الباب الخامس كيفية الحصُول علىَ مخافة الله – مخافة الله – البابا شنودة الثالث

الباب الخامس كيفية الحصُول علىَ مخافة الله

(1) يمكنك الحصول على مخافة الله بمعرفة بشاعة الخطيّة ونتائجها

لكى نصل إلى مخافة الله، لابد أن نعرف ما هى حالة الخطية، أو ما هى حالتنا أثناء أرتكابنا للخطية:

الخطية تفصلنا عن الله، وعن الملائكة والقديسين...

بل تفصلنا عن الحياة الروحية كلها...

الإنسان البار هو إنسان ثابت فى الله، والله ثابت فيه. هو هيكل للروح القدس، وروح الله ساكن فيه (1 كو 3: 16). اما الإنسان الخاطئ، فهو بارتكابه للخطية يحزن روح الله (اف 4: 30). وينفصل عن الله، وعن كل ما يتعلق به، لأنه "أية شركة للنوع مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14). فالله نور، والخطية ظلمة. والخاطئ هو شخص قد أحب الظلمة أكثر من النور، لأن أعماله شريرة "(يو 3: 19).

إلا يخيفك إذن أن تكون منفصلاً عن الله؟! وأن تحيا خارجاً منه، فى الظلمة الخارجية؟!

الإبن الضال انفصل عن أبيه، "فى كورة بعيدة" (لو 15: 13).

وأبونا آدم حينما أخطأ، انفصل عن عشرة الله، واختبأ وراء الأشجار (تك 3: 8). فالخطية توجد حاجزاً وحجاباً بين الإنسان والله ويبقى عليه أن يختار إما الله، وإما الخطية التى تفصله عن الله!

ولذلك فالخطية تخيف الإنسان، حينما يتذكر أنه من أجلها، فضل أن ينفصل عن الله ويختار الخطية...

الخاطئ يعرف تماماً أنه بعيد عن الله. ولكنه بالتوبة يشعر أنه يقترب من الله ويتلامس معه. أما إذا دخل فى حياة القداسة، فحينئذ يثبت فى الله، والله فيه. وهكذا يقول الرب "انا الكرمة وأنتم الأغصان.. الذى يثبت فيّ، وأنا فيه، هذا يأتى بثمر كثير" (يو 15: 5، 1). والذى لا يثبت، يطرح خارجاً كالغصن، فيجف ويحترق "(يو 15: 6). أليس هذا مخيفاً؟!

لعله يخيف الخاطئ أيضاً، أنه فى خصومة مع الله.

لذلك فإن القديس بولس الرسول يدعو الخطاة قائلاً "تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 20).

والأمر ليس مجرد خصومة، بل هو أخطر من هذا بكثير. فالقديس يعقوب الرسول يقول إن محبة العالم عداوة الله (يع 4: 4). ويؤيد هذا القديس يوحنا الرسول فيقول "إن أحب أحد العالم، فليس فيه محبة الآب" (1 يو 2: 15)... إذن فالخطية موقف يتخذه الخاطئ من الله: عدم محبة، خصومة، عداوة...

بل الخطية هى حرمان من الله. هى حالة إنسان يطرده الله من حضرته.

نعم، ما أبشع حالة أولئك الذين يقول لهم الرب "إنى لم أعرفكم قط. اذهبوا عنى يا فاعلى الإثم" (مت 7: 23). من يحتمل عبارة "اذهبوا عنى"... ولا يخاف؟! إنه نفس موقف العذارى الجاهلات اللائى اغلق الرب بابه فى وجوههن، وقال لهن "الحق أقول لكن إنى ما أعرفكن" (مت 25: 12). وهو نفس موقف قايين الذى صرخ قائلاً لله "ذنبى أعظم من أن يُحتمل إنك قد طردتنى اليوم عن وجه الأرض، ومن وجهك أختفى.." (تك 4: 13).

ألا يخاف هذا الذى يطرده الله من حضرته؟!

ويقول له "اذهب عنى يا فاعل الإثم. لا أعرفك" ولماذا؟ لأنه إنسان يحب العالم أكثر من الله، ولأنه يحزن روح الله الذى فيه. بل ايضاً يعاند ويقاوم الروح مثلما قال القديس اسطفانوس لليهود (أع 7: 51).

بل هو ينفصل عن الله ويخاصمه ويعاديه...

إذا استيقظ ضمير هذا الإنسان، ألا يخاف ويقول: من أنا حتى أعادى الله وأقاومه؟!

من أنا التراب والرماد، حتى أحزن روح الله، وأعصى الله واتحداه، وأخالف وصاياه وأثور عليه؟! واقف ضد سلطانه وملكوته... من أنا؟!

لذلك يخاف، لأنه ليس كفئوا لهذه العداوة وهنا التحدى. ولو تعرض لغضب الله، سيهلك...

إنه يخاف أيضاً من نتائج الخطية.

الخطية التى تجلب له القلق والخوف وعذاب الضمير، والتى تفقده سلامه الداخلى...

ما أكثر الذين جربوا متاعب الخطية وآلامها. ومنهم داود النبى، الذى قال "فى كل ليلة أعوّم سريرى، وبدموعى أبل فراشى" (مز6). "اشفنى يا رب، فإن عظامى قد اضطربت، ونفسى قد انزعجت جدا".. هذا الذى قال "مزجت شرابى بالدموع" "انصت إلى دموعى". وكما بكى داود، بكى بطرس أيضاً.

قيل إنه خرج خارجاً، وبكى بكاءً مراً (مت 26: 75).

وكما تألم القديسون بسبب الخطية، هكذا تألم الأشرار أيضاً.

ومثال لذلك يهوذا الخائن: الذى أتعبته نفسيته بسبب تسليمه لسيده ومعلمه، فأرجع المال إلى رؤساء الكهنة قائلاً "أخطأت إذ اسلمت دماً بريئاً". ولم وجد أن الأمر قد خرج من يده "مضى وخنق نفسه" (مت 27: 5). وهكذا مات هالكاً...

وبيلاطس البنطى قيل عنه فى بعض القصص إنه عاد إلى منزله، وظل يغسل يديه وهو يقول "انا برئ من دم هذا البار" (مت 27: 24). وإذ يجدهما ما زالتا ملوثتين، يعود فيغسلهما مكرراً نفس العبارة...

وهناك أشخاص بسبب خطاياهم قاسوا قصاصات على الأرض، لكى تذكرهم بخطاياهم وتوصلهم إلى مخافة الله.

كإنسان يصاب بفشل فى حياته، أو تتوالى عليه ألوان من الفشل، فيقول "هذا بسبب خطاياى".. أو يصاب بعد هذا هو، أو أحد أفراد أسرته بمرض، يتذكر خطاياه أيضاً ويقول هى السبب... ثم يقع بعد هذا فى مشكلة أو فى عدة مشاكل متتابعة، فلا يجد أمامه إلا عبارة "كل هذا بسبب خطاياى". ويوصله ذلك إلى مخافة الله.

كل هذه نتائج أرضية للخطية، غير العقوبة الأبدية.

إنها تذكرنا بلعنات الناموس التى وردت فى سفر التثنية، حينما قال الله لمن يعصى وصاياه "يجعلك الرب منهزماً أمام اعدائك. فى طريق واحدة تخرج عليهم. وفى سبع طرق تهرب أمامهم... ولا تنجح فى طرقك، بل لا تكون إلا مظلوماً مغصوباً كل الأيام، ولا مخلص" (تث 28: 29، 25). ويكررها الرب مرة أخرى فيقول "ولا تكون إلا مظلوماً مسحوقاً كل الأيام" (تث 28: 33).

طوبى لمن يستفيد من هذه العقوبات ويصل إلى مخافة الله.

إذ يوصله كل هذا إلى الندم والتوبة، ويعيش فى المخافة التى تقوده إلى نقاوة القلب. أما الذى لا يبالى، بل يستهتر، فإنه يصل إلى قساوة القلب التى تهلكه تماماً...

إن كل العقوبات التى ننالها على الأرض، أو كل المشاكل والضيقات التى نتعرض لها إنما هى تحمل فى داخلها صوت الرب يقول لنا "ارجعوا إلىّ. فأرجع إليكم". (ملا 3: 7). أترانا نلبى صوته هذا؟! هوذا الرسول يقول لنا "إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم" (عب 3: 15). إن الرسول يقول أيضاً.

"لا تستكبر بل خف... فهوذا لطف الله وصرامته" (رو 11: 22، 20).

"أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. واما اللطف فلك، إن ثبت فى اللطف. وإلا فأنت أيضاً ستقطع" (رو 11: 22).

لماذا إذن تعرض نفسك لصرامة الله، ولحكم القطع؟! أليس من الأفضل أن تحيا فى مخافة الله. ولا تخطئ؟..

إن كنت تختبئ وراء محبة الله، فتذكَر قداسة الله وعدله.

تذكر أن الله قدوس، وقداسته لا حدود لها ولا قياس. وإن كان البشر فى برهم المحدود يشمئزون من الخطية، فكم بالأولى الله الذى قداسته لا تحد!! كم تكون الخطية إذن بشعة فى نظر الله؟!

هوذا يوسف الصديق – لما عرضت عليه الخطية – قال وهو يهرب منها: "كيف أخطئ، وأفعل هذا الشر العظيم أمام الله؟!" (تك 39: 9). ولم يعتبر أنها شر عادى، وإنما هى شر عظيم...

إنك تخجل أن تفعل الخطية أمام شخص بار. وتخجل أكثر وأكثر إن كان ملاك أمامك. فكم بالأولى أمام الله؟!

عبيدك إذن أنك لا تشعر بوجود الله أمامك، حينما ترتكب الخطية. كاولئك الذين قال عنهم المزمور "لم يجعلوا الله أمامهم" (مز 54: 3). لذلك لا تخاف الله. وترتكب الخطية، والله ليس فى ذهنك، وكأنه لا يراك!!

ليتك تخاف الله كما تخاف الناس...

ليتك تخجل من الله، كما تخجل من الناس...

وكما تعمل حساباً لفكرة الناس عنك، وحكم الناس عليك، ليتك تعمل ألف حساب لحكم الله عليك.

الخطية التى تعملها فى الخفاء، لا تستطيع مطلقاً أن تعملها أمام الناس، لأنك تحب أن تكون لك سمعة طيبة أمامهم. أما الله الذى يرى كل ما تفعله أمامه فى الخفاء، فلا تعمل له حساباً، وتفقد مخافة الله!!

لماذا تدقق كثيراً فى تصرفاتك أمام الناس ولا تدقق فى تصرفاتك أمام الله؟!

لسبب واحد، هو أنك تخاف الناس ولا تخاف الله... لأنك شخصان: احدهما أمام الناس فى مظهرية بارة، وأمام الله فى حقيقتك الخاطئة. وهكذا ترى أن عدم مخافتك لله قد أوصلتك إلى الرياء... وإلى تعدد الشخصية، وإلى خداع الناس بمظهر زائف هو غير حقيقتك!!

