الأَصْحَاحُ الثَّانِى عَشَرَ – إنجيل يوحنا – مارمرقس مصر الجديدة

هذا الفصل هو جزء من كتاب: انجيل يوحنا – كهنة و خدام كنيسة مارمرقس مصر الجديدة.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الأَصْحَاحُ الثَّانِى عَشَرَ

سكب الطيب دخول المسيح أورشليم حديـث المسيح عن فدائـه ودينونته.

(1) سكب الطيب (ع 1 - 11):

1 - ثم قبل الفصح بستة أيام، أتى يسوع إلى بيت عَنْيَا، حيث كان لعازر الميت الذى أقامه من الأمـوات. 2 - فصنعوا له هنـاك عشـاءً، وكانت مرثا تخـدم، وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. 3 - فأخذت مريم مَنًا من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمى يسوع، ومسحت قدميه بشعرها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. 4 - فقال واحد من تلاميذه، وهو يهوذا سِمعان الإسخريوطى المزمع أن يسلمه: 5 - "لماذا لم يُبَعْ هذا الطيب بثلاث مئة دينار وَيُعْطَ للفقراء؟" 6 - قال هذا، ليس لأنه كان يبالى بالفقراء، بل لأنه كان سارقا، وكان الصندوق عنده، وكان يحمل ما يُلقَى فيه. 7 - فقال يسوع: "اتركوها، إنها ليوم تكفينى قد حفظته. 8 - لأن الفقراء معكم فى كل حين، وأما أنا فلست معكم فى كل حين." 9 - فعلم جمع كثير من اليهود أنه هناك، فجاءوا، ليس لأجل يسوع فقط، بل لينظروا أيضا لعازر الذى أقامه من الأموات. 10 - فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضا. 11 - لأن كثيرين من اليهود كانوا، بسببه، يذهبون ويؤمنون بيسوع.

الأعداد 1-2

ع1 - 2:

كان الاحتفال بالفصح اليهودى فى 14 نيسان (أبريل)، وبالتالى وصول المسيح إلى بيت عَنْيَا (العناء)، كان يوم الجمعة بعد الغروب، فيحسب سبتا. أما وليمة العشاء، فقد كانت فى بيت سِمعان الأبرص الذى شفاه الرب يسوع (مت 26: 6؛ مر 14: 3). وذكر القديس يوحنا حضور لعازر هذه الوليمة، تأكيدا على قيامته، وكذلك أخته مرثا، التى جاءت لتساعد وتخدم فى هذا العشاء.

العدد 3

ع3:

أما مريم أخت مرثا، فقد أحضرت قارورة طيب مقدارها مَنَا، وهو الرطل الرومانى، ويعادل ثلث الكيلو أو ثلث اللتر تقريبا. والناردين من الأطياب الثمينة التى ذُكرت فى سفر النشيد، وكان فخر لمن يقتنيه لجودته وارتفاع ثمنه. وكان من الشائع فى تكريم العظماء، سكب القليل من الأطياب على الرأس. أما ما صنعته مريم، فقد فاق الكثيرين، حيث استخدمت أغلى الأطياب على الإطلاق، ولم تكتف بالرأس فقط، بل برجلى الرب أيضا، مما يوضح حبها وعرفانها بما صنع الرب يسوع فى إقامة أخيها، وقدمت أيضا اتضاعا بمسح قدميه بشعرها. وامتلاء البيت من الرائحة، دليل على جودة هذا النوع من الأطياب، وكذلك وفرة الكم الذى استخدمته مريم.

أيها الحبيب، إن ما قدمته مريم لم يكن طِيبا، بل هو قلب محب ومتضع؛ والله لا يقبل تقدمة من إنسان إن خلت من الحب والاتضاع (1كو 13). ولهذا، رفض صلاة الفريسى، وقَبِلَ صلاة العشـار. فالله، فى غنـاه، لا يحتاج لتقدماتنا فى شئ. ولكن فى حبه لنا، يفرح أيضا بحبنا. فاحرص أيها الحبيب، قبل أن تقدم وقتا أو شيئا لله، أن تقدم قلبا محبا وفكرا متضعا، حتى يقبل الله ما تقدمه.

