الأصحاح الرابع والثلاثون – سفر إشعياء – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 27- تفسير سفر إشعياء – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الأصحاح الرابع والثلاثون

إدانة الأعداء مقاومي الحق.

الأصحاحان 34، 35 يمثلان نبوة واحدة، الأول يمثل الجانب السلبي حيث يدعو الله الأمم مجتمعة معًا ليروا دينونة جماعية لمقاومي الحق ولمضطهدي شعب الله الممثلين في أدوم بصفة خاصة. لقد شمت الأدوميون لما حلّ بالشعب بواسطة آشور، بل وقاموا بالسلب والنهب، وكانوا يساعدون الأعداء ضدهم، وإن فلت أحد أمسكوه وباعوه للعدو، وأخيرًا جاءوا بأغنامهم لترعى في مدن يهوذا وحقولها بعدما صارت خرابًا، لذلك استحقوا حلول غضب الله عليهم. أما الأصحاح التالي فيحمل الجانب الإيجابي الخاص بإقامة الشعب وتمتعه بمراحم الله.

الأصحاح الأول (34) يكشف عما يحل بعدو الكنيسة الحقة من غضب إلهي، وبالتالي عما يحل بالكنيسة نفسها من بركات.

1. دعوة جماعية [1 - 4].

2. دمار أدوم [5 - 15].

3. تأكيد عن تحقيق ذلك [16 - 17].

الأعداد 1-4

1. دعوة جماعية:

يقدم النبي دعوة عامة إلى جميع الأمم لكي ينصت العالم ويرى ويصمت لأن الرب تكلم، إنه يعلن دينونة الله للأمم المتمسكة بالشر لعلها تعود فتُراعي أحكامه بعدما أطال الله أناته عليها زمانًا.

إنها أشبه بدعوة موجهة ضد العالم كله يدخل فيها الرب نفسه طرفًا في المعركة، معلنًا سخطه وحمو غضبه على كل جيوشهم [2]، فقد تعرضت بسبب الشر إلى القتل وطرح الجثث حتى تنتن؛ تجري الدماء على الجبال كمياه.

يعود النبي فيؤكد أن الله لا يعني بني البشر، إنما المعركة قائمة بين الله وملائكته وإبليس وملائكته. لذلك يقول: "ويفني كل جند السموات" (جنود الشر في السموات أف 6: 12، رؤ 12: 7 - 9؛ 20: 1 - 8).

ماذا يعني بقوله: "ويفني كل جند السموات وتلتف السموات كدرج وكل جندها ينتثر كانتثار الورق من الكرمة والسقاط من التينة" [3].

أ. يحاول بعض المفسرين الألفيين أن يروا في ذلك إشارة إلى زوال السماء القديمة لكي يتحقق في الحكم الألفي قيام أرض جديدة وسماء جديدة[353].

ب. يرى القديس أغسطينوس أن السموات التي تلتف هنا كدرج (كتاب) هي الكتاب المقدس، إذ يقول: [أسفار العهدين تُدعى "السموات"... إنني أدرك وأفهم الكتب المقدسة التي كتبها خدامك بعمل الروح القدس[354]]. وكأن أحد تأديبات الله للأشرار المصرّين على شرهم هو فقدانهم إمكانية التمتع بجند السموات أي بقوة الكتاب المقدس، فيصير بالنسبة لهم كتابًا مغلقًا لا يدركون أسراره في حياتهم، أو يكون بالنسبة لهم كأوراق كرمةٍ قد سقطت وانتثرت وكسقاط من تينة. أما بالنسبة لأولاد الله فيفتح الروح القدس عقولهم وقلوبهم وكل طاقاتهم ليدركوا قوة الكلمة عاملة في أعماقهم كما في سلوكهم.

يقول العلامة أوريجانوس: [كُتبت الكتب المقدسة بواسطة روح الله؛ وهي لها معانٍ ليس كما تظهر لأول وهلة بل معانٍ أخرى لا يدركها كثيرون. فإن هذه (الكلمات) المكتوبة هي أشكال لأسرار معينة وصور للاهوتيات. لذلك يوجد رأي واحد في كل الكنيسة أن القضية بأكملها روحية حقًا وأن المعنى الروحي الذي يحويه الناموس لا يعرفه الكل وإنما يعرفه الذين وهبت لهم نعمة الروح القدس في كلمة الحكمة والمعرفة وحدهم[355]].

ج. يمكننا القول بأن الأرض والسماء يرمزان إلى جسد الإنسان ونفسه. فالأشرار يخسرون قدسية وسلامة أجسادهم كما نفوسهم. تصير أجسادهم كجبال جبارة لكن الدماء تسيل منها [3]، لهم منظر القوة الجسدية وربما الجمال الجسدي والبهاء الخارجي لكنها كأجساد ملطخة بالدماء تحمل رائحة موت ونتانة. وتصير نفوسهم كسموات فقدت كل طاقاتها (جندها) مغلقة ككتاب مختوم... لهم مظهر الشجاعة وربما الشهامة وقوة الشخصية لكنك إذ تحتكّ بهم عن قرب تجدهم نفوسًا ضيّقة حطمها اليأس وأفسدها الغم الداخلي مع الاحساس بالعزلة والحرمان.

هذه هي صورة الشرير، له مظهر قوي من الخارج لكنه يحمل كل ضعف في أعماقه. وكما يقول المرتل: "لا تغر من الأشرار ولا تحسد عمال الإثم، فأنهم مثل الحشيش سريعًا يُقطعون ومثل العشب الأخضر يَذبلون" (مز 37: 1 - 2).

