمن بدون حكمة وبدون قوة، فأزلية الابن أقنوم الحكمة هي أزلية الله نفسه، وبهذا يكون معنى الآية الرب قناني أن الآب يقتني حكمة أزلية. وهنا يتضح التمايز بين الأقانيم فالآب يقتني والابن هو المُقْتَنَى. أول طريقه = الله لا يبدأ أي طريق أو أي عمل من أعماله إلا بالحكمة (أم19: 3 + عب1: 1، 2 + كو13: 1 - 16 + يو1: 1 - 3). ولاحظ في البدء كان الكلمة والكلمة كان الله تشير للاتحاد. منذ الأزل مسحت = كلمة مسحت تعني ممسوح بالزيت ليكرس لعمل معين، كما كانوا يمسحون الملوك ورؤساء الكهنة.

* وقد تعني كلمة مسحت بهذا أن أقنوم الحكمة قد تخصص أو تعين لعمل الخلقة (يو1: 1 - 3).

* ولكن هذه تشير لعمل المسيح الفدائي. فالإبن تحدد له عمل الفداء منذ الأزل داخل المشورة الثالوثية. ولنرى ما قيل بإشعياء النبى: تقدموا الىَّ اسمعوا هذا. لم أتكلم من البدء في الخفاء. منذ وجوده أنا هناك (الإبن الأزلى) والآن السيد الرب أرسلني وروحه (إش48: 16)، وفى (إش53) نرى عمل المسيح الفدائى بوضوح تام. وكون إشعياء النبى يذكر كل هذا قبل المسيح بـ 700 سنة تقريبا، فهذا يشير لأزلية الإبن وأزلية خطة الفداء بواسطة الإبن. فالمسيح مُسِحَ أي تحدد له دور وعمل الفداء منذ الأزل، وهذا ما قاله السيد المسيح نفسه وبنفس المعنى "فالذى قدسه الآب وأرسله إلى العالم.." (يو10: 36)، وهذا ما قاله القديس بطرس الرسول (1بط18: 1 - 20).

* والمسيح مُسِحَ ليكون ملكاً (مز6: 2).

* وليكون رئيسا للكهنة ليقدم ذبيحة نفسه.

* والمسيح أيضاً مُسِحَ أي تعيَّن ليكون دياناً للكل (أع42: 10).

ومن هنا نرى أزلية الثلاثة أقانيم. فالآب الماسح أزلي والابن الممسوح أزلي والروح القدس روح المسحة أزلي. والثلاثة أقانيم متساوون في الأزلية. مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ = قوله منذ البدء قد تشير إلى قبل تأسيس العالم، لكن قوله منذ الأزل قبل ذلك، فهي تشير لأزلية الإبن. منذ أوائل الأرض هذا يعنى منذ وضعت أسس الأرض. فلماذا إذن قال منذ البدء ثم يقول منذ أوائل الأرض = معنى الكلام أنه لا خليقة ولا أرض بدون المسيح، فعمل الخلق هو عمله، وسواء الخليقة الأولى أي السماء والأرض (تك1: 1)، أو الخليقة الجديدة بالفداء (2كو17: 5) فكلاهما عمله، هو خلق السماء والأرض وحينما سقط الإنسان جدد هو خلقته بل إن الله كخالق محب ظهرت صفاته هذه في خليقته هذه الجديدة.

إذ لم يكن غمر أُبْدِئْتُ = الغمر هو المياه الكثيرة. وكلمة أُبْدِئْتُ جاءت فى أصلها العبرى بمعنى وُلِدْتُ وهكذا جاءت فى الإنجليزية brought forth. وهى بالتالى ولادة أزلية، فما دمنا قد اتفقنا أن المسيح حكمة الله أزلى، يكون قوله أبدئت ليس بمعنى أن الآب أبدأه أي خلقه بل تكون الكلمة بمعنى تَعيَّنتُ لهذا العمل أي هو مولود من الآب كقوة حكمة خالقة، هو أقنوم الحكمة الخالقة، عمله هو الخلقة، خلقة المياه والجبال... الخ.