الأعداد 4-6

ع4 - 6:

فى (مت 26: 8، 9؛ مر 14: 4، 5)، ذكر الإنجيليون حدوث شئ من الاعتراض على تصرف مريم. أما يوحنا، فيوضح أن المحرض على هذا الاعتراض هو يهوذا، ويوضح علة اعتراضه، كاشفا السبب الحقيقى، وهو إنه سارق للصندوق وخائن للأمانة، وإن ادعى غير ذلك متحججا بخدمة الفقراء، فهو لم يكشف سوى غيظه لضياع هذا المبلغ من تحت يديه. ومن ناحية أخرى، يكشف لنا القديس يوحنا أن قيمة هذا الطيب 300 دينار، وكان معلوما أن أجرة العامل فى اليوم دينارا واحدا (مت 20: 10)، أى ما قدمته مريم هو أجرة رجل لمدة عام تقريبا.

الأعداد 7-8

ع7 - 8:

لم يقصد المسيح أى إنقاص من خدمة الفقراء (ع8)، ولكنه قال هذا ليرد على المعترض الذى يعرف نواياه جيدا من ناحية، ولكى لا يقلل من قيمة عمل المحبة المقدم من مريم لشخصه من ناحية أخرى. ولهذا، نجد أن الرب بدأ كلامه بقوله "اتركوها" بصفة الجمع، أى أن ما أبداه يهوذا من اعتراض، وافق عليه أكثر الجالسين. وعبارة "يوم تكفينى"، كانت إشارة نبوية للأحداث الآتية، وإن لم يفهمها الحاضرون. ويرى البعض أن المسيح يشير إلى أن رحلة الموت، قد بدأت فعلا بزيارته بيت عَنْيَا، وصعوده الأخير لأورشليم.

الأعداد 9-11

ع9 - 11:

صار لعازر، القائم من الأموات، أشد الأدلة على أن الرب يسوع هو المسيح المنتظر. ولهذا، يشير القديس يوحنا إلى أن هذا الدليل الحى، كان سببا لتوافد الكثيرين من اليهود على بيت عَنْيَا، لمشاهدة ومعاينة هذا القائم من الأموات. ويوضح يوحنا أيضا، مدى الشر الذى وصل إليه رؤساء الكهنة فى أنهم أرادوا قتل إنسان برئ، وهو لعازر، للتخلص من هذا الإثبات الدامغ، بدلا من أن يصدقوا ويؤمنوا بشخص المسيح المخلص.

يا إلهى، أبهذا المقدار يمكن أن يقلب القلب الشرير الحقائق، وينساق وراء أحقاده؟! أرجوك يا رب، أبعد عنا وعن كل شعبك كل حروب الشرير، التى تعبث بالعقول والقلوب، فتجعل منا قضاة ظلم عميان.

(2) دخول المسيح أورشليم (ع 12: 19):

12 - وفى الغد، سمع الجمع الكثير الذى جاء إلى العيد، أن يسوع آتٍ إلى أورشليم. 13 - فأخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه، وكانوا يصرخون: "أوصنا، مبارك الآتى باسم الرب ملك إسرائيل." 14 - ووجد يسوع جحشا فجلس عليه، كما هو مكتوب: 15 - "لا تخافى يا ابنة صِهْيَوْنَ، هوذا ملكك يأتى جالسا على جحش أتان." 16 - وهذه الامور لم يفهمها تلاميذه أولا، ولكن لما تمجد يسوع، حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه، وأنهم صنعوا هذه له. 17 - وكان الجمع الذى معه، يشهد أنه دعا لعازر من القبر وأقامه من الأموات. 18 - لهذا أيضا لاقاه الجمع، لأنهم سمعوا أنه كان قد صنع هذه الآية. 19 - فقال الفريسيون بعضهم لبعض: "انظروا، إنكم لا تنفعون شيئا، هوذا العالم قد ذهب وراءه.".

الأعداد 12-13

ع12 - 13:

يمكن مراجعة احتفال الاستقبال مع (مت 21: 1 - 11؛ مر 11: 1 - 11).

"الغد": هو نهار الأحد، وقد صار معلوما لدى الجموع، وهم يهود أورشليم والجليل وعبر الأردن، قدوم المسيح الذى لا شك فيه، وهى معلومة مصدرها كل من حضر أو تناقل الخبر فى وليمة سِمعان فى بيت عَنْيَا.

