الباب الثامن إعتراضات والردّ عليها – مخافة الله – البابا شنودة الثالث

الباب الثامن إعتراضات والردّ عليها

كثيرون يهربون من عبارة (مخافة الله). ويرون أنها لا تتفق مع عهد النعمة. فما هى أدلتهم:

  1. يقول المعترض: لماذا أخاف الله، وقد قبل إليه أوغسطينوس، وكان فاجراً لزمن طويل؟!

وقد قبل الله إليه أيضاً موسى الأسود، وكان قاتلاً قاسياً.. وكذلك مريم القبطية، وكانت فى عمق الدنس والفساد.. وقبل إليه كذلك مريم المجدلية التى كان فيها سبعة شياطين (مر 16: 9)، كما قبل إليه المرأة الزانية التى رأته فى بيت الفريسى (لو 7: 37).

وأنا أطوّب فيك يا ابنى معرفة كل هذه الأمثلة. ولكنى فى ماقشتها معك، أحب أن أسأل:

هل لك توبة صادقة مثل كل أولئك القديسين؟

هل لك توبة أوغسطينوس وموسى الأسود، اللذين لم يرجعا إلى الخطية مرة أخرى، بل استمروا فى النمو الروحى حتى صارا مرشدين لكثيرين، بل لأجيال بعدهما؟

هل لك انسحاق قلب تلك الزانية، التى تذللت جداً وسكبت دموعها امام جميع الناس؟

هل تعرف كيف اقتاد الله مريم القبطية بالمخافة، إذ صدتها يد الله عند الدخول إلى الكنيسة، وسمرتها فى مكانها، فلم تستطع الوصول إلى الأيقونة المقدسة؟ وهل تعرف كيف جاهدت 17 سنة بعد توبتها وهى فى إصرارها ثابتة أمام حروب الشياطين المخيفة المستمرة؟

هل لك الحب الذى كان فى قلب القديسة مريم المجدلية، الحب الجبار الذى يمكن أن يبعد عنها المخافة؟

كن مثل كل أولئك فى توبتهم وحبهم، حينئذ لا تخاف. وتأمل ايضاً كيف ومتى وصلوا إلى تلك الدرجة.

ولكن لا تفترض نفسك فى متسوى قديسين، حالتك غير حالتهم، وتوبتك غير توبتهم، ويوجد فارق كبير بينك وبينهم، بين بدايتك نهايتهم!!

إنما ضعهم أمامك، ليبعثوا الرجاء فى قلبك.

وحاول بكل قوتك أن تسير فى طريقهم بنفس الجدية، وبنفس العزيمة الصادقة، وبنفس المخافة التى بدأوا بها. وحينئذ لا تخاف..

وتذكر أن الرب قال عن المرأة الزانية التائبة، إنه غفر لها الكثير لأنها أحبت كثيراً.

إن وصلت إلى تلك المحبة الكثيرة، وإلى ذلك التذلل وتلك الدموع، تكون قد وصلت إلى المخافة التى توصلك إلى المحبة، وتأخذ الوعد الإلهى فلا تخاف.

  1. اسمعك تقول: لماذا نخاف، والله أب لنا يتراءف علينا؟!

إنه أب بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، قال عنه المرتل فى المزمور "لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا.. كبعد المشرق عن المغرب، ابعد عنا معاصينا" (مز 103: 11، 10).

حسن يا ابنى أنك استخدمت هذا المزمور وهذه الآيات بالذات. وليتنا نقرأها معاً، ونرى ماذا تعنى؟ يقول المرنم:

"كما يترأف الأب على البنين، يترأف الرب على خائفيه".

ولم يقل يتراءف على الباقين فى خطاياهم، أو على المستمرين فى كسر وصاياه. بل قال يتراءف على خائفيه "(مز 103: 13).

وقال فى مراحم الرب ومغفرته "لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض، قويت رحمته على خائفيه" (103: 11).

أخذت ايتين 12، 10 من المزمور 103، بينما تركت ايتين 13، 11. كان ينبغى أن تأخذ المزمور كله، لكى تفهم المعنى متكاملاً فى جهة معاملة الله.

فحقاً هو رحيم ورؤوف وطويل الروح.. ولكن لكى نتوب، وحينئذ يتراءف على خائفيه، ولا يجازيهم حسب آثامهم. لأنهم بخوف الله قد تابوا، وبالتوبة محيت خطاياهم. وهكذا لم يعد الله يجازيهم على اثام قد غفرها. ولا يصنع معهم حسب خطايا تابوا عنها..

الله يعاملك كأب، وكان ينبغى أن تعامله كإبن له.

حقاً هو أب لنا، ولكنه لا يحابى...

أنظر ماذا يقول القديس بطرس الرسول فى هذا المعنى.. إنه يقول "إن كنتم تدعون أباً الذى يحكم بغير محاباة، حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم فى خوف" (1 بط 1: 17).

إنه أب بكل ما تحمل الكلمة من معنى الأبوة. ولكنه أب قدوس لا يرضى بالخطية. وهو اب عادل لا يحابى أولاده. ومادام سيحكم على أعمالنا بغير محاباة، إذن فلنخف من إغضاب هذا الأب، ولنخف من أن نفقد محبته.

الله أب لنا. وكأب يعاتب أولاده على عصيانهم.

