الأصحاح التاسع والأربعون – سفر إشعياء – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 27- تفسير سفر إشعياء – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الأصحاح التاسع والأربعون

إرسَالية المخُلِّص.

في الأصحاح السابق يعلن المخلص عن إرساليته قائلاً: "والآن السيد الرب أرسلني وروحه" (إش 48: 16). الآن يتحدث عن هذه الإرسالية الفريدة التي فيها يُخلي الابن ذاته لكي يمجدنا فيه، نازعًا عار المذلة، فيُقيمنا عروسًا سماوية وملكة تجلس مع المسيح الملك، مشبعًا كل احتياجاتنا.

1. اتضاع المخلص وتمجيده [1 - 7].

2. عمله الخلاصي [8 - 13].

3. إقامة المتروكة عروسًا [14 - 21].

4. إقامة الذليلة ملكة [22 - 23].

5. الله فادي كنيسته [24 - 26].

الأعداد 1-7

1. اتضاع المخلص وتمجيده

في الأصحاح السابق كان الحديث موجهًا إلى بيت يعقوب المدعوين باسم إسرائيل (إش 48: 1)، أما الحديث هنا فموجه إلى الأمم، إذ يقول: "اسمعي ليّ أيتها الجزائر، واصغوا أيها الأمم من بعيد" [1]. فقد دُعى الأمم "جزائر الأمم" (تك 10: 5)، إذ كانوا يتطلعون إلى جزائر البحر الأبيض المتوسط بكونها المناطق البعيدة الغربية والغريبة عن إسرائيل؛ وقد دعى الأمم "من بعيد" لأنها لم تدخل في شركة مع إسرائيل.

يتحدث السيد المسيح المخلص إلى الأمم معلنًا الآتي:

أ. مدعو من البطن: "الرب من البطن دعاني" [1]. يظن بعض الدارسين أن المتحدث هنا باسم إسرائيل بكون الله اختار شعبه قبل أن يوجد، وهو في صلب إبراهيم وفي أحشاء سارة؛ وظن البعض أنه كورش الذي أختاره الله لتحقيق رسالته قبل أن يوجد؛ لكن الواضح أن الحديث هنا باسم السيد المسيح، كلمة الله المتجسد؛ فقد كرز رئيس الملائكة جبرائيل للعذراء بميلاده قبل أن تُحبل به ودُعى يسوع لأنه يُخلص شعبه من خطاياهم (مت 1: 21)، لذا قيل "من أحشاء أمي ذكر أسمي" [1].

ب. صاحب سلطان: "وجعل فمي كسيف حاد" [2]. وقد قيل عن السيد المسيح:

"وسيف ماضِ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16)، كما قيل عنه أنه كان يتكلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين (مت 7: 29). لقد دخل المعركة ضد عدو الخير إبليس بكلمته التي هي كسيف ذي حدين (عب 4: 12).

ج. اختفاء سرّ المسيح وعمله الخلاصي الإنجيلي ودعوته الأمم للإيمان وراء ظلال الناموس الموسوي والنبوات، إذ يقول "في ظل يده خبأني" [2]. لعله عَنىَ بهذا القول أيضًا ما حدث في طفولته حيث ثار هيرودس عليه وأراد قتله فأرسل الآب ملاكًا ليوسف يأمره بالهروب إلى مصر. لقد صار الكلمة جسدًا، ابن الله صار ابنًا للبشر، لهذا في اتضاعه سار في طريقنا كواحد منا يرعاه الآب بحمايته كما في ظل يده، وهو قادر أن يأمر الطبيعة فتهلك هيرودس وكل مقاوميه.

"وجعلني سهمًا مبريًا (لا يصدأ)، في كنانته أخفاني" [2]. بكونه كلمة الله فهو سهم لا يصدأ، اختفى وراء الظلال والرموز حتى جاء ملء الزمان فأعلن ذاته خلال الصليب كسهم صُوِّبَ ضد إبليس وجنوده فجردهم من سلطانهم وأشهرهم جهارًا ظافرًا بهم (كو 2: 15). إنه السهم القاتل للشر، وواهب جراحات الحب الإلهي للنفوس المؤمنة التي تصرخ "إنيّ مريضة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8).

  • يعلمنا الكتاب المقدس أن الله محبة (1 يو 4: 8)، فقد صوّب ابنه الوحيد "السهم المختار" [2] نحو المختارين، غارسًا قمته المثلثة في روح الحياة.

