الأصحاح الأول – سفر إشعياء – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 27- تفسير سفر إشعياء – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

مقدمة في سفر إشعياء

كنت أقرأ كتابًا عن إشعياء النبي، وإذا بي أشعر كأن سفر إشعياء يسحب قلبي ليملأ أعماقي تعزية وسط المتاعب. وكانت المفاجأة العجيبة أنني اكتشف في الصباح أن تلك الليلة كانت عشية استشهاد إشعياء النبي، هذا ما دفعني أن أبدأ في دراسة السفر لنوال بركة كلمة الله مع إشعياء.

لقد أخذت بالمنهج الآبائي الدراسي ليصير مكملاً لسلسلة كتب الأب المحبوب القس لوقا سيداروس في ذات السفر الذي اتسم بمنهجه الوعظي وأسلوبه العذب.

الرب قادر أن يستخدم هذا العمل لمجد أسمه القدوس.

شيكاغو في سبتمبر 1988.

القمص تادرس يقوب ملطي.

الأنبياء.

تُدعى الأسفار من إشعياء حتى ملاخي "أسفارًا نبوية". هذا لا يعني أن النبوة قد بدأت بإشعياء، إنما وجدت منذ بداية ظهور موسى النبي كأول قائد لشعب إسرائيل، وإن كان بعض الآباء يرون أن النبوة تمتد منذ بدء الحياة البشرية، فيحسبون آدم نفسه نبيًا.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الأسفار النبوية لا تقف عند عرض النبوات وإنما ضمت تاريخًا ونواميس وحكمة وشعرًا الخ...

الأنبياء.

لا يفهم تعبير "أنبياء" بمعنى أناس يتنبأون بأحداث مستقبلية بقدر ما تعني الكشف عن فكر الله وإرادته من جهة الإنسان، خاصة خلاصه الأبدي الذي يتحقق خلال السيد المسيح. لقد أقام الله أنبياءه كرجاله الذين يشهدون له بقوة وشجاعة بفعل روحه القدوس في وقت انحرفت فيه القيادات الدينية والمدنية من كهنة وملوك. فقد انشغل كثير من الكهنة بالسلطة والكرامة مع الانغماس في حياة الترف والبهرجة، لهذا اهتموا بإرضاء الملوك والعظماء على حساب خدمة النفوس، وانشغلوا بالحرف القاتل كتغطية للفساد الداخلي. أما الملوك والأشراف فانشغلوا بالمجد الباطل معتمدين على خطط بشرية متجاهلين عنصر الإيمان بالله والاتكال عليه... لهذا ظهر الأنبياء يقاومون فساد القيادات والشعب أيضًا؛ الأمر الذي أثار الكل ضدهم لاضطهادهم.

جاء الخط واضحًا في كل كتابات الأنبياء، وهو:

1. التوبة والرجوع إلى الله بالقلب لا بالممارسات الشكلية هو طريق علاج للمشاكل الداخلية والخارجية، الاجتماعية والسياسية والروحية.

2. فضح الأخطاء خاصة التي ترتكبها القيادات الدينية والمدنية لا للتشهير بهم وإنما لطلب العلاج الروحي الحق.

3. التنبوء عن أحداث محلية مستقبلية قريبة لتأكد تأديب الرب لهم بسبب فسادهم وعدم الثقة فيه، أو لتأكيد رجمته بسبب توبتهم، مثل السبي والرجوع منه.

4. التنبوء عن أحداث مستقبلية بعيدة مركزها مجيء المسيا المخلص، الذي يُقيم مظلة داود الساقطة، ويُقيم مملكة روحية تضم الشعوب والأمم.

5. الله وحده هو المخلص... والخلاص هو الموضوع الأوحد الذي يلزم أن يشغل فكر الكل.

نبوات الأنبياء مع كثرتها تشبه قيثارة يلعب على أوتارها روح الله القدوس الذي لا يخطئ العزف، فيقدم سيمفونية حب الله المعلن خلال عمل المسيح الخلاصي.

الأنبياء الكبار والصغار.

اعتاد الدارسون أن يقسموا أسفار الأنبياء إلى أنبياء كبار [إشعياء، إرميا، حزقيال، دانيال] وأنبياء صغار [بقية أسفار الأنبياء]، هذا التقسيم لا يقوم على أساس التمييز بين الأنبياء أنفسهم وإنما بين الأسفار حسب حجمها. يشبه البعض بعض أسفار الأنبياء الصغار بالقنابل الذرية الصغيرة في حجمها لكنها تحمل طاقات جبارة[1].

دُعي إشعياء: "النبي الإنجيلي"، ودُعي سفره: "إنجيل إشعياء"، أو "الإنجيل الخامس". من يقرأه يظن أنه أمام أحد أسفار العهد الجديد، وأن الكاتب أشبه بشاهد عيان لحياة السيد المسيح وعمله الكفاري خاصة "الصليب"؛ يرى صورة حية للفداء وأسراره الإلهية العميقة.

يقول القديس جيروم: [إني أتمثل في سفر إشعياء - عند قراءته - إنجيليًا يصف حياة يسوع المسيح، فضلاً عن كونه نبيًا يتكلم عن الأمور الآتية[2]].

يقول عنه H. A. Ironside: [أكثر من أي كتاب نبوي آخر، يحوى أكمل النبوات المسيانية التي وجدت في العهد القديم، يشهد بطريقة أكيدة عن آلام المسيح وما يتبعها من أمجاد[3]].

اهتم به آباء الكنيسة خاصة في حوارهم مع غير المؤمنين لأجل ما تضمنه من نبوات كثيرة وصريحة عن شخص السيد المسيح وعمله الفدائي وكنيسته وعطية روحه القدوس الخ... [4].

بعد تحول القديس أغسطينوس إلى الإيمان المسيحي بفترة قليلة سأل القديس الأسقف الشيخ أمبروسيوس عما يقرأه، فأجابه "إشعياء" [5].

إشعياء.

كان إسم إشعياء شائعًا بين اليهود، فنجد في الكتاب المقدس على الأقل سبعة أشخاص يحملون هذا الاسم.

"إشعياء" يُقابل "يشعيا" (عز 7: 8؛ نح 11: 7؛ 1 أي 3: 21)؛ يعني "خلاص الله" أو "الله يُخلص". وقد جاء اسمه يكشف عن رسالته، فالسفر في مجمله يحمل خطًا واضحًا عن خلاص الله العجيب الذي يتحقق بمجيء المسيا الذبيح مقيم الملكوت وواهب المجد.

دُعي "إشعياء بن آموص" لتمييزه عن بقية الأشخاص الحاملين ذات الاسم. هذا ويرى الكثير من الدارسين أن آموص هنا غير عاموس النبي[6]، وبحسب التقليد اليهودي هو أخو أمصيا ملك يهوذا وأنه نبي أيضًا.

نشأ في أورشليم وعمل فيها (إش 7: 3؛ 22: 1، 15؛ 37: 2؛ 38: 5؛ 39: 3). على خلاف إرميا تزوج وأنجب أولادًا؛ إرميا مُنع من الزواج حتى لا تُعاني أسرته من الضيق المُرّ الذي يحل بالشعب ومن الفساد الذي حلّ بالجميع كوباءٍ معدٍ، أما إشعياء فتزوج ودُعيت زوجته: "النبية" (إش 8: 3) لا لممارستها النبوة وإنما لمشاركتها رجلها جهاده الروحي ومشاعره، فكانت خير رفيق له في تحقيق رسالته. أنجبت على الأقل ابنين حملا أسمين رمزيين؛ دُعى الأكبر "شآريشوب" معناه "البقية سترجع" (إش 7: 3)؛ والثاني "مهير شلال حاش بز" معناه "عجل النهب، اسرع الغنيمة" (إش 8: 3). وكان الاسمان متناسبين مع نبوات إشعياء كما سنرى.

اعتز إشعياء النبي بأسرته المقدسة في الرب، وأيضًا بتلاميذه الروحيين الذين حسبهم أبناء له وكأفراد أسرته، فقال: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب في إسرائيل" (إش 8: 8). وقد استخدم الرسول بولس هذه العبارة كرمز لربنا يسوع الذي يقود تلاميذه إلى المجد (عب 2: 13).

ظروف إشعياء الدينية والاجتماعية والأخلاقية.

1. نشأ إشعياء - كأحد أعضاء العائلة الملكية - في أورشليم، في جوٍ أرستقراطي، يُجالس الملوك ويصادقهم، ويقدم لهم المشورة الصالحة. كان نبيًا في مملكة يهوذا، وربما كان يشغل مركزًا سياسيًا هامًا في البلاط الملكي، كما يظهر من إلمامه بالتيارات السياسية في ذلك الحين بجانب إلمامه بالتيارات الدينية والاجتماعية. فقد كشف عن جماعة أنصار التحالف مع مصر (إش 29: 15؛ 30: 1) واستطاع أن يطرد شَبْنَا من مركزه الخطير (إش 22: 15).

باشر عمله النبوي في السنة التي مات فيه عُزّيا ملك يهوذا (سنة 740) أو 739 ق. م)، هذا لا يعني أنه بدأ بعد موت الملك وإنما ربما قبل موته في ذات العام الذي مات فيه؛ وقد استمر في خدمته حتى وفاة حزقيا (697 أو 696 ق. م)، وبحسب التقليد اليهودي باشر عمله النبوي في عهد منسي بن حزقيا، بهذا تكون مدة عمله النبوي أكثر من 50 عامًا، يرى بعض الدارسين أنها بلغت الستين عامًا. انتهت حياته على الأرض بنشره بمنشار خشبي كأمر الملك منسي إمعانًا في تعذيبه كما جاء في التقليد اليهودي وبعض كتابات آباء الكنيسة[7]، وربما قَصدَه الرسول بولس عندما تحدث عن الذين نُشروا (عب 11: 37).

2. شاهد إشعياء في شوارع العاصمة – أورشليم - مركبات الملك والأسرة الملكية والعظماء المتعجرفين، يركبونها في زهو وغرور، خاصة نساؤهم المدللات في حياة ترف فاحش وبذخ شديد. تطلع إلى الولائم اليومية التي تُقام في القصر الملكي بغير انقطاع، تُدعى إليها القيادات العسكرية والمدنية والدينية، الكل يشرب الخمر بلا حساب لتتحول إلى مجالس هزء قانونها المداهنة والرياء. وفي نفس الوقت كان يُشاهد الأغنياء يدخلون الهيكل ليقدموا تقدمات وذبائح بلا حصر ليجدوا تكريمًا من القيادات الدينية الجشعة، ويخرج هؤلاء الأغنياء من الهيكل ليمارسوا الرجاسات الوثنية بالقرب من الهيكل! هذه هي صورة المدينة التي نُسبت لله وأُقيم فيها هيكله المقدس، بينما كانت صرخات الأرامل والأيتام والفقراء والمظلومين تدوي في أذني النبي بل ترتفع إلى عرش الله.

أُصيب يهوذا بالفساد، من جهة قياداته كما من جهة الشعب، "كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت" (إش 1: 5 - 6).

يرى بعض الدارسين أن ما حلّ بيهوذا يصيب العالم الآن بشكل أو آخر مثل:

أ. تكتلات من أجل التمتع بالسلطة البشرية لا الاتكال على عمل الله (إش 8: 9 - 13).

ب. الجهل الروحي، فبينما تخضع الطبيعة غير العاقلة بالغريزة لصاحبها وراعيها يجهل الإنسان خالقه المعتنى بخلاصه وأبديته (إش 1: 2 - 4).

ج. فساد القيادات وانحلالها بتصرفات صبيانية غير ناضجة مع دخول العنصر النسائي بطريقة تسلطية منحرفة حتى في بعض القيادات الدينية (إش 3: 12)، وتفشِّى روح المداهنة والمجاملة وغير موضوعية الحق ذاته.

د. الأنانية ومحبة المال وما يتبع ذلك من ممارسة للظلم وحب الرشوة (إش 1: 23).

هـ. ميوعة الإيمان، يقبل الإنسان الدين وينكر عمل الله الخلاصي أو الالتزام بالحق أو الاعتراف بالدينونة الأبدية...

الظروف السياسية[8]:

عاش إشعياء النبي في وقت قيام القوى العظمى في العالم والصراع بينها. بدأ هذا الصراع بين مصر وأشور على السيطرة على العالم في ذلك الحين، وفي أيام إشعياء الأخيرة كان الصراع بين أشور وبابل، وكان مبدأ هذه الدول هو: "القوة هي الحق".

أما أثر هذا الصراع على إسرائيل (مملكة الشمال) ويهوذا فيظهر مما ورد في ملوك الثاني (15 - 17):

  • قدم منحيم ملك إسرائيل فضة لفول الآشوري ليتركه في مملكته (2 مل 15: 19 - 20).
  • في الأيام الأخيرة من عزيا حيث تسلم إشعياء رسالته، غلب تغلث فلاسر الآشوري فقح ملك إسرائيل (2 مل 15: 29)؛ وقام الأخير بتخريب جيش آحاز ملك يهوذا حيث قتل 120 ألفًا وحمل 200 ألفًا إلى السامرة كمسبيين، كما تحالف مع رَصِين ملك سوريا ضد يهوذا، وذلك لأسباب سياسية. فقد أرادا من يهوذا أن يتحالف معهما ويستندا على فرعون مصر لمقاومة أشور، لكن يهوذا رفض ذلك، مفضلاً الالتجاء إلى أشور ضدهما.

لا أريد الدخول في تفاصيل الأحداث السياسية، إنما ما حدث هو أن هوشع قتل فقح، وأن الأول خضع للجزية لأشور (2 مل 17: 3) غير أن شلمنأسَر الآشوري لم يثق فيه فسجنه وحاصر السامرة 3 سنوات ثم سبى إسرائيل (2 مل 17: 4 6)، وكان ذلك سنة 722 ق. م.

إن كانت السامرة عاصمة الأسباط العشرة في أنانية تحالفت مع آرام سوريا ضد يهوذا، فإن يهوذا من جانبه أخطأ فقد أرسل آحاز إلى تغلث فلاسر يقول له أنه عبده وابنه يطلب نجدة ضد سوريا وإسرائيل (2 مل 16: 7)، مقدمًا خزائن الهيكل والقصر هدية لأشور. وبالفعل سنده، لكن تغلث فلاسر احتقره فيما بعد ولم يسنده (2 أي 28: 20 - 21). بعد ذلك قام سنحاريب بجيش عظيم ليستولي على يهوذا في أيام حزقيا بن آحاز وقد سمح الله بتدمير كثير من المدن لكنه حافظ على أورشليم إلى حين.

عاش إشعياء النبي في هذا الجو بقلب ناري ملتهب حبًا نحو شعبه. فكانت نفسه مُتمرّة بسبب الانقسام بين أفرايم ويهوذا الذي بلغ أقصاه بتحالف إحداهما مع دول غريبة ضد الأخرى. هذا من جانب ومن جانب آخر فقد شاهد إشعياء يهوذا يرى بعينيه ما حدث للسامرة التي تبعد حوالي 35 - 40 ميلاً من أورشليم، وما حدث لها من خراب (إش 22: 1) ومع هذا ازداد يهوذا في الشر والعناد.

