قاموس الإدارة والقضاء كمصدر لدراسة التاريخ الاقتصادي – دكتور ماجد عزت إسرائيل

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الدكتور ماجد عزت إسرائيل
التصنيفات بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية, قسم التاريخ, موضوعات تاريخية
آخر تحديث 12 فبراير 2020

قاموس الإدارة والقضاء كمصدر لدراسة التاريخ الاقتصادي

في القرن التاسع عشر

تأليف

دكتور / ماجد عزت

يعد قاموس الإدارة والقضاء لصاحبه فيليب جلاد ([1]) مرجعاً مفيدًا لمؤرخ التاريخ الاقتصادي المصري في القرن التاسع عشر، وينقسم هذا القاموس إلي سبعة أجزاء؛ وقد بدأ فليب جلاد كتابة هذه الموسوعة عام (1884م) مبتدئاً بالأحكام الشرعية دون التعرض لجوهر القضايا الدينية مسيحية كانت أو إسلامية، معتمداً علي الأحكام وقانون الأحوال الشخصية وقوانين البطركخانات والمجالس الحسبية وبيت المال والأوقاف، ثم الأحكام القضائية السياسية والقوانين الملغاة من مدنية وتجارية وقلم دعاوى الضبطيات والمجالس الأهلية، واشتمل على مجموعة هامة من القوانين واللوائح والفرمانات والمعاهدات التجارية الرسمية في القرن التاسع عشر، ورتبت وفقاً للتسلسل الزمني مع بعض التعليقات.

وهذا القاموس كتبه فيليب جلاد باللغة الفرنسية؛ ثم ترجم إلي اللغة العربية وصدرت طبعته الأولى ما بين عامي (1890 - 1894م)، وبسط صاحبه طرق البحث فيه، فعلى سبيل المثال يتوجب علي الباحث في السندات والكمبيالات أن يبحث في حرف (س) بالخط الفارسي، وإذا ما كان البحث في المعاهدات فيمكن الرجوع إلى حرف من اسم الدولة المبرم معها المعاهدة.... إلخ.

ويعد قاموس الإدارة والقضاء لدارس التاريخ الاقتصادي لمصر خلال القرن التاسع عشر؛ مصدراً هامًّا يمكن الاستفادة منه وتوظيفه في شتى مجالات النشاط الاقتصادي، ففي مجال النشاط الزراعي يمكن للباحث في هذا المجال الاستفادة مما ذكره المؤلف عن لائحة الملكيات الزراعية وخاصة اللائحة السعدية الشهيرة عام (1858م)، عن الابعاديات والجفالك ومعرفة حجم الأراضي العشورية والخراجية والأراضي البور، وما كانت تمتلكة الأسرة الحاكمة من أراضي الوسية ومعرفة مساحات الجناين والبساتين ونوع الحاصلات الزراعية وفصائلها، وحجم الإنعامات التى كانت تمنح للأسرة الحاكمة او المعاونين لها في السلطة، والأوقاف وخاصة ما كان يمنح من أراضٍ للحرمين الشريفين.

كما يُمكِّن الباحث من معرفة اللوائح والقوانين الخاصة بنظام الالتزام، وكيف استطاع محمد علي باشا (1805 - 1848م) إلغاء هذا النظام وتطبيق نظام الاحتكار، حتى أجبر الباشا على تنفيذ معاهدة بالطة ليمان الشهيرة مع الدولة العثمانية التي أبرمت في 16 أغسطس 1838م، وألغي على إثرها هذا النظام، ونفّذت بنود تسوية لندن عام 1848م.

على أية حال، يستطيع الباحث في التاريخ الاقتصادي وخاصة في المجال الزراعي؛ توظيف ما ورد بقاموس الإدارة والقضاء، فمن ناحية دراسة لوائح الملكيات الزراعية يمكن للباحث تصنيف الملكيات الزراعية، وحصر الأراضى البور، ومعرفة نوع الري بها، وأصحابها ونوع الحاصلات الزراعية، ومدي كفاية الإنتاج، وأهم الحاصلات التي تسهم في التجارة المحلية أو الدولية، كما أنه يمكنه من إجراء المقارنات بين الأنظمة الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، نظاما (الالتزام والاحتكار)، والإحصاءات والجداول والرسوم والأشكال الييانية.