رأس السهم هو الإيمان الذي يربط ضارب السهم (المسيح) بالمضروبين به، وكأن النفس ترتفع بمصاعد إلهية، فترى في داخلها سهم الحب الحلو يجرحها، متحلية بالجروح....

إنه جرح حسن، وألم عذب، به تخترق "الحياة" النفس.

القديس غريغوريوس النيسي[501].

  • هل يقدر أحد أن يرى جراحات الحب الإلهي الكثيرة مثل تلك التي في نشيد الأناشيد، هذه التي تشتكي أنها مجروحة: "إنيّ مجروحة حبًا" (نش 2: 5)؟! وأنه يرى السهم الذي يجرح نفوسًا كثيرة بحب الله إلاَّ في ذاك الذي قال: "جعلني مثل رمح مختار"؟! [502].
  • إن التهب أحد ما في أي وقت بالحب الصادق لكلمة الله، إن تقبل أحد الجراحات الحلوة التي لهذا "السهم المختار" كما يسميه النبي، إن كان قد جُرح أحد برمح معرفته المستحقة كل حب حتى أنه يحن ويشتاق إليه ليلاً ونهارًا، فلا يقدر أن يتحدث إلاَّ عنه، ولا ينصت إلاَّ إليه، ولا يفكر إلاَّ فيه، ولا يميل إلى أية رغبة أو يترجى سواه، متى صار الأمر هكذا تقول النفس بحق: "إنيّ مجروحة حبًا". أنها تتقبل جرحها من ذاك الذي قيل عنه "جعلني سهمًا مختارًا، وفي جعبته يخفيني" [2].

يليق بالله أن يضرب نفوسنا بجرح كهذا، يجرحها بمثل هذه السهام والرماح، يضربها بمثل هذه الجراحات الشافية[503].

العلامة أوريجانوس.

  • كلمات الرب سهام تلهب الحب لا الألم... لهذا يليق بنا فهم "سهامك انغرست فيّ" (مز 38: 2) هكذا: كلماتك انغرست في قلبي[504].
  • ليت غير الأصحاء يُجرحون، فإنهم إذ يُجرحون حسنًا يصيرون أصحاء. ليقل هؤلاء إذ صاروا مقيمين في الكنيسة جسد المسيح مع الكنيسة: "إنيّ مجروحة حبًا" (نش 2: 5 LXX) [505].

القديس أغسطينوس.

د. بالصليب خضع الابن مطيعًا للآب، صار من أجلنا عبدًا لكي يتمجد الآب فيه، ويتمجد هو أيضًا في ضعف الصليب. "وقال ليّ: أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد، أما أنا فقلتُ: عبثًا تعبتُ باطلاً، وفارغًا أفنيتُ قدرتي، لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي" [4].

يتساءل البعض: من هو عبده إسرائيل؟ أنه السيد المسيح الذي جاء من اليهود، وقبل بإرادته العبودية مع أنه مساوٍ للآب في الجوهر (فى 2: 7). جاء كعبد ليرفع العبيد فيّه إلى البنوة لله، بهذا مجّد الآب وتمجّد هو أيضًا خلال الضعف، إذ يقول الرسول: "وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفَّعه الله أيضًا واعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فى 2: 8 - 11).

في لحظات الآلام حين ظهر رب المجد كما في ضعف قال: "أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته، والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان ليّ عندك قبل كوْن العالم" (يو 17: 4 - 5).

إن كان الصليب عارًا وضعفًا من الخارج لكنه مجد من الداخل. يقول العلامة أوريجانوس: [لا نتردد في القول بأن صلاح المسيح يظهر بطريقة أعظم وبالنور الإلهي... لأنه "وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى 2: 6 - 8) [506]].

الصليب أيضًا مجد لأنه صالح الآب مع البشر، وفتح أمامنا باب الفردوس لنشارك الرب مجده ونعيش معه نُسبحه مع السمائيين.

يرى البعض أن ما قيل هنا أيضًا يُخص الكنيسة المختفية في المخلص بكونها إسرائيل الجديد هذه التي تمجد الله خلال قبولها شركة الآلام والصلب مع مسيحها فتنعم بقوة قيامته وبهجتها، لهذا استحقت أن تسمع الصوت الإلهي: "أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد". أما هي ففي آلامها تقول: "عبثًا تعبتُ باطلاً وفارغًا أفنيتُ قدرتي، لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي" [4].