"سعوف النخل": كان من العادة استقبال العامة للقادة المنتصرين فى الحروب بسعوف النخل، تعبيرا عن فرحهم ونشوتهم بالخلاص والانتصار. وهذا الموكب الاحتفالى العظيم، كان له الأثر فى التعجيل بأحداث الصليب، بما سببه من ألم لرؤساء الكهنة والفريسيين.

"أوصنا"، فمعناها "خلصنا". ولكن هذا ليس معناه بالضرورة إيمان الجمع بأن الرب يسوع هو المسيح الفادى، بل لعل البعض رأى فيه معلما ونبيا يستحق الإكرام، والبعض الآخر اعتقد أنه مخلّص سياسى يحرر الأمة اليهودية من الرومان.

الأعداد 14-15

ع14 - 15:

لم يركز القديس يوحنا على تفاصيل الحصول على الجحش كما ذكره باقى البشيرون، بل اكتفى بالتصوير الإجمالى لمنظر دخول المسيح أورشليم. كما يشير فى (ع15) إلى النبـوة المتعلقة بركوب المسـيح للجحش فى (زك 9: 9) دون تفصيلها، بعكس القديس متى فى (21: 5)، وذلك لأن القديس يوحنا يركز بالأكثر على الجانب الخلاصى اللاهوتى فى الأحداث، وليس التاريخى. أما القديس متى، فكان إنجيله موجها للأمة اليهودية، فكان لزاما عليه الإسهاب، والربط أكثر بنبوات العهد القديم التى تتنبأ عن شخص المسيح، لإثبات شخصيته.

العدد 16

ع16:

المقصود أنه فى وقت دخول المسيح أورشليم، وركوب الجحش، لم يكن ببال التلاميذ أن هذا هو نفس المشهد الذى رآه وتنبأ به زكريا منذ 500 عام. ولكن، لما تمجد يسوع، فهموا معناها بعد قيامته وصعوده، وتعنى أيضا بعد حلول الروح القدس على التلاميذ، والذى بحلوله انفتحت عيون قلوبهم، فاكتشفوا وربطوا كل نبوات العهد القديم بأحداث حياة المسيح على الأرض، وعمله الخلاصى.

الأعداد 17-19

ع17 - 19:

يوضح القديس يوحنا أقوى أسباب فرح الجموع وتزاحمهم على استقبال الرب يسوع، وهو شهادة وتأكيد الجموع بأنه أقام لعازر من القبر. ومن جهة أخرى، ينقلنا لما كان يدور فى قلوب وأفكار الفريسيون من حقد، استفز بعضهم بعضا، فى ضرورة التحرك لمواجهة ذلك الذى ذهب الجميع وراءه. وبدلا من التأكد واتباع الحق، كان خوفهم على ضياع مكانتهم كمعلمين ذوى مكانة بين الشعب، هو همهم الأكبر.

(3) الموت والحياة (ع 20 - 26):

20 - وكان أناس يونانيون من الذين صعدوا ليسجدوا فى العيد. 21 - فتقدم هؤلاء إلى فيلبس الذى من بيت صيدا الجليل، وسألوه قائلين: "يا سيد، نريد أن نرى يسوع." 22 - فأتى فيلبس وقال لأندراوس، ثم قال أندراوس وفيلبس ليسوع. 23 - وأما يسوع، فأجابهما قائلا: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. 24 - الحق الحق أقول لكم، إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتَمُتْ، فهى تبقى وحدها. ولكن، إن ماتت، تأتى بثمر كثير. 25 - من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه فى هذا العالم، يحفظها إلى حياة أبدية. 26 - إن كان أحد يخدمنى، فليتبعنى، وحيث أكون أنا، هناك أيضا يكون خادمى. وإن كان أحد يخدمنى، يكرمه الآب.