بينما تعمل الخطية أمام الله بلا خوف، نراك تخاف أن طفلاً صغيراً يراك!

بل تخاف أن خادمك أو أحد مرؤوسيك يراك!

وتخاف فى بعض المواقف أن تؤخذ لك صورة، أو تسجل لك كلمة، إن كان فى شئ من هذا ما ينقص قدرك أمام الناس، أو ما يظهر عيباً فيك... لذلك تحترس جداً فى وجود الناس احتراساً لا تهتم مطلقاً، حينما تشعر أنه لا توجد عين تراك.

هذا دليل على عدم مخافة الله، لأن عين الله تراك فى الوقت الذى لا يراك فيه الناس...

لذلك من التداريب الهامة التى يجب عليك أن تتدرب عليها لتصل إلى مخافة الله:

أنك لا تعمل فى الخفاء، ما تخجل أن تعمله أمام الناس. ولا تفكر فى ذهنك فكراً لا تقدر أن تعلنه للناس. وقل لنفسك: ينبغى أن اخجل من الله الذى يرانى، والذى يفحص أفكار عقلى، ونيات نفسى، وشهوات قلبى. وقل لنفسك أيضاً:

لا يصح أن أكون كالقبور المبيضة من الخارج، وفى الداخل عظام نتنة!!

لأن الرب بهذا الوصف قد وبخ اولئك الكتبة والفريسين المرائين (مت 23: 27).

حاول إذن أن تكون فى داخل نفسك حريصاً على عمل البر، على الأقل كما تحرص أمام الناس. والفكر الذى يخجلك أن يعرفه الناس، لا تفكر فيه. وكذلك بالنسبة إلى العمل والمشاعر.

واقصد الناس هنا الأبرار منهم الذين يرعون القيم.

ولذلك أدعوك إلى معاشرة الأبرار من الناس، حتى تتعلم مخافة الله منهم...

وأيضاً حتى يتحول حرصك فى وجودهم إلى عادة عندك، تمارسها حتى وأنت وحدك فى عدم وجودهم معاك...

وفى نفس الوقت ابتعد عن عشرة المستهترين الذين لا توجد مخافة الله فى قلوبهم، لئلا تقلدهم دون أن تشعر.. أو قد يستهزئون بتدقيقك وحرصك، فتظن أنه مبالغة ومغالاة، وتزول بشاعة الخطية من تفكيرك، وتصل مثلهم إلى اللامبالاة وتفقد مخافة الله.

(2) لكى نصل إلى مخافة الله عَلينا أن نتذكر عقوبته ودينونته الرهيبَة

الخوف من العقوبة طبيعة فى الإنسان. ولولا هذا الخوف، لا إنتشر الشر فى كل مكان. إنه نوع من الردع، يمنع وقوع الشر.

بدأ الخوف من العقوبة، منذ أيام أبينا آدم:

لقد خاف حينما أخطأ، واختبأ هو وحواء خلف الشجر. واستمر الخوف فى نسلهما.. حتى فى الأنبياء والقديسين. واستمر الله فى فرض عقوباته على المخطئين ليقودهم إلى المخافة والتوبة.

وقد سجل لنا الكتاب المقدس عقوبات كثيرة:

ولست أقصد فقط العقوبات التى وردت فى العهد القديم، ولا لعنات الناموس التى كانت تقال على جبل عيبال (تث 27: 13)، ولا حتى الضربات والعقوبات التى وردت فى سفر الرؤيا (رؤ8) فى العهد الجديد، عهد النعمة والحق. ولا العقوبات التى صدرت من فم السيد المسيح له المجد، ومن أفواه تلاميذه القديسين، إنما أقول:

حتى الوصية الإلهية الأولى، كانت مصحوبة بعقوبة.

نعنى وصية الله لأبوينا الأولين فى الجنة. كانت مصحوبة بعقوبة شديدة فى حالة المخالفة: "موتاً تموتا" (تك 2: 17)...

بينما كانت الوصية موجهة إلى نوعية ممتازة جداً، هى آدم وحواء فى حالتهما السامية الأولى، التى كانت فائقة جداً لحالة الطبيعة البشرية الحالية. إذ كانا فى منتهى البراءة والبساطة لا يعرفان شراً، حيث كانا عريانين ولا خجلان.

وقد نفذ الله عقوبته على الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله.

الله المحب، الذى كان يتكلم فى محبة مع آدم الطاهر البرئ، هو نفسه الذى خافه آدم بعد الخطية، وهو الذى عاقب آدم وحواء، وطردهما من الجنة، وفرض عليهما التعب والوجع. والحية التى كانت خاضعة للإنسان، أعطاها سلطاناً أن تسحق عقبه (تك 3: 15 - 19).

وقال الله للإنسان – وهو يعاقبه – "لأنك تراب، وإلى التراب تعود" (تك 3: 19).

ولعل فكراً دار فى عقل أبينا آدم. "هل أنا يا رب تراب؟! ألست صورتك ومثالك؟!. وكأن الله يرد عليه قائلاً: لست أنت صورتى ولست مثالى. لقد كنت صورتى، حينما كنت نقيا بسيطاً. ولكنك لما أخطأت فقدت هذه الصورة، واصبحت تراباً، مجرد تراب كما كنت. وإلى التراب تعود...

إن العقوبة لازمة للإنسان. شرَعها الله لفائدته.

حتى الخطايا التى تبدو بسيطة، وضع الله لها عقوبات.

حتى كلمة (رقا)، أبسط كلمة تبدو فيها علامة من عدم التوقير (مت 5: 22). بل كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس، يعطون عنها حساباً فى يوم الدين (مت 12: 36). وما أخطر قول القديس باسيليوس الكبير:

وماذا استفيد إن فعلت كل البر، ثم قلت لأخى يا أحمق. وصرت بهذا مستحقاً نار جهنم حسب المكتوب (متى 5: 22)؟!

إن مجرد كلمة واحدة يخطئ بها الإنسان، تسبب له دينونة. لأن الإنجيل يقول "وبكلامك تدان" (مت 12: 37). وكلمة شتيمة يمكن بسببها أن يفقد الإنسان الملكوت، لأن الكتاب يقول "لا شتامون يرثون ملكوت الله" (1 كو 6: 10). ووضع هؤلاء الذين يشتمون فى قائمة واحدة مع الزناة وعبدة الأوثان والفاسقين (1 كو 6: 9) وكلمة قسم (حلفان) يمكن أن تقعوا بها تحت الدينونة (يع 5: 12).

إذن فلتكن مخافة الله فى قلوبنا. لأن خطية واحدة يمكن أن تكون سبباً فى هلاك الإنسان. والكتاب يقول:

"لأن من حفظ كل الناموس، وعثر فى واحدة، فقد صار مجرماً فى الكل" (يع 2: 10).

إذن يجب أن نخاف من دينونة الله لنا. ومن يوم الدينونة الرهيب، الذى يسميه الرسول أحياناً يوم الغضب، فيقول "ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب، تذخر لنفسك غضباً فى يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذى سيجازى كل واحد حسب أعماله" (رو 2: 6، 5). ويقول أيضاً عن الذين يطاوعون الإثم "سخط وغضب، شدة وضيق، على كل نفس إنسان يفعل الشر.." (رو 2: 9، 8).

وقد تحدث السيد المسيح نفسه عن الخوف من الدينونة.

فقال "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلونه أكثر. بل أريكم ممن تخافون: خافوا من الذين بعد ما يقتل له سلطان أن يلقى فى جهنم. نعم أقول لكم: من هذا خافوا" (لو 12: 5، 4).

وهكذا كرر نصيحة الخوف ثلاثة مرات فى عبارة واحدة.

وعلمنا أن نخاف من الدينونة، ومن جهنم، وأن نخاف الله الذى له سلطان هذه العقوبة.

وخوف الدينونة وفقد الخلاص، يتحدث عنه القديس بولس فيقول "فلنخف أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته، يُرى أحد منكم أنه قد خاب منه" (عب 4: 1).

إنه يخاف أن نفقد الدخول إلى الراحة الأبدية، مع وعد الله لنا بها. وهو هنا يكلم أخوة مؤمنين لهم المواعيد، يخاطبهم فى رسالته بقوله "أيها الأخوة القديسون شركاء الدعوة السماوية" (ع 3: 1). إنهم قديسون حقاً. ولكن من الممكن أن يخطئوا. ولذلك فهناك خوف عليهم...!

ومع أن الرسول يقول لهؤلاء الأخوة القديسين "فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع.." الثقة من جهة كمال الكفارة التى قدمها الرب عنا.. ولكن ماذا من جهتنا نحن؟! يتابع الرسول حديثه فيقول:

"فإن أخطأنا باختيارنا، بعدما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف، وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين" (عب 10: 27، 26).

إذ يذكر خوف الدينونة، يشرح خطورة السبب (الخطية)، فيقول: من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بغير رأفة. فكم عقاباً أشر، تظنون أنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذى قدَس به دنساً، وازدرى بروح النعمة "(عب 10: 29، 28).

حقاً إنه كلام خطير، يجعل الذى لا يخاف الله، يفيق من غفلته... ويكمل الرسول حديثه قائلاً:

مخيف هو الوقوع فى يدى الله الحى (عب 10: 31).

والوقوع المخيف فى يدى الله، هو فى يوم الدينونة. يقول القديس يوحنا فى سفر الرؤيا "ثم رأيت ملاكاً آخر طائراً فى وسط السماء، معه بشارة أبدية ليبشر الساكنين على الأرض وكل أمة وقبيلة ولسان وشعب، قائلاً بصوت عظيم خافوا الله وأعطوه مجداً" (رؤ 14: 7).. لماذا هذا الخوف؟ أو ما مناسبته؟

يقول الملاك "لأنه قد جاءت ساعة الدينونة"...

رهيبة هى ساعة الدينونة... كل حياتنا نعدها لذلك اليوم وتلك الساعة...

أنظروا ماذا يقول الكتاب عن ذلك اليوم:

يقول عنه سفر ملاخى النبى "يوم الرب العظيم المخوف" (ملا 4: 5). ونقول عنه فى القداس الإلهى "وظهوره الثانى آتى من السموات المخوف والمملوء مجداً" هذا المجئ الذى يقول عنه الكتاب "يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلى الإثم، ويطرحونهم فى أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 13: 42، 41).

ويقول سفر يوئيل النبى "لأن يوم الرب عظيم ومخوف جداً من يطيقه؟!" (يوئيل 2: 11). ويقول أيضاً "تتحول الشمس إلى ظلمة، والقمر إلى دم، قبل مجئ يوم الرب العظيم المخوف. يكون كل من يدعو باسم الرب يخلص" (يوئيل 2: 31). وقد تكرر هذا الوصف فى كلام القديس بطرس الرسول فى يوم الخمسين (أع 2: 21، 20).