الأعداد 5-15

2. دمار آدوم:

كانت العادة أن تُدهن السيوف قبل المعركة بالشحوم حتى لا تحتاج إلى تنظيف بعد قتل كل شخص من الأعداء، إذ يمنع الدهن الدماء من الالتصاق بها أما سيف الرب الرمزي فيُدهن كما بالغضب السماوي: "لأنه قد رَوِىَ في السموات سيفي" [5].

حل سيف الرب على آدوم أشبه بسكين كاهنٍ تذبح القطيع العاجز عن المقاومة؛ عمل في العاصمة "بصرة" [6] كما في بقية أدوم، ليقدم ذبائح لا للمصالحة إنما ذبائح محرقة للدينونة [5]، حالة عليها اللعنة الإلهية.

هذا السيف اجتاز الكل: البقر الوحشي والعجول مع الثيران... أي رجال الحرب العنفاء (البقر الوحشي) كما العامة؛ الكبير مع الصغير، إذ هي دينونة عامة، لأن الجميع اشتركوا معًا في الإثم.

"تُروى أرضهم من الدم، وترابهم من الشحم يُسمَّن" [7]؛ إن كان اسم "أدوم" معناه "تراب" (آدم) وأيضًا "دم"، هكذا يختلط دمهم المسفوك بترابهم. لقد عاشوا كتراب محبين للأرضيات والزمنيات فهلكوا بدمهم.

يصنع الله هذا كله من أجل صهيونه، شعبه المحبوب، الذي يكرهه آدوم.

أخيرًا يؤكد أن دمار أدوم تام [9 - 15].

"وتتحول أنهارها زفتًا، وترابها كبريتًا، وتصير أرضها زفتًا مشتعلاً، ليلاً ونهارًا لا تنطفئ، إلى الأبد يصعد دخانها، من دور إلى دور تخرب..." [9 - 10] بمعنى تتحول إلى أتون نار، لا تحتاج إلى وقود من الخارج، إذ تتحول أنهارها إلى قار، وترابها إلى كبريت، فتصير أرضها نارًا متقدة لا تنطفئ نهارًا ولا ليلاً، دخانها يصعد رائحة دنسة كدخان قاتم، يبقى خرابها مستمرًا عبر الأجيال.

تتحول من مسكن للبشر إلى مسكن للحيوانات والطيور الجارحة [10، 11، 13، 14].

عوض البناء يمد خيط الخراب ومطمار الخلاء [11].

تُفقد القيادات، ليس فيها أشراف ولا رؤساء.

عوض الثمار تنبت شوكًا حتى في قصورها، وقريصًا وعوسجًا في حصونها [13] علامة هجر القصور وعدم استخدام الحصون زمانًا طويلاً.

"هناك تُحْجِرُ النّكَّازَة وتَبيض وتُفرخ وتربِّى تحت ظلها" [15]. النّكَّازَة حية من أخبث أنواع الحيات، صغيرة الحجم لكنها سامة، تعيش في مناطق بأفريقيا والعربية. غير أن ما ورد هنا يُناسب طائرًا لا حية، لهذا يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا هو وصف شعري يشير إلى سكنى الأرواح الشريرة القاتلة في النفوس المقاومة لله.

"هناك تجتمع الشَّواهين بعضها ببعض" [15]، وهي طيور جارحة تُثير رعبًا...

آدوم إذن تُشير إلى النفس الجاحدة للإيمان والمقاومة للحق، تسقط تحت الغضب الإلهي فتصير هي نفسها أتونًا لذاتها، ليس من يطفئ لهيبها الداخلي ولا من يهبها راحة أو تعزية، تتحول إلى خراب فتفقد تفكيرها المتزن. تصير مأوى للأفكار الدنسة والعواطف المنحرفة، تلهو بها الخطايا، وتلعب بها الشياطين. تصير حياتها جافة كالشوك وعقيمة بلا ثمر، تفقد جمالها وحصانتها، كما تتحول إلى ظلمة ليل دائم بلا نهار أو نور [13].

الأعداد 16-17

3. تأكيد عن تحقيق ذلك:

"فتشوا في سفر الرب واقرأوا؛ واحدة من هذه لا تُفقد" [16].

لا يقصد هنا سفر الحياة أو سفر الدينونة (حز 32: 32؛ مز 56: 8؛ 69: 28؛ دا 7: 10؛ ملا 3: 16؛ رؤ 3: 5؛ 20: 12؛ 21: 27)، إنما يقصد النبوات التي أعلنها عن آدوم بخصوص خرابها[356].

يلاحظ البعض أنه نادرًا ما يصدر النبي أمرًا، لكنه هنا يأمر "فتشوا... واقرأوا"، لأن الأمر كان في أيامه يبدو مستحيلاً وغير معقول. وقد تحققت هذه النبوة جزئيًا بعد خراب أورشليم بواسطة نبوخذنصَّر... ولا تزال تتحقق في كل يوم بالنسبة لمقاومي الحق، حتى تتم بالكمال في مجيء الرب الأخير حيث يهلك إبليس وكل جنوده.


[353] Cf. Ironside: The Prophet Isaiah, ch 34.

[354] On Ps. 8.

[355] De Principiis, Pref. 8.

[356] Bultema, ch 34.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الخامس والثلاثون - سفر إشعياء - القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثالث والثلاثون - سفر إشعياء - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر إشعياء الأصحاح 34
تفاسير سفر إشعياء الأصحاح 34