هـ. نجاح رسالة السيد المسيح في ضمه الأمم إلى الإيمان: إن كان السيد قد ظهر على الصليب في ضعف حتى فارقه الجميع، إذ جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله (يو 1: 11)، صار مجروحًا في بيت أحبائه (زك 13: 6)، فقال: "عبثًا تعبتُ باطلاً، وفارغًا أفنيتُ قدرتي" [4]؛ هذا هو مظهر الصليب الخارجي، أما عمله الداخلي فيعلنه الآب بقوة قائلاً للمصلوب: "قليلٌ أن تكون ليّ عبدًا لإقامة أسباط يعقوب، وردّ محفوظي إسرائيل، فقد جعلتُك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصي الأرض" [6]. وكأنه يقول للابن المصلوب: إن عملك الفدائي لا يمكن أن يُحد ثمره في حدود شعب معين وإنما يمتد إلى أقصي الأرض فتكون نورًا للأمم وسرّ الخلاص الإلهي لكل البشر.

عندما حمل سمعان الشيخ الطفل يسوع قال: "لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب، نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل" (لو 2: 30: 31). كما قال بولس وبرنابا: "لأنه هكذا أوصانا الرب، قد أقمتك نورًا للأمم لتكون أنت خلاصًا إلى أقصي الأرض" (أع 13: 46 - 47). يقول العلامة أوريجانوس: [لو لم يصر عبدًا ما كان يقيم أسباط يعقوب ولا يغيّر قلب إسرائيل المشتت، ولما صار نورًا للأمم لخلاص أقصي الأرض[507]].

جاء مسيحنا نورًا للشعوب والأمم؛ النور الحقيقي الذي يضيء كل إنسان آتِ في العالم (يو 1: 9)، يدعونا من الظلمة إلى النور (1 بط 2: 9) حتى نسلك في النور ونصير أبناء للنور وأبناء للنهار (1 تس 5: 5)، بل ونصير نورًا للعالم (مت 5: 14). بهذا يتحقق قول إشعياء النبي: "لا تكن لك بعد الشمس نورًا في النهار، ولا القمر ينير لك مضيئًا، بل الرب يكون لك نورًا أبديًا وإلهك زيتًا؛ لا تغيب بعد شمسك، وقمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نورًا أبديًا" (إش 6: 19 - 20). يُضيئ المخلص - نور الأمم - على النفس بكونها عروسه فتُدرك خفيات الحكمة (أى 11: 6).

  • ربي وإلهي... يا نور نفسي! لا تتوقف قط عن إنارة خطواتي!...

إلهي... أنت رجائي... بدون نورك - الذي به نُعاين كل شيء - يصعب علينا أن نكتشف مناورات الشيطان وحيله.

  • أنت هو الكلمة القائل: "ليكن نور"، فكان نور. قل هذه العبارة الآن أيضًا حتى تستنير عيناي بالنور الحقيقي، وأميزه عن غيره من النور؛ فبدونك كيف أقدر أن أميز النور عن الظلمة، والظلمة عن النور؟!

القديس أغسطينوس[508].

أهانه اليهود وجحوده طالبين صلبه وقبلته الشعوب الوثنية وخضعت له بالإيمان وقبلت عمله. لهذا دُعي السيد "المهان النفس"، "مكروه الأمة"، "عبد المتسلطين" إذ تسلط عليه الأشرار وابغضوه واهانوه؛ وفي نفس الوقت قيل "ينظر ملوك فيقومون، رؤساء فيسجدون" [7]. حيث يقوم الملوك عن كراسيهم في حضرته ويسجد له الرؤساء متعبدين له.

الأعداد 8-13

2. عمله الخلاصي

بين أيدينا حديث إلهي رائع يكشف عن سرّ خلاصنا في المسيح يسوع ربنا الذي لا يُعبَّر عنه؛ ففي المسيح المخلص ننال الآتي:

أ. استجابة الله لنا؛ فقد حان الوقت أن يسمع الآب لنا خلال ابنه المحبوب المصلوب كذبيحة طاعة للآب وموضع سروره، فيستجيب لنا الآب فيه واهبًا نفسه لنا أبًا، مقدمًا لنا حضنه كموضع راحة أبدية نستقر فيه. هذا ما عناه بقوله: "في وقت القبول استجبتُك" [8]. فقد حان الوقت الذي فيه يُعلن قبولنا لدى الآب في ابنه المقبول أزليًا، فيستجيب لنا على الدوام.