ويقول القديس بطرس أيضاً فى رسالته الثانية: "ولكنه يأتى كلص فى الليل يوم الرب، الذى فيه تزول السموات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التى فيها... وتنحلّ السموات ملتهبة، والعناصر محترقة تذوب" (2 بط 3: 12، 10).

أما عن مشاعر الناس فى ذلك اليوم الرهيب:

فيقول سفر إشعياء النبى "هوذا يوم الرب قادم، قاسياً بسخط وحمو غضب.. لذلك ترخى الأيادى، ويذوب كل قلب إنسان" (أش 13: 9)... ويشبه هذا ما ورد فى (صف 1: 14 - 16).

ويقول هوشع النبى عن خوف الناس وقتذاك:

"ويقولون للجبال غطينا، وللتلال اسقطى علينا" (هو 10: 8).

ويتكرر هذا الكلام أيضاً فى سفر الرؤيا عند فتح الختم السادس "وإذا زلزلة عظيمة حدثت، والشمس صارت سوداء كمسح من شعر، والقمر صار كالدم، ونجوم السماء سقطت على الأرض، كما تطرح شجرة التين سقاطها إذا هزتها ريح عظيمة... وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء، وكل عبد وكل حر، أخفوا أنفسهم فى المغاير وفى صخور الجبال، وهم يقولون للجبال وللصخور أسقطى علينا واخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف. لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم، ومن يستطيع الوقوف؟!" (رؤ 6: 12 - 17).

لأجل كل هذا، ينصحنا الرب ويقول:

"اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون فى أية ساعة يأتى ربكم" (مت 24: 42).

ويقول عن حالة ذلك العبد الردئ غير المستعد "يأتى سيد ذلك العبد فى يوم لا ينتظره، وفى ساعة لا يعرفها، فيشقه من وسطه، ويجعل نصيبه مع المرائين. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 24: 51، 50) (لو 12: 46). ولهذا يقول "فكونوا أنتم إذن مستعدين، لأنه فى ساعة لا تظنون يأتى ابن الإنسان" (لو 12: 40).

اسهروا إذن على خلاص أنفسكم "وسيروا زمان غربتكم بخوف" (1 بط 1: 17) "لتكن احقاؤكم ممنطقة، وسرجكم موقدة" (لو 12: 35)، واضعين أمامكم هذا الإنذار:

"لئلا يأتى بغتة، فيجدكم نياماً" (مر 13: 36).

وعن سهركم واستعدادكم لهذا اليوم، لقد وضعت لكم كتاباً اسمه (السهر الروحى) يمكن أن تضيفوه إلى موضوعنا هذا. ومن مخافة هذا اليوم، استعدوا له بالتوبة. وكما يقول الرسول "لا تشاكلوا أهل هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو 12: 2). وتذكروا حالة غنى لعازر، الذى كان يشتهى مجرد قطرة ماء يبردَ بها لسانه، لأنه معذب فى ذلك اللهيب (لو 16: 24).

ولكن لعل البعض يقول "ما شأننا بذلك اليوم، وهو بعيد؟!" أقول لك: حتى إن كان اليوم الأخير بعيداً، فإن يومك أنت بالذات لا تدرى موعده.. فينبغى أن تكمل خلاصك بخوف ورعدة (فى 2: 12).

وخير لك أن تخاف الان خوفاً فيه رجاء، إذ يدفعك إلى التوبة، من أن تخاف فى ذلك اليوم بلا أمل.

وهذا هو تعليم الكنيسة الذى تعلمه لنا فى كل يوم.

(3) مخافة الله فى صَلوات الأجبيَة وفى المزامير وطقوس الكنيسة

إن الكنيسة المقدسة تعلمنا مخافة الله وتدربنا عليها فى صلوات الساعات (فى الأجبية).

وبخاصة فى صلوات النوم والستار ونصف الليل.

ففى صلاة الستار "يا رب أن دينونتك المرهوبة. إذ تحشر الناس، وتقف الملائكة، وتفتح الأسفار، وتنكشف الأعمال، وتفحص الأفكار. أية إدانة تكون إدانتى، أنا المضبوط فى الخطايا؟!".

هذا الخوف من الدينونة والإنكشاف أمام الكل...

تصوروا حينما يجمع الله العالم كله والملائكة، ويمر عليهم – كما من جهاز سينما – شريط يحوى كل أعمال الناس وأفكارهم: من خطايا ونجاسات بشعة، ودنس كل نفس..! ويعلن لهم أسرار الناس، وأفكارهم ومشاعرهم ونياتهم. وينكشف أيضاً ما كان فيهم من رياء وخداع.. ويظهرون على حقيقتهم، أىّ خجل يكون فى ذلك اليوم، وأى رعب، حينما تصبح كل خفايانا معروفة للكل؟! لأنه كما يقول الرب "ليس مكتوب إلا ويعلن" (مر 4: 22) "ولا خفى إلا ويظهر" (لو 8: 17).

إذن إن اردت ألا تنكشف فى ذلك اليوم وتخجل، تب. فالتوبة تمحو الخطايا فلا تظهر (أع 3: 19).

أيضاً الكنيسة تعلمنا فى صلاة النوم أن نقول:

"هوذا أنا عتيد أن أقف أمام الديان العادل مرعوب ومرتعب من كثرة ذنوبى، لأن العمر المنقضى فى الملاهى يستوجب الدينونة. لكن توبى يا نفسى ما دمتِ فى الأرض ساكنة.. انهضى من رقاد الكسل، وتضرعى إلى المخلص بالتوبة، قائلة اللهم ارحمنى وخلصنى".

ليعود المصلى، ليقول فى صلاة النوم أيضاً:

"لو كان العمر ثابتاً، وهذا العالم مؤبداً، لكان لك يا نفسى حجة واضحة. لكن إذا انكشفت أفعالك الرديئة وشرورك القبيحة أمام الديان العادل، فأى جواب تجيبين، وأنت على سرير الخطايا منطرحة، وفى إخضاع الجسد متهاونة؟!.

وهكذا يوبخ المصلى نفسه كل ليلة، متذكراً الموت والدينونة، والإنكشاف، والديان العادل...

وهذه المخافة تدعوه إلى التوبة وإلى طلب الرحمة، وإلى ترك الكسل والتهاون. وإلا فإنه سيقابل يوم الدينونة فى رعب وارتعاد.

وفى صلاة نصف الليل، تضع الكنيسة أمامنا فصلا من الإنجيل عن مثل العذارى اللائى كن ينتظرن مجئ الرب، وكيف دخلت الحكيمات معه، بينما وقفت الجاهلات خارجاً، وقال لهن الرب: الحق أقول لكن إنى لا أعرفكن (مت 25: 12). ما أرهبها عبارة!!

وهكذا تذكرنا الكنيسة بيوم المجئ الثانى ورهبته.

بفصل آخر من إنجيل معلمنا القديس لوقا، يقول فيه الرب "فكونوا أنتم مستعدين، فإنه فى ساعة لا تعرفونها يأتى إبن الإنسان" (لو 12: 40) (مت 25: 13).

وتعلمنا الكنيسة أن نصلى بعد ذلك ونقول:

"بما أن الديان حاضر، اهتمى يا نفسى وتيقظى. وتفهمى تلك الساعة المخوفة. فإنه ليس رحمة فى الدينونة لمن لم يستعمل الرحمة...".

وتعلمنا الكنيسة أيضاً أن نقول، ونحن نتذكر مثل العذارى "تفهمى يا نفسى ذلك اليوم الرهيب واستيقظى.. لأنك لا تعلمين متى يأتى نحوك الصوت القائل ها هوذا العريس قد أقبل. وانظرى يا نفسى ولا تنعسى، لئلا تقفى خارجاً قارعة مثل الخمس العذارى الجاهلات...".

"انظرى يا نفسى لئلا تثقلى بالنوم، فتلقى خارج الملكوت، بل اسهرى".

ومن أجل مخافة الموت والدينونة، تدعونا الكنيسة إلى دوام السهر والاستعداد، وتقدم لنا فى صلاة نصف الليل قول الرب فى الإنجيل "لتكن أحقاؤكم ممنطقة، ومصابيحكم موقدة، وأنتم أيضاً تشبهون أناسا ينتظرون سيدهم متى يرجع.. طوبى لأولئك العبيد، الذين إذا جاء سيدهم، يجدهم ساهرين..." (لو 12: 35 - 37).

كذلك بسبب خوف الدينونة، تدعونا الكنيسة إلى التوبة.

وتقدم لنا فى صلاة نصف الليل أيضاً فصل الإنجيل الخاص بتوبة تلك الخاطئة التى بللت قدمى السيد المسيح بدموعها، ومسحتهما بشعر رأسها (لو 7: 38). وتعلمنا أن نقول بعد قراءة هذا الفصل: "اعطنى يا رب ينابيع دموع كثيرة، كما أعطيت فى القديم للمرأة الخاطئة...".

إنها لا تعلمنا فقط المخافة والتوبة، بل الدموع أيضاً.

وتعلمنا أيضاً أن نقول فى هذا الجزء من صلاة نصف الليل "إذا ما تفطنت فى كثرة أعمالى الرديئة، ويأتى على قلبى فكر تلك الدينونة الرهيبة، تأخذنى رعدة، فأهرب إليك يا الله محب البشر. فلا تصرف وجهك عنى، متضرعا إليك يا من أنت وحدك بلا خطية: أنعم لنفسى المسكينة بتخشع، قبل أن يأتى الإنقضاء وخلصنى".

وبسبب تلك المخافة، تعلمنا الكنيسة أن نطلب الرحمة:

فنصرخ ونقول "بعين متحننة يا رب أنظر إلى ضعفى. فعما قليل تفنى حياتى، وبأعمالى ليس لى خلاص. فلهذا اسأل: بعين رحيمة يا رب، انظر إلى ضعفى، وذلى ومسكنتى وغربتى، ونجنى".. "لهذا اشفق على أيها المخلص، لأنك أنت هو محب البشر وحدك"...

وعن المجئ الثانى للرب ليدين العالم، تعلمنا الكنيسة أن نقول فى مخافة الله:

"فى وقت مجيئك لتدين العالم، فلنستحق سماع ذلك الصوت المملوء فرحاً، القائل تعالوا إلى يا مباركى أبى، رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم. نعم يا رب، سهل لنا أن نكون فى تلك الساعة بغير خوف ولا اضطراب، ولا سقوط فى الدينونة. ولا تجازينا بسبب كثرة آثامنا. لأنك أنت المتحنن الطويل الأناة الكثير الرحمة...".

وفى مخافة الله تعلمنا الكنيسة أن نقول فى صلاة الغروب:

إذا كان الصديق بالجهد يخلص، فأين أظهر أنا الخاطئ؟!

وهى صلاة مأخوذة من الرسالة الأولى لمعلمنا القديس بطرس الرسول حيث يقول، "إن كان البار بالجهد يخلص، فالفاجر والخاطئ أين يظهران؟!" (1 بط 4: 18).

هذه العبارة بالذات، ألا تعلمنا المخافة، التى نبذل فيها كل جهدنا، حتى نحسب مع الأبرار..؟!

