الباب السابع المحبّة والمخافة معاً – مخافة الله – البابا شنودة الثالث

الباب السابع المحبّة والمخافة معاً

المخافة بمعنى المهَابَة

قال ماراسحق "إن مخافة الله تسبق محبة الله".

وقال "المخافة هى عصا الله التى تسوقنا إلى محبة الله". وقال أيضاً كما أنه لا يمكن عبور النهر بدون سفينة، كذلك لا يمكن لأحد أن يعبر إلى محبة الله، بدون التوبة والمخافة. لأن التوبة هى السفينة، والمخافة مدبرها. والمحبة هى ميناء السلامة والكرامة، حيث يلقى المتعبون راحتهم "...

المخافة توصل إلى المحبة. ولكن لا تفارقها.

المحبة مستوى أعلى من المخافة، ولكن لا يتعارض معها.

هى مستوى تصعد إليه، ولكن لا تفقد ما تحته. مثل درجات السلّم. أو مستوى طالب جامعى ارتفع فوق معلومات التعليم الثانوى والأبتدائى، ومع ذلك لم ينسها، بل يعتمد عليها. هى لا تزال فى ذهنه، لم يفقدها، وإنما أخذ شيئاً فوقها.. ولا تتعارض علومه الجامعية، مع التعليم الأساسى فى المرحلة الإبتدائية والمرحلة الثانوية.

المخافة تقود إلى المحبة، ثم تقف لتحرسها..

والمحبة تحتفظ بالمخافة داخلها، ولو باسم آخر.

الذين فى محبتهم تركوا المخافة، هم عرضة لأن يتركوا محبتهم الأولى، ويسقطوا ويحتاجوا إلى توبة، كما حدث لملاك كنيسة أفسس، الذى كان له محبة، وقد تعب من أجل إسم الرب ولم يكل (رؤ 2: 3 - 5). الذى وصل إلى المحبة الكاملة، تبقى فى أعماقه أمور عديدة من خصائص المخافة، فما هى؟

يبقى فى قلبه الحرص والتدقيق والجدية والإلتزام.

ويبقى فى قلبه أيضاً للجهاد، حفظ الوصايا، ذلك لأنه تعود كل هذا فى حياة المخافة. وتبقى فيه أيضاً حياة التوبة وما يتبعها من إنسحاق ودموع. وإن كان الإنسان المحب لله لم يعبر على هذه كلها فى طريقه الروحى، ولم يحتفظ بهذه كلها فى منهجه الروحى، فلا شك أنه قد أخطأ الطريق إلى الله...

الذى يريد أن يقفز إلى المحبة، دون إن يعبر على المخافة، هذا قد يصل إلى الإستهانة والتدلل!

والقديس الأنبا أنطونيوس الكبير، حينما قال لتلاميذه "أنا لا أخاف الله"، كان يقصد بلا شك ما وصل إليه، وليس ما بدأ به... لأنه واضح تماماً أنه قد بدأ بالمخافة، حينما نظر إلى جثمان أبيه الميت، وقال له "لقد خرجت من العالم على الرغم منك. ولكننى سأخرج منه بإرادتى، قبل أن يخرجونى كارهاً".

إن المخافة كالجذور بالنسبة إلى الشجرة، هذه التى تعلو وترتفع وتؤتى ثمارها. وفى كل هذا، تبقى الجذور كما هى، وإن كانت مختفية. ولا يمكن أن تستغنى عنها الشجرة، وإلا فإنها تموت...

أما عبارة "المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج" فمعناها تطرح الرعب.

الرعب من البحيرة المتقدة بالنار والكبريت فى الظلمة الخارجية (رؤ 20: 10) (مت 13: 42) حيث البكاء وصرير الأسنان... تلك النهاية المخيفة التى قال عنها الرسول "مخيف هو الوقوع فى يدى الله الحى" (عب 10: 31). فالإنسان الذى يصل إلى المحبة الكاملة، لا يخاف الإنفصال عن الله والوصول إلى الظلمة الخارجية.

ولكن تبقى فى قلبه المخافة بمعنى المهابة... مهما وصل إلى المحبة الكاملة.

كانت خيمة الإجتماع فى العهد القديم تمثل سكنى الله مع شعبه. وكانت خيام الشعب تحيط بها، ولكن من بُعد، هيبة للمكان الذى يحلّ فيه مجد الله عند تابوت العهد، وحيث يكلم الرب موسى...

وموسى النبى نفسه، كانت بينه وبين الله دالة يستطيع بها أن يقول له "إرجع يا رب عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك" (خر 32: 12). ومع ذلك لما أتى إلى الجبل ليتسلم الوصايا من الرب، قال "أنا مرتعب ومرتعد" (عب 12: 21)... وهكذا هى هيبة الله "المرهوب على كل الآلهه".

المحبة إذن تطرد الخوف بمعنى الرعب، وتستبقى المخافة بمعنى المهابة والتوقير والإجلال.