ب. بالمسيح يسوع مخلصنا صار الله نفسه عونًا لنا ومعينًا: "وفي يوم الخلاص أعنتك" [8]. تسلم الرب نفسه قيادة المعركة ضد عدو الخير لنختفي نحن فيه وننال فيه الغلبة والنصرة. وكما يقول الرسول: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهِر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14). يقول القديس أغسطينوس: [هذا هو اليوم الذي فيه صار الشفيع حجر الزاوية الرئيسي، فلنفرح ولنبتهج فيه[509]].

يليق بنا أن نميز بين "يوم الخلاص" [8] أو "يوم الرب" وأيامنا نحن، يوم الرب مفرح يَهبُ خلاصًا أما أيامنا التي نسلك فيها حسب هوانا فمُحطِّمة ومُهلِكة. يقول القديس أغسطينوس: [بالحرى أدعو أيامي (مز 116: 2) أيام بؤسي، أيام موتي، أيام حسب آدم مملوءة تعبًا وعرقًا، أيام حسب الفساد القديم. إذ يصرخ في مزمور آخر: "غرقت في حمأة عميقة" (مز 69: 2)، "هوذا جعلتَ أيامي قديمة" (مز 39: 5)؛ في أيامي هذه أدعوك (مز 166: 2). فإن أيامي تختلف عن أيام ربي[510]].

ج. بالمصلوب أيضًا صرنا محفوظين في الرب، إذ يقول: "فأحفظك" [9]. ففي الصلاة الوداعية يقول المخلص: "لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير... قدِّسهم في حقك" (يو 17: 15، 17).

د. التمتع بالمصلوب كعهد مع الآب: "وأجعلك عهدًا للشعب لإقامة الأرض لتمليك أملاكِ البراري" [8]. قدم الله عهده الجديد ليس منقوشًا على حجارة وإنما مسجلاً بالدم في جسد الابن الكلمة المتجسد، خلال هذا العهد لا تتمتع الكنيسة بأرض الموعد التي تفيض عسلاً ولبنًا وإنما ترث الأرض أي الشعوب التي كانت قفرًا كالبراري لتُقيم منها فردوسًا إلهيًا ومملكة سماوية. في جسد بشريته صالح الآب مع البشرية وأقام في كل قلب مؤمن حقيقي ميراثًا لا يُعبَّر عنه.

أما سمات هذا الملكوت الجديد أو الميراث الداخلي أو الحياة الإنجيلية الكنيسة الحقة فهي:

أولاً: الحرية؛ "قائلاً للأسرى أخرجوا، للذين في الظلام إظهَروا" [9]. فقد كسر متاريس الجحيم وأعطانا حرية مجد أولاد الله لنعيش حاملين سلطانًا على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19)، نسلك في النور، لا سلطان للظلمة علينا.

وهبنا مخلصنا الحرية الداخلية فلا نُستعبد لعدو الخير ولا لشهوات الجسد ولا لمحبة العالم، أما ما هو أهم فهو ألا نستعبد للأنا "ego"، لا نتقوقع بعد في الأنا إنما نُصلب مع مسيحنا المخلص لنعلن اتساع قلبنا لنحمل فيه الله غير المحدود ويتسع لكل بشر حتى المقاومين لنا.

خلال هذه الحرية الداخلية نقبل برضانا الخضوع لله كعبيد له، فنعيش أحرارًا لا سلطان للعدو على أعماقنا.

  • كن خادمًا وحرًا في نفس الوقت؛ كن خادمًا بخضوعك لله، حرًا لا تُستعبد لشيء، لا لمديح فارغ ولا لهوى ما[511].
  • حرر نفسك من قيود الخطية، عش في حرية، فقد حررك المسيح (غل 5: 1). أطلب حرية العالم الجديد خلال حياتك الزمنية. لا تستعبد نفسك لمحبة مال ولا لمديح نابع عن إرضاء الناس[512].
  • لا تضع قانونًا لنفسك لئلا تُستعبد لقوانين من عندياتك. كن حرًا، إنسانًا في مركز يسمح له أن يفعل ما يشاء[513].
  • حرر نفسك من نير العالم بحرية الحياة الجديدة[514].
  • كن حرًا، حرر نفسك من كل عبودية مخرّبة؛ فإنك إن لم تصر حرًا لا تكن عاملاً للمسيح، فإن ملكوت أورشليم السماوية الحرة لا تقبل أبناء العبودية. أبناء الأم الحرة هم أنفسهم أحرار (رو 8: 5)، ولا يستعبدون للعالم في شيء[515].
  • لا تُلزم نفسك بجهد فوق طاقتك لئلا تَستعبد نفسك للحاجة لإرضاء الغير[516].

