رؤىة جديدة فى علم الآبائيات – د ماجد عزت إسرائيل

كارت التعريف بالكتاب

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الدكتور ماجد عزت إسرائيل
التصنيفات أقوال الآباء, دراسات آبائية مجمعة
آخر تحديث 22 أكتوبر 2023
تقييم الكتاب 4.999 من 5 بواسطة فريق الكنوز القبطية

تحميل الكتاب

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل الكتاب
1MB

تحتل الكنيسة مكانة متميزة بين جميع المؤسسات الدينية؛ لاعتمادها على آباء الكنيسة فى كل جيل لأن تعاليمهم هى الكرازة بالمسيح وبالإنجيل،وكرازتهم هى الصوت الحى الباقى الممتد لصوت السيد المسيح والرسل، متصوراً ومصاغاً بلغة الجيل المعاصر،لأن الكنيسة فى كل زمان وجيل تستلم وتسلم تعاليم الآباء مضافاً إليها خبرة الحياة وممارسة للإنجيل وشهادة الإيمان بالمسيح، كل جيل بجيله، فآباء الكنيسة منذ القرن الأول الميلادى وحتى أوائل القرن السادس الميلادى هم أول من ساهموا  فى صنع القرار داخل مؤسسة الكنيسة، عن طريق وضع  القوانين واللوائح التى تنظم التعاليم الكنسية من خلال المجامع المسكونية،وبلورة مضمون الإيمان وشرحه لعامة الشعب، وهو ما يميز الكنيسة بمسحة ديمقراطية،ولعلم الآبائيات مفاهيمه و تعريفاته المتعددة، وهناك شروط وصفات وتقاليد ولغة وتصنيف،ودور لكل من يطلق عليه لفظ “أب” داخل المؤسسة الكنسية، وهـذا ما سوف نوضحه فيما يلي.

لقد ورد ذكر اسم  الآباء فى الكتاب المقدس في العهد القديم حين أطلق على كل من: إبراهيم وإسحق ويعقوب، وقد ذكره الرسول بولس في العهد الجديد قاصدًا به هؤلاء الكارزين المعلمين الذين يلدون النفوس فى المسيح يسوع “وان كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون،لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1كو15:4)،ولقد استخدم المسيحيون الأوائل لفظ “أب” ليطلقوها على المعلم،فذكر القديس إيرينيئوس أسقف مدينة ليون(130-200 م)، فى كتابه “ضد الهراطقة”  قائلاً :”من علمني حرفًا، كنت له ابنًا وكان لي أبًا “،كذلك أوضح العلامة كليمندس الإسكندرى(150-215م) فى كتابه”Stromata” قائلاً :”إن الألفاظ هى ذرية النفس،ولذلك ندعو الذين علمونا آباء. وكل إنسان يتلقى العلم يكون ابناُ لمعلمه باتكاله عليه”، والأساقفة هم الذين مارسوا التعليم المسيحى وقد لقبوا بـ”آبـاء” وفى بعض الكراسى الرسولية لا يزال يطلق على الأسقف لقب “أبا” كما فى كنيستنا المصرية، ومع أوائل القرن الرابع الميلادى اتسع لفظ “آباء الكنيسة” وأصبح يطلق على بعض المعلمين الأصوليين التقليديين “العلمانيين” أى غير أساقفة، واشتهر من بينهم القديس “جيروم “(342-420م)،وهو نفسه الذى أضاف لفظ “الكتاب الكنسيين” ضمن آباء الكنيسة.

ولكن ليس معنى هذا أن كل الكتاب الكنسيين معتبرون داخل الكنيسة “آباء” ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر “ترتليانس” (155-222م) وهو أب فى علم اللاهوت وله تأثير فى كنيسة روما بإيطاليا،ولكنه سقط فى بدعة المونتانية (أي كذا وكذا ..)، لذلك فهو فهو يعتبركاتباً كنسياً وليس آباً فى الكنيسة، وأيضًا “أوريجانس” المتنيح” (185-253م)الذى تميز بكتاباته التاريخية،ولكنه سقط فى بعض البدع الفكرية واللاهوتية مثل كذا وكذامنعته من أن يصبح أباُ بين الآباء الكنسيين.