الأعداد 20-22

ع20 - 22:

المقصود هنا باليونانيين ليسوا الأمم عبدة الأوثان، ولكنهم إما من الأمم المتهودين، أو اليهود الذين عاشوا لفترة طويلة فى بلاد اليونان، وقد صعدوا لأورشليم لتقديم الذبائح فى الهيكل، والاحتفال بالفصح. ونفهم أن ما سمعوه عن شخص الرب يسوع ومعجزاته وتعاليمه، كان سبب بحثهم عنه إلى أن استدلوا على أحد تلاميذه، وهو فيلبس، الذى أبلغ بدوره أندراوس، وذهب كلاهما للمسيح لإطلاعه على رغبة اليونانيين.

العدد 23

ع23:

إجابة المسيح هنا كانت للتلميذين، وكذلك لليونانيين والجمع المستمع، وكانت بداية التنبؤ بقرب الخلاص الذى يقدمه المسيح. ولما كانت أفكارهم محصورة فى الملكوت والمجد الأرضى، بدأ المسيح حديثه بما هو فى أذهانهم، ليرفعهم للفهم الروحى. وتعبير "ليتمجد ابن الإنسان"، معناه إعلان مجده الأول السمائى، الذى كان مخفيا بالتجسد. وطريقة إعلان هذا المجد هى الصليب، ثم القيامة، فالصعود.

العدد 24

ع24:

هذا العدد توضيح لطريقة تمجيد ابن الإنسان، فاستخدم السيد المسيح هنا مثلا بحبة القمح التى تشير إليه فى تجسده، فكل مجد وقيمة هذه الحبة فى أن تدفن فى التربة ويكتنفها موت الأرض، فالذى يراه الناس موتا لحبة القمح، هو مصدر الحياة نفسها، إذ سوف تقوم وتحيا من موتها. وعند قيامها، فهى مصدر الشبع والحياة لكل من يقتات بها. وهذا ما أراد أن يوضحه المسيح للجموع، بفاعلية موته ومنحه الخلاص لكل من يقبل فدائه على الصليب، ويأكل جسده فى التناول.

العدد 25

ع25:

بعد أن تحدث المسيح عن نفسه، يوجه تعليما روحيا عاما، يعتبر من قوانين الحياة المسيحية، فكل ارتقاء لمستوى روحى أعلى، يتطلب خسارة فى الماديات، وهى الأقل، فالحياة الأبدية بكل مجدها وبهائها، تتطلب التضحية بكل ما يعيق الوصول إليها. فإذا كان الجسد، أو شهوات النفس المختلفة، تربط الإنسان بالعالم وتفقده السماء، فعلى الإنسان إذن أن يقاوم، بل ويضحى بأى شئ، حتى حياته نفسها، من أجل الميراث الدائم والأبدى؛ وهذا ما قصده السيد المسيح بكلمة "يهلكها". وهذا الإيمان هو ما جعل أباؤنا الشهداء القديسون يُقْدِمُونَ على الموت بمنتهى الشجاعة واللامبالاه من سطوة الحكام؛ فمن يضع الحياة الأبدية نصب عينيه لا يخشى شيئا.

العدد 26

ع26:

أى من أراد أن يكون مسيحيا حقيقيا، وتلميذا وخادما لوصية المسيح، عليه أن يتبع سيده ومعلمه فى كل ما فعله. فإذا كان السيد قد بذل نفسه وأماتها من أجل فداء الآخرين، فعلى الخادم الأمين الاقتداء به. وقد ربط المسيح ذلك أيضا بالمكافأة، وهى الوجود الدائم للمسيحى الأمين فى حضن سيده، وتكريم الآب السماوى له. ولا نعتقد أن هناك لغة أو تصور تقرب لنا معنى هذا الإكرام الأبدى، غير المحدود بالزمن أو الحجم، سوى الثقة فى كل ما يقوله السيد المسيح، فى أن ما يتركه الإنسان هنا، أو يتحمله من أجل المسيح، له هذه المكافأة وهذا الإكرام.