الأب يوحنا السرياني المتوحد.

ثانيًا: التمتع بمرعى إلهي خصب، "على الطريق يرعون وفي كل الهضاب مرعاهم" [9]. ما هو هذا الطريق إلاَّ المخلص الذي دَعى نفسه "الطريق" (يو 14: 6)، به ندخل إلى هضاب مثمرة لنجد كل احتياجاتنا، فلا نجوع ولا نعطش ولا يضربنا حر ولا شمس؛ فيها ينابيع الروح القدس كمياه حية تروى أعماقنا وتهبنا ثمرًا [10].

ثالثًا: التمتع بطريق ممهد يدخل بنا إلى الأحضان الإلهية، "واجعل كل جباليّ طريقًا ومناهجي ترتفع" [11]. ما هي هذه الجبال إلاَّ وصايا الرب التي تبدو كجبال شاهقة يصعب تسلقها، لكن باتحادنا مع المسيح "الطريق" يصير السير على الجبال أمرًا طبيعيًا، وتتحول الوصية إلى لذة وبهجة لا إلى أوامر قاسية وحرمان.

في الوقت الذي فيه يجعل الوصية الصعبة سهلة إذ يحول جباله الشاهقة إلى طريق نفرح بالعبور فيه، إذا به يقول "ومناهجي (مسالكي) ترتفع"، بمعنى أن سهولة الوصية لا تعني نزولنا إلى الأمور الدنيا وتساهلنا مع أنفسنا في قبول الملذات الجسدية وتحقيق الرغبات الزمنية، إنما على العكس يحملنا بمسالكه إلى فوق لنمارس الحياة السماوية العُلْوية ببهجة قلب وفرح كحياة مقبولة ومبهجة في الرب.

رابعًا: انفتاح أبواب الكنيسة أمام كل الأمم من المشارق والمغارب والشمال والجنوب. "هؤلاء من بعيد يأتون، وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم" [12]. يقصد بالآتين من بعيد سكان الشرق الأقصى، كما يقصد بأرض سينيم (أسوان) جنوب مصر بكونها تمثل القادمين من الجنوب.

خامسًا: التمتع بحياة التسبيح والفرح كحياة تعيشها النفس (السموات) ويمارسها الجسد (الأرض) ويعبر عنها خلاص الطاقات البشرية (الجبال). هكذا تشترك السموات مع الأرض بجبالها في الترنم للرب، "لأن الرب عزى شعبه وعلى بائسيه يترحم" [13].

سرّ بهجتنا تعزيات الله المعلنة بالروح القدس في أعماقنا خلال استحقاقات الدم الثمين، فقد أقامنا المصلوب من بؤسنا وتراءف علينا برحمته العملية.

هذا الفرح يعم على الكنيسة كلها الممتدة هنا عبر الأجيال وأيضًا في السموات، لهذا يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي: [لسنا وحدنا في فرحنا، فإنه في السماء تفرح معنا "كنيسة الأبكار" جميعها (عب 12: 23)... انظروا يا أصدقائي، ها الخليقة كلها تحفظ معنا العيد، إذ يقول المرتل: "كل نسمة فلتسبح الرب" (مز 150: 6)، وذلك من أجل هلاك أعداء الرب ومن أجل خلاصنا[517]].

الآن رأينا كيف انتقل الرب من الحديث عن كورش كمنقذ لشعب الله من السبي إلى ما هو أعظم وأبقى، الحديث عن السيد المسيح كمخلص لكل البشرية، ينقذهم من الأسر الأبدي ليهبهم بركات خلاصه بالدخول بهم إلى ملكوته أي التمتع بالحياة الجديدة الكنسية المفرحة في الرب، كحياة فردوسية مقدمة لكل الشعوب والأمم.