وهكذا تبدأ نبوءة أشعياء النبى بعبارة "اسمعى ايتها السموات، واصغى ايتها الأرض، فإن الرب يتكلم: ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا علىّ" (اش 1: 2). وماذا أيضاً؟ يقول الرب فى سفر ملاخى النبى "الإبن يكرم أباه، والعبد يكرم سيده، فإن كنت أنا أبا، فأين كرامتى؟ وأن كنت سيداً، فأين هيبتى؟ (ملا 1: 6).

الا نقول إذن إن الوقوف ضد كرامة الله وهيبته، أمر يدل على عدم وجود مخافة الله فى القلب؟! وهذا ضد تعليم الكتاب...

فإن كنت إبناً لله، فأين كرامة الله كأب لك؟

  1. يقول البعض: لماذا أخاف الله، وهو ليس فقط أباً، وإنما تمتزج أبوته بالطيبة والعطف؟

هنا وأجيب: هل لأن الله أب طيب، نستغل نحن طيبته، نتجاهل كرامته وهيبته؟! وننسى جلاله وأبوته؟! أيلزم إذن أن يشتد فى معاملته لنا، لكى نطيعه ونخافه ونهابه؟ وإن نسينا هيبة الله باسم الحب، أيكون هذا حباً حقيقياً؟

ومادام الله أباً، أليس من حقه كأب أن يؤدبنا؟ وأن نخشى تأديبه...

هوذا الرسول يقول "الذى يحبه الرب يؤدبه... إن كنتم تحتملون التأديب، يعاملكم الله كالبنين، فأى ابن لا يؤدبه أبوه؟! ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون" (عب 12: 6 - 8).

إذن فلا ننتظر من الأب العطف فقط، بل أيضاً التأديب.

ولنثق أن التأديب نافع لنا. إنه يغرس فينا مشاعر المخافة فنطيع الله، ونحيا...

وهوذا القديس بولس الرسول يتابع كلامه فيقول "قد كان لنا أباء أجسادنا مؤدبين، وكنا نهابهم. افلا نخضع بالأولى جداً لأبى الأرواح فنحيا؟ لأن أولئك أدبونا أياماً قليلة حسب استحسانهم. وأما هذا فلأجل المنفعة لكى نشترك فى قداسته" (عب 12: 10، 9).

لأن الرسول يعرف أن المخافة ليست محبوبة عند الكثيرين، وكذلك التأديب، فإنه يختم كلمته بقوله "ولكن كل تأديب فى الحاضر، لا يُرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً فيعطى الذين يتدربون به ثمر بر للسلام" (عب 12: 11).

إذن أبوة الله لنا، ليست لمجرد التدليل!

إنما هى بالأكثر للتقويم والتهذيب والتأديب، لكى ننصلح حياتنا فنحيا. ومن هنا ينبغى أن تمتزج محبتنا البنوية لله بالمخافة. كما قال الرسول عن آبائنا بالجسد "كنا نهابهم" وكانوا "مؤدبين لنا". هنا المخافة بمعنى المهابة والطاعة، وليست بمعنى الرعب. نخاف لكيلا نخطئ..

  1. يقول البعض: لماذا مخافة الله، بينما من صفات الله اللطف والحنان؟!

والرسول يقول "ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال فى بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا.." (تى 3: 5، 4).

ونجيب بأن الحديث عن لطف الله هو نصف الحقيقة، فإن الرسول نفسه يقول:

"هوذا لطف الله وصرامته.." (رو 11: 22).

ويكمل "أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك، إن ثبتً فى الطف. وإلا فأنت أيضاً ستقطع" (رو 11: 22).

  1. يقول المعترض. ولكن الله طويل الأناة ورحوم.

فنجيب: ولكن لا يليق بنا كأبناء وكمؤمنين، أن نستغل طول أناة الله لنتمادى فى خطايانا! كما لو كانت رحمة الله ستار لاستهتارنا. وهوذا الرسول يوبخ كل من يستغل طول أناة الله، فيقول:

"أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب، تذخر لنفسك غضباً فى يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذى سيجازى كل واحد حسب أعماله.." (رو 12: 4 - 6).

ليس حنان الله إذن مجالاً للأستهتار!! ولا طول أناته معناه أنه راض على الخطية أو متسامح فيها ولا يعاقب!! حاشا. فإن كل هذا لا يتفق مع صلاح الله غير المحدود، ولا مع عدله.

كلا. وإنما الله لا يريد أن يمسك بك وأنت فى حالة خطأ فتهلك، بل يعطيك فرصة لتتوب.

عليك أن تخاف إذن من طول أناة الله. لئلا يأتى الوقت الذى يمتلئ فيه كأس الغضب، فينتهى الفرصة التى أعطيت لك للتوبة، وهنا تتعرض لدينونة الله المخيفة (رو 2: 21).

لقد أطال الله أناته جدا على فرعون أيام موسى. فهل معنى هذا أنه لم يعاقبه؟!

وقد أطال الله أناته فترة على الأموريين، لأن كأس الأموريين لم يكن كاملاً وقتذاك (تك 15: 16). فلما أكتمل ذنبهم دفعهم ليد موسى النبى.

  1. إنى لأعجب لمعترض يستشهد بقول للقديس أوغسطينوس "تحب. ثم تفعل بعد ذلك ما تشاء"!

محال طبعاً أن يُفهم من قول القديس أن تفعل ما تشاء من الخطية والإستهتار. بل أن ما يقصده هو أن تفعل ما تشاء داخل محبتك لله. فلا تسلك حرفياً داخل المحبة.

No items found

الباب السابع المحبّة والمخافة معاً - مخافة الله - البابا شنودة الثالث

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

جدول المحتويات