على أية حال، فإن علم آباء الكنيسة Patrologia هو العلم الذى يتناول سير آباء الكنيسة ومعلميها القدماء وكتاباتهم وتعليمهم ،منذ القرن الأول الميلادى أى عصر الرسل وحتى نهاية القرن السادس الميلادى، وبدأ بما يعرف بالتقليد أو التسليم وهو ما صدر عن آباء الكنيسة فى ظروف خاصة بهم، وفى تقدير الحكماء منهم حتى فى عصرهم،ويجرى عليها التغير بتغير الزمان والمكان،وتنوع منابع التقليد إلى تعاليم رسل السيد المسيح وتلاميذهم الرسوليين واللاحقين لهؤلاء وأولئك،وهذا ما أكده القديس “غريغوريوس” أسقف (نيصص تأكد من الاسم ؟؟) حيث ذكر قائلاً “يليق بنا أن نحفظ التقليد الذي تسلمناه بالتتابع من الآباء ثابتا بغير تغيير”،وأيضًا ما ذكره القديس “كيرلس السكندري” قائلاً “إنني محب التعليم الصحيح مقتفيًا آثار آبائي الروحية”.

وكذلك وجدت محاولة آخرى فى ظهور هذا علم الباترولوجي على يد” يوسابيوس القيصري” (260- 340م)، بالرغم من اتجاهاته الأريوسية، إذ تبنى فكرة نشر أقوال الآباء وكتاباتهم،وهو ما جمعه فى كتابه الشهير “التاريخ الكنسي”، الذي نُشره عام 326م،حيث قال “هذا هو هدفي… أن أشيرإلى أولئك الذين في كل جيل نادوا بالكلمة الإلهية سواء شفاها أو كتابة”،ثم سار على نهجه المؤرخ الكنسي” سقـراط “، الذى ولد نحو عام (379م)، وأيضًا المؤرخ الكنسي ” سوزومين” الذى ولد نحو 370م،وهو الذي كتب نحو تسعة كتب في تاريخ الكنيسة،،ونذكر للتاريخ أن القديس “جيروم” أو هيرونيموس فى سنة 393م كان أول من أصدر كتاباً عرف باسم “حياة الرجال المشاهير De Viris Illustribus،وهوالذى اعتمدت عليه الدراسات الآبائية،وقداعتمد فى كتابته على كتاب تاريخ الكنيسة لمؤلفه “يوسابيوس القيصرى”. وفى القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادى، وجدت رؤى جديدة بشأن تجميع التراث القبطى، وخاصة ما يخص علم الآبائيات والعمل على إعادة نشره،بعد نقده وتحليله وتمحيصه وتفسيره علمياُ من الآباء المحققين، وإضافته كتابياً  فى هوامش الدراسة. والكنيسة الغربية لا تنكر مكانة الكنيسة المصرية في علم الباترولوجي ،لأن كنيستنا تمتلك العديد من الوثائق والمخطوطات والمايمر (قصص القديسين) والآثار وشواهد المؤسسات الكنسية و القبور، وهى تعد مصدر أولي عند  دراسة التراث الآبائي. ولأهمية علم الآبائيات تعتبره الكنيسة القبطية من أهم العلوم الاجتماعية التى تدرس داخل مؤسساتها العلمية من مدارس ومعاهد وكليات اللاهوت، والأديرة والكنائس.

ويبحث علم الآبائيات فى سير وكتابات آباء الكنيسة ،أما السيرة فإن فى دراستها نفعاً لأنها تقودنا إلى فهم المسيحية فهما حياُ،أما كتاباتهم فهى تنقل لنا صورة واقعية وتقلدية وطقسية من حياة الكنيسة المعاشة وإذا جاز لنا التعبير الحياة اليومية للكنيسة ،وأيضًا تميز كل أب بميزة عن الأب الآخر، فهناك من تميز فى مجال الدراسات اللاهوتية والحياة التأملية، والطقسية، والعقائدية والقوانين الكنسية،والسلوكيات المسيحية والأدب والشعر وربما الترانيم والنصوص الروحية. كما يدخل أيضًا ضمن علم الآبائيات حياة النساك(الرهبان) داخل الأديرة  والقلالى (مكان تعبد الراهب) والبرارى، لأن الرهبنة فلسفة الديانة المسيحية، والجامعة التى تخرج فيها مئات البطاركة والأساقفة الذين قادوا الكنيسة بالحكمة،فلكى يكون الإنسان راهباً ينبغى أن تكون له ميول للفلسفة والحكمة، لأن حياته كفاح وحرمان وإنتاج من أجل الرسالة السامية،التى يدرك خلالها أن فضيلته باطلة إن كان ضياؤها لا يتعدى جدران النفس البشرية ولا ينعكس على البشرية كلها ليغمرها بمعرفة الله.