الأعداد 14-21

3. إقامة المتروكة عروسًا أبدية

لم يكن يتوقع شعب الله أنه يُسبى، وحين سُبيت إسرائيل أو مملكة الشمال ظنت مملكة يهوذا أنها لن تُسبى لأنها تحتضن هيكل الرب في أورشليم مدينة الله. لكن سُبيت يهوذا وانهارت أورشليم بالهيكل الذي دنسوه بالعبادة الوثنية والرجاسات كما جاء في حزقيال وإرميا، وظن المسبيون أنها ربما شهور قليلة ويتدخل الله ليحررهم، لكن عبرت الشهور والسنوات تلو السنوات، فظن الشعب أن الله قد نسيه، وشعر الكل بالعزلة والحرمان والترك. هذا ما عبّر عنه النبي هنا هكذا: "وقالت صهيون قد تركني الرب وسيدي نسيني" [14]. هذا الشعور بالعزلة هو ثمرة طبيعية يُعاني منها غالبية البشر أن لم يكن جميعهم في بعض اللحظات. فالإنسان في وقت التجربة يشعر نفسه وحيدًا، ليس من يشاركه مشاعره وأحاسيسه ولا من يلمس مرارته الداخلية.

يشتكي علماء النفس من هذا المرض "الشعور بالعزلة" بكونه مرضًا يكاد يكون عامًا خاصة بين المراهقين، حين يدركون أن أقرب من لهم لا يقدر أن يتفهم حقيقة عالمهم الداخلي ومشاعرهم الخفية.

علاج هذا المرض هو الالتقاء بالمخلص، الذي وحده يقدر أن يدخل إلى الأعماق ويقيم علَمَه محبة، يعلن بصليبه صداقة فريدة شخصية خلالها نتمتع بحب إلهي فائق واتحاد مع الله لا يقدر الزمن ولا تستطيع الأحداث أن تُحطمه. بالصليب ضم الله البشرية إليه كعروس سماوية مقدسة لا يفارقها عريسها السماوي، عوض الشعور بالترك.

والعجيب أن المخلص نفسه صرخ على الصليب قائلاً: "الوي الوي لماذا تركتني؟!" (مر 16: 34). كأنه كممثل للبشرية ونائب عنها يعلن عن موقفنا كمتروكين ومحرومين! صار بالصليب كمن هو متروك لكي ينزع عنا الشعور بالحرمان والترك ويردنا إلى الأحضان الإلهية عروسًا مقدسة!

الآن بماذا يُجيب الرب على شعور صهيون بالحرمان؟

"هل تنسى الأم رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟! حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساكِ" [15]. بلا شك أن الأمومة تعتبر من أسمى درجات الحب البشري، فالأم التي تحمل ابنها أو ابنتها كجنين لشهور في أحشائها يصعب أن تنساه بعد ولادته. ومع هذا فقد نسيت بعض الأمهات أبناءهن وبناتهن، إذ قدم بعضهن أطفالهن ذبائح بشرية، يلقين إياهم في النار وسط ضربات الطبول كنوع من العبادة للإله بعل. وفي بعض المجاعات سمعن عن أمهات أكلن أطفالهن. ولا نزال نسمع الآن عن جرائم قتل تقوم بها بعض الأمهات ضد أطفالهن. وفي كل يوم أيضًا نرى أمهات وآباء يقتلن أبناءهن خلال الجو العائلي الكئيب أو المشاكل العائلية خاصة الانفصال والطلاق. ما أكثر ضحايا الطلاق؟! لم يترفق الآباء والأمهات بالأجيال الجديدة، ولا اعطوا لهم حسابًا في حياتهم، إنما في أنانية يُريدون تحقيق ما يظنوه سلامًا على حساب حياة أولادهم وسلامهم الروحي والنفسي وأحيانا الاجتماعي والمادي أيضًا.

قد تنسى الأم رضيعها أما الله فلا ينسانا!

  • عناية الله هذه وحبه الذي يظهرهما الرب بصلاحه... يُقارنهما بقلب أم مملوء حنانًا ولطفًا، إذ يريد أن يعبر عنه بمثال من العاطفة البشرية، فلم يجد في خليقته مشاعر حب أفضل كي يُقارن بها[518].

الأب شيريمون.