قبل أن تقررت الجبال = قبل أن تستقر الجبال.

ولا أول أعفار المسكونة = أول أتربة (ذرات تراب) المسكونة ولاحظ أن آدم الأول من التراب وآدم الأخير موجود قبل خلق التراب فهو ليس من الأرض (يو31: 3).

دائرة على وجه الغمر = مقبب السماء الذي يحيط بالأرض الذي يُرى كالدائرة أو القبة.

لَمَّا أَثْبَتَ السُّحُبَ مِنْ فَوْقُ = قبل أن يتم ضبط مياه الجلد من فوق (السحاب). وقبل أن تشددت ينابيع الغمر = وقبل أن تستقر مصادر المياه والينابيع.

كنت عنده صانعاً = فبه كان كل شئ.

كنت كل يوم لذته = الآب يحب الابن (يو20: 5). والإبن يحب الآب (يو14: 31). والإبن هو المحبوب (أف6: 1). فهناك حب من الآب للإبن، بل الآب هو مصدر الحب، فالله محبة، وهو ينبوع كل حب. هذه الآية تظهر أن المحبة لدى الآب كانت تنصب في الإبن بالروح القدس روح المحبة قبل خلق الخليقة. ولما إتحد الإبن بطبيعتنا البشرية إنسكبت هذه المحبة فينا بالروح القدس (رو5: 5). وهذه الآية حينما تأتى بعد أن رأينا الإبن أقنوم الحكمة يخلق العالم وكل ما خلقه كان حسن جدا (تك 1) يكون المعنى أن الآب فرح وتلذذ بعمله هذه الخليقة الجميلة. ويقول سليمان الحكيم فى سفر الحكمة "لأنك تحب جميع الأكوان ولا تمقت شيئا مما صنعت فإنك لو أبغضت شيئا لم تكونه" (حك11: 25). فالله أحب خليقته لذلك كونها وكان فرحا بما صنعته يداه.

والآب يحب الإبن = الآب في الابن. والإبن يحب الآب = الإبن في الآب. فكلمة يحب هي تعبير عن الوحدة بين الآب والابن بلغة المحبة التى هى طبيعة الله، لأن الله محبة. وبالتالي لايمكن القول أن الإبن أو الحكمة مخلوق فهو بالطبيعة متحد بالآب. والآب لا يمكن أن يخلق شيئا ليتحد به، فهذا يغير طبيعته وهو غير متغير.

فرحةً دائماً قدامه = المحبة بين الآب والإبن متبادلة = الآب فى الإبن والإبن فى الآب.

فرحة في مسكونة أرضه = هنا نرى سرور الإبن بخليقته ومحبته لها "رأى كل شئ أنه حسن" (تك4: 1، 12) ففي خلقة السموات والأرض ظهرت محبة الله للإنسان وتجلت قدرته ومحبته والله يفرح حين يُظْهِرْ للإنسان أنه يحبه وأنه خلق العالم لأجله.

هاتين الآيتين تطبيقهما المباشر فيما قاله السيد المسيح "كما أحبني الآب كذلك احببتكم أنا إثبتوا في محبتي يو 15: 9" والمعني أنه كما أنا متحد بالآب بالمحبة فأنا متحد بكم بالمحبة فجاهدوا أن تظلوا ثابتين في المحبة فتكونوا ثابتين فيَّ.