كان إشعياء - كرجل قومي - منشغلاً بأورشليم عاصمة يهوذا ومدينة الله، كانت مركز أحلامه وآماله، كثيرًا ما يتحدث عنها، لكنه في صراحة يصف نجاساتها وفجورها، معلنًا نضاله لا لأجل حمايتها سياسيًا فحسب وإنما لأجل تقديسها لحساب الله القدوس.

إشعياء، كرجل سياسي حكيم وبإرشاد روح الله القدوس، أدرك شئون عصره والأحوال التي كانت سائدة. فقد تنبأ عن سقوط دمشق والسامرة وامتداد سلطان أشور على الشرق الأوسط (إش 7)، كما امتد نظره - بروح النبوة - إلى مستقبل أبعد ليرى بابل وخطرها المحدق بيهوذا (إش 39)، وبروح الرجاء يعلن عن عودة الشعب كله - جميع الأسباط - من السبي البابلي.

رأى إشعياء في أشور (وبعد ذلك بابل) أداه تأديب إلهي لإسرائيل وأيضًا ليهوذا، ولم يكن بنو يهوذا قادرين على تصديق غزو أشور لأورشليم. لقد أكد النبي أن التاريخ كله والشعوب في يدّ الله يستخدمهم من أجل توبة شعبه ورجوعه إليه... وأنه لا علاج حتى لمشاكلهم السياسية بغير التوبة.

تمسك إشعياء بكلمة الحق في قوة وبسلطان الروح، ففي شجاعة يقول لآحاز الملك: "هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهي أيضًا؟!" (إش 7: 13)، كما وبخ الشعب كفاعلي شر (إش 1: 4)، ودعى العظماء "قضاة سدوم" (أش 1: 10)، وسخر بالأعداء الثائرين في وقت كانت فيه أورشليم ترتعب منهم حاسبًا إياهم كشعلة مدخنة (إش 7: 4)... ومع هذا نراه يئن قلبه لأنَّات موآب (إش 15: 5) ويرثى لسقوط بابل (إش 21: 4، 10؛ 22: 4).

سماته.

1. منذ القدم دُعى إشعياء بالنبي العظيم بسبب شخصيته وأعماله وكتاباته[9]. حمل في شخصيته شجاعة دانيال ورقة حس إرميا وآلام هوشع وثورة عاموس، وفاق الكل في قدرته الأدبية الفريدة على النقد المقدس اللاذع مع فتحه باب الرجاء على مصراعيه لا لشعبه وحده وإنما لكل بشر.

2. تحدث الله مع إشعياء النبي بالطرق الثلاثة الشائعة الخاصة بالإعلان الإلهي[10]:

أ. خلال الرؤيا المجيدة (إش 6)؛ وقد دُعى بالرائي (إش 30: 10). رأى السيد المسيح القادم وقد ملأ مجده الروحي كل العالم، فاهتزت السماء لتسبحه من أجل قداسته ومجده. هذه الرؤيا سيطرت على حياته وأفكاره وتصرفاته وكلماته؛ فنجد القداسة مع المجد هما الخط الواضح في السفر، مصدرهما ليس الذراع البشرى وإنما عمل المسيح الخلاصي. هذا الخط صبغ على السفر روح الرجاء بالرغم مما أعلنه عن بغض الله للخطية وسقوط الأمم تحت التأديبات القاسية بسببها.

ب. عمل الروح في حياة إشعياء، الذي أمسكه كما بيدٍ قوية (إش 8: 11)، وألهب حياته، فصارت كلمة الله أشبه بنار تلتهب في عظامه.

ج. الإعلان خلال الحديث الأبوي؛ فيتحدث رب الصباؤوت المهوب في أذني إشعياء كما يتحدث الصديق مع صديقه، يحدثه فمًا لفم (إش 8: 11؛ 20: 2؛ 22: 14)، ويعتبر هذا النوع أسمى أنواع الإعلانات الإلهية، إذ يقدم روح الصداقة الإلهية.

وكما تسلم النبي النبوة بهذه الوسائل الثلاثة، قدمها بدوره خلال ثلاث وسائل:

أ. الكرازة العلنية في الهواء الطلق من أجل توبة الجميع.

ب. العمل الرمزي؛ جاء في (إش 20: 2 - 3) أنه صار علامة وأعجوبة، فقد سار حافي القدمين عاريًا لمدة 3 سنوات ليؤكد ليهوذا سبيه وتسليمه للعبودية تحت نير أشور.

ج. خلال الكتابة بإعلان واضح في مكانٍ عامٍ مثل الهيكل للتحذير.

3. تمتع إشعياء بسّر الله في وقت طغت فيه الشكلية في العبادة على حياة القادة والشعب، واتسم الكل بالرياء مع فساد الحياة الداخلية. لقد فشل الكهنة والملوك في تحقيق رسالتهم في ذلك الحين لإصلاح إسرائيل ويهوذا، لذلك استمر الله يخدم شعبه خلال الأنبياء. جاء إشعياء ليعلن أنه لا طريق للإصلاح أو النصرة أو المجد إلاَّ خلال الحياة المقدسة؛ وأن الله القدوس يترفق بالخطاة ويشعر بضعفاتهم ويشتاق إلى خلاصهم.

لقد قدم إشعياء نبوات عن أحداث مقبلة، لكن غايته الأولى هي الاعلان عن فكر الله العامل عبر الزمن في الماضي والحاضر، والمستقبل، العامل خلال كل الشعوب حتى المقاومة له. وكأن هذا السفر يُجيب على الأسئلة التالية[11]:

  • هل القوة تعطى الأمم "الحق"؟
  • ما هو دور الله في العالم؟
  • هل دينونة الله أو عقابه يعنى رفضه الإلهي للشعب؟
  • ما هي طبيعة الاتكال عليه والثقة فيه؟
  • ما هو مستقبل مملكة داود؟

4. يعتبر هذا السفر من أروع الكتابات النبوية في أسلوب أدبي رائع. فالسفر كله شعري باستثناء الأصحاحات (36 - 39)، يدعوه De Costa "هبة الشعر" [12].

لقد سمع بنفسه تسابيح السمائيين (إش 6) ورأى السماء والأرض مملؤتين من المجد الإلهي فاهتزت أعماقه لتسبح الرب، وسكب نفسه مستخدمًا بروح الله القدوس كل قدرته الأدبية الفائقة وبلاغة أسلوبه وغنى أفكاره ليهز كل نفس تستمع إليه لحساب ملكوت الله. قدم أنواعًا مختلفة من التسابيح تحمل حمدًا وفرحًا ووصايا ودموعًا وحزنًا ومجدًا لله! جاء كتابه حديثًا نبويًا فيه يسكب نفسه في نفوسنا بحب فائق، عجيب في لغته، عذب في تشبيهاته، يتحدث بلغة الحب والإخلاص بروح نبوي مستقبلي مع واقع يعيشه، معبرًا بصراحة وشجاعة عن أحاسيسه تجاه القيادات المدنية والدينية والشعب خاصة المحرومين والمظلومين، مما جعل كتاباته حية وفعالة.

قدم إشعياء الطبيعة غير العاقلة كالجبال والغابات والأنهار والوديان كلها تُشارك الإنسان حياته.

لم يترك تشبيهًا أو تصويرًا إلاَّ واستخدمه.

يذكر H. Bultema التعليقات التالية على لغة هذا السفر[13]:

[يستحيل على أية ترجمة (للسفر) إلى لغة أخرى أن تحتفظ بزهرة هذا الطابع دون ضرر] القديس جيروم.

[إن كانت لغة الوجدان ecstasy غريبة عليّ تمامًا، فإنني لن أتجاسر وأترجم شعرًا مثل إشعياء] Van Der Palm.

[(إشعياء) فنان كامل في كلماته] Dillmann.

[إشعياء الملائكي والأمير] De Costa.

5. يتميز إشعياء بكثرة النبوات عن السيد المسيح، من جهة ميلاده من عذراء (7: 14)، لاهوته (9: 6)، من نسل يسّى (11: 1)، ممسوح لأجلنا (11: 2)، معلن الحق للأمم (42: 1)؛ يسلك بالوداعة (42: 2)، واهب الرجاء للكل (42: 3)، هروبه إلى مصر وإقامة مذبح كنيسة العهد الجديد هناك (19)؛ آلامه وصلبه (50: 6؛ 53: 1 - 12)؛ فتح طريق الفرح للمفديين بقيامته (35: 8 - 10)، إقامة عصر جديد مملوء سلامًا يجمع المؤمنين من اليهود والأمم معًا. كما أفاض عن العصر المسياني كعصر ملوكي داخلي يحمل بركات فائقة.

تحدث أيضًا عن الروح القدس وعطيته الفائقة في العصر المسياني (11: 2؛ 32: 15؛ 40: 7؛ 42: 1؛ 44: 3؛ 61: 1 الخ).

ليس في الكتاب المقدس مواجهة مع الصليب في أعماق أسراره أروع مما سجله إشعياء. أما مياه الروح القدس، مياه الخلاص التي نادى عنها السيد المسيح في يوم العيد العظيم "إن عطش أحد فليقبل إليّ" فقد سجلها العظيم في الأنبياء إشعياء في الأصحاح (55) [14].

إشعياء في العهد الجديد.

لسفر إشعياء أهميته الخاصة فقد حسبه ابن سيراخ "تعزية صهيون" ابن سيراخ.

(48: 24)؛ وقد اقتبس منه كتّاب العهد الجديد - أغلبهم من اليهود - 21 نصًا مباشرًا بجانب تلميحات كثيرة[15].

منذ بدء انتشار المسيحية يُنظر إلى سفر إشعياء كسفر هام للشهادة عن شخص السيد المسيح (أع 8: 27 - 39؛ 1 بط 2: 22 - 25). وقد قرأ السيد المسيح في إشعياء مشيرًا إلى شخصه (مر 1: 11).

إشعياء والليتورجيات القبطية.

لما كان سفر إشعياء قد ركز على عمل السيد المسيح الخلاصي والكشف عن عصره الذي اتسم بعطية الروح (المشار إليه بالماء والمطر) لهذا غالبًا ما تقرأ فصل من إشعياء في طقس باكر من كل أيام الصوم الكبير، وأيضًا في صلوات اللقان في خميس العهد وعيد الرسل والغطاس المجيد.

الفكر اللاهوتي عند إشعياء.

يرى بعض الدارسين أن منهج إشعياء اللاهوتي يمكن تقديمه تحت أربعة عناوين: "الله، البشرية والعالم، الخطية، الخلاص" [16]. ويمكن إجماله في العبارة التالية: [الله القدوس يُدين الخطية التي أفسدت البشرية تمامًا فسقط العالم كله تحت الدينونة، وقد حمل مخلصنا الدينونة في جسده ليُقيمنا فيه قديسين نتمجد معه].

جاء السفر يحمل مقابلات عجيبة مثل: المجد الإلهي - الانحطاط البشري؛ الدينونة الجامعة المرعبة - خلاص الله الفائق؛ تنزيه الله غير المدرك - عجز العبادة الوثنية؛ حكمة الله الشاملة - غباوة الأوثان؛ غنى عطايا الله - تدمير الخطية للبركات.

خلال هذه المقابلات وأمثالها يعلن الله عن حبه الخلاصي نحو الإنسان، ليرفعه إليه ويهبه ميراثًا لجبل قدسه (إش 57: 13)، مع حكمة ونصرة وأمجاد.

1. الله "قدوس إسرائيل" [17]...

كثيرًا ما يستخدم إشعياء النبي هذا الاسم "قدوس إسرائيل" الذي لم يُستخدم في الأسفار الأخرى سوى ست مرات (إر 50: 29؛ 51: 5؛ حز 39: 7؛ مز 71: 22؛ 78: 14، 89: 18).

استخدامه بكثرة خلال السفر كله يكشف عن وحدة السفر (إش 1: 4؛ 5: 19، 24؛ 10: 17، 20؛ 12: 6؛ 17: 7؛ 29: 19، 23؛ 30: 11، 12، 15؛ 31: 1؛ 37: 23؛ 41: 14، 16، 20؛ 43: 3، 14، 15؛ 45: 11؛ 47: 4؛ 48: 17؛ 49: 7 (مرّتان)؛ 54: 5؛ 55: 5؛ 60: 9، 14).

ماذا يعنى بقدوس إسرائيل في هذا السفر إلاَّ شخص السيد المسيح خالق إسرائيل وموحده ومجدده خلال عمله الخلاصي ليحميه ويمجده. في كل أصحاح من هذا السفر يتجلى السيد المسيح كمركز الحديث.

لقد رأى إشعياء في بدء عمله النبوي السيد المسيح المخلص جالسًا على عرش مجده والسارافيم يسبحونه: قدوس، قدوس، قدوس (إش 6). وقد شاهد القديس يوحنا في رؤياه الأربعة مخلوقات الحية حاملي العرش الإلهي ينشدون ذات التسبحة في السماء (رؤ 4: 8).

كما سبق فقلنا إن إشعياء تعلم ألا يفصل بين قداسة الله المطلقة وأمجاده الأبدية؛ أما دعوته الله "قدوس إسرائيل"، فلأنه القدوس الذي يقيم شعبًا مقدسًا له ليشاركه أمجاده الأبدية. هو قدوس في ذاته، لكن قداسته تمس علاقتنا به في صميمها.

تأكيد فكرة قداسة الله تُحطم الفكرة الوثنية التي سادت بان الله مجرد "بشر فائق Superhuman" أو "جد grand father عظيم في السماء". الله مختلف تمامًا عن خليقته، هو عال، يُغاير عالمه، هو القدوس وحده[18]... لكنه في نفس الوقت غير معتزل خليقته بل هو مقدسها.

بقدر ما أبرز النبي مدى فساد البشرية حتى الشعب الذي أختاره الرب، أكّد أمانة الله الواحد القدوس والقدير من جهة الخلاص (41: 14؛ 43: 3، 14 - 15؛ 47: 4؛ 48: 17 الخ)، ليهبهم شركة سماته (35: 8؛ 48: 2؛ 60: 14؛ 62: 12).

وبقدر ما أبرز بطلان الأوثان وعجزها أكّد أن القدير هو الخالق والمعين والقائد والدينان، في يده الزمن، وبقدرته يحرك الأمم لتحقيق إرادته المقدسة من جهة مؤمنيه.

2. البشرية والعالم.

نظرة إشعياء نحو البشرية والعالم انعكست على شخصيته، فقد آمن أن الإنسان الكائن العجيب موضع حب الله وتدبيره من أجله يحرك الله كل شيءٍ ليقدسه بل يقوم بنفسه بخلاصه، وفي نفس الوقت يرى الإنسان في ذاته ضعيفًا كل الضعف، صار كلا شيء، حطم نفسه بنفسه، لا يقدر على الخلاص خارج العمل الإلهي.