  • إنه ليس فقط يعتني بنا، إنما يحبنا بلا حدود، حبًا مقدسًا ملتهبًا، حبًا شديدًا حقيقيًا لا ينفصم ولا ينطفئ...
  • يجاوب النبي الذين اكتأبوا مرة وأنّوا، قائلين: "قد تركني الرب وسيدي نسيني"، قائلاً: "هل تنسى الأم رضيعها فلا ترحم ابن رحمها؟". كأنه يقول يستحيل على الأم أن تنسى رضيعها، فبالأولى لا ينسى الرب البشرية. وهو بهذا لا يقصد تشبيه حب الله لنا بحب الأم لثمرة بطنها، وإنما لأن حب الأم يفوق كل حبٍ، غير أن حب الله حتمًا أعظم منه. لهذا يقول: "ولو نسيت الأم رضيعها أنا لا أنساك يقول الرب". تأمل كيف تفوق محبة الله محبة الأم؟!...

يؤكد رب الأنبياء وسيد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده، كما يفوق النور الظلمة والخير والشر... إنصت ماذا يقول؟ "أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه سمكة يعطيه حية؟! فإن كنتم وانتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه؟!" (مت 7: 9 - 11). كاختلاف الخير عن الشر هكذا تعلو محبة الله على عواطف الوالدين...

هناك أمثلة أخرى كحب الحبيب لمحبوبته، إلاَّ أن حب الله لن يعادله هذا الحب (مز 103: 11) [519].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"هوذا على كفي نقشتك" [16]. من العادات الشرقية القديمة أن ينقش الإنسان اسم محبوبه على كفه، علامة أنه لن ينساه حتى الموت، وأن كل ما يعمله بيديه إنما لحساب محبوبه. لقد نقش الرب اسم كنيسته المحبوبة لديه على كفه بالمسامير، لتبقى آثار الجارحات علامة حب أبدي! بل نقش اسم كل عضو فيها على كفه علامة محبته الشخصية لنا باسمائنا.

"أسوارك أمامي دائمًا" [16]؛ كأنه يقول أنا أعلم أن أسوارك قد تهدمت، أنا لن أنساها، سأبنيها لكن في الوقت المحدد، سأرد لك قوتك وحصانتك، وأرد إلى أرضي بنيك واطرد الهادمين والمخربين منها [17].

من هم هؤلاء البنون المسرعون إلى صهيون إلاَّ قابلو الإيمان الذين يأتون إلى كنيسة العهد الجديد ويتمتعون بأسوارها التي ليست من صنع يد بشرية، أما الهادمون والمخربون فهم جاحدو الإيمان الذين يُطردون منها.

"ارفعي عينيك حواليكِ وانظري. كلهم قد اجتمعوا أتو إليكِ. حيّ أنا يقول الرب تلبسين كلهم كحلي وتتنطقين بهم كعروس" [18]. يا لها من صورة بهية لكنيسة العهد الجديد، فإنه عوض المدينة التي تهدمت أسوارها، وطرد منها شعبها كمسبيين، ودخلها الهادمون والمخرِّبون، يُقيم الرب كنيسة العهد الجديد لا كمدينة حصينة فحسب يرجع إليها أولادها مسرعين ويُطرد منها الأشرار المخربون، إنما تصير عروسًا سماوية تحمل زينة فريدة، هي اجتماع أولادها فيها كأولاد لله، لهم حرية المجد الداخلي. في الشرق كان جمال المرأة هو أولادها، تفخر بهم كمجد لها وكثوب عرسها المستمر؛ هكذا تعتز الكنيسة بأولادها الممجدين فيها، كمنطقة عروس ثمينة تتمنطق بهم.

تصير عروسًا مثمرة، أُمًا ولودًا، يكثر أولادها الروحيون حتى يبدو كأن الأرض قد ضاقت بهم ولا يوجد موضع للمخربين ليسكنوا معهم.

لا يقف العدو صامتًا إنما يريد أن يدخل ويخرب أولادها، هذا الذي سبق فأثكلها بتحطيمه إيمان البعض، إذ يقول لها: "ضيق عليّ المكان، وسِّعي ليّ لأسكن" [20]. أما هي فترى يد الله العجيبة والعاملة فيها بالرغم من مقاومة العدو المستمرة، فتردد في قلبها قائلة: "من ولد ليّ هؤلاء وأنا ثكلى وعاقر منفية ومطرودة؟ وهؤلاء من رباهم؟ هانذا كنت متروكة وحدي. وهؤلاء أين كانوا؟" [21]. إنها نعمة الله الفائقة التي تُخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة! وإنها نعمته الغنية التي تُقيم فينا ثمرًا متكاثرًا ليس من عندياتنا، إنما هو عطية الله المجانية لمؤمنيه السالكين بالروح.