(4) المسيح يتحدث عن موته وآثاره (ع 27: 36):

27 - الآن، نفسى قد اضطربت، وماذا أقول أيها الآب، نجنى من هذه الساعة؟ ولكن، لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة. 28 - أيها الآب، مجد اسمك. "فجاء صوت من السماء:" مَجَّدْتُ وأُمَجِّدُ أيضا. "29 - فالجمع الذى كان واقفا وسمع، قال:" قد حدث رعد. "وآخرون قالوا:" قد كلمه ملاك. "30 - أجاب يسوع وقال:" ليس من أجلى صار هذا الصوت، بل من أجلكم. 31 - الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطْرَحُ رئيس هذا العالم خارجا. 32 - وأنا، إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلىّ الجميع. "33 - قال هذا، مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعا أن يموت. 34 - فأجابه الجمع:" نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت إنه ينبغى أن يرتفع ابن الإنسان، من هو هذا ابن الإنسان؟ "35 - فقال لهم يسوع:" النور معكم زمانا قليلا بعد، فسيروا ما دام لكم النور، لئلا يدرككم الظلام، والذى يسير فى الظلام، لا يعلم إلى أين يذهب. 36 - ما دام لكم النور، آمنوا بالنور، لتصيروا أبناء النور. "تكلم يسوع بهذا، ثم مضى واختفى عنهم.

العدد 27

ع27:

المقصود بالنفس هنا هو مركز الانفعالات العاطفية، المسيح يعلم ساعة صلبه وموته واقترابها، لكنه كإنسان كامل، يعبّر عن مشاعره الإنسانية بالاضطراب، فهو بين أمرين هامين: أمر ترفضه النفس البشرية العادية، وهو الموت الذى سيخضع له ليتمم فدائنا، ثم ينتصر عليه بقيامته لإتمام خلاصنا، وبين ما تريده الروح البارة والخاضعة للآب السماوى فى تدبيره.

ولهذا، كان الجزء الثانى من الآية "ماذا أقول... نجنى من هذه الساعة؟" وكأن الروح تعلم، وتجيب وتقوّى النفس على انفعالها، مؤكدة أن من أجل هذه الساعة، التى تتعلق بها كل البشرية، أتى المسيح.

الأعداد 28-29

ع28 - 29:

يقول القديس ذهبى الفم وأغسطينوس أن إرادة الابن هى تمجيد اسم الآب، والطريق هو الموت والألم وفداء البشر الهالكين، واقتيادهم للسماء، فيمجدون اسم الآب على الأرض، ثم فى السماء، تمجيدا أبديا، فيرد الآب على الابن: "مَجَّدْتُ وأُمَجِّدُ"، ومعناها أنه من خلال حياة المسيح وشهادته المتكررة عن الآب، وتعاليمه عن العلاقة السرية بينهما، وصنعه المعجزات، مجد الابن الآب بهذه الطريقة، ومجد الآب ابنه الوحيد بالشهادة له أيضا. فالآب أعلن مجد الابن:

أولا: فى المعمودية (مت 3: 17).

ثانيا: فى التجلى (مت 17: 5).

ثالثا: فى هذه الآية "مَجَّدْتُ وأُمَجِّدُ".

فالمجد بين الآب والابن مجدا واحدا ومتبادلا (ص 13: 31، 32؛ ص 14: 13).

"وأُمَجِّدُ": تعنى صعود المسيح للسماء.

أما الجمع، فعندما سمعوا هذا الصوت، اعتقد البعض، بسبب المفاجأة وعدم التوقع، أنه صوت رعد؛ أما البعض الآخر الذى ميز الكلمات، فظنوا أنه صوت ملاك من السماء.

العدد 30

ع30:

أجاب المسيح على من ظنوا أن ملاك يكلمه، قائلا إن هذا الصوت لكم أنتم لتؤمنوا، فأنا لست فى احتياج له، ولا أشك فى مجد اسم أبى أو مجدى، بل لإزالة شكوكم أنتم نحوى.

العدد 31

ع31:

"دينونة هذا العالم": ليست الدينونة الأخيرة، ولكنها دينونة رفض المسيح، ودينونة العالم الوثنى، ودينونة مملكة الشيطان الذى امتلك زمام الأمور فى العالم، فإنها دينونة إعلان إثم العالم كله.

"يُطْرَحُ... خارجا": أى، نتيجة الدينونة الأولى، يتقيد الشيطان فى سلطانه على العالم – بصلب المسيح – ويُطرح خارجا؛ وهذا ما فسره القديس بولس عن عمل المسيح على الصليب نحو الشيطان "إذ جرد الرياسات، والسلاطين أشهرهم جهارا، ظافرا بهم فيه" (كو 2: 15).