وبسبب المخافة، تعلمنا الكنيسة أن نقول "يا رب أرحم" 41 مرة فى كل صلاة من صلواتنا اليومية.

بل نكرر عبارة "يا رب ارحم" بهذا العدد فى كل صلاة من الصلوات الليتورجية، وفى عشية وباكر، وفى كل قداس. طالبين الرحمة باستمرار. وطلب الرحمة هو دليل على المخافة.

أم ترانا نطلب الرحمة، بغير مخافة؟!

كلا، بل إننا نقول فى صلاة نصف الليل:

سمر خوفك فى لحمى (مز 119: 120).

الكنيسة إذن تعلمنا مخافة الله، وتدربنا عليها فى الصلاة. بل تجعلنا نبدأ كل صلواتنا اليومية والطقسية بصلاة الشكر التى نقول فى ختامها:

"امنحنا أن نكمل هذا اليوم، وكل أيام حياتنا، بكل سلام مع مخافتك". إذن هذه المخافة، نطلبها كل يوم.

وحينما ندخل إلى الكنيسة، نتعلم أن نسجد أمام الهيكل، ونحن نقول للرب: "أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل إلى بيتك، وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك". وهى عبارة مأخوذة من المزمور الخامس ويكررها الأب الكاهن فى تبخيره أمام الهيكل.

وغالبية طقوس الكنيسة وصلواتها تشتمل على عبارة الخوف أو المخافة.

ففى رفع بخور عشية، يبدأ الأب الكاهن صلاته السرية بقوله "أيها المسيح إلهنا العظيم المخوف الحقيقى".

وفى صلاة التحليل يقول "طهرنا، حاللنا، وحالل كل شعبك. إملأنا من خوفك، وقومنا إلى إرادتك المقدسة"..

وقبل قراءة الإنجيل، يصرخ الشماس ويقول: "قفوا بخوف من الله، وانصتوا لسماع الإنجيل المقدس" ويقف الشعب كله فى الكنيسة، ويخلع رئيس الكهنة تاجه من فوق رأسه، هيبة وتوقيرا لكلمات الإنجيل. كما خلع الأربعة والعشرون قسيساً أكاليلهم وسجدوا أمام العرش قائلين: مستحق أنت أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة.. "(رؤ 4: 11، 10).

حقا، ينبغى أن نسمع كلمة الله فى خوف. لماذا؟

لأننا نعرف تماماً أننا لم نطع كلام الله. فكل كلمة من الإنجيل سوف تحكم علينا. سندان بها. كما قال الرب "من رذلنى ولم يقبل كلامى، فله من يدينه. الكلام الذى تكلمت به، هو يدينه فى اليوم الأخير" (يو 12: 48). إذن إعطنا يا رب أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة، لئلا تديننا فى اليوم الأخير.

كما نسمع كلمة الخوف فى قراءة الإنجيل أثناء القداس الإلهى، كذلك فى وقت حلول الروح القدس، يصيح الشماس:

اسجدوا لله بخوف ورعدة.

إنه الخوف الذى يليق بالحلول الإلهى. كما قيل عن موسى النبى وقت إعطاء الرب للوصايا على الجبل، إن موسى قال: أنا مرتعب ومرتعد (عب 12: 21). كذلك قال القديس يوحنا الرسول لما ظهر له الرب فى سفر الرؤيا "فلما رأيته، سقطت عند رجليه كميت. فوضع يده اليمنى على قائلا لى لا تخف" (رؤ 1: 17).

الخوف يتعلق أيضاً بالذبيحة المقدسة، لكيما نقدمها ونتناول منها، بغير وقوع فى دينونة...

وعبارة (بغير وقوع فى دينونة) يكررها الكاهن كثيراً أثناء القداس الإلهى..

ففى صلاة الإستعداد قبل تقديم الحمل يقول فى صلاته السرية "أجعلنا مستوجبين بقوة روحك القدوس أن نكمل هذه الخدمة. لكى بغير وقوع فى دينونة أمام مجدك العظيم، نقدم لك صعيدة البركة".

وفى صلاة الحجاب بعد قراءة الإنجيل، يقول: "نسألك يا سيدنا، لا تردنا إلى الخلف، إذ نضع أيدينا على هذه الذبيحة المخوفة غير الدموية... نسأل ونتضرع إلى صلاحك يا محب البشر، أن لا يكون لنا دينونة، ولا لشعبك أجمع، هذا السر الذى دبرته لخلاصنا".

يذكر هنا فى مخافة دينونة التناول بغير إستحقاق، التى ذكرها القديس بولس الرسول (1 كو 11: 27 - 30).

وهكذا يقول أيضاً فى صلاة الصلح "أجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نقبل بعضنا بعضاً بقبلة مقدسة. لكى ننال بغير انطراح فى دينونة من موهبتك غير المائتة السمائية".

وعندما يتذكر الكاهن المجئ الثانى للسيد الرب يقول "وظهوره الثانى الآتى من السموات، المخوف المملوء مجداً".

أما عن المخافة من الموت، فى صلاة الأجبية:

فيكفى هنا تشفعنا بالقديسة العذراء قائلين فى صلاة الغروب "وعند مفارقة نفسى من جسدى، احضرى عندى، ولمؤامرة الأعداء اهزمى، ولأبواب الجحيم اغلقى، لئلا يبتلعوا نفسى"...

ما أجمل قول القديس البابا ثاؤفيلس عن خوف الموت "طوباك يا أرسانى، لأنك بكيت فى حياتك كثيراً من أجل خوف تلك الساعة".

(4) تحصل عَلى مخافة الله بالدقة فى محاسَبة النفس وبتذكرك قول الرب أنا عارف أعمالك (رؤ3، 2) وتصل إلى المخافة أيضاً بالتوبة والاتضاع

الإنسان الذى لا يشعر بفداحة خطاياه، تزول مخافة الله من قلبه. أما المدقق فى محاسبة نفسه، فإنه إذ يشعر بكثرة خطاياه وثقلها، فإن مخافة الله تكون على الدوام راسخة فى قلبه...

إننا نصل إلى مخافة الله، إذا كنا نحاسب أنفسنا على كل عمل، وكل قول، وكل فكر، وكل حس، بكل تدقيق. بحيث لا نجامل أنفسنا، ولا نلتمس الأعذار لأخطائنا...

إن المخافة تجلب التدقيق. والتدقيق يجلب المخافة. وكل منها يقوى الآخر...

والعجيب فى معاملاتنا للغير، أننا نحاسب غيرنا بكل دقة فى أخطائه من نحونا. ولكننا لا نحاسب أنفسنا بنفس الدقة التى نحاسب بها غيرنا!! بل قد لا نحاسبها على الاطلاق!

لذلك إن أردت أن تكتسب مخافة الله التى هى بدء الطريق الروحى، لأن "بدء الحكمة مخافة الله" (ام 9: 10).. اجلس إلى نفسك كل يوم، وإسأل ذاتك: ماذا فعلت؟ وماذا قلت؟ وفى أى شئ فكرت؟ فهكذا كان القديس ارسانيوس الكبير يسأل نفسه فى كل يوم.

ولا تسأل نفسك فقط عن السلبيات التى سقطت فيها، وإنما أيضاً عن الإيجابيات التى قصرت فيها.

وهكذا تدخل مخافة الله فى قلبك، إذ تجد أنك فى الموازين إلى فوق (مز 62: 9).

إن الإنسان الروحى يحاسب نفسه حتى على توقف النمو. لأنه يعرف تماماً أنه مطالب بحياة القداسة فى قول الرب "كونوا قديسين، كما أنى أنا قدوس" (لا 20: 26). وهو أيضاً مطالب بحياة الكمال، حسب قول الرب فى العظة على الجبل "كونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت 5: 48). وإذ يجد بينه وبين القداسة والكمال مسافات، يبكت نفسه وتدخله مخافة الله...

الإنسان المبتدئ يخاف أن يخطئ. أما البار فإن مخافة الله تلاحقه، لأنه لم يكمل بعد كل المطلوب منه فى حياة البر ويتذكر قول الكتاب:

من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل، فتلك خطية له (يع 4: 17).

وهكذا يبكت نفسه، ليس على خطية قد فعلها، وإنما أيضاً على بر لم يفعله.. وهكذا يسأل نفسه باستمرار: هل بإمكانه أن يفعل أكثر من هذا أم لا؟ هل بإمكانه أن يجاهد أكثر، لكى يمتد إلى قدام، كما كان القديس بولس يفعل (فى 3: 13).

الذى فيه مخافة الله، لا يخاف فقط من إرتكاب الخطية، ولا يقف عند حد الوصية، إنما يجاهد لكى ينمو فى محبة الله، بغير حدود..

لا يكون دقيقاً فقط فى محاسبته لنفسه، إنما هذه المحاسبة تجعله دقيقاً أيضاً فى إعترافاته..

فما أسهل أن يفقد الإنسان مخافة الله، إذا كانت إعترافاته ناقصة، أو كان يبرر نفسه فى إعترافاته، أو يلقى اللوم على غيره فى أخطائه هو.

أو إن كان يظن فى وقت الإعتراف أنه يقف فقط أمام الأب الكاهن، وليس أمام الله.!! فالواقع إنه يعترف على الله فى سمع الكاهن. ويأخذ الحلّ من الروح القدس من فم الكاهن...

أقول هذا لأن كثيرين يخجلون من أب الإعتراف ولا يخجلون من الله، الذى يقول له كل منا فى المزمور "إليك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت" (مز50).

إن تبرير الإنسان لنفسه فى وقت الإعتراف، وفى اى وقت دليل على عدم وجود مخافة الله فى القلب.

فلا تحاول إذن أن تبرر ذاتك، أو أن تبسّط الأمور، أو أن تسمى الخطية باسم آخر يخفف من بشاعتها، أو أن تستتر وراء الظروف والملابسات وتذكر قول أب جبل نتريا للقديس ثاؤفيلس:

"لا يوجد أفضل من أن يرجع الإنسان باللوم على نفسه، فى كل شئ".. بهذا نصل إلى مخافة الله.

ولكى تصل إلى المخافة، ضع أمامك باستمرار قول الرب فى سفر الرؤيا "أنا عارف أعمالك"...

إنها عبارة تكررت سبع مرات، قالها الرب لكل ملاك من ملائكة الكنائس السبع "أنا عارف أعمالك" (رؤ3، 2). فياليت كل إنسان منا يضع أمامه على الدوام هذه العبارة. ويثق تماماً أنه سيقف أمام الله الذى سيقول له "أنا عارف أعمالك" ليس فقط فى يوم الدينونة. إنما يقول له هذه العبارة ان وكل اوان. بهذا تدخل المخافة إلى القلب..

فكل الخطايا التى أخفيناها على الناس، حتى لا تنحدر كرامتنا أمامهم، الله يعرفها جميعاً. وهى واضحة أمامه لا تخفى. لذلك علينا أن نتذكر قول القديس آبا مقار الكبير، لخاطئ ستره هذا القديس، وقال له:

احكم يا أخى على نفسك، قبل أن يحكموا عليك..