وهناك مجموعة من الشروط أو السمات لابد من توافرها فيمن يطلق عليهم لفظ “أب” ؛نذكر منها العقيدة السليمة   Orthodoxyفيما يختص بالإيمان المسيحى وبأسرار الكنيسة، والليتورجيات، والأسفار المقدسة ،وكافة الموضوعات الإيمانية التى وردت بالكتاب المقدس،وكذلك قداسة السيرة التى تظهر ثمارها فى التعفف والتقوى والنسك واحتمال الآلام والاضطهادات لأجل الاعتراف بالمسيح، كما تعد الأقدمية الزمنية من السمات الرئيسة لتحديد عصر الآباء حيث حددت الكنائس الخلقيدونية انتهاء عصر الآباء بنهاية القرن الثامن الميلادى،بيمنا أكدت الكنائس الغربية على نهايته فى أوائل القرن السابع الميلادى،أما الكنيسة الشرقية فينتهى بنياحة القديس “يوحنا الدمشقى” عام (749م)،بينما نهايته فى الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية ـ الكنيسة القبطية والأثيوبية والسريانية والأرمنيةـ بعقد مجمع خلقيدونية عام (450م). ويعد القرنان الرابع والخامس الميلادى العصر الذهبى للآباء إذ استطاعت الكنيسة بمجموعة آبائها القديسين والمتخصصين فى  شتى فروع المعرفة، من التصدى لعواصف الهرطقات الإيمانية، من خلال الشرح والتفسير والتحليل وتوضيحه  ببساطة قلوبهم للعقل لبناء فكر المؤمنين. وفي تقديري أن التحديد الزمنى ليس معياراً للحكم على نهاية علم الآبائيات،لآن الأديرة والكنائس فى تواصل مستمر من خلال التعليم والتقليد والتسليم الذى نبعه لا ينتهى، ولذلك بين لحظة وآخرى يظهر لنا العديد من الآباء يستحقون أن نطلق عليهم لفظ “أب” فى الوقت الحالى.

على أية حال، انتشر بين الكتاب والمؤرخين مفهوم سلطان الآباء فى الكنيسة،أوبمعنى آخر ما هو مدى التزامنا بما ورد في تراث الآباء؟  يمثّل الآباء القديسون فكر الكنيسة الجامعة الذي تسلّمته من الرسل بفعل الروح القدس الذي يعمل بلا انقطاع في حياة الكنيسة، ويعتبرامتداد طبيعى لتعاليم السيد المسيح و الرسل والآباء، وإلهى لأن الآباء عاشوا منحصرين بالروح القدس،وهذا ما عبرعنه القديس أغسطينوس حيث ذكر قائلاً:” تمسّكوا بما وجدوه في الكنيسة، عملوا بما تعلّموه، وما تسلّموه من الآباء أو دعوه في أيدي الأبناء، من يحتقر الآباء القديسين إنّما يعرف أنّه يحتقر الكنيسة كلّها ويقوم هذا السلطان على عاملين: عامل طبيعي إذ اتّسم الآباء بالحياة القدسيّة والأمانة في استلام وديعة الإيمان الحيّ من أيدي الرسل، لذلك هم أقدرعلى الشهادة للحياة الكنسيّة من كل جوانبها،خاصة وانهم يحملون الفكر الواحد، بالرغم من اختلاف الثقافات والمواهب والظروف،مع بُعد المسافات بين الكراسي الرسوليّة وصعوبة الاتصالات في ذلك الحين. والعامل الثاني إلهي حيث عاش الآباء منحصرين بالروح القدس قائد الكنيسة ومرشدها إلى كل الحق، يحفظها داخل دائرة صليب المسيح. وهذا لا يعني عصمة الآباء كأفراد وإنّما تعيش الكنيسة الجامعة ككل محفوظة بروح الرب.

ويصنف الآباء بعدة تصنيفات منها التصنيف العام ويطلق على المعلمين الراسخين في العلم والإيمان أعضاء المجامع المسكونية؛ التي عقدت لمناقشة أمورًا عقائدية تختص ببدع معينة،ونذكر منهم الرسوليون الذين اتصلوا بالرسل أمثال كليمندس الرومانى،وإغناطيوس الأنطاكى وبليكاربوس وبابياس، والآباء المناضلون وهم الذين دافعوا عن العقيدة المسيحية ضد الوثنيين وانتقادات المثقفين وملاحقة اليهود واضطهاد السلطات الحاكمة ونذكر منهم على سبيل المثال  القديس يوستينوس الشهيد و أثيناغوراس وإيرينئوس، وكذلك معلمو المسكونة ومنهم القديسون أثناسيوس الإسكندرى وكيرلس الكبير وباسيليوس وغريغوريوس الثيئولوغوس،ويوحنا ذهبى الفم، وكيرنانوس وأميروسيوس وجيروم وأغسطنيوس،وأيضًا الآباء المعترفون وهم أولئك الذين علموا وتم اضطهادهم وثابروا على الإيمان أمثال القديسون ديوسقورس وساويرس الأنطاكى،وهناك آباء الرهبنة الأوائل وهم الذين حفظوا نقاوة الإيمان وأصالة التعليم الأرثوذكسى إلى جانب الحياة النسكية ونذكر منهم على سبيل المثال القديسون أنطونيوس وباخوميوس ومقاريوس الكبير وإيسيذوروس البيلوزومى وشنودة.