فلا سلطان إذن للشيطان على أبناء الله المؤمنين باسمه والعاملين بوصاياه.

الأعداد 32-33

ع32 - 33:

"إن ارتفعت عن الأرض": بالصليب معلقا، أجذب لنفسى ولأعلى الجميع. فالإنسان دون المسيح مكبل بقيود الخطية والحياة المادية، ولكن بالمسيح، وفى الصليب فقط، يجتذب هذا المصلوب كل ضحايا رئيس العالم الشرير، ليضمنا فى حضنه وإلى صدره إلى أعلى، لنتحرر من كل ما هو من أسفل، ونتمتع بالحياة معه، التى تبدأ هنا ولا تنتهى هناك.

فليتنا جميعا، برغبة أكيدة، نمد أيدينا إلى مسيحنا ذبيحتنا، ونلتقى معه فى مذبحه، لنأخذ قوتنا منه. وحينئذ، نستطيع أن نطأ العالم والشيطان تحت أقدامنا.

العدد 34

ع34:

واجهت الجمع صعوبة، وهى إشارة المسيح إلى موته معلقا من جهة، وبين ما تعلموه من الناموس من أن مُلك المسيح مُلك أبدى أرضى (دا 7: 14؛ مز 110: 4؛ إش 9: 7)، والمشكلة فى الفهم الخاطئ. إن كل النبوات تتكلم عن الملكوت الروحى الأبدى للمسيح، وليس الزمنى. وهذا هو سبب قوله لبيلاطس فيما بعد: "مملكتى ليست من هذا العالم" (ص 18: 36).

"من هو هذا ابن الإنسان؟": سؤال تعجبى! فالمسيح استخدم هذا التعبير عن نفسه مرارا، وهو نفس التعبير الذى استخدمه دانيال فى نبوته لوصف المسيح (دا 7: 13). إذن، ماذا تقصد بهذا الاستخدام؟! فهل أنت المسيح الأبدى، أم أنك إنسان عادى قابل للموت؟

العدد 35

ع35:

أجاب المسيح إجابة غير مباشرة، مشيرا إلى اقتراب موته، واصفا نفسه بالنور، وهو ما سبق وقاله فى (ص 8: 12). وأيضا يحثهم على اغتنام الفرصة فى التمسك بهذا النور، لئلا يدركهم الظلام برفضهم لهذا النور.

والسائر فى الظلام، هو إنسان تائه فاقد للطريق والهدف، وهذا هو الحال حتى الآن لكل من يبعد عن المسيح وكنيسته. فخارج الكنيسة، التى هى سفينة النجاة، لا يوجد سوى دوامات العالم المادية والفكرية، التى تبتلع الإنسان بعيدا عن صوت المسيح، فيغرق وتختنق روحه، بينما يظن أنه يَعْلَمُ الطريق الصحيح ويسير فيه. والنتيجة، للأسف، هى فقده لخلاص نفسه.

العدد 36

ع36:

لا زال المسيح يحثهم على الإيمان به، واستغلال فرصة تواجده معهم، حتى لو كانت قليلة. ويضيف أيضا أن من يتبعه فى طريقه، ويطيع وصاياه، يصير هو ابنا للنور، أى حاملا خصائص النور الحقيقى، عاكسا لهذا النور لكل من حوله.

فيرى الناس فى الإنسان المسيحى البر والطهارة والأمانة وسائر الفضائل. فهل نحن كذلك؟

"ثم مضى واختفى عنهم": تفيد نهاية الحديث، واختلائه بنفسه بعيدا عن الجموع، كما جاء فى (ص 8: 59). وقد اعتاد الرب يسوع، خلال حياته على الأرض، على هذه الخلوات الروحية.

(5) أسباب عدم إيمان اليهود (ع 37 - 43):

37 - ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها، لم يؤمنوا به. 38 - ليتم قول إشعياء النبى الذى قاله: "يا رب مَن صدّق خبرنا، ولمن اسْتُعْلِنَتْ ذراع الرب؟" 39 - لهذا، لم يقدروا أن يؤمنوا، لأن إشعياء قال أيضا: 40 - "قد أعمى عيونهم، وأغلظ قلوبهم، لئلا يبصروا بعيونهم، ويشعروا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم." 41 - قال إشعياء هذا، حين رأى مجده، وتكلم عنه. 42 - ولكن، مع ذلك، آمن به كثيرون من الرؤساء أيضا، غير أنهم، لسبب الفريسيين، لم يعترفوا به، لئلا يصيروا خارج المجمع. 43 - لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله.