حاسب إذن نفسك، واحكم على نفسك، فليس خفى إلا ويظهر، ولا مكتوم إلا ويستعلن. وما دام الله يقول لك "أنا عارف أعمالك" إذن اعترف بها أمامه، واطلب من القوة على التوبة...

إن الذى يخاف الله، يخاف من كل فكر خاطئ، ومن كل شهور دنس، ومن كل نية بطالة.. من كل هذه الأمور التى لا يلاحظها الناس. ولكن الله يراها ويعرفها.

والذى يخاف الله، يخاف أيضاً من انكشافه وخجله امام الملائكة الأطهار، وأمام أرواح القديسين.

يخشى من الملاك الحارس. ويخجل حتى من صور القديسين المعلقة فى حجرته. وكأن كل واحد من تلك الأرواح يردد أيضاً عبارة الرب "أنا عارف أعمالك"... ويقول هذا الخاطئ فى نفسه: قطعاً كل هؤلاء يروننى، وأنا أعمل ما أعمله!!

وطبعاً كل هذا سينكشف. فهناك أجهزة تسجيل مسجل عليها كل شئ، بالصوت والصورة، حتى الأفكار!! وكأن الله يقول: هات يا ميخائيل ملف فلان، افتحه واقرأ أمام جميع الناس... والذى لم نحاسب أنفسنا عليه، سنحاسب عليه أمام الكل...

كأن آلة تصوير تلتقط كل منظر خاطئ.. وكأن آلة تسجيل تسجل كل صوت. تسجل كل ما فى داخلنا، وكل ما فى الخارج، حتى نوايانا!! ويقول الرب لكل منا "أنا عارف أعمالك"... ألا يقودنا كل هذا إلى مخافة الله؟!

نستطيع أيضاً أن نصل إلى مخافة الله عن طريق تواضع القلب.

إن الإنسان الواثق ببره، الشاعر بقوته، ربما يظن أن السقوط بعيد عنه، وأن الخطية لا تقوى عليه. أما المتواضع فيضع أمامه على الدوام قول الرسول "لا تستكبر بل خف" (رو 11: 20) وأيضاً "من يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط" (1 كو 10: 12). لذلك فهو يدقق فى كل صغيرة، ولا يلقى بنفسه فى مواطن العثرة، ولا يظن فى نفسه أنه أكبر من الخطية. ويتذكر كيف أن الخطية "طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء" (أم 7: 26).

ولهذا تملكه المخافة فيحترس ويدقق. وهذه المخافة تمنحه الحرص وتنقى قلبه.

ويخاف من الفكر الطارئ، لئلا يتأصل ويتطور إلى ما هو أخطر. يخاف من الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم (نش 2: 15). يخاف من العثرات ويبعد عنها، ولا يدعى لنفسه القوة التى تنتصر على كل عثرة. ويقول لنفسه: أنا لست أقوى من أولئك القديسين الذين سقطوا. لست أقوى من داود (2 صم11)،.

ولست أقوى ولا أحكم من سليمان الذى سقط (1مل11).

والإنسان المتواضع تصحبه المخافة مهما كبر...

مهما كبر فى السن، ومهما نما فى الروحيات، ومهما كان فى بيئة مقدسة. فإن آدم قد سقط وهو فى الفردوس، وفى حالة من البراءة فوق الطبيعة الحالية! فى حالة البساطة التى لا تعرف خطية، ولم تجرب خطية. وداود سقط وهو مسيح الرب، رجل الصلاة والمزمار. وكان روح الرب عليه (1صم 16: 13). وكان يضرب بالعود، فيذهب الروح الردئ عن شاول الملك (1 صم 16: 23).

سليمان قد سقط، وهو أحكم أهل الأرض كلها، بحكمة ليست بشرية، وإنما هبة من الله نفسه (1 مل 3: 12).

فمادام الشيطان يطارد حتى أعاظم القديسين ولا ييأس منهم. فعلينا إذن إن نضع مخافة الله فى قلوبنا.

إن بطرس الرسول لم يضع المخافة فى قلبه، وقال للرب "لو أنكرك الجميع، أنا لا أنكرك" "ولو أضطرت أن أموت معك، لا أنكرك" (مت 26: 35، 33). "أنا مستعد أن أمضى معك، حتى إلى السجن" (لو 22: 33). يا ليت بطرس وضع المخافة فى فكره. وقال أنا أضعف يا رب من التجربة، ومن غربلة الشيطان لنا (لو 22: 31). اسندنى فأخلص. كن معى فى ساعة التجربة لئلا أضيع.

الإنسان المتواضع الذى تسكن المخافة فى قلبه، يلجأ دائماً إلى الصلاة طلباً للمعونة.

فى محاسبته لنفسه، يدرك عمق خطاياه، فتملكه المخافة، فيصلى طالباً المغفرة. وأيضاً فى إدراكه لضعفه، تملكه المخافة فيصلى لكى يحارب الله عنه، فلا يقوى عليه العدو...

وفى مخافته أيضاً يسعى إلى التوبة.

حياة التوبة توصل إلى مخافة الله.

ومخافة الله توصل أيضاً إلى التوبة.

والإثنان يعملان معاً، كل منهما يكون سبباً للآخر، ونتيجة له..

الإنسان التائب، خطيته دائماً أمام عينيه، تذكره بضعفه السابق وهزيمته استسلامه للعدو، فيبكى على خطاياه فى مخافة الله. ويقول مع داود النبى فى مزمور التوبة "خطيتى أمامى فى كل حين" (مز50).

والإنسان التائب كثير الدموع، كداود أيضاً، الذى بلل فراشه بدموعه (مز6). وكل ذلك يثبته فى مخافة الله.

والإنسان التائب لم يصل بعد إلى الدالة التى تخفف المخافة.

إنه لا يزال يردد بعد عبارة "لست مستحقاٌ أن أدعى لك إبناً.." (لو 15: 19).

والإنسان التائب يكون دائماً كثير الحرص، يخشى أن تصيبه نكسة فترجعه مرة أخرى إلى السقوط، لذلك تجده يحيا باستمرار فى مخافة الله. إنه بالجهد قد وصل إلى مصالحة. وبجهد أكثر يحرص على إستمرار المصالحة معه. وهكذا يبقى فى مخافة الله.

ليتكم يا أخوتى تبقون فى حياة التوبة، التى تجلب لكم الحرص والمخافة.

حتى أن نقلكم الله إلى حياة الحب الإلهى، تستمر مخافة الله فى قلوبكم، كلون من المهابة له ولوصاياه ومقدساته.

(5) تصل إلى مخافة الله بمهابَة الكبَار

إذا تعود الإنسان أن يهاب من هو أكبر منه، أعنى أن يهاب والديه، ومدرسيه، وأقاربه الكبار، واباء الكهنة، ورؤسائه فى العمل.. حينئذ سيصل بالضرورة إلى مخافة الله الذى هو أعظم من الكل...

لأنه إن كان الشخص لا يهاب أباه الذى يراه، فكيف يمكنه أن يخاف الله الذى لا يراه؟!

إن أبا الاباء يعقوب يذكر هيبة أبيه اسحق (تك 31: 42). لهذا فإن الذى يشعر بهيبة أبيه وجلاله ووقاره، لا يستطيع أن يخطئ أمامه، ولا أن يخطئ إليه، من هيبة أبيه. وتقول وصايا العهد القديم "كل إنسان سبّ أباه أو أمه، فإنه يُقتل. قد سبّ أباه أو أمه، دمه عليه" (لا 20: 9). ويقول الكتاب أيضاً:

"العين المستهزئة بأبيها، والمحتقرة إطاعة أمها، تقورها غربان الوادى" (أم 30: 17).

وهكذا أمر الله بطاعة الوالدين، وعدم الإستخفاف بأوامرهما حتى إن كبر الإبن، وناقش والده فى أمر من الأمور، يكون ذلك باحترام يليق بمعاملة الأب. ولا يجوز له أن يتحدث معه حديث الند بالند، أو يتعامل معه على قدم المساواة.. بل يضع أمامه باستمرار وقار الأبوة، ومستوى السن.

قديماً كان الصغار لا يستطيعون أن يتكلموا فى وجود الكبار، من فرط هيبتهم...

نرى هذا واضحاً فى قصة أيوم الصديق، الذى كان له ثلاثة أصحاب تناقشوا معه مدة طويلة. بينما صمت رابع كان بينهم. وكان إسمه اليهو بن برخئيل البوزى. ولما أضطر إلى الحديث بسبب أخطائهم، قال لهم "أنا صغير فى الأيام، وأنتم شيوخ. لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدى لكم رأيا. قلت الأيام تتكلم، وكثرة السنين تظهر حكمة" (أى 32: 7، 6).

والقديس الأنبا بيجيمى السائح، يتحدث عن بدء رهبنته، فيقول إنه عاش سنوات كثيرة وسط الشيوخ لم يرفع عينيه إلى وجه واحد منهم...

أما فى أيامنا هذه، فباسم الحرية والديمقراطية، قل احترام الكبار. وأصبح الصغير يمكنه أن يجادل الكبير ويستخف برأيه، بدون إحترام..

وبالتالى يتدرج إلى الجرأة على كل ما هو كبير، حتى على القانون، وعلى النظام العام، ويفقد المخافة، فيتحول إلى الإستهانة بكل شئ... وما أسهل فى هذا الوضع أن يفقد مخافته لله أيضاً، ويفقد احترامه لوصاياه. وبدلاً من أن يطيعها، يناقشها!!

ولكن لا يمكن أن يفعل هذا، من تعود إحترام القانون والنظام. إن الشخص الذى يحترم إشارة المرور، ولا يمكن أن يكسرها مهما كانت الدوافع، هذا سيحترم بالأولى وصية الله ويهابها...

كذلك التلميذ الذى تعود إحترام مدرسه، والجندى الذى تعود إحترام قائده، كلاهما سيتعود مخافة الله.

قديماً، فى القرن الأول الميلادى، وقبل الميلاد، كان المعلم أو الأستاذ يجلس على كرسيه فى قاعة الدرس، بينما يجلس التلاميذ على الأرض عند قدميه. كما ذكر بولس الرسول إنه تعلّم "عند قدمى غمالائيل" (اع 22: 3).

بهذا الوضع تعود التلاميذ إحترام معلميهم. ولكن الوضع تغيرالان.. وأصبح على الأقل، إذا تحدث التلميذ مع أستاذه، يجب أن يقف ليكلمه. ولا يتكلم التلميذ وهو جالس مع استاذه، بينما الأستاذ واقف!!

بنفس وضع إحترام المعلمين. قيل عن مريم أخت مرثا إنها "جلست عند قدمى يسوع وكانت تسمع كلامه" (لو 10: 39).

هذه الهيبة تقدم أيضاً لرجال الدين. لأن الذى يهاب خادم الرب، سيهاب بالأكثر رب هذا الخادم...