هذا ما نراه في شخصية إشعياء نفسه، فقد وقف أمام الله يعلن: "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" (إش 6: 5). لكنه إذ تمتع بلمسة من الجمرة التي قدمها أحد السارافيم من المذبح الإلهي ينطلق ليعمل بطاقات جبارة: حمل شخصية قوية جذابة تجمع روح النبوة مع اتساع الأفق، الحركة المستمرة للعمل مع عذوبة أسلوبه وسحر كلماته، يوبخ وينتهر بشجاعة مع فتح باب للرجاء، أمين لقوميته ومحب لكل البشرية، واقعي يدرك ما يحوط به في زمانه أما قلبه فمنطلق نحو المستقبل حتى يبلغ الأبدية عينها.

هكذا تكشف شخصية إشعياء النبي عن نظرته نحو الإنسان والعالم، أيضًا طريقة تعامله مع الغير تكشف ذات نظرته هذه. فهو لا ينشغل كثيرًا بالألقاب ولا بالمراكز، مدركًا أن القوة الحقيقية تنبع في اللقاء الخفي الداخلي مع الواحد القدوس، لذا لا يخف من الحديث بكل جرأة مع الملوك أو ضد الأمم وفي نفس الوقت بكل رقة وحنان مع الأيتام والأرامل والمظلومين... لقد عرف قيمة النفس البشرية مجردة عن الأمور الزمنية والشكليات الخارجية.

3. الخطية.

الخطية - في نظر إشعياء النبي - أيا كانت أشكالها هي "عصيان" ضد الواحد القدوس كما يظهر من افتتاحية السفر وختامه[19]. هذه النظرة واضحة في كل السفر، فإن القدوس يعمل لأجل تقديسنا لنشاركه سماته، وكل خطية أشبه بثورة ضده.

4. الخلاص.

إن كانت الأصحاحات الأولى (1 - 39) تؤكد كراهية الله للخطية وتأديب الخطاة العاصيين فإن الأصحاحات التالية (40 - 66) تعلن خلاص الله العجيب للخطاة من كل الأمم والشعوب.

الله الديان هو بعينه المخلص، يكشف الجراحات لا لتشهير بها وإنما لمعالجتها برقة وحنو مهما كلفه الثمن. لهذا في كل مرة يعلن حزمه ضد الخطية سرعان ما يكشف عن عمله الخلاصي ليبعث في النفس الرجاء المفرح. لقد تحدث إشعياء بفيض عن الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح (إش 43: 18، 19؛ 62: 2؛ 41: 15، 16؛ 65: 17 الخ...).

عبد يهوه (عبد الرب).

من أهم المشاكل التي تقف أمام النقاد هي تعبير "عبد يهوه" أو "عبد الرب" الذي أشير إليه في الأصحاحات ما بين (40 - 50) قرابة عشرين مرة: (إش 41: 8، 9؛ 42: 1، 19؛ 43: 10؛ 44: 1، 2، 21، 26؛ 45: 4؛ 48: 20؛ 49: 5، 6؛ 50: 10؛ 52: 13؛ 53: 11، 54: 17). وتتلخص المشكلة في أمرين:

1. أغلب الإشارات قدمته بكونه إسرائيل أو يعقوب.

2. تارة يظهر أنه عبد يهوه غير الأمين وتارة العبد المختار موضع سرور الأب، المتألم لأجل خلاص البشر.

من يكون هذا العبد ليهوه؟

1. في بداية العصر المسيحي وُجد بعض اليهود يفسرون "عبد يهوه" بكونه المسيا، لكن البعض الآخر رفضوا ذلك لأنهم لم يكونوا يتوقعون في المسيا ابن داود الذي يقيم المملكة الغالبة أن يتألم، لذا رأوا أن هذا العبد هو رمز لأمة اليهود[20]... هذا التفسير الأخير لا يقبله المنطق ولا يتفق مع ما ورد في السفر فقد أعلن النبي بوضوح أنه يتألم لأجل الخلاص، ويعمل من أجل ذلك (إش 49: 5 - 6؛ 53: 5 - 11)، فهل تألمت الأمة اليهودية من أجل خلاص العالم؟

2. حاول بعض النقاد تفسير هذا الشخص بكونه شخصية تاريخية أو فكرة أسطورية لتقديم مفهوم لاهوتي معين، وقد رفض C. R. North التفسيرين. عن الأول يتساءل: من يكون هذا الشخص التاريخي؟ هل هو النبي نفسه أم آخر؟! واضح أن الحديث لا ينطبق على شخصية تاريخية في العهد القديم. أما التفسير الثاني فغير مقبول لأن العهد القديم لم يستخدم قط الأساطير التي أتبعها الشرق الأدنى في ذلك الحين[21]. وقد رأى North أن ما ورد عن عبد يهوه إنما يجب تفسيره مسيانيًا، أي ينطبق على المسيا.

3. يرى البعض أن North قد ركز على تسابيح العبد (إش 42: 1 - 4؛ 49: 1 - 6؛ 50: 4 - 9؛ 52: 13 - 53: 12) التي لم يذكر فيها العبد بكونه إسرائيل أو يعقوب إنما تركز على العمل الخلاصي لهذا قبل التفسير المسياني[22].

4. إن عدنا إلى الكتاب المقدس نجد فيلبس الرسول يفسر هذا العبد بكونه يسوع المسيح (أع 8: 30 - 35). فكيف يقدمه السفر تارة العبد غير الأمين وأخرى العبد المختار موضع سرور الآب. يُجيب Ironside[23] بأن إسرائيل هو عبد الله الذي لم يستطع أن يَخْلُص بنفسه فاحتاج إلى المختار من قِبَل يهوه العبد الذي جاء ليحقق رسالة الخلاص. آدم الأول قَبِل مشورة العدو فخل تحت العقوبة وصار في مذلٍة لتغرّبه عن الله لذا جاء آدم الثاني ليُحطم العدو ويقيم كنيسته (إسرائيل الجديد) ويعلن حضوره فيها (إش 8: 18؛ 12: 6؛ 30: 29؛ 31: 9).

إذن ما ورد عن عبد يهوه تارة يتحدث عن آدم الأول أو الإنسان الذي حطمته الخطية وتارة عن آدم الثاني ابن الإنسان الذي حطّم سلطانها.

هذا ويرى القديس أغسطينوس أن عبد يهوه يرمز للسيد المسيح، كما يُشير أحيانا إلى كنيسته، إسرائيل الجديد، بكونها العروس المتحدة به، وجسده المتمتع بخلاصه[24].

نسبة السفر لإشعياء ووحدته.

يحاول بعض النقاد المحدثين أن ينكروا وحدة السفر ونسبته بأكمله لإشعياء النبي. فيدّعى البعض أن إشعياء كتب القسم الأول منه (إش 1: 39)، وأن آخر اصطلحوا على تسميته "إشعياء الثاني" كتب بقية السفر. وادعى آخرون أن المدعو إشعياء الثاني كتب فقط الأصحاحات (40 - 55) بينما ثالث كتب الأصحاحات (56 - 66). وقد بدأت هذه النظرية (تجزئة السفر) بتعليقات J. C. Doderlein عام 1775م وJ. G. Eichhorn عام (1780 - 1783). ومنذ بدء القرن العشرين بدأ بعض المفسرين يفصلون بين هذه الأجزاء ككتب مستقلة.

وأما حججهم في ذلك فهي:

1. الخلفية التاريخية: لا يقبل الناقدون إمكانية روح الله في الكشف عن المستقبل أمام رجال الله لبنيان الجماعة، ولا يدركون قول ابن سيراخ عن إشعياء أنه تحدث عن المستقبل (ابن سيراخ 48: 24). لذا يؤكدون أن كاتب الأصحاحات (40 - 60) كان معاصرًا للإمبراطورية البابلية وعن أنهيارها أمام كورش (إش 44: 28، 45: 1)...

كما سبق أن قلنا في مقدمات الكثير من أسفار العهد القديم أن المشكلة تقوم أساسًا على إنكار النقاد للنبوة ورفضهم للمعجزات الإلهية.

2. الخلفية الفكرية: يرى بعض النقاد أن الأصحاحات (1 - 39) تمثل كتابًا مستقلاً له فكر واحد هو تأديب شعب الله على خطاياهم خاصة اتكالهم على الذراع البشرية وانغماسهم في الرجاسات الوثنية كسائر الأمم المحيطة بهم، ثم فجأة تتحول الأصحاحات (40 - 66) إلى فكر آخر وإلى طابع مغاير، فيها يعلن الكاتب عن خلاص جديد خلال عهد جديد يقوم به الخالق المهتم بتجديد خلقته التي فسدت.

3. الخلفية اللغوية والأدبية: يرى بعض الدارسين أن الطابع اللغوي والأدبي في الأصحاحات (1 - 39) يختلف عما جاء في الأصحاحات (40 - 66).

الردّ على القائلين بإشعياء ثانٍ وثالث.

1. يقول[25]Bultema بأنه أمر غريب للغاية أن يُكتشف وجود إشعياء ثانٍ في تاريخ متأخر بواسطة بعض اللاهوتيين العقلانيين بينما لم يخبر بهذا الأمر أحد من حاخامات اليهود القدامى وآباء الكنيسة الأولى حتى الذين قادوا الحركة البروتستانتية لم يفكروا في هذا، فكيف كان إشعياء الثاني هذا مخفيًا عبر كل هذه العصور؟!

2. نسبت الترجمة السبعينية في القرن الثالث ق. م السفر كله لإشعياء النبي دون تجزئته.

3. يقدم لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس شهادة خارجية عن أصالة هذا الجزء (إش 40 - 66) ونسبته لإشعياء، وأنه كتب في وقت مبكر جدًا عن عصر كورش، إذ قال أن كورش نفسه قرأ ما ورد في سفر إشعياء فدهش وتحركت فيه رغبة قوية أن يحقق ما كتب عنه في هذا السفر[26]. واضح هنا أن يوسيفوس لم يعرف سوى إشعياء واحد.

لو أن الكاتب غير معروف في أيام كورش لكان هذا يعنى أحد أمرين، إما أن ما كتبه يوسيفوس عن كورش ليس بذي قيمة، أو أن كورش كان غبيًا خدعه اليهود.

4. نسب يشوع بن سيراخ السفر بأكمله إلى إشعياء النبي، وقد شهدت أسفار العهد الجديد لذلك باقتباس عبارات منه نسبتها إلى إشعياء النبي.

3. من جهة اختلاف الفكر بين أقسام السفر. فكما يقول Oswalt أن محاولة تجزئة السفر في العصر الحديث هي التي خلقت تجاهلاً لوحدة الفكر الذي يجرى في السفر كله[27]. وقد قدم لنا مثالاً لوحدة الفكر في السفر نقدمه هنا مع شيء من التصرف.

يُجيب السفر كله على تساؤلين هما:

ما هي طبيعة شعب الله؟

وما هو مصيرهم؟

في (إش 1 - 6): يعرض النبي المشكلة: الخطاة مدعوون، والحل هو رؤية الله.

وفي (إش 7 - 39): يكشف عن الاتكال على الله لا على الأمم المجاورة، وأنه عوض الاتكال عليهم في ضعف يلزم أن يدركوا رسالتهم ألا وهي أن يكونوا نورًا للأمم. وقد بدأ بنو يهوذا بالاتكال على الله لكنهم لم يستمروا.

وفي (إش 40 - 48): يُجيب على التساؤل: ما هو الحل لعدم استمرار يهوذا؟ حثهم على ذلك ولو بالتأديب والسبي. فالله يسمح بالسبي لكنه لا يزال يعلن "أنا هنا"، مجده يملأ السماء والأرض كما رأى إشعياء (إش 6).

وفي (إش 49 - 55): يُجيب على التساؤل: هل يمكن لإسرائيل الخاطئ أن يصير عبد يهوه؟ كما فعل الله بإشعياء مقدسًا شفتيه بالجمرة (إش 6) هكذا يفعل بالمؤمنين مقدسًا إياهم بعمله الخلاصي.

هنا يقدم مقابلة بين إسرائيل عبد يهوه والمسيا المخلص.

في إش (56 - 60): الله الذي يختار شعبه ويخلصهم من خطاياهم يبقى عاملاً حتى يتحقق مجده فيهم كما سبق ففعل مع إشعياء في الرؤيا (إش 6).

هكذا يظهر الخط واضحًا في السفر كله، خط خلاص الله العجيب الذي يحققه بدعوة الخطاة وتقديسهم خلال المسيا مخلص العالم.

4. ما يدعيه النقاد - أي نظرية تفتيت وحدة السفر - يواجه مشاكل كثيرة بلا حل، نذكر على سبيل المثال[28]:

أ. أن آراءهم تفقد الوحدة بصورة صارخة، فيرى Radday أن الأصحاحات (49 - 66) تمثل وحدة لغوية واحدة مقابل الأصحاحات (40 - 48)؛ فان كان هذا صحيحًا فانه يعارض فكرة إشعياء الثاني (40 - 55). هذا ويرى أن الأصحاحات (23 - 35) ليست من قلم إشعياء الأول وهذا يعارض فكر أغلب النقاد.

ب. لو كان هذا السفر هو من عمل ثلاثة أشخاص، فإنه يصعب جدًا تفسير كيف جاء السفر بشكله الحاضر. في كل المخطوطات السابقة للمسيحية لم تُوجد قط أجزاء منه قدمت ككتاب مستقل، إنما قدمت الأصحاحات الـ 66 كوحدة واحدة.

ج. يقول Morgalioth إنه لم تستطع هذه النظريات أن تقدم تفسيرًا لوجود مفاهيم مشتركة بين الأجزاء مثل (إش 1 - 7) مع (60 - 66؛ 7 - 12) مع (36 - 39) [29].

د. وجدت دراسات إحصائية لغوية للسفر تؤكد وحدته مثل عمل L. L. Adam[30].

فيما يلي أمثلة قليلة لتشابه الأفكار والأسلوب خلال الأجزاء التي يدعى النقاد أنها كُتبت مستقلة[31]:

* تسمية الله "قدوس إسرائيل" وردت 13 مرة في (إش 1 - 39)، 16 مرة في (إش 40 - 66)، بينما استعلمت 7مرات في بقية أسفار العهد القديم.

* تسمية الله "عزيز إسرائيل" في (إش 1: 24)، وأيضًا في (إش 29: 26؛ 60: 26).

* استخدام تعبير: "فم الرب تكلم" (إش 1: 20؛ 21: 17؛ 22: 25؛ 24: 3؛ 25: 8)؛ (40: 5؛ 58: 14).

* العلاقة بين الله وإسرائيل في الأصحاحات (1 - 39) مطابقة في الصور والأفكار بما ورد في الأصحاحات (40 - 66).

من جهة الأفكار:

أ. بنو إسرائيل أولاد الله وشعبه المحبوب (1: 2، 3؛ 2: 6؛ 3: 12)؛ (40: 11؛ 41: 8، 9؛ 43: 1، 15).

ب. عصيانهم (1: 17، 23؛ 3: 12، 15؛ 5: 7، 23)؛ (59: 8، 13).

ج. سقوطهم في الوثنية (1: 29؛ 2: 8، 20؛ 31: 7)؛ (40: 19، 20؛ 41: 7؛ 44: 9 - 20؛ 57: 5).