وبهذا يتاح للباحث في تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، توفير مادة علمية تسهم في كتابة تاريخها الاقتصادي والاجتماعي من خلال الاستفادة من الإحصاءات والجداول في حصر تعدادي للسكان في مصر، ومن خلال حصر الملكيات الزراعية على طبقات مصر الاجتماعية، يمكن تصنيفهم إلي طبقات، ومعرفة الكثافة السكانية، والوقوف علي عوامل الجذب والطرد للسكان بين مناطق مصر المختلفة، وكذلك يمّكنه من معرفة نسبة ما يمتلكة الذكور والإناث من الأراضي الزراعية، ومما يؤهله إلي عقد مقارنة بينهما، كما يستطيع حصرالمساحة الزراعية بالنسبة لمساحة مصر الكلية، وتحديد حجم المساحة المحصولية، ومدى جودة بعض المحاصيل الزراعية ما بين شمال مصر وجنوبها، ونذكر علي سبيل المثال عوامل تركز القطن والأرز في شمال مصر، بينما يتركز محصول القصب والذرة في جنوبها.

وبهذا يمكنُ للباحث من خلال قاموس الإدارة والقضاء نقد وتحليل التاريخ الاقتصادي في القرن التاسع عشر، والتوصل لمعرفة نظام حيازة الأراضي الزراعية في ظل نشوء الملكية الخاصة، وتحديد فئات الملاك، وكبار العائلات بمصر خلال ذات الفترة.

ولمعرفة نظام الري الذي كان موجوداً في مصر خلال القرن التاسع عشر، ورصد مرحلة التحول من نظام ري الحياض إلى نظام الري الدائم، في ظل تحديث شبكة الري عن طريق إنشاء الترع والمصارف والقناطر، انتهاءً بإدخال شركة لتطوير الري باستخدام المضخات البخارية لرفع منسوب المياه لضمان الحفاظ على نظام الري الدائم واستصلاح المزيد من الأراضي الزراعية، ورصد كل مصادر المياه، التي كانت تغذي هذه الشبكة.

كما يستطيع الباحث الاقتصادي في النشاط الزرارعي من خلال قاموس الإدارة والقضاء، إظهار تنوع الحاصلات الزراعية، في ظل تطبيق نظام المواسم الزراعية؛ نتيجة لتوفر الري الدائم والتربة الخصبة واعتدال المناخ، وبذلك أثبت وجود زراعات، ظل الاعتقاد سائداً بعدم وجودها أو ندرتها مثل زراعة الدخان والحمص وأشجار التوت، كما دلّ على أن أشجار الفاكهة كانت تزرع بشكل متفرق، بجانب الحدائق الخاصة بها.

وقاموس الإدارة والقضاء مصدرا مهم لدراسة النشاط الصناعي، حيث يتيح للباحث الاستفادة من مجموعة اللوائح والقوانين التي تتضمن تنظيم الحرف الصناعية، وطرق أختيار شيوخ طوائف الحرف لإدارة شئون الطائفة، وتنظيم العمل، وتحديد الأجور، والعقوبات التي تفرض على العاملين، وحجم الإنتاج وجودته، كما يمكنه من معرفة شروط الإنتــــــاج الصناعي، وطرق تطويره، وشروط إنشاء المنشاءات الصناعيـة (المصانع) وظروف إرسال البعثات الصناعية والاستعانة بالخبرات الأجنبية من أجل تطوير المشروعات الصناعية تطلعاً إلى المستقبل، وما نعد له من إمكانات، كما يستطيع الباحث الاستفادة من بنود المعاهدات والاتفاقات الصناعية التي تبرم ما بين أرباب الحرف الصناعية والمصانع بعضها مع البعض، وما بين الدول، كما يمكنه من الوقوف على حجم النشاط الصناعي، وطرق تسويقه وحجم الطلب والعرض ونوع المنتج الصناعي، وأشهر المنتجات الصناعية، ومدي كفاية الإنتاج الصناعي.

على أية حال، بهذا يتاح للباحث فى النشاط الصناعي بعد تحليل وتفسير ما ورد بقاموس الإدارة والقضاء التوصل إلى دارسة تعدد الحرف والصناعات التي وجدت بمصر آنذاك؛ نتيجة لتوفر المواد الخام والخبرة الفنية وسهولة تسويقها لشهرتها في السوق المحلية والدولية، كما يستطيع تصنيف الصناعات وتسجيلها مثل صناعة المنسوجات ومهمات الجبش العسكرية، والصناعات الحديدية، والجلود وتكرير مادة النطرون والصابون والزجاج والبارود والخيام والحصير، وأن يتوصل إلى رصد طوائف الحرف الصناعية بمصر في القرن التاسع عشر.