والذى يهاب وكيل الله (تى 1: 7)، لابد أن يهاب الله نفسه.. وهكذا رأينا كيف كانت مهابة داود النبى لشاول الملك باعتباره مسيح الرب، على الرغم من أخطاء شاول، ومحاولته قتل داود!! إلا أنه لما وقع شاول فى يده، رفض أن يوقع به، وقال لرجاله "حاشا لى من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدى مسيح الرب، فأمد يدى إليه، لأنه مسيح الرب هو" (1 صم 24: 6).

ومن مهابته كمسيح الرب، كان داود يناديه يا سيدى، وكان يسجد أمامه (1 صم 24: 8).

وكمثال من هيبة رجال الله، هيبة المعترف لأب اعترافه، كوكيل لله فى سماع خطاياه.

فتكون جلسة الإعتراف لها هيبتها ولها وقارها. يشعر فيها المعترف أنه أمام الله، يعترف عليه فى سمع الأب الكاهن. وإنه إلى الله وحده قد أخطأ (مز50) وأنه يأخذ الحل من الله، من فم الكاهن.

والذى يهاب أب اعترافه، بالتالى يهاب الله.. ولكن حذار من أن تعتقد أن العلاقة فى الإعتراف هى بينك وبين أب الإعتراف، وليست بينك وبين الله! وتخجل من أب الاعتراف بسبب خطاياك، دون أن تخجل من الله!!

إن المهابة لا نقدمها للآباء الكهنة فقط، وإنما أيضاً للقديسين الذين انتقلوا.

فالرسل مثلاُ ينبغى أن نتحدث عنهم فى مهابة.. وإذا اقتبسنا من رسائلهم، لا نقول: يقول بطرس ويقول بولس.. إنما نقول معلمنا القديس بطرس الرسول، ومعلمنا القديس بولس الرسول.. فى مهابة لهم.

ونفس الوضع بالنسبة إلى آباء البيعة. فكثيراً ما يتحدث البعض للأسف قائلين: هذا هو تعليم أثناسيوس وكيرلس. أما الذين لهم فى قلوبهم هيبة وإحترام أبائنا القديسين، فيقولون: حسب تعليم أبينا القديس العظيم البابا أثناسيوس الرسولى...

والكنيسة كمثال لاحترام القديسين تضع فى صلوات البسخة المقدسة لحناً يسبق عظة القديس التى تقرأ، ولحناً آخر فى ختامها، بكل إجلال..

لحن فى منتهى الجمال نبدأ به العظة، ويقدمها المرتل للسامعين. وفى نهايتها يقول "فلنختم عظة أبينا القديس الأنبا فلان، الذى أنار عقولنا وقلوبنا بتعاليمه النافعة".. حقاً هذا هو إحترام القديسين وهيبتهم فى الكنيسة.

ولا ننسى الذكصولوجيات العديدة، وكل ما نقوله من تماجيد للقديسين، تجعل هيبتهم مثل محبتهم فى قلوب المؤمنين. والزفة بالألحان والموسيقى لرفاتهم فى أعيادهم...

وكذلك الاحترام الكبير لأيقونات القديسين.

من حيث تدشينها بالميرون المقدس، لتكون بركة للناس. وأيضاً إيقاد الشموع أمامها لإظهار أن القديس كان نوراً للناس. يضاف إلى هذا تبخير الكاهن أمام أيقونة القديس بكل توقير. وزفة الأيقونة فى عيد القديس بالتهليل والألحان.

فإن كنا على هذا القدر نحترم القديسين وسيرتهم وأيقوناتهم وأعيادهم وعظاتهم، فكم بالأولى يكون شعورنا نحو الله خالق كل هؤلاء، وما ينبغى أن نظهره نحوه من مهابة ومخافة.

وكما يتدرب المؤمن على إحترام القديسين ومهابتهم، يتدرب أيضاً على مهابة الملاك الحارس له...

فلتكن لك إذن مهابة للملاك الحارس لك، مهابة لقدسيته ورسالته. فتستحى من هذا الملاك أن تفعل خطية أمامه، او تلفظ لفظة غير لائقة. قل لنفسك: كيف أفعل خطية، ويرانى هذا الملاك القديس الطاهر الذى إلى جوارى؟! فيشمئز منها ولا يحتمل، فيتركنى ويذهب عنى، وهو يردد المزمور القائل: فى طريق الخطاة، وفى مجلس المستهزئين لا تجلس (مز1).

طبعاً يمكن أن يأتى الملائكة إلى مجالس المستهزئين، لكى يوبخوهم، أو يقودوهم إلى التوبة. أما المستهترون المستمرون فى لا مبالاتهم، فإن الملائكة ينفرون منهم، ويتركونهم فى لهوهم مع أصحابهم الشياطين. لأنه لا شركة للنور مع الظلمة، ولا خلطة للبر مع الإثم (2 كو 6: 14).

إن خوفك من أن يتركك الملاك الحارس، هو جزء من مخافتك لله.

فأحرص على هذه المخافة، وأحذر من أن تبعد عنك الملاك الحارس بسبب خطية أو نجاسة. وأذكر قول الكتاب "ملاك الرب حال حول خائفى الرب، وليس حول المستهترين والمستبيحين.. وكأنك حينما تخطئ، إنما تطرد ملائكة الرب من حولك!!

هل تظن أن ملاك الرب يقف ليتفرج على منظر نجس شرير. كلا. إن الملاك قديس لا يقبل ذلك، بل يبتعد ويمضى. أو على الأقل يقول: نبعد الان إلى أن يرجع صاحبنا هذا إلى عقله، أو نعمل على هدايته من بعيد، بأن نشفع فيه...

وما نقوله عن الملائكة، نقوله أيضاً عن أرواح القديسين، وأرواح أحبائك الذين انتقلوا.

إن كنت تخاف أن يروك وأنت فى حالة خطية، وتخجل من ذلك جداً، ابتعد عن الخطية ونجاستها، ويقودك هذا الشعور إلى مخافة الله...

على أن مهابتك لا تقتصر على كل تلك الدرجات العليا، من ملائكة وقديسين وآباء...

بل ينبغى أن تشمل مهابتك كل القيم والتقاليد.

لأن الذى يستهتر بالتقاليد والأنظمة والمبادئ والعادات المرعبة، سيأتى وقت عليه يستهين فيه بوصايا الله..!

والجبل الذى يتمرد على السلطة، كل سلطة، سلطة الأب والمدرس ورئيس العمل، وسلطة الحكام أيضاً، سيأتى وقت عليه يتمرد فيه على الله نفسه...

والذى لا يحترم من هو أكبر منه سناً، سيأتى وقت عليه لا يحترم فيه من هو أكبر منه مقاماً. وقد يتطور إلى أن يتذمر على الله نفسه، ويفقد مخافته لله..

فلنتدرب إذن على احترام الكبار ومهابتهم، فنصل بذلك إلى مخافة الله ومهابته.

(6) تصل إلىَ مخافة الله بالخشوع واحترام المقدسَات

إذا وقفت لتصلى، تذكر أمام من أنت واقف؟.. أنت واقف أمام ملك الملوك ورب الأرباب..

أمام هذا الإله المهوب، الذى تقف أمامه الملائكة بخشية، الشاروبيم والسارافيم: بجناحين يغطون وجوههم، وبجناحين يغطون أرجلهم.. والأربعة والعشرون كاهناً الجلوس على عروشهم، يطرحون أكاليلهم أمام عرشه، ويسجدون للحى إلى أبد الآبدين، وهم يقولون: أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل الأشياء، وهى بإرادتك كائنة (رؤ 4: 11، 10).

وأنت أين مخافة الله فى قلبك أثناء صلاتك؟! ليتك تقف أمامه بالهيبة التى تقف بها أمام رؤسائك!

يقول ماراسحق عن مخافة الله أثناء الصلاة.

قف أمام الله فى الصلاة، كما لو كنت واقفاً أمام لهيب نار.

إن أبانا ابراهيم حينما وقف أمام الله، قال "شرعت أن أكلم المولى، وأنا تراب ورماد" (تك 18: 27).

أتقول إنك فى صلاتك تكلم أباً؟.. نعم، ولكنه ليس أباً عادياً، وإنما علمنا الرب أن نقول "أبانا الذى فى السموات". تذكر إذن عبارة (السموات) هذه، التى هى عرش الله (مت 5: 34). لذلك نحن حينما نصلى، نرفع أعيننا إلى فوق، متذكرين عرش الله فى السماء.

ماراسحق يتحدث عن الزى الحسن أثناء الصلاة.. الذى من أهم مظاهره: جمع الحواس، وجمع الفكر..

قف فى صلاتك بتوقير، فى مهابة، عالماً أمام من أنت واقف. قف منتصب القامة. لا تحرك يديك ولا رجليك. ولا تسمح لحواسك أن تنشغل بشئ آخر، ولا أن تقطع صلاتك بأى شئ يستلفت حواسك، فتلتفت إليه وتسرح بعيداً عن الله. وبين الحين والآخر، تبرهن على احترامك لله، بالإنحناء أو الركوع أو السجود، وأنت مركز الفكر فى حديثك مع الله..

سألنى البعض: لماذا أصلى، وأفكارى تطيش فى موضوعات أخرى؟ فقلت له: لأنها صلاة خالية من مخافة الله.

حقاً لو أن مخافة الله ثابتة فى قلبك، لكنت تصلى بفكر مركز، ولا يسرح عقلك فى شئ آخر أثناء حديثك مع الله. ولا تظن أن بنوتك لله تنسيك مهابته!! وإن حاول فكرك أن يطيش، ارجعه بسرعة.. ربما لم يتعود التركيز بعد... لذلك درّبه على الثبات فى الرب...

كذلك الذى يصلى بلا فهم، وبلا مبالاة، أو ينسى ما يقول.. هذا أيضاً يصلى، وليست مخافة الله فى قلبه..

إنه ليس إحتراماً لله، أن تتحدث معه هكذا، بلا خشوع، وبلا فهم.. أو أن تنشغل بغيره أثناء حديثك معه، أو أن تكلمه وأنت لا تدرى ماذا تقول! أو أن تسرع فى صلاتك لكى تنتهى منها بسرعة، كأنك قد مللت من الحديث مع الله!! أو لديك أمور أخرى أهم تريد أن تنشغل بها!! أو أسوأ من هذا، أن تقول: ليس لدى وقت للحديث مع الله!! وكل هذا يدل على عدم المخافة.

إن مخافة الله تمنحك إحترام الله فى صلاتك.

وأيضاً الخشوع فى الصلاة يوصلك إلى مخافة الله.

وتدخل فى هذا الخشوع، ألفاظ الإتضاع التى تستخدمها فى الصلاة. كأن تبدأ صلاتك بعبارات التمجيد والتسبيح، وتقول "من أنا يا رب حتى أتحدث إليك؟! أنا التراب والرماد، أنا الخاطئ المتدنس..