د. سفك الدماء البريئة (1: 15، 21؛ 4: 4) (9: 3، 7).

هـ. رفض الله لهم لعصيانهم (1: 15؛ 2: 6؛ 3: 8؛ 4: 6)؛ (42: 18 - 25؛ 43: 28).

و. الحكم عليهم بالسبي (5: 13؛ 9: 11، 12؛ 14: 3)؛ (42: 22؛ 43: 5، 6؛ 45: 13).

ز. السبي إلى بابل بالذات (14: 2 - 4؛ 39: 6، 7)؛ (47: 6؛ 48: 20).

ح. الرب يُبقى له بقية (6: 13؛ 10: 20 - 22؛ 11: 12؛ 14: 1، 3)؛ (43: 1 - 6؛ 48: 9 - 20). فكرة البقية التي تخلص كخيط ذهبي خلال السفر كله.

ط. الوعد بالعودة وغرسهم في الأرض المقدسة (14: 1؛ 35: 10)؛ (44: 26؛ 45: 3؛ 51: 11).

ى. انضمام الأمم إليهم (11: 10؛ 25: 6)؛ (42: 6؛ 49: 6؛ 55: 5).

ك. الوعد بملك عظيم (9: 6، 7؛ 24: 23؛ 32: 1؛ 33: 17)؛ (42: 1 - 4؛ 49: 1 - 12).

ل. يملك في جبل الله المقدس (2: 2؛ 11: 9)؛ (56: 7، 57: 13؛ 65: 11).

م. يكون فاديًا ومخلصًا (1: 27؛ 25: 9 - 10؛ 35: 4)؛ (41: 14؛ 53: 5 12؛ 59: 20).

ن. استخدام الاسم الرمزي لمصر "رهب" في الجزئيين (إش 30: 7)؛ (إش 51: 9).

من جهة الصور والتشبيهات:

أ. كثرة استخدام صور النور والظلام كرمز للمعرفة والجهل؛ استخدم النور مجازيا 18 مرة على الأقل والظلام 6 مرات، وقابل بين الاثنين 9 مرات (إش 5: 20، 30؛ 13: 10)؛ (إش 42: 16؛ 50: 10؛ 58: 10؛ 59: 9؛ 60: 1 - 3).

ب. استخدم أيضًا العمى والصمم في حالات متشابهة (إش 6: 10؛ 29: 10، 18؛ 22: 3؛ 35: 5)؛ (إش 42: 7، 16، 18، 19؛ 43: 8؛ 44: 18؛ 56: 9).

ج. تصوير البشرية بالزهرة أو ورقة سرعان ما تذبل (إش 1: 30؛ 18: 15)؛ (إش 40: 7؛ 64: 6).

د. تشبيه الإصلاح براية (إش 11: 12؛ 18: 3)؛ (إش 49: 22؛ 62: 10؛ 66: 19).

هـ. دعوة المسيا الغصن أو القضيب (إش 11: 1، 2؛ 53: 2).

و. العصر المسياني كعصر ماء (إش 30: 25؛ 33: 21؛ 35: 6)؛ (إش 41: 17، 18؛ 43: 19، 20؛ 55: 1؛ 58: 11؛ 65: 12).

ز. تشبيه الله بالفخاري والإنسان بإناء خزفي (إش 29: 16)؛ (إش 45: 9؛ 64: 8).

ح. تشبيه أورشليم بخيمة ذات أوتاد (إش 32: 20)؛ (إش 54: 2).

ط. تشبيه تطهير إسرائيل بتنقية الفضة (إش 1: 25)؛ (إش 48: 10).

هذه أمثلة قليلة من كثير من وجود تشبيهات وتعبيرات مشتركة بين الـ 39 أصحاحًا الأولى وبقية السفر... مما يدل على وحدة السفر وان الكاتب شخص واحد. هذا ويلاحظ أنه لا يخلو أصحاح في كل السفر من تشبيه حيّ وتصوير رائع خاصة في الأصل العبري الذي يعطى سمو اللغة رونقًا خاصًا لهذه التشبيهات والتصويرات.

مع هذا إن وُجد شيء من الاختلاف في الأسلوب بين ما ورد في (إش 1 - 39)؛ (إش 40 - 66) فانه أمر طبيعي لتطور الأسلوب بالنسبة لنفس الكاتب خلال حقبات حياته المختلفة، خاصة وأن مدة نبوته طويلة، تبلغ حوالي الستين عامًا.

5. كاتب كلا الجزئيين يظهر أنه صاحب معرفة كاملة بتاريخ شعبه.

6. كاتب الجزء الثاني (إش 40 - 66) ليس كما يدعى النقاد أنه إنسان يعيش في أرض السبى، إنما واضح أنه كان مقيمًا في الأراضي المقدسة، وكما يقول H. Bultema:

أ. بينما يكرر إرميا النبي إسم بابل أكثر من 160 مرة نجد هنا في هذه الأصحاحات السبعة والعشرين (إش 40 - 66) يُذكر ثلاث مرات فقط. كما لم يشر الكاتب إلى المدن المحيطة ببابل ولا إلى قٌراها أو حصونها. أما بالنسبة لكنعان فكثيرًا ما يُشير إليها وإلى بعض المناطق التي فيها.

ب. لا يُشير الكاتب إلى الأمم المحيطة ببابل بينما يُشير إلى جبال كنعان وتلالها وصخورها وكهوفها وطرقها الجبلية ووديانها.

ج. يتحدث عن حجارة لا توجد في بابل بل في كنعان (إش 48: 19؛ 57: 6؛ 62: 10؛ 51: 1؛ 50: 7).

د. بالنسبة للنباتات أشار إلى نوع واحد من أشجار بابل "الصفصاف" (إش 44: 4)؛ أما أشجار كنعان فيكررها مرات ومرات مثل الأرز والزيتون والصنوبر والآس والزان والسرو الخ...

هـ. بالنسبة للأخشاب، كان البابليون يستخدمون أشجار النخيل في البناء كما في الوقود بينما يُشير إشعياء إلى الأخشاب الكنعانية مثل الأرز والسرو وسنديان والصنوبر (إش 44: 13 - 16).

و. لم تذكر هذه الأصحاحات نوعًا واحدًا من محاصيل بابل إنما أشارت إلى المحاصيل التي تنمو في كنعان مثل البهرات والكتان والقصب.

ز. ورد بهذه الأصحاحات أكثر من 25 نوعًا من الحيوانات لا يوجد من بينها نوع واحد من الحيوانات الخاصة ببابل، وهكذا بالنسبة للطيور والأسماك.

ح. عندما تحدث عن الأصنام أشار إليها بكونها مُقامة تحت الأشجار (إش 57: 5 - 7) وفي الكهوف وعلى الجبال والتلال؛ هذا يناسب كنعان أما في بابل فوجدت الأصنام في هياكل ضخمة جميلة.

ط. في تشبيهاته المتعددة عبر السفر كله لم يشر إلى عجائب الدنيا في بابل مثل أسوار بابل الفريدة في سمكها، ومعبد بيل والقصر الملكي لـ Neriglisser والحدائق المعلقة.

من هذا كله واضح أن الكاتب يعيش في كنعان وليس في بابل أرض السبي كما أدعى النقاد ليعزلوا الأصحاحات (40 - 46) عن بقية السفر بكون كاتبها إشعياء آخر في أرض السبي جاء في وقت متأخر عن إشعياء الأول.

التفسير الألفي لسفر إشعياء.

بينما ركز آباء الكنيسة الأولى على نبوات إشعياء النبي بكونها شهادة صادقة وأمينة عن شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي، يحاول كثير من المفسرين المحدثين صبغه بالفكر الألفي، متطلعين إلى كثير من نبواته على أنها ستتحقق عندما يأتي الرب ليملك ألف سنة على الأرض قبل حلول الضيقة العظيمة.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى الآتي:

1. تفسير النبوات بطريقة حرفية، مثل إعادة مجد صهيون وأورشليم وغلبة المخلص على الأمم والشعوب المقاومة الخ... هذه المفاهيم ليست إنجيلية، فإن صهيون وأورشليم إنما هما كنيسة العهد الجديد، التي تدعى "إسرائيل الجديد". أما الغلبة على الأعداء فإشارة رمزية لغلبته على قوات الظلمة بالصليب.

2. عدم إدراكهم أن الرب قد ملك فعلاً بالصليب على القلوب وأنه أقام مملكته المملوءة فرحًا وسلامًا لا ينطق به.

3. إن الشيطان قد قُيد بالنسبة للمؤمنين بالصليب، وأننا قد أُعطينا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب. (راجع تفسيرنا لسفر الرؤيا ص 19).

أقسام السفر.

يرى علماء اليهود وآباء الكنيسة الأولى أن النبوات الواردة في هذا السفر جاءت حسب ترتيب إعلانها للنبي، وإن كان بعض النقاد الحديثين يرفضون هذا الرأي.

نبوات في أيام عزيا [ص 1 - 5].

نبوات في أيام يوثام [ص 6].

نبوات في أيام آحاز [ص 7 - 14].

نبوات في أيام حزقيا [ص 15 - 66].

ويمكن تقسيم السفر حسب موضوعه إلى ثلاثة أقسام متكاملة تبرز عمل الله الخلاصي. ففي القسم الأول يعلن النبي تأديب الله لكل البشرية - اليهود والأمم - لأن الطبيعة البشرية قد فسدت وصارت في حاجة إلى تدخل إلهي لتقديسها. وفي القسم الثاني يعلن الله القدوس عن إمكانية الغلبة على الأعداء (إبليس وجنوده) وعلى الموت وعلى الأنا بالله نفسه. هذا القسم تاريخي نبوي يظهر أن ما ننعم به من نصرة يتحقق بواسطة ابن داود الذي يموت ويقوم [قصة حزقيا الملك الذي أنعم عليه بـ 15 سنة كرمز لموت المسيح وقيامته]. وفي القسم الأخير يعلن الله القدوس عن تمتع البشرية بالخلاص في مفهومه الواسع، أي شركة المجد الإلهي خلال آلام المسيح وصلبه.

هذه الأقسام الثلاثة هي:

أولاً: القدوس المؤدب [ص 1 - 35].

1. نبوات خاصة بيهوذا وأورشليم [ص 1 - 12].

2. نبوات خاصة بالأمم المحيطة [ص 13 - 23].

3. نبوات خاصة بالعالم [ص 24 - 35].

ثانيًا: القدوس واهب النصرة [ص 36 - 39].

1. نصرة على الأعداء [ص 36 - 37].

2. نصرة على الموت [ص 38].

3. نصرة على الأنا [ص 39].

ثالثًا: القدوس المعزى بالخلاص [ص 40 - 66].

1. عزوا عزوا شعبي [ص 40 - 44].

2. هجوم كورش على بابل [ص 45 - 47].

3. أحاديث الخلاص [ص 48 - 59].

4. بناء مدينة الرب الجديدة [ص 60 - 66].

يرى البعض أن هذا السفر يمثل الكتاب المقدس كله بعهديه، القسم الأول منه (إش 1 - 39) يتحدث عن حال إسرائيل قديمًا وما بلغ إليه من فساد وحاجة العالم إلى مخلص إلهي وهو بهذا يمثل العهد القديم، أما الأصحاحات السبعة وعشرون (إش 40 - 66) فتُشير إلى أسفار العهد الجديد السبعة وعشرين تعالج سرّ الفداء بكل وضوح وتعلن الملكوت المسياني وعطية الروح القدس لإقامة مدينة الرب الجديدة.

الفترة

اسم النبي

الملوك المعاصرين

الظروف المحيطة

غاية السفر

مـا قـبل الـبي

1. يونان

2. يوئيل

3. عاموس

4. هوشع

5. إشعياء

6. ميخا

يربعام الثاني (مملكة إسرائيل).

ربما عاصر الملك يوشيا.

يربعام الثاني.

عزيا، بوتام، آحاز، حزقيا [يهوذا]؛ يربعام 2.

عزيا، بوتام، أحاز، حزقيا.

بوتام، أحاز، حزقيا [يهوذا].

أُرسل إلى نينوى ليتوبوا.

التوبة القائمة على تجديد القلب.

الخطايا الجماعية.

الله يطلب زوجته الخائنة لترجع إليه.

الانجيل الخامس (العصر المسياني).

يعلن التأديب مع نبوات مسيانية.

الله للجميع: لليهود كما للأمم 4: 11.

يوم الرب 3: 18.

التأديب (نبي الويلات) 5: 13.

هلم نرجع إلي الرب: لأنه أفترسنا فيشفينا 6: 1.

القدوس المخلص 53: 5.

من هو مثلك غافر الإثم؟! 7: 18.

بين سبي إسرائيل وسبي يهوذا

7. ناحوم

8. صفنيا

9. أرميا

10. باروخ

11. حبقوق

حزقيا [هرب إلى يهوذا عند سبي السامرة].

أوائل ملك يوشيا.

يوشيا، يهوياكين، يكنيا، صدقيا.

[عصر أرميا صديقه الشخصي].

كتب بعد معركة كرمشيش في أيام يهوياقيم.

يتحدث عن إدانة نينوى ويطمئن شعبه.

يتحدث عن قرب مجيء سبي يهوذا.

يؤكد تحقق السبي ويطالب بالاصلاح القلبي.

يبدو أنه سافر إلى المسيين ليسندهم.

أسئلة حول تأديب الشعب بالكلدانيين.

نهاية الشر 1: 8.

الإله الغيور 1: 18.

تأديبات الرب ممتزجة بحنوه 3: 12 - 13.

الحفاظ على الإيمان 4: 1 - 3.

الحوار مع الله 1: 3.

سبي

يهوذا

12. دانيال

13. حزفيال

خدم أيام ممالك: بابل، مادي، فارس، في السبي.

شهد أمام الملك الوثني بسيرته وحكمته.

فتح باب الرجاء ببناء الهيكل المسياني.

إدانة الظلمة بالنور 2: 22.

مجد الرب 10: 4، 18.

بعــد الســـبي

14. حجي

15. زكريا

16. عوبديا

17. ملاخي

داريوس الملك

[لم يعد لهم ملوك]

داريوس الملك

التشجيع على البناء الداخلي للهيكل (القلب).

تشجيع الشعب على اعادة بناء الهيكل.

الله يؤدب أدوم لكبريائه، كراهيته.

يعلن عن مجيء السيد المسيح بسبقه إيليا.

بناء بيت الرب الداخلي 2: 15.

غيرة الله 1: 14.

كما فعلت يُفعل بك 1: 15.

محبة الله العملية للبشرية 1: 11.

الباب الأول.

القدوس المؤدب.

[ص 1 - ص 35].

الباب الأول.

القدوس المؤدب.

[ص 1 - ص35].

غاية إشعياء النبي هو الكشف عن إنجيل الخلاص أو جذب البشرية كلها للتمتع بالمخلص القادر أن يصلح الطبيعة البشرية ويردها إلى صلاحها الذي خُلقت عليه بل ويرفعها إلى شركة المجد السماوي.