ولعل من أهم الظواهر التي تعلقت بدراسة قاموس الإدارة والقضا؛ وذكر صاحبه ذلك الدور الذي لعبته الإدارة الحكومية، حيث كان تدخلها بسن اللوائح التي تحدد الإطار القانوني لعملها، ووضع الضوابط التي تحدد مجال اختصاصها وشروطه، وكذلك تدخلها في تحديد شيوخ تلك الطوائف واعتماد تعيينهم وتنصيبهم وعزلهم، وفرض العقوبات عليهم في حالة الوقوع في مخالفات.

هذا الدور الإداري الحكومي يعد سمة بارزة من سمات التحول من الاقتصاد المدار بمعرفة الدولة إلى الاقتصاد الحر، حيث تلعب الإدارة دوراً في تهيئة المناخ الملائم للتحول، قبل أن تخرج تماماً من مجال الإشراف الفعلي على نشاط الطوائف، مكتفية بوضع الضوابط التنظيمية تاركة للطوائف مواجهة ظروف السوق، والخضوع لقاعدة العرض والطلب.

وقد اختلفت سياسة الإدارة تجاه الطوائف تبعاً لاختلاف الدور الذي لعبته الحكومة في الاقتصاد، فكانت الطائفة تتولى جميع أمورها في العصر العثماني دون تدخل من الدولة، ولكنها خضعت للإشـراف الكــامل من الـــدولة في عهد محمد علي.

وبعد سقوط نظام الاحتكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حظيت الطوائف بقدر من الحرية في إدارة أمورها في حدود اللوائح والأوامر المنظمة لها، حيث أصبح من حق أبناء الطائفة اختيار شيخهم في عصر إسماعيل حتى أن الشرطة كانت تتلقى من الطوائف قراراتها بانتخاب شيوخها.

ويتضح من خلال قاموس الإدارة والقضاء إشارات التماسات الطوائف لدى الشرطة وتعليقات نظارة الداخلية عليها آنذاك أن اختيار الشيخ كان يتم بمبدأ الانتخاب، فأخذت أصوات أبناء الطائفة مأخذ الجد في تعيينه وجاء ذلك تطبيقاً لقرار المجلس الخصوصي رقم 3 في يناير 1866م الذي صدق عليه الخديوي إسماعيل، وأوجب مبدأ الانتخاب لشيخ الطائفة أو وكيلها من خلال عقد اجتماع للمنتخبين والتداول بين الشرطة والطائفة في هذا الشأن.

وشدد قرار المجلس الخصوصي الصادر بتاريخ 26 رجب 1286هـ / 1 نوفمبر 1869م على مبدأ انتخاب مشايخ الطوائف ومعاونيهم ونص على عدم جواز عزلهم إلا لارتكاب جنحة بموجب حكم القضاء بالعزل وانتقل اختصاص تعيين شيخ الطائفة بالانتخاب من اختصاص نظارة الداخلية إلى المديريات بموجب قرار صدر في 1887م، وإن ظل الإشراف على الانتخاب للجنة تشكلها الداخلية وتتولى مراقبة عملية اختيار شيخ الطائفة.

وتابعت الإدارة ممارسة دورها الرقابي على أداء شيوخ الطوائف لمهامهم بمتابعتهم، وتحميلهم المسئولية عن أي خلل في أداء واجباتهم وتوقيع العقوبات عليهم.

وأكد قاموس الإدارة والقضاء علي أن الإدارة الحاكمة أحلت اللوائح والقوانين محل العادات والتقاليد القديمة الموروثة، وفقاً للنظم الحديثة وجريًا مع روح العصر، وإقرارًا لانضباط الطائفة ومعاقبة المخالفين وانتظام حركة التجارة، مع ذلك الرواج الذي لم تشهد له من قبل مثيلاًً فواكبت الإدارة أعمال كل طائفة بإصدار اللوائح والقوانين التي تولت وضع الضوابط والإلزام بتقييد أعمالها في دفاتر مختومة من الميري ومتابعتها واللجوء إليها عند تمحيص المشاكل العارضة.

وكان من أخذها بالحزم في المتابعة ما نظم شئون الطوائف وضرب على أيدي المخالفين بالاختلاس والغش والسرقة والتلاعب وتقاضي الرشوة ونحوها.

وقد لعب الاحتلال البريطاني دوراً واضحاً في إضعاف طوائف الحرف عموماً، بسلبه الصلاحيات القضائية لشيوخ الطوائف بعد إنشاء المحاكم الأهلية عام 1883م ثم إطلاق حق مزاولة أى حرفة لمن يشاء دون التقيد بتقاليد الطوائف المهنية، وذلك بإصدار قانون الباتنتا (9 – يناير 1890م) الذي أتاح مزاولة أعمال الحرف بالحصول على ترخيص من الإدارات المعنية.