العدد 37

ع37:

"هذا عددها": يوضح القديس يوحنا كثرة وتعدد وتنوع المعجزات التى صنعها الرب يسوع. ومع هذا، لم يؤمن أكثر اليهود، ليوضح قساوة قلوبهم. وهذا التعبير يفيد أيضا التعجب والاستغراب من رد فعل اليهود على كل ما صنع الرب.

الأعداد 38-39

ع38 - 39:

يدفع القديس يوحنا عنا الاستغراب والتعجب فى موقف اليهود من المسيح، ويقول لنا: ألم يسبق إشعياء وقال أنهم رفضوا تصديق نبواته، ورفضوا أيضا ذراع الرب الممدودة للخلاص؟ فموقفهم الآن فى رفض المسيح لم يختلف عن موقفهم فى زمن إشعياء من رفض الله وفدائه لشعبه (إش 53: 1). ويقدم أيضا القديس يوحنا فى (ع40) نبوة جديدة تنبأ بها إشعياء، توضح أيضا علة رفضهم للمسيح.

العدد 40

ع40:

هذه النبوة مأخوذة من (إش 6: 9، 10)، ونقلتها الأناجيل بشئ من التصرف (مت 13: 13 - 15؛ مر 4: 12؛ لو 8: 10)، والمقصود ليس أن الله هو سبب قساوة قلوبهم، بل كثرة تذمرهم ورفضهم لله وعدم سماعهم له، هى التى أطمست عيونهم وقلوبهم عن أعمال الله فى زمن إشعياء، ومعجزات وتعاليم المسيح فى زمانه. ولهذا، فمسؤلية الرفض تعود على اليهود غلاظ الرقاب والقلوب، بعد أن استوفى معهم الله كل محاولة.

العدد 41

ع41:

"رأى مجده": مقصود بها مجد المسيح، والكلام يعود لرؤية إشعياء (6) التى رأى فيها مجد الله وحوله الشاروبيم والسيرافيم يصرخون: "قدّوس قدّوس قدّوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض" (ع3). ولما كان الكتاب المقدس يشهد أن الآب لم يره أحد (ص 1: 18)، وبالتالى يكون الذى رآه إشعياء، هو الله الابن، أى المسيح.

الأعداد 42-43

ع42 - 43:

يعود القديس يوحنا ويوضح أن لكل قاعدة استثناء. فإذا كان معظم اليهود لم يؤمنوا بالمسيح، كان هناك أيضا من آمنوا به من بين مجلس السبعين، وهو أعلى مجلس يهودى، وكان يُطلق عليهم الرؤساء، ومن أمثلة هؤلاء الذين آمنوا، نيقوديموس ويوسف الرامى، اللذين ظهر إيمانهما بعد أحداث الصلب. ولكن، بسبب الخوف من الفريسيين وسطوتهم الدينية والاجتماعية، لم يستطع أحد إعلان إيمانه (راجع ص 7: 3؛ ص 9: 22؛ ص 19: 38؛ ص 20: 19).

ويوضح القديس يوحنا أيضا سببا يجعل الكثيرين ينكرون إيمانهم، أو على الأقل لا يعلنونه، وهو رغبتهم فى الحفاظ على محبة ومدح الناس لهم، حتى لو كان هذا على حساب الله. فلا تنحدر يا أخى إلى هذه العلاقات أو المساومات، حبا فى منصب أو كرامة، وتذكر قول بطرس والرسل أنه "ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس" (أع 5: 29)، مهما كان الإغراء، أو مهما كان التهديد.