كما صنف الآباء طبقاُ للغة التى كتبوا بها، منهم الآباء اللاتين واشتهر منهم القديس كيريانوس أسقف قرطاجنة (حاليا بدولة تونس)،والقديس أمبروسيوس أسقف ميلان بإيطاليا، والقديس جيروم وهو من رهبان فلسطين ،والآباء اليونانين ونذكر على سبيل المثال البابا أثناسيوس الرسولى البطريرك رقم (20) (328-373م) فى تاريخ الكنيسة القبطية،والقديس باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك،والقديس يوحنا ذهبى الفم بطريرك القسطنطينية،والقديس ساويرس بطريرك أنطاكية، وأيضا الآباءالأقباط،والآباء السريان والآباء الأرمن. وهناك تصنيف تاريخي  حسب المرحلة التاريخية التى تمر بها الكنيسة منها المرحلة  الأولى وتبدأ بنشأة الكتابات الآبائية وتمتد ما بين القرن الأول وحتى القرن الثالث الميلادى،أما المرحلة الثانية تعرف بـ ”  العصر الذهبى للدراسات الآبائية” وتمتد ما بين القرن الرابع وحتى منتصف القرن الخامس الميلادى،أما المرحلة  الثالثة والأخيرة وهى التى عرفت بـ “العصور الآبائية المتأخرة ” وتمتد ما بين القرن السادس الميلادى وما بعده.

وهناك تصنيف لآباء الكنيسة حسب موضوع الكتابة منها كتابات دفاعية، وتفاسير للكتاب المقدس، وعظات ومقالات، ورسائل، وليتورجيات كنسية، وكتابات شعرية وتسابيح، وحوار أو ديالوج، ونسكيات، وقوانين كنسية، وكتابات تاريخية. كما وجد تصنيف جغرافى طبقاً لطبيعة الكتابات الآبائية فهناك كتابات آبائية شرقية تمثلها الإسكندرية ومن أمثال كتابها (كلمنضس أم كلمندس ؟؟ كما ذكرت من قبل)  الإسكندري(125م) وأوريجانس (185/253)، والبابا ديونيسيوس الإسكندري (264)، وآباء مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، والقوانين الرسولية (القرن الثالث)،وكذلك مدينة أنطاكية وفلسطين ومن اشهر كتابها يوليوس الأفريقي (240 م)، الدسقولية، وأيضا منطقة آسيا الصغرى ومن اشهر كتابها القديس غريغوريوس صانع العجائب (213-270 م)، والقديس ميثوديوس من أولمبيا (311 م). أما الكتابات الآبائية الغربية  فتقع فى منطقة الشمال الأفريقى ومن آبائها ترتليانس(160-220 م)، والقديس كبريانوس (200 -258 م) وأرنوبيوس(280 -310م)، ولكتانتيوس( 317 م)،وكذلك مدنية  روما تقع ضمن النطاق الجغرافى الغربى ومن اشهر آبائها هيبوليتس (135 م)، ومن كتابه الدرجات الكهنوتية.

وأيضًا وجد تصنيف للآباء حسب نوعية التراث الذى يبحثون فيه، وساهم ذلك فى أنتشارالدراسات الأدبية والمدارس الشعرية،ومدارس كتابة سير الشهداء القديسين والقديسات،والمدارس الفلسفية والقانونية والدفاعية للرد على الهرطقات والبدع والخرافات. كما انتشرت أيضا مدارس لتفسير الكتاب المقدس والدراسات الآبائية فى الشرق والغرب، ومع نشأة الرهبنة. ووجدت كتابات آبائية لمؤسسى الحركة الرهبانية في مصر،أمثال الأنبا أنطونيوس الكبير(251-355م)، وأمونيوس، وباخوميوس أب (الشركة  ؟؟)، وهوريسيوس، وثيؤدورتادرس، ومقاريوس المصري، وأوغريس من بنطس، وبالاديوس وإسيذوروس بالبلسم، وشنودة باتريب. كما وجد العديد من الآباء تخصصوا فى كتابة تاريخ الكنيسة والسير للقديسين، أمثال فيليب وسقراط وسوزومين وثيؤدورت أسقف قورش، وكان هؤلاء من طلائع المدرسة التاريخية الكنسية.