لكي يحقق هذا الهدف كان لابد أن يكشف عن مدى ما وصلت إليه الطبيعة البشرية من فساد، لهذا يبدأ سفره بالحديث عما بلغ إليه شعب الله، حاسبًا أن "الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم؛ ويل للأمة الخاطئة" (إش 1: 3 - 4) لقد أصاب المرض الرأس (الملوك والرؤساء وكل القيادات المدنية). كما أصاب القلب (الكهنة والقيادات الدينية) وكل بقية الجسم (الشعب).

تمثلت مملكة إسرائيل بالأمم فقبلت رجاساتها، وأيضًا مملكة يهوذا صارت فيما بعد أشر من إسرائيل. استخدم الله أشور للتأديب فتعجرف على الله؛ أذله بقيام مملكة بابل فامتلأت بابل غطرسة ضد الرب، لذلك أرسل فارس ومادي يُحطمان بابل. على أى الأحوال يكشف إشعياء في نبواته أن جميع الأمم استحقت الدينونة: إسرائيل، يهوذا، أشور، مصر، بابل، فارس ومادي، أدوم، موآب الخ... وهكذا يُريد النبي أن يعلن أنه لا خلاص من هذا الدمار الذي جلبه الإنسان لنفسه إلاَّ بالتدخل الإلهي. لهذا وسط النبوات المّرة الخاصة بالتأديبات نجد خطين رئيسيين في هذه الأصحاحات بل وفي كل السفر، هما:

1. التطلع إلى المسيا المخلص: كلما تحدث النبي عما يحل بالأمم أو بالإنسانية يفتح باب الرجاء بالتنبؤ عن المخلص القادم يسوع المسيح بن يسّى.

2. الله يغضب على الخطية ولن يقبل الشركة مع الخطاة لأنه القدوس، وفي نفس الوقت يده ممدودة للخلاص لكي يقدس المقبلين إليه من كل الأمم. بمعنى آخر الله يكره الخطية لكنه يُحب الخطاة، يحب كل البشرية، ويفتح بابه للأمم. هذا ما يؤكده بكل وضوح في الأصحاح التاسع عشر حيث يعلن عن هروب السيد المسيح إلى مصر، واقامة مذبح للرب في وسطها، مؤكدًا "مبارك شعبي مصر".

لقد أبرز في هذه الأصحاحات (1 - 35) الآتي:

1. الله في تأديباته لا ينتقم لنفسه لكنه كطبيب يود أن يعالج ويشفي، لذا امتزجت التأديبات بإعلان الخلاص حتى لا يسقط السامعون في اليأس.

2. أعلن الله عن مجده لإشعياء (إش 6) وقداسته في نفس الوقت، ليؤكد للبشرية أنه لا شركة في المجد بدون القداسة، ولكي ينزع عنهم كل اتكال على ذراع بشري، فإننا إن تمجدنا إنما بقوة الله الممجد من السمائيين، وإن تقدسنا فخلال شركتنا مع الواحد القدوس.

3. الله في تأديباته هو صاحب الكرم المشتاق أن يجد ثمرًا في كرمة العزيز لديه جدًا، موضع رعايته الفائقة (إش 5).

4. يعقب الحديث عن الويلات (إش 10) نشيد الخلاص (إش 12)، ليؤكد رغبته في تحويل التأديب إلى تسبيح، وفرج حزن التوبة بفرح الخلاص.

5. الله يؤدب، لكن ليس خلال أوامر ونواه، وإنما بروح الحب والحوار، لا يكف السفر عن الكشف عن مقاصد الله من التأديب (إش 25 - 27)، مطالبًا بحوار ودّي بينه وبين الإنسان.

الأصحاح الأول

المحاكمة العظمى.

يُفتتح هذا السفر بإعلان الله عن محاكمة شعبه؛ فيها يقف الله مدعيًا وقاضيًا. لا يُريد أن يحكم عليهم دون إعطائهم فرصة للدفاع عن أنفسهم. يستدعى الطبيعة الجامدة والأحداث الجارية حتى القضاة الظالمين شهودًا ضد شعبه. يعلن الاتهام وفي نفس الوقت يُقدم فرصة للحوار ويفتح باب العفو إن رجعوا إليه بالتوبة. يقف قاضيًا وديَّانًا وفي نفس الوقت طبيبًا ومخلصًا، يفتح ذراعيه للنفوس الساقطة.

1. مقدمة السفر [1].

2. استدعاء الطبيعة [2].

3. استدعاء الحيوانات [3].

4. وصف لحال الشعب [4 - 9].

5. استدعاء القضاة [10].

6. الاتهام: "العبادة الشكلية" [11 - 15].

7. دعوة للتوبة [16 - 20].

8. عتاب من واقع الماضى [21 - 23].

9. الديَّان يتقدم كمخلص [24 - 31].

العدد 1

1. مقدمة السفر:

"رؤيا إشعياء بن آموص التي رآها على يهوذا وأورشليم في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا" [1].

تعتبر هذه العبارة مقدمة للسفر كله الذي يضم مجموعة رؤى ونبوات أُعلنت لإشعياء في ظروف مختلفة أيام عزيا العظيم ويوثام الملك الصالح وآحاز بعهده المظلم وحزقيا ومنسى الخ... لكنه يدعوها جميعًا "رؤيا"، لأنها وإن كانت رؤى متباينة إنما تمثل وحدة واحدة، لها هدف واحد هو إعلان الله عن فكره ومشيئته وخطته الخلاصية من أجل بنيان الجماعة المقدسة أو لتقديس البشرية المؤمنة به.

الرؤى هنا ليست أحلامًا تمتع بها النبي أثناء نومه، وإنما هي إعلانات إلهية قدمت للنبي أثناء يقظته بينما كانت حواسه ساكنة بسبب قصورها وعجزها، ليقول النبي مع القديس يوحنا الرائي: "كنت في الروح" (رؤ 1: 10). وربما قصد بالرؤيا الوحي الإلهي الخاص بالنبوة.

هذه الرؤى "على يهوذا وأورشليم"، أي تخص مملكة يهوذا أو مملكة الجنوب (يهوذا وبنيامين) وتركز على العاصمة أورشليم بكونها مدينة الله بها هيكله المقدس؛ لكنها ضمت أيضًا نبوات عن مملكة الشمال (بقية الأسباط) وعن الممالك المجاورة التي لها علاقة بالشعب.

هذه الرؤى هي كلمة الله التي لا تمس يهوذا في القرن الثامن ق. م. فحسب وإنما تمس حياة كل إنسان يشتاق نحو خلاص نفسه وتمتعه بالشركة مع الله، وكما جاء في سفر التثنية: "الرب إلهنا قطع معنا عهدًا في حوريب، ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد بل معنا نحن الذين هنا اليوم أحياء" (تث 5: 3)... إنها كلمة الله وإعلاناته لكل نفس بشرية!

العدد 2

2. استدعاء الطبيعة:

"إسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم: ربيت بنين ونشأتهم. أما هم فعصوا عليّ" [2].

يبدأ السفر بمحاكمة عظمى طرفاها الله والإنسان، تُستدعى فيها الطبيعة الجامدة - السماء والأرض - لتشهد هذه المحاكمة.

ربما استدعى إشعياء النبي الطبيعة كما سبق ففعل موسى النبي: "انصتي أيتها السموات فأتكلم، وتسمع الأرض أقوال فمي" (تث 32: 1). كأن إشعياء يؤكد لشعبه أن ما ينطق به إنما هو امتداد لكلمات موسى النبي الذي يعتز به كل يهودي. ولعله أراد أن يؤكد مدى قساوة قلب الإنسان وعمى بصيرته لذا يستدعى الطبيعة الجامدة للشهادة ضده، الأمر الذي أوضحه معاصرة ميخا النبي: "اسمعي خصومة الرب أيتها الجبال ويا أُسس الأرض الدائمة، فإن للرب خصومة مع شعبه" (مى 6: 2).

ربما تمَّ هذا الاستدعاء من ملاك من قبل الرب للشهادة على الإنسان في قساوة قلبه. ولعل الرب نفسه هو الذي حقق هذا الاستدعاء، إذ لم يستدع هيكله المقدس ولا شريعته لتشهد عليهم بل طلب الطبيعة الجامدة التي حققت مقاصد الله وتممّت رسالتها بالخضوع له، أما الإنسان ففسد تمامًا بسبب عصيانه.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يليق الآن استدعاء السماء (للشهادة) إذ لا يوجد إنسان يسمع ويشهد لهذه الأمور[32]].

يرى القديس القديس إكليمنضس السكندري ان الله يستدعي الغنوسيين، أي المؤمنين أصحاب المعرفة الإلهية السماوية (السماء) كما يستدعي من انشغلت قلوبهم بالزمنيات والأرضيات[33].

"ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليّ" [2].

الله لا يحمل مشاعر إنسانية لكنه ليس كائنًا جامدًا، إنما هو "الحب" عينه، فريد في حبه لخليقته السماوية والأرضية، خاصة حبه نحو الإنسان. لهذا إذ يتحدث معنا نحن البشر يُحثنا بلغتنا البشرية معبرًا عن حبه كما بمشاعر إنسانية حتى يمكننا التلامس معه واختبار الاتحاد والشركة معه.

الله يعلم أنه ليس شيء يمكن أن يحزن الإنسان ويفقده طعم الحياة مثل شعوره بأنه قد فشل في تربية أولاده، خاصة إن قاموا ضده يعلنون العصيان عليه. مع الفارق الشاسع، يكشف الله عن مشاعرة نحو الإنسان الساقط: أنه ابن محبوب، يقدم له أبوه السماوي كل إمكانيات الحياة الفائقة، لكنه يُقابل الحب بالعصيان.

لقد دعى شعبه "الابن البكر" (خر 4: 22)، وهكذا يدعونا أولادًا له، إذ لم نأخذ روح العبودية بل روح التبني الذي به نصرخ أيها الآب أبانا (رو 8: 15).

يتوقع الله فينا أن نحمل روح النبوة المتجاوبة مع أبوة الله الفريدة الحانية التي كلفته الكثير، مقدمًا ابنه الوحيد الجنس ذبيحة ليقتنينا له أبناء في مياه المعمودية. يقول القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات: [كراعٍ صالح سعيت في طلب الضال، كأب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط[34]].

يُحدثنا القديس كبريانوس عن التزامنا كأولاد لله نحو أبيهم، قائلاً: [إن كنا أولادًا لله، إن كنا بالفعل قد بدأنا أن نكون هياكله، إن كنا نتقبل روحه القدوس، يلزمنا أن نحيا بالقداسة والروحانية[35]].

يُعاتب الله أولاده من أجل عصيانهم، فإن عصيان البنين أمرّ من عصيان الأجراء والعبيد، جراحات الأحباء خاصة البنين أقسى من تلك التي يُسببها الأعداء.

يرى القديس إيريناؤس أن الله خلق الإنسان كابن له يمتثل به، ويتممٍ إرداته الإلهية من نحوه، لكنه إذ يمجد الله ويقبل مشورة عدو الخير يصير ابنًا لإبليس. لهذا دعى السيد المسيح مقاوميه "أبناء إبليس" (يو 8: 44)، ونفى عنهم أنتسابهم الروحي لإبراهيم (يو 8: 39).

  • بحسب الطبيعة - حسب الخلقة - يُقال إننا ابناء الله، إذ نحن جميعًا خليقته. أما من جهة الطاعة والتعليم فلسنا جميعًا ابناء الله، إنما الذين يؤمنون به ويتممون إرادته وحدهم (أبناء). أما الذين لا يؤمنون ولا يطيعون إرادته فهم أبناء الشيطان وملائكته، لأنهم يفعلون أعمال الشيطان.

القديس إيريناؤس[36].

  • عندما اضطهد الفريسيون ربنا ومخلصنا بكى بسبب هلاكهم القادم. لقد أساؤا معاملته، أما هو فلم يبادلهم ذلك ولا بالتهديد، حتى عندما استخفوا به وقتلوه، وإنما على العكس حزن على تجاسرهم... هذه الأمور جميعًا كانت أمام أعينهم في الكتب المقدسة، فقد تنبأ المرتل، قائلاً: "الأبناء الغرباء صنعوا بي باطلاً" (مز 18: 45). وقال إشعياء: "ربيت بنين ونشأتهم وأما هم فعصوا عليّ" (إش 1: 2). لم يعودوا بعد شعب الله أو أمة مقدسة إنما صاروا ولاة سدوم وشعب عمورة (إش 1: 10). تعدوا خطية أهل سدوم كما تنبأ النبي: "سدوم تتبرر أمامكم" (راجع حز 16: 48؛ مرا 4: 6). فقد قاوم أهل سدوم ملائكة، أما هذا الشعب فهاجموا رب الكل وإله الجميع وملكهم، تجاسروا فقتلوا ملك الملائكة ولم يعرفوا أن المسيح الذي قتلوه يحيا حتى اليوم.

البابا أثناسيوس الرسولي[37].

العدد 3

3. استدعاء الحيوانات:

"الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم" [3].

إن كان الله قد دعى إسرائيل ابنه البكر (خر 4: 22)؛ فكان يليق بالابن أن يعرف أباه ويدرك أسراره ويتجاوب مع مقاصده وإرادته، لكن الإنسان خلال عصيانه انحط منحدرًا إلى ما هو أدنى من الحيوانات العجماوات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم ان الإنسان انحط إلى ما هو أقل من الحيوان، فأخذ السيد المسيح طبيعتنا وصعد إلى السموات ليرفع طبيعتنا إلى ما هو سماوي[38].

لقد انحط الإنسان حتى قيل في سفر الأمثال: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان؛ تأمل طرقها وكن حكيمًا" (أم 6: 6).

عُرف الثور والحمار بغباؤهما إن قورنا ببقية الحيوانات ومع هذا إن جاعا يسيران بالغريزة نحو صاحبهما عند موضع الطعام كأنهما يطلبان منه أن يأكلا. أما إسرائيل فقد تمررت حياته بالسبي وصار جائعًا وعريانًا ومع هذا لم يرجع إلى الله أبيه الذي يرعاه ويهتم به، ما تُمارسه الحيوانات بالغريزة فاق تصرفات الإنسان العاقل في شره!

إن كان الإنسان قد انحط هكذا إلى ما هو أدنى من الحيوان، فقد وُلد كلمة الله المتجسد في مزود حتى إذ يقترب الإنسان كما إلى المزود يجد السيد المسيح مأكلاً له. يأكل فتنفتح بصيرته ليدرك أسرار الله خلال اتحاده بالابن الوحيد العارف بأسرار أبيه، إذ يقول: "ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27).

هنا دعوة إلهية موجهة إلينا نحن الذين اقتنانا السيد المسيح بدمه، وقدم جسده ودمه طعامًا لنفوسنا، لذا لاق بنا أن نصغى إلى كلماته ونستجيب لدعوته.

يُقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين اليهود في العهد القديم والمؤمنين في العهد الجديد من جهة معرفة الله فيقول بأن الأولين عرفوا الله بفكرهم لكن ليس بحياتهم وخبرتهم وأعمالهم (تى 1: 16).