(6) دينونة عدم الإيمان بالمسيح (ع 44 - 50):

44 - فنادى يسوع وقال: "الذى يؤمن بى، ليس يؤمن بى، بل بالذى أرسلنى. 45 - والذى يرانى، يرى الذى أرسلنى. 46 - أنا قد جئت نورا إلى العالم، حتى كل من يؤمن بى، لا يمكث فى الظلمة. 47 - وإن سمع أحـد كلامى ولم يؤمـن، فأنا لا أدينه، لأنى لم آت لأديـن العالم، بل لأخلّص العالم. 48 - من رذلنى ولم يقبل كلامى، فله من يدينه؛ الكلام الذى تكلمت به، هو يدينه فى اليوم الأخير. 49 - لأنى لم أتكلم من نفسى، لكن الآب الذى أرسلنى، هو أعطانى وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم. 50 - وأنا أعلم أن وصيته هى حياة أبدية، فما أتكلم أنا به، فكما قال لى الآب هكذا أتكلم.".

الأعداد 44-45

ع44 - 45:

"فنادى يسوع": وذلك فى مكان آخر، ولكنه فى نفس اليوم. وجاء ما سوف يقوله الرب فى هذه الأعداد، إجمالا لما سبق وقاله فى آيات سابقة، وخاصة (ص 5؛ ص 7؛ ص 8؛ ص 10)، وملخصه هو وحدانيته مع الآب المرسل منه، فالإيمان بالابن هو الإيمان بالآب، وإنكار أحدهما هو إنكار للآخر. ويضيف المسيح بأن من رآه قد رأى الآب، لأن الاثنين واحد فى اللاهوت (ص 14: 9)، وهذا دليل قوى على المساواة؛ فمن يجرؤ من البشر أو أكبر أنبياء اليهود أو رؤساء الملائكة، على التصريح بأنه صورة الآب المنظورة، غير المسيح له المجد؟ لأنه: رسم جوهر الآب، كما يصفه القديس بولس فى الرسالة للعبرانين (3).

العدد 46

ع 46: هذا ما سبق وأعلنه المسيح فى (ص 8: 12) {راجع التفسير}. ويمكننا أيضا اختصار القول فى أن المسيح هو نور العالم الوحيد، وبعيدا عنه لا يوجد سوى ظلمة مهلكة وجهالة الضلال. ونور المسيح هو نور اختبارى فى حياة كل أبنائه القديسين، فالحديث عن نور المسيح شئ والحياة داخله شئ آخر.

العدد 47

ع47:

"لم آت لادين العالم": {راجع ص 8: 15} الغرض من تجسدى الآن ليس القصاص أو الدينونة، بل خلاص العالم، بشرط الإيمان بى والعمل بوصاياى؛ فالدينونة للبشر ترتبط بالمجئ الثانى للسيد المسيح.

العدد 48

ع48:

أما الرافضون لكلامى، أو الإيمان بى، فلهم دينونة عظيمة. وكل كلمة وتعليم وعمل صنعته ولم يقبلوه، سيكون شاهدا عليهم فى إدانتهم.

وهذا يوضح لنا جميعا أن الدينونة الإلهية ليست بمحاباة أو لمختارين دون آخرين، بل لها معيار، وهو الإيمان بكلام المسيح والعمل به بقدر الاستطاعة، فى حياة من الجهاد الروحى لا تعرف الكلل.

العدد 49

ع49:

(راجع شرح 5: 30، 7: 16 - 18) فالآب هو مصدر كل شئ، والابن وسيلة إعلانه وتوصيله، والاثنان واحد فى الجوهر ومتساويان.

العدد 50

ع50:

"وأنا أعلم": وعِلْمُ المسيح هنا، يفوق كل علم البشر. وبالتالى، ما يعلنه هو الحق كله، أى أن طريق الوصول للأبدية، هو العمل بالوصية والحياة بها. فالإيمان النظرى لا يخلّص صاحبه، وما فائدته إن لم يتحوّل لحياة مُعاشة.

وهذا الكلام لنا جميعا، فالمسيحية ليست مجموعة من الفرائض، بل هى طاعة حب لله فى وصيته، ومَن يحتمل تعب تنفيذ الوصية، يعطيه المسيح اختبار عربون الحياة الأبدية، هنا على الأرض، بحسب غنى عمل نعمته فينا.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

تفاسير إنجيل يوحنا - الأَصْحَاحُ الثَّانِى عَشَرَ
تفاسير إنجيل يوحنا - الأَصْحَاحُ الثَّانِى عَشَرَ