على أية حال اهتمت الكنيسة المصرية بالدراسات الآبائية واحتلت مكانة متميزة بين كنائس العام بفضل السبق فى علم الباترولوجى؛ لاعتمادها منذ نشأتها على الفكر الآبائي للكنيسة الجامعة، فقد قاموا بترجمته إلى لغة الشعب حتى في صعيد مصر، والدليل على ذلك وجود مخطوطات قبطيّة قديمة لكتابات الآباء الرسوليّين، بكر الكتابات الآبائيّة، نذكر منها على سبيل المثال؛برديّة محفوظة في المكتبة الوطنيّة ببرلين بألمانيا تحوي ترجمة قبطيّة بلهجة إخميميّة لرسالة (إكليمنضس ؟؟) الروماني إلى كورنثوس ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع،مأخوذة عن دير القدّيس ابنا شنودة بسوهاج “الدير الأبيض”،و برديّة من القرن السابع بستراسبورج بفرنسا تحوي مقتطفات من ترجمة لذات الرسالة السابقة، و ترجمة قبطيّة لرسائل القديس أغناطيوس الأنطاكي؛ أشار إليها العالم جوزيف لايتفوت Joseph Lightfoot في كتابه: “الآباء الرسوليّون”، وقام بنشرّها العالم چون بابتست بترا J.B.Petra توجد نسخ منها في المكتبة الأهليّة بفيّينا وبالمتحف البريطاني،ومخطوطة كتاب الراعي لمؤلفه “هرماس” باللغة القبطيّة باللهجة الصعيديّة، وهو الذى  قام بنشرّها العالم ديلابورت Delaport، ومخطوطة لذات الكتاب اشتراها العالم لوفورت  Lefort من مدينة القاهرة ومكتوبة على ورق الغزال. وهذه المخطوطات مع المخطوطات والميامر والوثائق الأخرى القبطيّة، التي تحمل ترجمة لنصوص الآباء تكتظ بها متاحف العالم ومكتباته العامة تؤكد مدى اهتمام الكنيسة القبطية المصرية بفكرالآباء منذ القرن الأول الميلادى.

ولآباء الكنيسة دورمتميز فى العديد من الأمورالكنسية،وهذا ما عبر عنه جون كيللى  J.N.D.Kelly أستاذ الدراسات الآبائية وتاريخ العقيدة المسيحية بجامعة أكسفورد عندما ذكر قائلاً:”السبيل الوحيد لفهم ذهن الكنيسة الأول هو أن ينقع الإنسان نفسه فى كتابات الآباء”، فساهموا فى مهمة التعليم الصحيح،وعلى الأخص حينما تتعلق الأمور بالعقيدة والسلوك الأخلاقى فتناولوا موضوعات متصلة بالحياة والموت والكنيسة والكرازة والعقيدة،والآباء ليسوا النور بل هم يتكلمون عن النور،ويعاونوننا على أن نفهم بما يتجاوز الشك العقلى،المفاهيم عن الله ،كما شاركوا الآباء فى التفسير الصحيح لكلمة الله، وهذا ما ذكره القديس باسيليوس قائلاً:” إننا فى كتابات الآباء نجد تفسيراً سهلاً مرتجلاً للكتاب المقدس،أحياناً بالمعنى الميستيكى وهى كلمة يونانية تعنى الاختبار الباطنى والمباشرلله وللإلهيات، أو الثيئوريا أى التأمل فى الرؤيا والإلهيات وأحيانياً بالمعنى المادى أو الحرفى Physical وأحياناً بالمعنى الروحى Spiritual”،وكذلك اهتم الآباء بالروحانية الأرثوذكسية،التى هى غاية حياتنا المسيحية أن نصير واحداً مع الله،أن النعمة المقدسة هى العامل الأساسى فى تجديد حياتنا وإصلاحها، ولايمكن أن تقوم الحياة الروحية بدون الصلاة، ولا بدون مشاركة المؤمن فى أسرارالكنيسة السبعة وهى: سرالمعمودية،والمسحة المقدسة،والإفخارستيا، والتوبة،والكهنوت،والزيجة،ومسحة المرضى،وشركة القديسين. وأيضًا ساهم الآباء فى تعلم السلوك الصحيح لأنهم لم يكتبوا عظاتهم وأحاديثهم ورسائلهم وكتبهم ومقالاتهم ودفاعاتهم وتفسيراتهم، وكانه لم يكن عندهم ما يعلمونه ،بل بالعكس فإنهم كتبوا لشدة الاحتياج للتعلم.