  • خطأهم ليس في جهلهم (العقلي) وإنما في شرهم، في إرادتهم الشريرة، فإنهم حتى عندما عرفوا ذلك أختاروا أن يكونوا جهلاء[39].
  • قبل الصليب حتى اليهود لم يعـرفوا (الآب)، إذ قيل: "إسرائيل لم يعرف"، أما بعـد الصليب فجرى العالم كله إليه[40].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

القديس أغسطينوس[41].

  • كيف لا تحسبه أمرًا مرعبًا إن كان الذين يعرفون الله (عقليًا) لم يدركوا الرب (عند مجيئه)، بينما يعرف الحيوانان الغبيان - الثور والحمار - من يقوتهما، وقد وُجد إسرائيل أكثر منهم غباوة؟!

القديس إكليمنضس السكندري[42].

  • لقد كللوا يسوع ورفعوه إلى فوق شاهدين عن جهلهم.

القديس إكليمنضس السكندري[43].

الأعداد 4-9

4. وصف لحال الشعب:

بعد أن استدعى الطبيعة الجامدة والحيوانات غير العاقلة لتشهد محاكمة الله مع الإنسان، كشف عن الحال الذي بلغ إليه الشعب، كأنه عريضة اتهام، جاء فيها:

أولاً: وصفهم بسبع سِمات في [4]، وكأنه يقول مع عاموس النبي "من أجل ذنوب يهوذا الثلاثة والأربعة... من أجل ذنوب إسرائيل الثلاثة والأربعة" (عا 2: 4، 6). الثلاثة تُشير إلى خطايا النفس الداخلية التي على صورة الثالوث، والأربعة تُشير إلى خطايا الجسد الظاهرة الذي أُخذ من الأرض (أربع جهات المسكونة). وكأن الشعب قد تدنس في الداخل والخارج، بخطايا خفية وظاهرة، في الجسد والروح.

السِّمات الأربع الأولى هنا تُشير إلى الخطايا الجسدية الظاهرة: "ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فاعلى الشر، أولاد مفسدين"؛ والسِّمات الثلاثة الأخيرة تمثل الخطايا الداخلية: "تركوا الرب، أستهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى الوراء".

على أي الأحوال فإن رقم 7 يُشير إلى "التمام" Completeness، وكأن خطاياهم قد بلغت إلى تمام الحدّ.

يلاحظ أن إشعياء مغرم بالرقم 7 فكثيرًا ما يُقدم 7 سمات في وضعه للأمور المختلفة.

جاءت عريضة الاتهام تعلن هذه الخطايا، ملخصها:

أ. خطايا جماعية: "ويل للأمة الخاطئة" [4]. إن كانت خطية عاخان بن كرمى سببت هلاكًا للشعب (يش 7: 11) فكم بالحرى إن انحرفت الأمة كلها إلى الشر؟! لقد دبَّ الفساد في الكهنة كما في الشعب، في الأشراف كما في العامة، فصارت الحاجة إلى رجوع جماعي إلى الله مثلما فعل أهل نينوى. لقد دُعى هذا الشعب "الأمة المقدسة"، لكنه عزل نفسه عن القدوس فحمل سمة، "الأمة الخاطئة" مستخدمًا الكلمة العبرية goi، وهو تعبير خاص بالأمم لعدم التصاقها بالله. وكأن هذا الأمة انحرفت عن غايتها لتدخل في زمرة الأمم الغريبة عن الله.

ب. ثقل إثمهم: "الشعب الثقيل الإثم" [4]. إذ يتنبأ إشعياء النبي عن المخلص والخلاص كان لابد أن يبرز ثقل الخطية التي تنحنى تحت ثقلها النفوس... الله وحده يعرف ثقل هذا الإثم، فقد جاء كلمة الله المتجسد حمل الله الذي يحمل خطية العالم (يو 1: 29، 36).

تحت ثقل الخطية تنحنى النفس حتى تغوص كما في مياه العالم فتحمل طبيعة العالم لا السماء، لذا قيل عن فرعون وجنوده: "غاصوا كالرصاص في مياه غامرة" (خر 15: 10)، وقيل عن الشر: "طُرح ثقل الرصاص على فمها" (زك 5: 8).

يرى القديس غريغوريوس النيصى[44] أن الإنسان الذي يسلك في الحياة الفاضلة يكون خفيف الوزن روحيًا، أما الإنسان الشرير فيكون ثقيلاً يغطس في المياه. الفضيلة خفيفة تجعل الإنسان كالسحابة مرتفعًا إلى فوق وكالحمامة التي تطير بأجنحتها الصغيرة (إش 9: 8). وقد تحدث العلامة أوريجانوس في ذلك باسهاب، مظهرًا كيف كاد بطرس أن يغرق بسبب الخطية (الشك) وإذ وهبه الرب إيمانًا سار على المياه[45].

ج. متأصلين في الشر: "نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين" [4]. دبَّت الخطية في حياة أسلافهم، فجاءت الأجيال متأصلة في الشر عن آبائهم وأجدادهم. وكما قال الرب للكتبة والفريسيين: "فاملأوا أنتم مكيال آبائكم، أيها الحيات أولاد الأفاعي" (مت 23: 32 - 33).

د. تركهم للرب مصدر القداسة: "تركوا الرب؛ استهانوا بقدوس إسرائيل؛ ارتدوا إلى الوراء" [4]. ليس شيء أشر من أن يترك الإنسان إلهه، مصدر حياته وسرّ قداسته. يقول الرب على لسان إرميا: "لأن شعبي عمل شرين؛ تركونىي أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنقسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماءَ" (إر 2: 13).

إن كان إشعياء قد رأى الله القدوس (إش 6)، فهو "قدوس إسرائيل" مصدر تقديس مؤمنيه، يهبنا سماته عاملة فينا! لقد كرر النبي هذا التعبير 20 مرة.

هـ. مرض مستعصي: "علامَ تُضربون بعد؟! تزدادون زيغانًا، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم؛ من أسفل القدم إلى الرأس، ليس فيه صحة بل جرح وإحباط، وضربة طرية لم تعصر ولم تلين بالزيت" [5 - 6].

بقوله: "علامَ تُضربون بعد؟!" يعلن الله أن هذا الشعب قد رفض النبوة لله لذا لم يعد مستحقًا أن يكون موضع اهتمام الله وتأديبه. فقد سبق فأدبهم كأبناء له لكنهم أزدادوا زيغانًا، لذا يود أن يوقف التأديبات الأبوية تاركًا إياهم لنوال ثمر فسادهم الطبيعي، إذ يقول: "لم يسمع شعبي لصوتي، وإسرائيل لم يرضَ بي، فسلمتهم إلى قساوة قلوبهم، ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم" (مز 18: 11 - 12). وجاء في إرميا: "لماذا تخاصمونني؟!... لباطل ضربت بنيكم؛ لم يقبلوا تأديبًا" (إر 2: 30)، "ضربتهم فلم يتوجعوا. أفنيتهم وأبوا قبول التأديب" (إر 5: 3).

الآن يتركهم الله لفسادهم الذي اختاروه بإرداتهم فيدبُّ المرض في جسمهم من الرأس إلى القلب إلى القدم. يدبّ في الفكر فيصيروا عاجزين عن التدبير، وأيضًا في القلب فتتنجس عواطفهم وأحاسيسهم الداخلية، حتى القدمين من أسفل فيصيروا عاجزين عن التحرك نحو الله في طريق ملكوته الملوكي. دبّ الفساد بالرؤساء والعظماء (الرأس) كما بالخدام والكهنة (القلب)، وبعامة الشعب (الجسد) حتى بالمحتقرين منهم (أسفل القدم).

صارت الجراحات قاتلة ونزف الدم غير متوقف... ليس من يتحرك لينقذ ويخلص، ولا من يُقدم زيت محبة ليلين الضربة القاسية!

أصاب الفساد الطبيعة البشرية ذاتها، وكما يقـول القديس كيرلس الأورشليمى:

[عظيم هو جرح طبيعة الإنسان، من القدم إلى الرأس لا توجد فيه صحة[46]].

و. خراب مطبق: "بلادكم خربة؛ مدنكم محرقة بالنار، أرضكم تأكلها غرباء قدامكم وهي خربة كانقلاب الغرباء، فبقيت ابنة صهيون كمظلة في كرم، كخيمة في مقثأةٍ، كمدينة محاصرة" [7 - 8].

يتحدث النبي هنا عما سيحل بيهوذا بعد غزو سنحاريب الآشوري، حاسبًا ما سيحل بهم في المستقبل كأنه حاضر، لأنه أمر حادث لا محالة.

يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [عاش إشعياء منذ قرابة 1000 عام، وقد رأى صهيون كسقفية (للمواشي)؛ كانت المدينة في ذلك الوقت قائمة وجميلة بمنافعها العامة وملتحفة بالعظمة... لكنه يقول: "فبقيت ابنة صهيون كمظلة (سقفية للمواشي) في كرم، كخيمة في مقثأةٍ". الآن نجد الموضع مملوء بزراعة مقثأة. أنظر كيف ينير الروح القدس القديسين[47]].

الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا، أرض الموعد التي وهبها الله لشعبه، والتي من أجلها احتمل الشعب السير في البرية أربعين سنة صارت خربة. استولى سنحاريب على 46 مدينة حصينة فصارت أورشليم مهددة بخطر مباشر "كمدينة محاصرة" و "كخيمة" أو "مظلة" من السهل احتلالها... لقد شاهد أهلها ما فعله الغرباء (الأشوريون) بمدنهم، حيث أشعلوا النار فيها، فكانت تأكل مخاصيلهم أمام أعينهم وهم عاجزون عن الحركة. صارت مدنهم خربة كانقلاب الغرباء، أي كما سبق انقلبت سدوم وعمورة، أو كما لو فاض عليها طوفان ماء شديد حطمها.

هذا الخراب الذي حلّ هو علامة على ما ارتكبه يهوذا من آثام، وحتمية طبيعية لتركهم الله مقدسهم وارتدادهم عنه، وعدم طاعتهم لصوته، فقد قيل: "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه... تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك؛ ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل" (تث 28: 15 - 16).

هكذا كل نفس لا تلتصق بالله مقدسها يحل الخراب بكل مدنها: بالجسد والنفس والفكر والقلب مع كل الأحاسيس والمشاعر الخ... تُنتزع عنها كل حصانة وتصير كمظلة أو خيمة في العراء، فريسة سهلة في أيدى الخطية.

  • هؤلاء هم الذين يدنسون أنفسهم ويحولونها عن كونها بيت الآب السماوي، أورشليم المقدسة، بيت الصلاة، إلى مغارة لصوص... يأخذون منها ما هو ثمين، ويسلبونها أفضل ما لديها لتصير كلا شيء.

العلامة أوريجانوس[48].

تعبير "بقيت ابنة صهيون" هنا يُشير إلى مركز شعب الله الذي حسبه شعبه الخاص، الابنة العذراء، والعروس المدللة، قد صارت متروكة "بقيت وحدها"؛ تشعر بالعزلة Loneliness والترك، وهذه أقس عقوبة على نفس الإنسان! هذه العقوبة جلبتها ابنة صهيون على نفسها بنفسها. كانت عروسًا مدللة فصارت مهجورة ومطّلقة. يقول العلامة أوريجانوس: [أظن أن الزوج (الله) قد كتب كتاب طلاق لعروسه القديمة، وأعطاها إياه في يدها، وطردها من بيته[49]].

وسط هذا الخراب المطبق يجد الله بقية قليلة أمينة تشهد له، بسببها لم يحطم شعبه الذي فسد، إذ قيل: "لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة" [9]. وقد اقتبس الرسول بولس هذه العبارة في (رو 9: 29). وكأن ما حدث في أيام إشعياء يتكرر في كل الأجيال حتى في العصر الرسولي حيث قبلت قلة أمينة من اليهود الإيمان بالسيد المسيح.

لا يهتم الله بكثرة العدد وإنما بالبقية القليلة التي تتقدس له وسط الفساد الذي يحل بالكثيرين. هذه البقية هي "القطيع الصغير" الذي يسر الآب أن يعطيهم الملكوت (لو 12: 1)؛ هذه البقية أبقاها رب الجنود لنفسه بكونها عمله، يهبها روحه القدوس لتقديسها له فتكون خميرة مقدسة تخمر العجين كله.

  • أنظر أن تنتمي إلى القلة المختارة، ولا تسلك ببرود متمثلاً بترخي الكثيرين؛ عش كالقلة حتى تتأهل معهم للتمتع بالله لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون (مت 20: 16).

القديس يوحنا كاسيان[50].

من أجل هذه البقية القليلة يقصر الله أيام الضيق خاصة في الأزمنة الأخيرة، إذ قيل: "من أجل المختارين تقصر تلك الأيام" (مت 24: 22).

العدد 10

5. استدعاء القضاة:

"اسمعوا كلام الرب ياقضاة سدوم، اصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة" [10]. في شجاعة بلا خوف ولا مداهنة يدعو إشعياء قضاة الشعب "قضاة سدوم" ويلقب الشعب نفسه "شعب عمورة"، وذلك من أجل الظلم والفساد الذي اتسم به كل من الرؤساء والمرؤوسين.

لا نجد في كل السفر موقفًا واحدًا يشعر فيه النبي بالخوف أو الضعف سوى عند رؤيته للسيد المسيح في مجده (إش 6)، إذ يخشى إشعياء الله لا الناس.

يرى أن العلاج الوحيد للقضاة كما للشعب هو كلمة الرب وشريعته.

الأعداد 11-15

6. الاتهام: العبادة الشكلية:

الاتهام الموجّه إليهم هنا خطير للغاية؛ فإنه لم ينسب إليهم الإلحاد ولا ممارسة العبادة الوثنية إنما ينسب إليهم الرياء؛ يمارسون العبادة لله بدقة شديدة مع حرفية قاتلة؛ يقدمون الكثير من الذبائح والتقدمات ويحفظون الأعياد أما قلوبهم فبعيدة عن الله، وحياتهم فاسدة.

هذا الاتهام مُوجّه ضد مُدّعى الإيمان عبر كل الأجيال، الذين يحفظون الحرف مع تجاهل للروح الداخلي، وكما قيل لملاك كنيسة اللاودكيين: "لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان" (رؤ 3: 17)، لأنه تشبّه بالفريسي القائل: "اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار؛ اصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه" (لو 18: 11 - 12).

هذا الأتهام أثار آباء الكنيسة للكشف عن غاية العبادة في حياة الكنيسة سواء في العهد الجديد أو القديم والالتزام بعدم الأنحراف عن هذه الغاية الإلهية:

أ. يقول القديس إيريناؤس: [يُظهر الله أنه ليس في حاجة إلى شيء (إش 1: 11)، إنما يحثهم وينصحهم كي يمارسوا هذه الأمور حتى يتبرر الإنسان ويقترب من الله[51]].