كما يعد قاموس الإدارة والقضا مصدراً لدراسة النشاط التجاري، فيمكن للباحث من خلاله الاستفادة من اللوائح والقوانين والمعاهدات والصفقات التجارية، التي تعقد بين الدول بعضهم البعض، والتي تتضمن تنظيم النشاط التجاري داخليًا وخارجيًا، كما تتضمن المادة التي يحتويها القاموس القوانين واللوائح المنظمة لطوائف المهن التجارية، والطوائف الخدمية المعاونة للنشاط التجاري، ونظم تنظيم الأسواق المحلية بشتى تصنيفاتها، ونذكر منها علي سبيل المثال الأسواق الأسبوعية والموسمية والدينية وهي التى ترتبط بالموالد الدينية.

كما يستطيع الباحث للنشاط التجاري من خلال قاموس الإدارة والقضاء الاستفادة من التنظيم القضائي الذي يتضمن المنازعات التجارية التي كانت قائمًه في مصرفي ذلك الوقت، حيث يمكنه من التوصل إلى مجالس الدعاوى والمحاكم الشرعية انتهاءً بالمحاكم الأهلية والقضاء المختلط من خلال الصيغ المتداولة بالساحة القضائية مثل الإشهادات والضمانات والأوقاف.

ويمكّن الباحث من الاستفادة من دراسة تطور شبكة النقل والمواصلات وأهم الطرق التجارية في ذلك القرن، فرصدالطرق البرية والمائية والسكك الحديدية التي ربطت بين أنحاء مصر، وكافة المناطق الأخرى، وقد تعرض لأهم طرق القوافل التجارية الداخلية والخارجية.

وعرض القاموس رصداً للأسواق التي كانت قائمة بمصر في ذلك القرن، وخلص إلى وجود مجموعة من الأسواق كانت تقام بالمدن والقرى والموالد الدينية، وتتم خلالها عمليات التبادل التجاري الداخلي والخارجي، وكذلك عرض لأهم التجار وفئاتهم والسلع التي يتجرون فيها.

كما يمكن من خلال قاموس الإدارة والقضاء دراسة الأهمية الاقتصادية للمواد الخام النباتية والحيوانية بمصر خاصة خلال القرن التاسع عشر الميلادي، فرصد أنواعها وتصنيفاتها، ورصد المواد المعدنية وطرق استخراجها ونقلها وتسويقها بداية من الاعتماد على الملتزمين، واحتكار الحكومة لإنتاجها في عام 1875م، نهاية بإنشاء الشركات الصناعية لإنتاجها وتصنيعها، وتجارتها وعرض لمشاكله وقضاياه.

وتعرض قاموس الإدارة والقضاء لحركة التبادل التجاري التي كانت قائمة بين مصر ومدنها، وبين مصر والدول الأخرى، وكذلك السلع التي صدرت منها إلى الدول الخارجية، فرصد مناطق الصادرات والواردات التي تبودلت منها وإليها.

خلاصة القول: يستطيع الباحث للنشاط الاقتصادي من خلال قاموس الإدارة والقضاء تبُّين فلسفة التاريخ الاقتصادى لمصر في القرن التاسع عشر، والوقوف على الانظمة الاقتصادية المنظمة لحركة التجارة، مما يمكنه من وضع حلول لأزمتها الاقتصادية، وضع الاستراتيجية الاقتصادية المستقبلية لمصرنا العزيزة. وأرجو أن أكون قد وفقت في إلقاء الضوء علي قاموس الإدارة والقضاء كمصدر للتاريخ الاقتصادي في مصر خلال القرن التاسع عشر الميلادي.


[1] () فيليب بن يوسف جلاد: ولد في يافا بفلسطين سنة 1957م، وتعلم في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزيرة بلبنان، وقدم إلي مصر في عصر الخديوي إسماعيل، حيث اجتذبته الحياة الفكرية والثقافية، وركز اهتمامه على دراسة القانون الفرنسي والإنجليزي لدرجة أهلته للعمل محاميًّا بقضايا الحكومة المصرية في الإسكندرية، ولخبرته وثقافته القضائية فقد أسند إليه مهمة تحرير المجلة الرسمية للمحاكم الأهلية، حتي صار أميناً لإدارة المجموعة الرسمية بنظارة الحقانية، واستقر بمدينة حلوان (تقع جنوب القاهرة) وتزوج، وله ولدان وبنت. ورحل عن عالمنا في سبتمير سنة 1914م، لمزيد من التفصيل انظر: دار المحفوظات العمومية، ملف خدمة فيليب جلاد، سنة 1914م.