كما لعب آباء الكنيسة دورا فى فى التشريع القبطى،الذى يعتمد على مصدرين هما: التنزيل ويتمثل فيما أوحى الله به لكتبة أسفار العهدين (القـديم التوارة-الجديد الإنجيل) بنصوص ثابتة لا فكاك منها لضرورة التقييد بما ورد بها من أحكام،أما الفقه فيرجع الفضل لآباء الكنيسة فى وجوده ويتمثل في مصادر أهمها التقليد أو التسليم ـ سبقت الأشارة إليه بالتفصيل ـ التى تنوعت منابعه من تعاليم رسل السيد المسيح وتلاميذهم الآباء الرسولين واللاحقين لهؤلاء وأولئك،كما ساهم الآباء فى وضع الدسقولية(Didascalia) وهى تعاليم الآباء الرسل  وهي نصوص تعليمية تفسيرية تمثل الفهم الصحيح طبقاً لما فهمه تلاميذ السيد المسيح وتعلموه منه مباشرة،وتقع في ثمانية وثلاثين فصلاً، وأيضا وضعوا العديد من قوانين الكنيسة التى ساهمت فى تنظيم الكنيسة وهيئاتها، وسلوك جماعة المؤمنين، وتشمل مائة وسبعة وعشرين قانوناً ،وأيضا لعبوا دور فى المجامع وهى نوعين: المجامع المسكونية التي انعقدت إبان وحدة الكنيسة على مستوى العالم،و شملت جميع الكنائس، وعددها أربعة مجامع، مجمع نيقية  325م وسن(20 قانوناً)، ومجمع القسطنطينية سنة 381م، ومجمع أفسوس سنة 431م وسن(8 قوانين) وحضره 150 أسقفاً لمحاكمة “مقدونيوس” عدو الروح القدس، وسن (7 قوانين)، و مجمع أفسوس سنة (431م) وسن (8 قوانين). وهناك المجمع الخامس (خلقيدونية سنة451 م)،وهوالذي رفضته الكنيسة القبطية ولم تقبل مقرراته. أما النوع الثانى من المجامع فيعرف بالمجامع المكانية أو الإقليمية، وهى التي انعقدت في إقليم ما واقتصرت على أساقفة هذا الإقليم،ولكن قوانينها حازت قبولاً واعترافا من الكنيسة الجامعة، وجميعها كان قبل عام(451 م)،وهى:مجمع أنقرة سنة 314م وسن(25 قانوناً)، ومجمع قيصرية الجديد (Neocaisaria) سنة 315م وسن (15 قانوناً)، ومجمع غنغرا(Gangras) وحضره 150 أسقفاً، ما بين 325-381م وسن(20 قانوناً)،ومجمع أنطاكية سنة 341م وسن (25قانوناً)، ومجمع سرديكا سنة 344م، ومجمع اللاذقية (ما بين343-381م) وسن

(59 قانوناً)، ومجمع قرطاجة سنة 419 م وسن (138 قانوناً).

وأيضا ساهم آباء الكنيسة فى وضع القوانين قبل مجمع خلقيدونية سنة 451 م، واعترفت بها الكنيسة في مجامعها،واعتبرتها قوانين عامة للكنيسة بأسرها وأهمها: قوانين البابا ديونوسيوس السكندري البطريرك”14″(246-264م )، وأيضًا البابا بطرس الأول السكندري البطريرك “17” (302-311م )،والبابا أثناسيوس الأول السكندري (الرسولي ) البطريرك “20” (328-373م )، وكذلك قوانين القديس باسيليوس الكبير، أسقف قيسارية الكبادوك (ت378 م)، وأيضًا البابا تيموثاوس الأول السكندري البطريرك”22″ (379-385م)،والقديس غريغوريوس النيصى (ت395م )،والبابا ثاؤفيلوس السكندري البطريرك”23″(385-412 م)،والبابا أبوليدس بابا روما،ولبابا كيرلس الأول السكندري البطريرك”24″ (ت444م)،والقديس يوحنا ذهبي الفم (405م).

كما يرجع الفضل إلى الآباء لدورهم المتميزفى تنظيم كتب وقوانين طقوس الكنيسة، وهي كتب  يمكن اعتبارها كتب في الإجـراءات القانونية، فنصوص القوانين تشرحها كتب الطقوس، مثل كتاب التعميد–النسخة الوحيدة توجد بدير السريان، وكتب ممارسة الأسرارالمقدسة،والجنازات، والتكاريز وترتيبها و بعض القوانين الاجتماعية والمالية والإدارية وعقوبات القتل و الزنا والكفر والسرقة والجرائم غيرها،وهناك قوانين للأحوال الشخصية(الزواج) والأوقاف والممتلكات والبيع والشراء، والبيمارستانات (المستشفيات) وقوانين الرهبنة،ولوائح تخص الرهبنة ورسامة القساوسة  والآباء القمامصة والبطاركة وطقوس الرسامة.