كذلك تذكر إسم الرب بكل إجلال، وليس مثل الذين يقولون "يا يسوع، يا يسوع". بل كن مثل السارافيم الذين يقولون "قدوس قدوس، رب الجنود. مجده ملء كل الأرض" (أش 6: 3) فتهتز الأساسات لصلواتهم.

وكما تظهر مخافة الله فى صلاتك، تظهر أيضاً فى علاقتك بكتاب الله وبيت الله، وكل ما يتعلق بالله...

فتدخل إلى الكنيسة بكل إحترام، وأنت تصلى فى قلبك وتقول للرب "أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل إلى بيتك، وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك" (مز 5: 7).

اشعر وأنت فى الكنيسة، أن هذا هو بيت الله وبيت الملائكة، وبيت العبادة. واذكر قول المزمور:

"لبيتك ينبغى التقديس يا رب كل الأيام" (مز 93: 5).

هذا التقديس يمنحك مهابة للكنيسة، ومهابة للهيكل، ومهابة للأسرار المقدسة وللصلوات...

ولا تتكلم فى الكنيسة مع أحد أثناء الصلوات، فهذا يدل على عدم احترامك للكنيسة، وعدم احترامك للصلاة. وانشغالك عنها بالكلام، وعدم إشتراكك فى الصلاة. وكل هذا يدل على أنك قد دخلت إلى الكنيسة بغير مخافة الله! ليتك تذكر قول أبينا يعقوب أبى الآباء:

"ما أرهب هذا المكان. ما هذا إلا بيت الله، وهذا باب السماء" (تك 28: 17).

نعم رآه مكاناً رهيباً، وخاف، على الرغم من محبة الله التى أظهرها له فى ذلك المكان، وافتقاده بالسلم السمائى، وبنظره للملائكة.

ولا شك أن المكان الذى يحل فيه الرب، هو مكان رهيب والمكان الذى يحل فيه الروح القدس عاملاً فى الأسرار المقدسة، هو مكان رهيب.

من أجل هذا، لما اقترب موسى من موضع يكلمه فيه الله، قال له الرب، ليدخل الخشية إلى قلبه:

"اخلع حذاءك من رجليك. لأن الموضع الذى أنت واقف عليه أرض مقدسة" (خر 3: 5).

ونفس الكلام قيل أيضاً ليشوع النبى (يش 5: 15). إن خلع الحذاء يرمز أيضاً إلى خلع كل الأمور المادية والأرضية، أثناء وجودك فى بيت الله.. كما يدل على إحترام المكان المقدس.

على الأقل نقف فى الكنيسة بمخافة الله، ونجلس فيها – وقت الجلوس – بمخافة الله. لا نتكلم مع من يجلس إلى جوارنا ونحكى!! ونعلق على ما نسمعه وما نراه!! إن الذى يفعل هكذا، ليست فيه مخافة الله. وكذلك الذى يدخل إلى الكنيسة وفى يده مجلة، أو فى جيب قميصه علبة سجاير!!

الذى لا يوقر بيت الله، طبيعى لا يوقر الله نفسه. فإن وقرَ الله سيوقر بيته.

نقول هذا ونحن نأسف لبعض المسئولين فى الكنيسة من خدامها، الذين يدخلون إلى الكنيسة بسلطان، بغير هيبة للمكان، يأمرون وينهون، ويرفعون صوتهم، ويمشون فى عظمة!! ولا يفرقون بين بيت الله وبيوتهم الخاصة!!

أما الذى يهاب الكنيسة، فمن الطبيعى أن يهاب الهيكل بالأكثر.

ولذلك فنحن فى كنيستنا القبطية لا ندخل إلى الهيكل مطلقاً بأحذيتنا، كما تفعل كنائس الغرب!! ولا نسمح بالدخول إلى الهيكل، إلا لخدام المذبح فقط. ونحن نسجد أمام الهيكل. والأب الكاهن يبخر أمامه ونحيط الهيكل بلون كبير من المهابة، وبالأكثر مذبح الله الذى يوجد داخله، والذى نرفع حوله البخور..

أما الذين لا يهابون الهيكل ولا المذبح، فسيأتى وقت عليهم ولا يهابون فيه الأسرار المقدسة أيضاً!!

المهابة أيضاً ينبغى أن تشمل الكتاب المقدس.

لذلك فعند قراءة الإنجيل فى الكنيسة المقدسة، يصيح الشماس قائلاً "قفوا بخوف ورعدة من الله، وأنصتوا لسماع الإنجيل المقدس" فيقف كله احتراماً، ورئيس الكهنة ينزع تاجه من فوق رأسه خشوعاً أمام كلمة الله. بل قبل قراءة الإنجيل، يصلى الكاهن أوشية يقول فيها للرب "أجعلنا مستحقين أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة، بطلبات قديسيك". ويرفع البخور ونقبل الإنجيل.

فهل بنفس الاحترام نتعامل مع الكتاب المقدس فى بيوتنا؟

هناك أشخاص قد يضعون الكتاب المقدس فى أى مكان فى بيوتهم. وقد يكون تائهاً وسط الكتب! أما الإنسان الروحى الذى يخاف الله، فلا يضع شيئاً فوق الكتاب المقدس.

الكتاب المقدس لا يوضع فوقه إلا الصليب أو كتاب مقدس أخر. هكذا نحترمه ونوقره. كذلك نقرأ الكتاب فى توقير داخل بيوتنا. وبقدر ما نهاب الكتاب، نهاب أيضاً الوصايا المكتوبة فيه، وتدخل مخافة الله فى قلوبنا.

ينبغى أن يفرّق كل إنسان بين قراءة الكتاب المقدس وقراءة أى كتاب آخر.

فلا تقرأ الكتاب وأنت نائم، أو وأنت مستلق فى إسترخاء، أو وأنت تشرب كوباً من الشاى. كل هذه الأخطاء تطرد مخافة الله من قلبك.

هناك من يبدأون قراءة الكتاب بصلاة. وهذا أفضل. كما يصلى الكاهن قائلاً "اجعلنا مستحقين أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة" مجرد السماع يحتاج إلى صلاة وإلى استحقاق، وإلى رفع بخور فى الكنيسة. فلنأخذ من هذا درساً.

تلزمنا أيضاً المخافة فى كل ما يتعلق بالله.

المخافة أثناء حضور القداس الإلهى. هذه المخافة التى يفقدها البعض، وهم يستمعون إلى القداس المذاع أو إلى القداس المسجل على شريط كاسيت أو شريط فيديو. فيستمعون وهم منشغلون ببعض أمور البيت، أو وهم فى العربة مركزين فى قواعد المرور وهم جلوس!! يستحسن فى العربة إستبدال القداسات المسجلة بألحان أو عظات أو تراتيل...

كذلك من احترام القداس أن تحضر إليه مبكراً، ولا تخرج أثناءه بل بعد سماع البركة والتسريح. وكذلك كل أنواع المخافة التى تتعلق بالتناول: مثل الإستحقاق للتناول من توبة وصلح وصوم، والهيبة أثناء التناول وعدم التزاحم، والصلاة قبل التناول وبعده، والحرص الجسدى أيضاً...

إن الذى يهاب الكنيسة والهيكل والتناول، لابد أن مخافة الله تسكن فى قلبه.

كذلك الذى يهاب رجال الله فى ملائكة وبشر. فيهاب الملاك الحارس له، ويستحى من أن يخطئ أمامه، ويهاب ملائكة المذبح والذبيحة، وملائكة الكنيسة.

كذلك الذى يهاب أرواح الذين انتقلوا، ويخاف أن ينظروا إليه وهو فى حالة خطية، أو يروا أى منظر له يعمله فى الخفاء، أو أى رياء يظهر به أمام الناس!

كذلك الذى يهاب رجال الكهنوت عموماً، وأيضاً الأب الروحى والإرشاد الروحى، عالماً أنهم وكلاء الله على الأرض (تى 1: 7) ووكلاء سرائر الله (1 كو 4: 1).

لا شك أن الذى يهاب ملائكة الله، ورجال الله، قديسى الله، لابد أن مخافة الله تدخل إلى قلبه.

بل إن كثيرين يحترمون مجرد أيقونة القديس، والكنيسة تبخر أمام أيقونات القديسين المدشنة، وترتل الألحان تمجيداً للملائكة والقديسين. فكم بالأولى خالقهم.

وكما نوقر رجال الرب، نوقر أيضاً يوم الرب. فالذى بكل مخافة، يخشى أن يكسر تقديس يوم الرب، لابد أن تكون مخافة الله ساكنة فى قلبه.

وبنفس الوضع الذى يخشى أن يكسر وصية الصوم لأى سبب من الأسباب، ولا يتهاون فى ذلك، لابد أن تكون مخافة الله ساكنة فى قلبه.

كذلك يصل إلى مخافة الله من يحرص على عهود مع الله ويوفى للرب نذوره.

ولا يحاول بعد أن ينذر نذراً، أن يتفاوض فى الأمر، من حيث الوفاء بالنذر، أو تغييره أو تأجيله، غير واضع فى قلبه أن نذره هو اتفاق بينه وبين الله واجب الاحترام والهيبة، كما قال الكتاب "خير لك أن لا تنذر، من أن تنذر ولا تفى" (جا 5: 5).

إن الإلتزام بالنذور والعهود، توصل الإنسان إلى مخافة الله وكسر النذر يطرد مخافة الله من القلب.

(7) تداريب عَلى مخافة الله

لكى تصل إلى مخافة الله، حاول أن تسلك فى التداريب الاتية:

ضع الله أمام عينيك باستمرار، وتذكر أن أعمالك كلها مكشوفة أمامه.

إنه يرى كل ما تفعله، ويسمع كل ما تقوله. وكما قال القديس مقاريوس الكبير "فلنعلم أن كل ما نعمله عريان ومكشوف لديه، ولا تخفى عليه خافية".

قال القديس الأنبا أشعياء المتوحد "إذا قمت باكر كل يوم، تذكر أنك ستعطى جواباً عن أعمالك. فإنك بذلك لن تخطئ، ومخافة الله تسكن فيك...".

مشكلتنا أننا لا نضع الله أمام أعيننا أثناء ارتكاب الخطية. لذلك نشرب الخطية كالماء، ولا نتذكر الله! لذلك ليس عبثاً قال داود النبى عن الخطاة فى المزمور:

"اللهم إن مخالفى الناموس قاموا علىّ – ولم يجعلوك أمامهم" (مز 86: 14). ضع الله امامك إذن، فتخاف ولا تخطئ.

ما أجمل عبارة كان يقولها إيليا النبى وهى:

"حىّ هو رب الجنود الذى أنا واقف أمامه" (1 مل 18: 14).

ولكى تصل إلى مخافة الله، ضع أمامك باستمرار مجد الله وعظمته، فتملكك هيبته، فتخاف.

الله الذى هو ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ 19: 16). الله العالى، خالق الكل وسيد الكل الذى نحن أمامه تراب.. كيف نتحداه؟!