فمع إننا ندعو الله أبانا فى الصلاة، إلا إننا مع ذلك، نركع فى صلواتنا ونسجد... لأننا لا نتكلم مع أب عادى، وإنما نكلم "أبانا الذى فى السموات"... وهنا يمكننا أن نسأل: ما معنى الخشوع فى الصلاة؟ أليس هو لوناً من المخافة، بمعنى التوقير والإجلال. كذلك ما معنى التمجيد؟

أليس التمجيد لوناً من مخافة الله وتوقيره؟

كما قال الملائكة فى سفر الرؤيا "من لا يخافك يا رب ويمجد إسمك، لأنك وحدك قدوس، لأن الأمم سيأتون ويسجدون أمامك.." (رؤ 15: 4). وبنفس المعنى رأى القديس يوحنا الإنجيلى ملاكاً طائراً فى السماء، وهو يحمل بشارة أبدية لكل الشعوب، ويقول بصوت عظيم "خافوا الله واعطوه مجداً" (رؤ 14: 7).

هنا خوف الله يرتبط بتمجيده. ونحن نرتبط بكليهما، كلما تذكرنا عظمة الله وعلو مجده...

والرب نفسه يطالبنا بهذا، حتى لا ننسى مجد الله وهيبتنا له، فنخطئ إليه... وهكذا لما ظهر الله لموسى فى العليقة، قال له "إخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذى أنت واقف عليه أرض مقدسة" (خر 3: 5) أليس هذا مثالاً من مخافة الله...

من الأمثلة الأخرى ألا ننطق باسم الله باطلاً (خر 20: 7)، والعقوبة المرتبطة بهذه الوصية.

إنها إحدى الوصايا العشر. وقد قال الله بعدها مباشرة "لأن الرب لا يبرئ من ينطق باسمه باطلاً". وفى العهد الجديد، فى العظة على الجبل، نرى نفس الوصية، ليس باسم الرب فقط، بل كل ما يتعلق به. فيقول "لا تحلفوا البتة. لا بالسماء لأنها كرسى الله ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه. ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم..." (مت 5: 35، 34).

إنها المهابة لله، ولكل ما ينسب إليه.

فالإنسان الذى مخافة الله فى قلبه، هذا يهاب الله، ويوقره، ويطيعه، ويحفظ وصاياه، ويحترمه، ويحترم كل ما يتصل به: يهاب مواضعه المقدسة ويحترمها. ويحترم كتابه، وخدام مذبحه، ويحترم قديسيه وملائكته، ويحترم إسمه القدوس، فلا ينطق به باطلاً بل يقدسه ويمجده، وينحنى حينما ينطق بهذا الإسم القدوس..

إنها المخافة، التى يتصف بها كل من يحب الله...

التى فيها، لا يمكن للإنسان أن يكسر وصية واحدة من وصايا الله. فبالمخافة لا يكسر وصاياه، لأنه يخاف عقوبته. بالمحبة أيضاً لا يمكنه أن يكسر وصاياه، لأنه يحب تلك الوصايا، ويجد لذته فيها. أما الذى يكسر الوصية، فواضح أنه بعيد عن محبة الله، وبعيد عن مخافته...!

والذى يتكلم عن المحبة بينما يكسر الوصية، يكون كلامه باطلاً.

إذ كيف يتكلم عن المحبة التى هى نهاية الطريق الروحى، بينما لم يصل بعد إلى المخافة التى هى بدء الطريق. وما أجمل قول الوحى الإلهى فى هذا المعنى "إن جريت مع المشاة فأتعبوك، فكيف تبارى الخيل؟!" (أر 12: 5)...

إن كنت لا تزال تصارع مع الخطية، مرة تسقط وأخرى تقوم، فكيف تضع نفسك مع الذين فعلوا كل ما أمروا به، ويقولون "إنهم عبيد بطالون" (لو 17: 10). ماذا إذن عن مقارنة نفسك بالقديسين أمثال أنطونيوس؟! أو غيره من أصحاب الرؤى والإستعلانات.

فلنتكلم إذن عن مستوانا، ولا ندّعى لأنفسنا درجات لم نصل إليها بعد، ولن نصل...

إننى أكلم بشراً من نوعى، نجاهد معاً لكى نصل، ولكننا لم نصل بعد.. بل مازلنا فى مرحلة الجهاد. فهذا مستوانا معاً... أما المحبة الكاملة التى تطرح الخوف إلى خارج، فلعلها مشوار الحياة كلها... نحاول كل يوم أن نصل إلى شئ منها...

ويخيل إلى أن المحبة الكاملة لا نصل إليها إلا فى الأبدية.

وفى ذلك العالم لا توجد خطية، وبالتالى لا يوجد خوف. أما فى عالمنا هذا الذى توجد فيه الخطية، فلابد أن توجد فيه المخافة أيضاً. لأن الخوف ملازم للخطية بالضرورة.

وكما يقول الكتاب "أتريد أن لاتخاف السلطان، أفعل الصلاح... ولكن إن فعلت الشر فخف" (رو 13: 5، 4). فإن قيل هذا عن السلطان المحدود فى تقييمه للشر، فماذا نقول عن الله غير المحدود فى الصلاح والقداسة؟

وحذار أن تفهموا خطأ الآيات التى وردت فى الكتاب عن حنان الله ومغفرته ولطفه ورحمته...

No items found

الباب الثامن إعتراضات والردّ عليها - مخافة الله - البابا شنودة الثالث

الباب السادس محبة الله وَمخافته - مخافة الله - البابا شنودة الثالث

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

جدول المحتويات