على أية حال،لا يمكن أن ننكر دورالآباء فى الدفاع عن الإيمان المسيحى؛ضد والبدع والخرافات التى قام بها اليهود والوثنيين أو هرطقات بعض المسيحيين، ومعظم كتابات الآباء الدفاعية عن الإيمان جاءت في شكل مخطوطات ووثائق قانونية، وتميز كتابها بالحكمة والمعرفة التخصصية فى ذات المجال؛كما أنها خلاصة مناظرات بنائة، ومجامع مسكونية ومحلية غايتها التوصل للحقائق الإيمانية،واشتهر من بين هؤلاء الآباء المدافعون عن الإيمان القديسون: كوادراتوس سنة124م، وا أرستيدس من أثينا 125م، و يوستينوس الشهيد 165م، و تاتيان السورى172م، وأبوليناريوس من هيرابوليس172م، وأبوليناريوس من هيرابوليس 172 م، وأثيناغوراس177م،وثاؤفيلس الأنطاكى 180م، وميليتو أسقف ساردس190م،وملتيادس192 م، ومينوكيوس فيلكس200 م، وهرمياس الفيلسوف200 م.

ونريد هنا أن نذكرعلى سبيل المثال دور القديس أثناسيوس الرسولى(296-373م) البطريرك رقم (20) كنموذجاً لآباء الكنيسة الذين دافعوا عنها ضد الهرطقات والبدع والخرافات التى قام بها القس “أريوس” ومعاونوه من اليهود والوثنيين. وقد ولد هذا القديس فى مدينة الإسكندرية عام296م، وتلقى تعليمه فى الدراسات اللاهوتية والفلسفية بذات المدنية،ولنبوغه فى العلوم الدينية،اتخذه البابا “الكسندروس”(312-328م)البطريرك رقم (19) تلميذاً له بعد رسامته دياكوناً (شماساً)،وفى عام (319م) اتهم أثناسيوس أحد القسوس واسمه “أريوس” بالتعليم عن المسيح بأنه ـ لا هو إله كامل وحقيقى ،ولا هو إنسان كامل وحقيقى، وكان هذا خليطا بين الوحدانية المطلقة(اليهودية) وتعدد الآلهة (الوثنية)أى التعليم بإله واحد منفرد متعال على البشرية،وفى نفس الوقت بعبادة الكلمة “اللوجوس”، وأنه “نصف إله” أو”إله غير مخلوق”. وقد منحه البابا “الكسندروس” فرصة ليعترف بخطئه ويعلن توبته ولكنه ازداد تعنتا، فتم إدانته وعزل فى مجمع كهنة الإسكندرية عام(321م).

وبعدها نجح “أريوس”فى الحصول على دعم اليهود له، وخاصة وأنهم يشكلون جالية ضخمة ونفوذ كبير منذ عصر بطلميوس حاكم مصر،الذى أراد أن يكسب ودهم فترجم كتابهم المقدس من العبرية إلى اليونانية282م،وهى الترجمة التى عرفت بـ (الترجمة السبعينية)،كما أنهم كانوا أغلبية في الجيش وموظفي الدولة والتجار ويمثلون قطاع مسلحًا بالمال والدهاء والجواسيس، ولذلك تعاطفوا مع الأريوسيين ـ أتباع أريوس ـ لأن إيمانهم مشترك؛ وهو ضد لاهوت السيد المسيح، كما يساعدهم فى كسب ود الإمبراطور،أما الوثنيون فكانوا خصمًا رسميًا للبابا الإسكندرية من جهة العقيدة الوثنية؛التي كرس القديس أثناسيوس نفسه لهدمها من الأساس، وقام بتعميد الآلاف منهم، فوجدوا في التفكير الأريوسي ما يتماشى مع منطق فلاسفتهم، بل أن أريوس لم يأت في هرطقته بجديد،بل تبنى الأفكارالوثنية وصاغها صياغة مسيحية،وساق نصوص الكتاب المقدس في تأييدها بتفسيرات ملتوية، لذلك قال عنه أثناسيوس” أن أراء أريوس أراء وثنية”.