لذاتي مع بنى آدم = هنا نرى فرحة الإبن بفدائه للإنسان. فالله يحب الإنسان وكانت فرحته في عمل الصليب الذي به يتمم أعمال محبته من نحو الإنسان الذي يحبه، فيكون للإنسان نصيبه السماوي. والآية تشير أيضاً للذة الآب في إبنه الذي تجسد وأطاع حتى الموت موت الصليب وهو في جسد بنى آدم ليكمل عمل الفداء الذي به إشتم الله رائحة سرور (تك21: 8 + لا9: 1، 13، 17). ولذة الله مع بني آدم ظهرت في يوم معمودية المسيح، فالآب أعلن عن فرحته بعودتنا كأبناء له بعد أن صرنا خليقة جديدة في إبنه، فقال الآب من السماء "هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت".

الأعداد 32-36

الآيات (32 - 36): -

"32«فَالآنَ أَيُّهَا الْبَنُونَ اسْمَعُوا لِي. فَطُوبَى لِلَّذِينَ يَحْفَظُونَ طُرُقِي. 33اسْمَعُوا التَّعْلِيمَ وَكُونُوا حُكَمَاءَ وَلاَ تَرْفُضُوهُ. 34طُوبَى لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَسْمَعُ لِي سَاهِرًا كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ مَصَارِيعِي، حَافِظًا قَوَائِمَ أَبْوَابِي. 35لأَنَّهُ مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ الْحَيَاةَ، وَيَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ، 36 وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ. كُلُّ مُبْغِضِيَّ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ».".

طالما كان الإنسان هو لذة الله، ومن أجله صنع العالم، نجد هنا دعوة للإنسان ليطيع الله، هي دعوة مؤسسة على هذا الحب. فالله يطلب من الإنسان الخضوع لوصاياه، وكانت الصورة التى يتمناها الآب هى أن يتبادل الإنسان المحبة مع الله، الله يعلن محبته فى كل الخيرات التى صنعها للإنسان، والإنسان يعلن محبته فى الثقة فى الله وأن وصايا الله هى لحياته (والإنسان بخطيته تمرد على طاعة الله والمسيح أتى ليعيد خضوعنا لله ثانية، أي يعيدنا للصورة التي كان يريدها الآب 1كو28: 15 المسيح هنا كرأس للكنيسة يقدم الخضوع) فالحكمة تنادي، أي المسيح ينادي ومن له أذنان للسمع فليسمع فيجد لنفسه حياة أبدية = من يجدني يجد الحياة = فالمسيح هو القيامة والحياة + (يو36: 3 + يو51: 8 + 1يو12: 5) ومن يخطئ عني = يخطئ أى لا يصيب الهدف، فنفهم أن هدفنا أن نجد المسيح أى نطيعه فنكافأ (رو3: 23)، إذاً يخطئ هي عكس قوله من يجدني، ومعناها من بخطيته يرفضني ويحيد عني فأنا الطريق (لو30: 7 + يو19: 3، 20 + يو22: 15 - 25) ومن يحيد عن طريق الحياة فمصيره الموت. وهذا هو نفس التحذير في (تث18: 18، 19) عن المسيح أيضاً.

عند مصاريعي = نقف على أبواب الحكمة نسأل أن نتعلم، ومن يقرع يفتح له.. أسألوا تعطوا بل نقف على أبواب الحكمة نسأل بلجاجة كشحاذين يطلبون صدقة. وما نسمعه نحفظه في عقولنا وقلوبنا = حافظاً قوائم أبوابي = كان هذا عمل اللاويين، فهم كانوا ليلاً ونهاراً يسهرون على حراسة أبواب المسكن (حتى لا يدخل المسكن، أى هيكل الله، شئ نجس). وهذا واجبنا نحو أنفسنا أن نسهر لنحرس قلوبنا من أن يتسلل داخلها أي نجاسة أو يتسلل منها إلى خارج كلمة الله وحكمته التي سألناه فأعطانا إياها.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الاصحاح التاسع - سفر الأمثال - القمص أنطونيوس فكري

الاصحاح السابع - سفر الأمثال - القمص أنطونيوس فكري

تفاسير سفر الأمثال الأصحاح 8
تفاسير سفر الأمثال الأصحاح 8