الله يريد من عبادتنا أن نقترب منه ونتحد به لنحمل طبيعته فينا، طبيعة الحب والرحمة. فهو يريد رحمة لا ذبيحة (هو 6: 6؛ مت 9: 13). لهذا يوبخ اليهود قائلاً بأنهم يبسطون أيديهم للصلاة بلجاجة فلا يُسمع لهم، لأن أيديهم مملوءة دمًا بارتكاب جرائم قتل (إش 1: 15)، عوض الحب حملوا كراهية وقتل للنفوس والأجساد، خاصة قتل الأنبياء والمتكلمين بكلمة الحق.

  • لماذا هذه الانقسامات؟ لننا نحفظ العيد لكن بخميرة الخبث والشر، فنقسم كنيسة الله إلى أجزاء، نحفظ ما يخص أمورها الظاهرة بينما نستبعد الأمور الأفضل: الإيمان والحب. لقد سمعنا من الكلمات النبوية أن مثل هذه الأعياد والأصوام لا تُسر الرب.

القديس إيريناؤس[52].

  • واضح لكل أحد أن التقوى التي تقود إلى العبادة والتكريم هي أقدم العلل وأعظمها، وان الشريعة نفسها تحث على العدل وتعلم الحكمة... بالدعوة إلى خالق العالم وأبيه.

القديس إكليمنضس السكندري[53].

ب. لقد قدموا ذبائح كثيرة ومحرقات في هيكل الرب، واختاروا المسمّنات، لكن الله لا يُسر بها، فإنه لم يطلب الذبائح في ذاتها لأنه غير محتاج إليها، إنما يطلبها كرمز لذبيحة السيد المسيح الفريدة، من أجل مصالحة الإنسان مع الله وتمتعه بالشركة معه. لكن الهدف ضاع منهم فإنه لما جاء المسيح الذبيحة رفضوه؛ قدموا الذبائح الحيوانية واحتفلوا بعيد الفصح وجحدوا الفصح الحقيقي، حمل الله الذي يحمل خطية العالم.

  • في أيام الرب ظن اليهود أنهم يحتفلون بالفصح لكنهم فعلوا هذا باطلاً لأنهم اضطهدوا الرب. بشهادتهم لم يعد يحمل الفصح اسم الرب، إذ دعى فصح اليهود (يو 6: 4) لا فصح الرب... لأنهم جحدوا رب الفصح.

البابا أثناسيوس الرسولي[54].

  • لقد أُبطلت هذه (الذبائح) جميعها حتى تتحقق شريعة ربنا يسوع المسيح الجديدة التي يتممها ليس تحت نير الالتزام (بل بإرداته إذ قدم نفسه فدية).

رسالة برناباس[55].

ج. كانوا يجتمعون للاحتفال بالأعياد الأسبوعية (السبوت) والشهرية والسنوية التي حسبها الرب أعياده هـو، يُسر بها لأنه يجتمع مع شعبه فيملأهم من فرحه الإلهي.

هذه المحافل صارت ثقلاً على الله تبغضها نفسه (إش 1: 14)، فلا يعود يحسبها محافله.

  • لم ينسب الرب (هذه الممارسات التي حفظوها) إليه بل حسبها أعمال الخطاة (إذ هي مكروهة بالنسبة له)، سواء كانت الشهور الجديدة أو السبوت أو اليوم العظيم أو الأصوام أو الأعياد.

في الشريعة الخاصة بالسبت نقرأ في سفر الخروج: "... السبت هو راحة مقدسة للرب"... "كلوا، اليوم هو سبت للرب" (خر 16: 23، 28).

العلامة أوريجانوس[56].

د. في أكثر من موضع يؤكد الله لشعبه أنه حين أخرجهم من أرض العبودية لم يقدم لهم شرائع خاصة بالذبائح (إش 1: 12)، حتى لا يظنوا أنه يخرجهم عن عوز إلى عبادتهم أو تقدماتهم إنما ليتمتعوا هم به... يقول البابا أثناسيوس الرسولي إن الله أراد أن يسحبهم بعيدًا عن الأوثان ويجتذبهم إليه، مقدمًا لهم الشرائع في الوقت المناسب (بعد خروجهم)، ومع هذا نسوا الله الذي صنع معهم عجائب في مصر وعادوا يعبدون العجل (خر 16: 3). لقد جاءت الشرائع الخاصة بالذبائح بعد استلامهم الناموس حتى لا يقدموها للأوثان بل لله الحق. كان المطلوب منهم أن يتعلموا أولاً ترك الأوثان والاهتمام بوصايا الله وبعد ذلك تقديم الذبائح (إر 7: 22) [57].

  • لا يقبل منكم الذبائح، ولا أمركم أولاً بتقديمها عن احتياج إليها إنما بسبب خطاياكم.

القديس يوستين الشهيد[58].

هـ. يقول: "من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دوري؟!" [12]. فقد أكثروا الدخول في الهيكل ليقدموا ذبائح بلا حصر، فرآهم الله - في عدم توبتهم - أشبه بالحيوانات التي تدوس بيته وتدنسه! تحول تقديم الذبائح عن المصالحة مع الله إلى صبّ غضب الله.

جاءوا بتقدمات كالبخور الذي يرمز إلى الصلاة، لكنهم إذ أعطوا الرب القفا لا الوجه (إر 2: 27) صار بخورهم مكرهة للرب، لأنه حمل رائحة ريائهم وعدم توبتهم.

  • الأعمال التي تُمارس بطريقة تضاد إرادة الله، أو تقدم في غير وقار لائق لا تنفع شيئًا... الله غير محتاج إلى شيء، مادام لا شيء يجعله دنسًا! لقد بلغ إلى النهاية.

بسبب تصرفاتهم المملوءة رياءً [11].

البابا أثناسيوس الرسولي[59].

  • الرب إلهنا لا يُسر بحفظ مثل هذه الأمور؛ إن وجد بينكم إنسان حانث بقسمه أو لصًا فليكف عن هذا؛ وإن وجد زانيًا فليتب؛ وعندئذ يحفظ سبوت الله العذبة الحقة. إن كان لأحد أيد غير طاهرة فليغتسل ويتطهر.

الشهيد يوستين[60].

الأعداد 16-20

7. دعوة للتوبة:

فضحهم الله أمام أنفسهم مظهرًا بشاعة الفساد الذي حلّ بهم دون أن يُحطمهم باليأس أو يجرح نفوسهم إنما بالحب الأبوي السماوي قدم لهم العلاج ليستر عليهم ويردهم إلى طبيعتهم الصالحة التي خلفهم عليها. هذا العلاج هو التوبة النابعة عن الإيمان والممتزجة بالحب، أما خطواتها فهي:

أ. الاغتسال: بقوله "اغتسلوا" [16] لا يقصد التطهيرات الناموسية، لأنه في اتهامه لهم يطلب ألا يقفوا عند الشكل الخارجي للعبادة، إنما عنى اغتسال المعمودية[61] الذي فيه نخلع الإنسان العتيق لنحمل فينا الإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا. هذا ما عناه الرب بقوله للنفس البشرية "حممتك بالماء" (حز 16: 9)، إذ جاء في نفس السفر "وأرشّ عليكم ماءً طاهرًا فتطهرّون من كل نجاساتكم... وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم" (حز 36: 25 - 26).

في العهد القديم لا يستطيع الكهنة أن يدخلوا الهيكل مالم يغتسلوا أولاً وإلاَّ يموتوا (خر 30: 19 - 21)، ويقول المرتل: "أغسل يديّ في النقاوة فأطوف بمذبحك يارب" (مز 26: 6). إنه غسل داخلي! يقول القديس الذهبي الفم: [لا يقصد غسل الماء الذي مارسه اليهود وإنما غسل الضمير[62]].

"تنقوا" [16]، إن كنا بالمعمودية نلنا الإنسان الجديد، إنما نلنا إمكانية جديدة لنمارس الحياة الجديدة في المسيح، التي هي نقاوة القلب، كشرط لرؤية الله، إذ يقول.

الرب: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5).

  • إذ تدخلون الجرن الصالح العظيم المجد اجروا بوقار في سباق الصلاح. فإن ابن الله الوحيد الجنس هو حاضر هنا ومستعد ليخلصكم، قائلاً: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). لقد أرتديتم ثوب معاصيكم الخشن ورُبطتم بحبال خطاياكم، الآن اسمعوا قول النبي: "اغتسلوا، تنقوا فتُمحى خطاياكم من أمام عيني" حتى ترنم جوقة الملائكة فوقكم قائلة: "طوبى للذي غفر اثمه وسُترت خطيته" (مز 32: 1). يا من تشعلون مشاعل الإيمان احفظوها في أيديكم غير مطفأة.

القديس كيرلس الأورشليمي[63].

  • إذن إن كنا بالغتسال (في المعمودية) كما يقول النبي، في ذلك الجرن السرّي، تتطهر إرادتنا ويُنزع الشر عن نفوسنا، فإننا بهذا نصير أناسًا أفضل فنبلغ حالاً أحسن.

القديس غريغوريوس النيسي[64].

ب. "اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينيّ" [16]. إذ ينال الإنسان النقاوة التي بها يُعاين الله يقدر أن يميز أعمال الشر عن العمل الإلهي، فيرفض كل ما هو شر، حتى لا يعرج بين الطريقين: الله والخطية.

نوالنا سر الاغتسال والتنقية يهبنا إمكانية إلهية للعمل الجاد في اكتشاف أنفسنا بالرب لندخل في غسل مستمر (بالتوبة) وتطهير من كل ما يتعلق بداخلنا من شر... نعترف لله بخطايانا فننعم بمصاعد مستمرة نحوه حتى نراه وجهًا لوجه.

  • ها أنتم ترون أنه في سلطانكم أن تُودعوا في قلوبكم إما مَصاعد أي أفكارًا تخص الله أو مهابط أي أفكارًا منحطة نحو الجسديات والأرضيات.

الأب سيرينيوس[65].

نعترف بخطايانا ونعتزل شرنا فنرى الله فينا يعلن ذاته ومجده داخلنا. وكما يقول القديس أغسطينوس: [اظهر ذاتك لذاك الذي يعرفك فيكشف هو ذاته لك يا من لا تعرفه[66]].

"كفـوا عن فعل الشـر" [16]. إن كنا بالتوبة الصادقة نعزل الشـر عن عيني.

الرب، فإن علامة إخلاصنا له أن نكف تمامًا عن كل عمل شرير. هذه عطية إلهية لكنها لا توهب دون طلبها بإيمان والحاح، مع جهاد ومثابرة.

  • إنه يود أن يقدم فرصة للتوبة لكل محبوبيه، مُثبتًا إياها بإرادته القادرة إذن، فلنطع إرادته العظيمة الممجدة؛ وإذ نضرع طالبين رحمته وحنو ترفقه، تاركين كل عمل بطال وخصام وحسد يقود إلى الموت، نعود إليه ونلقي بأنفسنا في مراحمه.

القديس إكليمندس الروماني[67].

ج. "تعلموا فعل الخير" [17]: لا يكفي الجانب السلبي، أي نزع كل ما هو شر والكف عنه دائمًا وإنما هنا يوجد التزام بالعمل الإيجابي، نحمل سمة المسيح الذي هو "الحق" فينا. نطلب "الحق" أي نطلب مسيحنا الحيّ ساكنًا فينا وعاملاً بنا، نمارس عمل المسيح محب البشر والمهتم بالمظلومين والمحتاجين والضعفاء. لهذا يوصينا "اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة". هذه هي التوبة الإيجابية التي خلالها نرجع إلى الله لا لنكف عن الشر والظلم فحسب وإنما لنمد أيدينا بالحب العملي والرحمة، خاصة تجاه العاجزين والأرامل.

  • ليتنا نمد أيدينا نحن جميعًا - رجالاً ونساء - لهن، فلا نسقط تحت أحزان الترمل. لنتعهدهن فنعد لأنفسنا مخزنًا عظيمًا من الحنان، فإن دموع الأرامل تقدر أن تفتح السماء عينها. ليتنا لا نطأ عليهن فتزداد مصائبهن بل نساعدهن بكل وسيلة.

القديس يوحنا الذهبي الفم[68].

  • أنظروا كيف أنه في كل موضع يحسب الله أعمال الرحمة العظيمة، فإنها تقف في صالح المخطئين[69].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

د. الحب العملي تجاه المتألمين والمعوزين هو انعكاس طبيعي لخبرتنا مع الله المترفق بنا، الذي لا يتعالى علينا بل يطلب الحوار معه كأصدقاء له. يفتح أبواب مراحمه أمامنا نحن الخطاة، قائلاً: "هلم نتحاجج يقول الرب: إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت كالدودى تصير كالصوف" [18].

هذه دعوة إنجيلية صريحة تعلن عن شوق الله نحو خلاص كل إنسان يقبل الشركة مع القدوس خلال الصليب.

الله في حبه وإن كان قد أثبت دينونة بني يهوذا المرعبة لكنه سرعان ما يطلب المصالحة. أنه ليس كالإنسان يوجه العناد بالعناد، والغضب بالغضب، إنما يسكب زيتًا مرطبًا على الجراحات الملتهبة، ليرد كل نفس إليه.

الله يطلب من الإنسان أن يدخل معه في حوار، بينما نجد أحيانًا بعض الأباطرة المسيحيين أغلقوا الباب أمام من أخطأوا، بل وأحيانًا نجد الرعاة حتى الوالدين يحملوا ذات الروح الغريب عن روح الله محب البشر.

الله يُريد أن يغسل دم خطايانا (القرمز والدودي) بدمه الطاهر فنصير كالثلج في البياض والصوف في النقاوة (نش 8: 5)، نصير ثوبه المضيىء كما في تجليه.

يرى البعض أن كلمة "نتحاجج Cheyene" هنا تعني نضع حدًا للتحاج، إذ يدرك الله أنه لم يعد أمام الإنسان ما ينطق به بسبب خطاياه التي صارت ظاهرة كاللون القرمزي الذي لا يُمحى، لهذا أراد أن يخرجه من المأزق ويفتح له باب الصفح الإلهي حتى لا يجرح مشاعره... حب إلهي عجيب!

بدعوته الموجهة إلينا لكي نتحاجج معه يسألنا أن نحكم على أنفسنا بأنفسنا، فإننا إذ ندرك خطايانا ونعترف بها فهو أمين وعادل لكي يغفرها لنا (1 يو 1: 9). نحكم على أنفسنا فلا يُحكم علينا.

  • ليته لا ييأس أحد من نفسه حتى وإن بلغ أقصى الشر، حتى وإن عبر إلى العادة في صنع الشر، نعم حتى وإن حمل طبيعة الشر نفسها لا يخف... عظيمة هي قوة التوبة، فإنها على الأقل تجعلنا كالثلج، نبيض كالصوف، حتى وإن كانت قد ملكت الخطية علينا وصبغت نفوسنا[70].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

  • إنه لا يذكر استحقاقاتنا الرديئة إنما لا يزال يتحنن علينا ويحثنا على التوبة[71].
  • في سلطان الله وحده أن يهب مغفرة الخطايا وأن يتهمنا بالمعاصي إذ يأمرنا أن نغفر لإخوتنا التائبين كل يوم "فيغفر لنا" (مت 6: 14) [72].

القديس إكليمندس الروماني.