على أية حال، ترك أريوس الإسكندرية وذهب إلى فلسطين وأسيا الصغرى وهناك خدع بعض الأساقفة من أصدقائه بآرائه وسمحوا له بنشرها، وعقد الأساقفة المؤيدون لأريوس مجمعين متتاليين ما بين عامى 222-223 م،وقرروا فيهما إلغاء حكم البابا”ألكسندروس”وإعادة أريوس للإسكندرية،  وبعد عودته سرعان ما كون لنفسه حزبًا من معتنقي تعاليمه (الأريوسية) وأخذ ينفث سموم تعاليمه بمنتهى العناد والضلال،فما كان من البابا “ألكسندروس”إلا أن قام بطرده مرة ثانية، وبدأ القديس “أثناسيوس” يتسلح بعلمه وإيمانه لمحاربة الأريوسية ودحضها، وأخذ يثبت صحة الإيمان القويم في نفوس المؤمنين، ولكن “أريوس” ومعاونوه من الوثنيين واليهود، تمكنوا عن طريق رجل يدعى “يوسابيوس النيقوميدي” من استمالة الإمبراطورقسطنطين بواسطة أخته قسطنطيًا لمناصرة أريوس، فأرسل رسالة مع هوسيوس أسقف قرطبة (بأسبانيا) إلى البابا ألكسندروس،وأنتهى الأمر بالدعوة لعقدمجمع نيقية325م،الذى حضره الأمبراطور قسطنطين وبابا الإسكندرية ورئيس شمامسته وسكرتيره الخاص “أثناسيوس”والأنبا بلامون أسقف هرقلية بأعالي النيل والأنبا بفنوتيوس أسقف طيبة، حتى لقد بلغ عدد الأساقفة نحو 318 أسقفا، وحضرأريوس، وكان وقت انعقاد المجمع يناهز الستين من عمره،وكان معه أنصاره ومنهم”يوسابيوس”أسقف نيقوميدي. وعندما دار النقاش فى البدعة الأريوسية ،أخذت الدهشة الأساقفة من موقف أثناسيوس العظيم الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وفرحوا فرحًا عظيمًا لعلمه وثقافته الدينية و فصاحته وبلاغة عباراته ونبوغه وقدرته على إثبات الإيمان المستقيم، ليس ذلك فحسب بل نظر إليه الإمبراطور قسطنطين مندهشًا من علمه وبلاغته قائلاً له: “أنت بطل كنيسة الله” ودعا الإمبراطورالجميع للهدوء،وأصدر أمره بنفى أريوس إلى “الإليريكون” بجوار بحر الأدرياتيك وحرق جميع كتبه.

وبعد انتهاء مجمع نيقية 325م وعودة البابا وتلميذه  إلى الإسكندرية، تنيح (مات) البطريرك “ألسكندروس” (17 إبريل 328 م)،ولكنه قبل نياحته أوصى بانتخاب “أثناسيوس “خليفه له، إلا أنه هرب للبريه، فاحضره مجموعة من الأراخنة والرهبان وفى(8 يونيو 328م) وبحضور نحو 50 أسقفاً تم رسامته بطريركاً رقم(20) على مدينة الإسكندرية وكان عمره وقتئذ لم يتجاوز الثلاثين، وظل يكافح من أجل الإيمان الصحيح؛ ضد الأريوسيين واليهود والوثنيين والأريجانيين وأصحاب الهرطقات، الذين سعوا لدى السلطة الحاكمة،لتلفيق التهم إليه نذكر منها على سبيل المثال؛عدم دفع الضرائب،والزنا،والقتل،واستغلال النفوذ،ومعارضة تصديرالقمح لروما،فأصدر ألإمبراطور أمرا بعقد مجمع لمحاكمته،وعقد هذا المجمع في سرديقيا (صوفيا)، بحضور 170 أسقفًا ورأسه هوسيوس أسقف قرطبة،وقرروا براءة القديس البابا أثناسيوس الرسولي حامى الإيمانـ، وخلال تلك الفترة تعرض للنفى خارج الإسكندرية خمس مرات بلغت: المرة الأولى لمدينة تريف بفرنسا، والثانية لمدينة روما، والثالثة  لكيرسية بمدنية الإسكندرية (بين رهبان البرية)، والمرة الرابعة لمدينة طيبة بجنوب مصر،والمرة الأخيرة إلى مقبرة أبيه،ولكن الشعب قام بمظاهرة فى فبراير366م ضد الأمبراطور”فالنسى الأريوسي”،الذى أصدر مرسوماً بعودة البابا “أثناسيوس” أو حامى الإيمان كما عرف فى العالم بهذا اللقب إلى كرسيه بمدينة الإسكندرية، وترك عالمنا الفانى وكان عمر يناهز نحو 77 عاماً.