ضع أمامك أيضاً عدل الله، الذى سيجازى كل واحد حسب عمله (مت 16: 27) (رؤ 22: 12). وقل لنفسك: أين أهرب من عدل الله، أنا المضبوط فى الخطايا؟!

ضع أمامك أيضاً صلاح الله وقدسية الله الذى يشمئز من الخطية.

إن كنت أمام أصحابك الأتقياء لا تجرء أن تفعل خطية، أو تتلفظ بكلمة غير لائقة، فكم بالأولى أمام الله الكلى القداسة. لذلك أمام صلاحه تخاف أن تخطئ، ويملكك الإستحياء..

واذكر أن الخطية موجهة إلى الله ذاته فتخاف.

كما قال داود النبى فى مزمور التوبة "إليك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت" (مز50).

أو كما قال يوسف الصديق "كيف أفعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله؟! (تك 39: 9). ليتك تحفظ هذه الاية، وترددها كلما حوربت بالخطية. حينئذ تدخل مخافة الله إلى قلبك...

شعورك أنك بالخطية تجرح قلب الله المحب، وتحزن روح الله القدوس فى داخلك (اف 4: 30)، وترفض شركته معك.. كل ذلك يجعلك تخاف.

بكت نفسك كهيكل لله يحل الله فيه...

قل لنفسك هل سوف أظلّ هيكلا لله، ويسكن روح الله فىّ، إن تدنست بالخطية؟! هوذا الرسول يقول "إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسده الله. لأن هيكل الله مقدس الذى أنتم هو" (1 كو 3: 17، 16).

وتذكر أيضاً قول الرسول "ألستم تعلمون أن اجسادكم هى اعضاء المسيح. أفآخذ أعضاء المسيح، واجعلها اعضاء زانية؟! حاشا" (1 كو 6: 15).

أيضاً تأتيك مخافة الله إن سلكت فى حياة التوبة.

التوبة توصلك إلى مخافة الله. ومخافة الله توصلك إلى التوبة. الذى يسلك فى التوبة، يشعر ببشاعة الخطية، وكيف أنها تفصله عن الله وتعرضه للدينونة الرهيبة فيخاف.

والذى يسير فى طريق التوبة، يخاف على نفسه من السقوط. ويخاف إن سقط، أن يتطور معه الأمر إلى أسوأ، من الحراس إلى الفكر، إلى القلب إلى العمل، إلى أن تصبح الخطية عادة عنده تستعبد إرادته لها، فيخاف.. ويقول: إن بدأت الخطية ان، وأنا أظن أنى مسيطر على الخطية أستطيع أن اتركها فى أى وقت!! فلابد سيأتى الوقت الذى تصبح فيه الخطية مسيطرة علىّ.

لذلك تصل إلى المخافة، بالمواظبة على محاسبة النفس.

ومع الدقة فى ذلك. وكما قيل فى بستان الرهبان: يجب أن نحاسب أنفسنا فى كل بكرة وعشية: ماذا عملنا مما يحبه الله، وماذا عملنا مما لا يحبه. ونفتقد أنفسنا بالتوبة. وبهذه السيرة عاش القديس الأنبا ارسانيوس.

قال القديس العظيم الأنبا موسى الأسود:

"إذا قمت باكر كل يوم بالغداة، تذكر أنك سوف تعطى لله حساباً عن سائر اعمالك فى هذا اليوم".

وبهذا تدخل مخافة الله إلى قلبك...

نعم، نحن محتاجون أن نراجع أنفسنا كل يوم، لكى نصل إلى المخافة.. نحن محتاجون أن يفحص كل إنسان قلبه، ويرى هل فيه عنصر التهاون، أو فيه شئ من اللامبالاة وعدم الإكتراث وعدم الحرص وعدم مخافة الله...

لنراجع إلى بداية الطريق يا أخوتى، إن كنا قد ضللنا علامات الطريق. نرجع إلى المخافة، ومنها نبدأ. ونتدرج منها حتى نصل إلى الحب.

ولندرك علامات عدم المخافة، ونبعد عنها:

فالذى يسرح مع الخطية ويتفاوض معها، مخافة الله ليست فى قلبه. والذى يتكبر ويتعجرف ويقسو على غيره، واضح أنه ليست فى داخله مخافة الله. وكذلك من لا يضع يوم الدينونة أمام عينيه على الدوام، ويعمل من أجل رهبة ذلك اليوم، هذا أيضاً بعيد عن مخافة الله، ويعمل من اجل رهبة ذلك اليوم، هذا أيضاً بعيد عن مخافة الله. والذى يستغل طول أناة الله استغلالاً رديئاً، فيصل إلى الإستهتار بدلاً من التوبة، هذا أيضاً لا توجد مخافة الله فى قلبه.

اعطيك تدريباً آخر سهلاً تصل به إلى مخافة الله، وهو:

حاول أن تخاف الله، كما تخاف الناس..!

الشئ الذى تخاف أن تعمله أمام الناس، خف أيضاً أن تعمله أمام الله. والفكر الذى تخاف أن يعرفه الناس، لا تفكر فيه أمام الله. لأن الله يعرفه ويفحصه. كل ما تخاف أن يعرفه الناس عنك، خف أيضاً من أن يراه الله فيك. الخطايا الخفية، التى تعملها فى الخفاء، وتخشى من إرتكابها أمام الناس، اخجل من ارتكابها أمام الله.

وإلا فإن الله يقول لك إنك لم تجعل لى هيبة عندك. مثل هيبتك لباقى الناس!! لم أتساو فى اعتبارك مع إنسان من تراب ورماد! هذا التراب والرماد تعمل له ألف حساب، وأنا لا تعمل لى حساباً أبداً..!

درّب نفسك على مخافة الله فى حجرتك المغلقة...

لأنك إن كنت فى الخفاء، حيث لا يراك أحد، تسلك فى مخافة الله، ففى العلن، فى محيط الناس، ستكون مخافتك أكثر. إذن فالإنسان الذى يخاف الله، يحترس من كل الخطايا الخفية.

تصوروا فتاة مثلاً لا تتصرف فى حجرتها الخاصة باستهتار، وتسلك بكل إحتشام فى حجرتها المغلقة عليها حيث لا يراها أحد.. هذه من غير الممكن أن تستهتر خارج بيتها.. إن كانت مع نفسها تحتفظ بحياتها وبمخافتها لله، فطبيعى وسط الناس سيكون حياؤها أكثر..

إن كانت وهى وحدها فى بيتها، إن نظرت ملابسها قد انكشفت قليلاً، تسرع بتغطية نفسها فى خوف الله، بينما لا أحد يراها، ولكنها تخجل من ذلك أمام الملائكة وأرواح القديسين.. فهل تظنونها تفقد حشمتها ومخافتها لله فى وسط الناس؟! مستحيل..

بل الإنسان الذى يخاف الله، يستحى حتى من الفكر الذى يراه أحد.

يستحى من مشاعره الداخلية، ومن نياته الخفية، لأنه يعرف تماماً أن الله يراها. هذه الخفيات هى واضحة وظاهرة أمام الله لذلك كن حريصاً، وبكّت نفسك على كل فكر غير لائق.. وحاسب نفسك على ذلك بشدة، أكثر من شدتك فى محاسبة الناس على ما هو ظاهر منهم.

وفى اعترافك أمام الأب الكاهن، لا تجعل اعترافك سهلاً.

أى لا تذكر الاعتراف بالخطية بأسلوب عادى كأنه مجرد قصة ترويها.. وإنما ليكن ذلك فى خجل، وفى ندم، وفى حزن بسبب سقوطك. واعرف أنك تذكر ذلك أمام الله نفسه فى سمع أب الكاهن. وبمقدار ندمك وحزنك، تدخل مخافة الله إلى قلبك.

ولكى تصل إلى مخافة الله، لا تجعل العالم يطوي فى طياته.

بحيث تصير فى دوامة من المشغوليات لا تبقى لك وقتاً تفكر فيه فى حياتك وأبديتك ومصيرك!! وبحيث يختفى إسم الله من فكرك، وتنساه وتنسى وصاياه.. وبالتالى لا تكون مخافته فى قلبك وفى ذاكرتك،.

إنما بين الحين والحين، انسحب من هذه الدوامة، وانظر إلى الله، الذى هو دائماً ناظر إليك..

وكما قال أحد الشيوخ فى بستان الرهبان "فى كل شئ تصنعه ـ اعلم أن الله ينظر إليك دائماً، لتكون مخافته فيك".

إذا أردت أيضاً أن تخاف الله، عاشر الذين يخافونه.

لكى تتعلم من سلوكهم مخافة الله، ولكى يدخل إلى قلبك الحرص والتدقيق الذى فيهم. ومن الناحية الأخرى احترس جداً من خلطة المستهترين، لأن خلطتهم تبدد مخافة الله فيك، وتشجعك على اللامبالاة. لذلك اضبط نفسك جيداً، حتى لا تتأثر بالأوساط الخارجية الخاطئة التى لا تخاف الله.. بل ابعد عن المجالس التى ليست فيها مخافة الله.

كذلك لكى تصل إلى المخافة، احذر من التذمر على الله.

وابعد عن معاتبة الله فى كل أمر، وكأنك تنسب إليه كل ما ينالك من فشل، وكل ما تصيبك من ضيقات.

إن الإنسان الذى باستمرار يأتى بالملامة على الله، ويقول له: لما تفعل بى يا رب هكذا؟ لماذا تتسبب فى فشلى وفى ضياعى؟..

لماذا تعاملنى بهذا الأسلوب؟.. مثل هذ الإنسان، بهذا التذمر يبعد كثيراً عن مخافة الله.

بل قد يصل البعض إلى التجديف، من دوام تذمرهم على الله وبعض الشعوب وصلت بهذا التذمر إلى الإلحاد!

وأما أنت فإن عاتبت أحياناً على فشل ما، إنما عاتب نفسك، وليس الله. بهذا تصل إلى مخافة الرب...

ولكن تصل إلى مخافة الله، لا تذكر إسم الله إلا بكل إجلال واحترام "ولا تنطق باسم الله باطلاً" (خر 20: 7).

لا تستخدم إسم الله باستهانة، وفى أية مناسبة تستحق أو لا تستحق، لأن إسم الله قدوس هو.. ولا تجعل إسم الله سهلاً على لسانك، ولو عن طريق الدالة!! فالدالة لا تمنع توقيرك لله.. وتذكر أنك فى كل صلاة ربيه، تقول لله "ليتقدس إسمك".

فالذى يذكر إسم الله بالإجلال، تدخل مخافة الله فى قلبه.

وبعد، ها نحن قد تحدثنا كثيراً عن الوسائل التى توصلنا إلى مخافة الله... أحب بعد ذلك أن انتقل بك إلى العلاقة بين مخافة الله ومحبة الله..

No items found

الباب السادس محبة الله وَمخافته - مخافة الله - البابا شنودة الثالث

الباب الرابع مخافة الله فى الكنيسَة الأولىَ - مخافة الله - البابا شنودة الثالث

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

جدول المحتويات