هـ. تقديس الحرية الإنسانية: يفتح الله أبواب محبته أمام الجميع لكنه لا يلزم أحدًا، فهو يطلب قلب الإنسان كتقدمة اختياريه؛ يقدم له الطريق ويهبه إمكانية العمل وفي نفس الوقت يترك له حرية الاختيار، إذ يقول: "إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم" [19 - 20].

  • ها أنتم ترون أنه يجب علينا أولاً أن نطهر أنفسنا (أي نحمل إرادة مقدسة) وعندئذ يُطهرنا الله[73].
  • نحن سادة، في إمكاننا أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر أو آلة للبر[74].
  • يمكن للإنسان أن يتغير فجأة ويتحول من خزف إلى ذهب. ما يخص الفضيلة والرذيلة ليس (إلزاميًا) بالطبيعة، إنما يمكن تغييرة بسهولة... إنني أعلم أن الكل يرغبون أن يطيروا إلى السماء من الآن، لكن الحاجة إلى إظهار الرغبة بالعمل[75].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

  • بقوله هذا [19] يبرهن أن القبول أو الرفض يعتمد علينا.

القديس إكليمنضس السكندري[76].

يلاحظ هنا أن خطوات التوبة الواردة في [16 - 17] سبع: خطوتان سلبيتان في عدد 16 (الاغتسال والكف عن الشر) وخمس خطوات إيجابية وردت في العدد 17، يلزم ممارستها.

الأعداد 21-23

8. عتاب من واقع الماضي:

يقارن هنا بين ما كانت عليه أورشليم قبلاً وما صارت عليه خلال انحرافها وفسادها، بأسـلوب مملوء رثاء وحزنًا عميقًا. إشعياء النبي صريح كل الصـراحة، لكنه مملوء حبًا وعاطفة!

أ. كانت أورشليم "القرية الأمينة" [21]، وقد صارت "زانية". يشبهها بالعروس التي كانت مخلصة لعريسها السماوي، تحفظ وصاياه وتعلن بهاءه ومجده خلال حياتها، وقد جرت وراء آخر (العبادة الوثنية) فتنجّست بزناها الروحي مع محبيها (حز 16: 25، 32، 36). كانت عذراء (إش 37) تتحد مع عريسها واهب القداسة لكنها تركته واتحدت بالرجاسات.

  • يمكنك القول بأن الله الكلمة ترك مجمع اليهود كزانٍ، فارقه وأخذ لنفسه زوجة زنا من الأمم، لأن هؤلاء الذين كانوا "صهيون المدينة الأمينة" صاروا زناة، بينما أولئك صاروا مثل راحاب الزانية التي قبلت جاسوسي يشوع وخلُصَت هي وكل بيتها (يش 6: 5) [77].

العلامة أوريجينوس.

ب. كانت "ملآنة حقًا، كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون" [21]. كانت مسكنًا للقدوس الذي هو "الحق" و "العدل"، يبيت الرب فيها إذ يجد فيها راحته، لكنها صارت مسكنًا للقتلة، لذا يقول الرب "ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه" (مت 8: 10، لو 9: 58). حين تكون مقدسة تقول: "حبيبي لي، بين ثديي يبيت" (نش 1: 13)؛ لكنها متى تنجست يصير قلبها "بين ثدييها" مسكنًا للشر.

ج. تسرب الزيف إليها فصارت فضتها زغلاً يحمل لمعان الفضة ومنظرها لكنه لا يحمل مادة الفضة ولا قيمتها. صار خمرها مغشوشًا بالماء [22] يحمل لون الخمر لكنه مغشوش ماءً... هذه صورة عن الأهتمام بشكليات العبادة وحرفية تنفيذ الوصايا بالمظاهر الخارجية دون الاهتمام بالأعماق. مسيحنا يحول الماء خمرًا، أما الشرير فيحول الخمر ماءً.

الفضة تُشير إلى كلمة الله (مز 12: 6)، والخمر يُشير إلي فرح الروح. الانسان الشكلي يتمسك بكلمة الله، وربما يحفظها عن ظهر قلب لكنه لا يحمل المسيح "كلمة الله" في قلبه ولا في سلوكه. له منظر الفرح الروحي وهو بعيد كل البعد عن الحياة السماوية المفرحة وشركة الملائكة والقديسين في الرب.

تشير الفضة إلى كنوز الغني، ويشير الخمر إلى الحب والعاطفة؛ فالشكلي في إيمانه يلجأ إلى حكمة العالم ككنز غاش له مظهر الفضة الثمينة وهو زغل؛ ويبدو مملوء حبًا وعاطفة بينما يحمل قلبه ماء (بلا حرارة).

يرى القديس إيريناؤس أن الشيوخ اعتادوا على خلط خمر وصايا الله البسيطة بماء التقليد البشري المضاد لكلمة الحق[78]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزى: [لسنا مثل الكثيرين القادرين على على افساد كلمة الحق ومزج الخمر الذي يفرح قلب الإنسان (مز 104: 15) بالماء، أي خلط تعليمنا بما هو مبتذل ورخيص ودنيَّ وبال وبلا طعم[79].].

د. "رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص" [23]، أي يؤاكلون اللصوص ويحفظون ثيابهم أثناء السرقة. كان يليق بالرؤساء أن يدبروا أمور الشعب ويرعونهم، فإذا بهم يحولون الرعاية إلى سلطة وعناء، قد لا يسرقون لكنهم يتركون عدو الخير بجنوده يسرقون الشعب ويغتصبون قلوبهم وهم غير مبالين بسبب حبهم للسلطة. يحبون الرشوة والعطايا المادية أو الأدبية، ولا يبالون بالأيتام والأرامل، لأن المجد الزمني شغلهم عن التفكير فيهم. حوّلوا أورشليم "كنيسة المسيح" إلى بيت للظلم والقسوة والعنف.

عوض أن تكون القيادات مثالاً حيًا للشعب في الخضوع لكلمة الله وممارسة الحياة التقوية صاروا عثرة لهم. يقول القديس إيريناؤس: [بدأ الكتبة والفريسيون منذ عصور الناموس يحتقرون الله ولا يقبلوا كلمته، أي لم يؤمنوا بالمسيح[80]].

الأعداد 24-31

9. الديان يتقدم كمخلص:

أمام هذه الصورة البشعة لا يقف الله مكتوف الأيدي، وإنما يقوم "رب الجنود، عزيز (قدير) إسرائيل" [24] كقائد للجنود السماوية اعتزت يده بالقوة من أجل خلاص شعبه مما حلّ بهم.

يلاحظ هنا الآتي:

أ. دعى الله بثلاثة ألقاب [السيد (يهوهرب الجنود، عزيز (قدير) إسرائيل]. يرى بعض الدارسين انها إشارة خفية عن الثالوث القدوس. فالآب غير المدرك ولا منظور (يهوه = أنا هو)، والكلمة الذي تجسد ليقود المعركة ضد عدو الخير واهبا لجنوده كل نصرة روحية، والروح القدس القدير الذي يعمل في المؤمنين ليشكلهم على صورة المسيح فيجدوا لهم نصيبًا في حضن الآب.

وحملت أورشليم 3 ألقاب: مدينة العدل، القرية الأمينة، صهيون تُفدى بالعدل [26 - 27].

ودُعى الأشرار بالقاب ثلاثة أيضًا: المذنبون، الخطاة، تاركو الرب [28].

ب. يحسب الله من يُتلف شعبه حملاً ثقيلاً (إش 23: 24)، فلا يكف عن مقاومة الشر حتى يستريح ويستريح معه شعبه: "أستريح من خصمائي، وأنتقم من أعدائي" [24].

تبقى أحشاء الرب تحنّ على شعبه حتى يُحطم الشر!

ج. "يُنقِّي أورشليم من الزغل كما بالبورق (ربما يقصد بوتاسا المعادن)"؛ إذ يعيد خلقة الطبيعة البشرية ليرد للكنيسة جمالها الأصيل كما بنار الروح القدس المطهر.

إنه ينقينا أيضًا بالتأديب ولو ظهر قاسيًا كالنار:

  • مغبوط هو الإنسان الذي يُؤدب في هذه الحياة، فإن الرب لا يُعاقب عن أمرٍ ما مرتين (نا 1: 9 LXX) [81].
  • لا يهذب الأب ابنه لو لم يكن يحبه، والمعلم لا يصلح من شأن تلميذه ما لم يرَ فيه علامات نوال الوعد. عندما ينزع الطبيب عنايته عن مريض يُحسب هذا علامة يأسه من شفائه[82].

القديس جيروم.

  • الله يوبخ لكي يُصلح، ويُصلح لكي يحفظنا له.

القديس كبريانوس[83].

د. "وأعيد قضاتك كما في الأول" [26]. إذ يعيد الإنسان إلى كرامته وتعقله كما كان في بدء خلقته فيكون كقاضٍ حكيم.

هـ. يرد لأورشليم أو للنفس البشرية لقبها: "مدينة العدل القرية الأمينة" [26]. إذ تصير الكنيسة - أورشليم الجديدة - مدينة الله - عامود الحق وقاعدته، العروس الأمينة لعريسها. تمتلئ بالمفديين التائبين الحاملين برّ المسيح فيهم، أما تاركوا الرب أو رافضوه فليس لهم موضع في الكنيسة الحقيقية ولا نصيب لهم في الكنيسة السماوية. هؤلاء يمتلئون خزيًا لأنهم اشتهوا العالم - أشجار البطم - وحسبوه جنتهم فضاع العالم وضاعت آمالهم.

يشبّه العالم هنا بالبطمة، لأن اليهود اعتادوا أن يقيموا عبادة البعل والعشتاروت تحت شجرة البطمة.

يُشبه تاركو الرب بالبطمة التي ذبل ورقها، وبالجنة التي بلا ماء [29]، لماذا؟ خلق الله الإنسان كجنة يجد الرب فيها ثمرته حلوة في الداخل. كل ما يحمله الإنسان من طاقات وامكانيات وعواطف وغرائز هي عطايا إلهية أشبه بأشجار مغروسة في جنة يرويها ماء الروح القدس فتثمر بركات لا حصر لها. أما إن حُرِمت منه الروح فتجف وتحرق بالنار، وتتحول كما إلى مشاقة (نسالة كتان) [31]، أي ما تبقى من كتان بعد مشطة ليستخدم وقيدًا للنار.


[1] J. McGee: Isaiah, 1982, p. 7.

[2] أنطون يعقوب: تفسير نبوات إشعياء، 1949، ص 8.

[3] H. A. Ironaide: Expositary notes on the Prophet Isaiah, 1985, p. 3.

[4] See: Epistle of Barnabas; St. Justin: Apology 1, dial. With Trypho.

[5] Harry Bultema: Commentary on Isaiah, 1981, p. 19.

[6] Ibid, 1.

[7] Origen: Comm. On Is. 3: 6 - 12; St. Justin: Dial with Trypho.

[8] J. Bultema, p. 12 - 15.The New Century Bible Comm.: R. E. Clements, Isaiah 1 - 39, 1988, p. 9 - 11.

[9] H. Bultema, p. 3.

[10] Ibid, p. 10 - 11.

[11] The New international Comm. On the O. T. , Book of Isaiah 1 - 39, John N. Oswalt, 1986, p. 28.

[12] H. Bultema, p. 4.

[13] Ibid, p. 5 - 6.

[14] القس لوقا سيداروس: تأملات في سفر إشعياء، ج 1، مقدمة للقمص بيشوي كامل، ص 5.

[15] Oswalt, p. 29.

[16] Ibid, p. 53.

[17] H. Bultema, p. 20.

[18] Oswalt, p. 33.

[19] Ibid, p. 39.

[20] C. R. North: Isaiah 40 - 55, 1981, p. 29 - 30.

[21] C. R. North: The Suffering Servant in Deutro - Isaiah:An Historical and Critical Study, 1956, p. 192 - 219.

[22] Oswalt, p. 51.

[23] Ironside, p. 8.

[24] Cf. Augustine: Sermons on the Liturgical Seasons, trans. By M. S. Muldowney: The Fathers of the Church, vol. 38 (N. Y. 1959) , p. 80 - 81.

[25] Bultema, p. 363.

[26] Antiq. 11: 1: 2.

[27] Oswalt, p. 21.

[28] The Unity of Isaiah in the Light of Statistical Linguistics, Hildeshein 1973, p. 274 - 7.

[29] Cf. E. G. Young: Who wrote Isaiah?1958, p. 58 - 60.

[30] L. L. Adam& A. C. Rincher: The popular Critical View of the Isaiah Problem in the Light of Statistical Style Analysis, Computer Studies 4, 1973, 149 - 157.

[31] للاستفاضة في هذا الشأن (في الكتب العربية) راجع انطون يعقوب: تفسير نبوات إشعياء / ص 25، 26، وبالإنجليزية H. Bultema, p. 368 / 371..

[32] In Hebr. Hom. 23: 8.

[33] Stromata 4: 26.

[34] The Coptic Liturge of St. Gregory.

[35] On Jealousy and Enby 14.

[36] Adv. Haer.

[37] Fest. Letters 8.

[38] On the Ascention of Chirst.

[39] In John hom. 50: 2.

[40] In John hom. , p. 80 - 1.

[41] On Ps. 78.

[42] Paed. 19.

[43] Ibid, p. 2: 8.

[44] On Virginity 18.

[45] In Exod. Hom. 6.

[46] Cat. Lect. 12: 7.

[47] Cat. Lect.

[48] Comm. On John, Book 10 - 18.

[49] Comm. On Matt. Book 14: 19.

[50] Institutes 4: 38.

[51] Adv. Haer. 4: 17: 1.

[52] Frag. 38.

[53] Stromata 2: 16.

[54] Fest. Letters 6.

[55] Ep. Of Barnabas 2.

[56] In John Book 10: 11.

[57] Fest. Letters 12.

[58] Dial. With Trypho 32.

[59] Fest. Letters 12.

[60] Dial with Trypho 12.

[61] Justin: Apology 1: 61: Greg. Naz. Oration on the Holy Lights 20: Cyril of: Cat. Lect. 1: 1 etc.

[62] In John Hom. 70: 2.

[63] Cat. Lect. 1: 1.

[64] The Great Catechism 40.

[65] Cassian: Conf. 7: 4.

[66] On Ps. 104.

[67] Ep. 1: 8,9.

[68] In John hom. 70: 3.

[69] In Heb. Hom 12: 7.

[70] In Heb. Hom 12: 7.

[71] Exhort. To Heath 10.

[72] Who is the rich that shall be saved? 39.

[73] In Hebr. Hom 12: 7.

[74] Ad pop. P. G. 49: 66,67.

[75] In John 1: 5.

[76] Stromata 1: 19.

[77] Comm. On Matt. Book 12: 4.

[78] Adv. Haer 4: 12: 1.

[79] In Defense of His Flight to 46.

[80] Adv. Haer. 4: 1: 6.

[81] On Ps. Hom 51.

[82] Ep. 118: 1P 22: 39.

[83] Ep. 7: 5.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الثاني - سفر إشعياء - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر إشعياء الأصحاح 1
تفاسير سفر إشعياء الأصحاح 1