الأعداد 22-23

4. إقامة الذليلة ملكة

إن كانت صهيون قد عاشت كأمة أسيرة ذليلة في أرض الغربة، الآن تعود إلى وطنها كملكة يشتاق الكل أن يرفعها على الأكتاف ويخضع لها الملوك ويسجدون أمامها يلحسون غبار رجليها.

هذا هو عمل الله في حياة النفس التي سبق فأذلتها الخطية، إذ يقيمها الرب ملكة، تجلس عن يمين الملك، يشتاق الكل أن يخدمها.

"هكذا قال السيد الرب: ها إني أرفع إلى الأمم يدي وإلى الشعوب أقيم رايتي" [22]. ما هو رفع اليد إلاَّ مجيء السيد المسيح إلى العالم ليبسط يديه على الصليب فيضم إليه الأمم كقوله: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو 12: 32). وأما الراية التي يُقيمها فهي "عَلَم الحب" (نش 2: 4)، أي إعلان الفداء على الصليب.

بهذا العمل الخلاصي تتمجد كنيسة المسيح، إذ يُقال لها: "يأتون بأولادك في الأحضان، وبناتك على الأكتاف يُحمَلن، ويكون الملوك حاضنيكِ، وسيداتهم مرضعاتك، بالوجوه يسجدون لكِ ويلحسون غبار رجليك، فتعلمين أني أنا الرب الذي لا يخزى منتظروه" [22 - 23].

لقد تحقق ذلك، فقد صار الملوك والملكات مؤمنين عاملين في كنيسة الرب مثل قسطنطين الكبير وهيلانة، يخدمون الكنيسة كملكة روحية فوق الكل.

الأعداد 24-26

5. الله فادي كنيسته

بدت هذه الوعود كأنها خيال بالنسبة لمعاصري إشعياء وأيضًا فيما بعد بالنسبة للمسبيين، لذلك أكد الله أنه هو بنفسه الذي يُحقق هذا الخلاص، بكونه القادر وحده أن يُحطم إبليس الجبار ويسحب منه الذين سبق أن سباهم.

"هل تُسلب من الجبار غنيمة؟! وهل يفلت سبي المنصور؟! فإنه هكذا قال الرب: حتى سبي الجبار يُسلب، وغنيمة العاتي تفلت. وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك، وأطعم ظالميكِ لحم أنفسهم ويسكرون بدمهم كما من سلاف فيعلم كل بشر إني أنا الرب مخلصكِ وفاديكِ عزيز يعقوب" [24 - 26].

هكذا يليق بنا أن نثق في الله مخلصنا ولا نضطرب أمام قسوة إبليس وعنفه، فإن المخلص قادر أن يُحررنا من سبيه مهما كان العدو عاتيًا وجبارًا، يردنا إلى كنيسته ويُخاصم عنا مخاصمينا، أي يقود المعركة بنفسه، فيأكل العدو لحم نفسه ويشرب ويسكر كما بدمه، أي يرتد عمله على رأسه ويذوق من عنفه مرارة حتى يفقد وعيه كمن في حالة سكر.


[501] Comm. On Cant. , Serm 4.

[502] In John, book 1: 36.

[503] Comm. On Cant. 3;8.

[504] On 38..

[505] On Ps. 144.

[506] In John 1: 37.

[507] In John, Book 1: 37.

[508] الحب الإلهي، ص71، 74 - 75.

[509] On Ps. 118.

[510] On Ps. 166.

[511] Letter to Hesychius, 25.

[512] Ibid 26.

[513] Ibid 27.

[514] Ibid 29.

[515] Ibid 30.

[516] Ibid 22.

[517] Pasch. Letters 6.

[518] Cassian: Conf. 13: 17.

[519] On. 6. ترجمة مدام عايدة حنا بسطا.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الخمسُون - سفر إشعياء - القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثامن والأربعون - سفر إشعياء - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر إشعياء الأصحاح 49
تفاسير سفر إشعياء الأصحاح 49