الباب الثانى أسَباب الخوف الخوف يرتبط بالخطية – مخافة الله – البابا شنودة الثالث

مقدمة

منذ زمان، وأنا أود أن أنشر هذا الكتاب.

وذلك لكى يقيم توازناً مع محاضراتى وكتاباتى الكثيرة عن محبة الله وحنانه ورحمته...

لدرجة أننى فكرت أن أجعله الباب الأخير من كتابى عن (المحبة) الذى نشرته فى العام الماضى.

ثم فضلّت أن أجعله كتاباً مستقلاً.

أولاً: لكى يأخذ حظه من الإهتمام، ولا يتوه وسط الأبواب الأخرى من الكتاب.

ثانياً: لكى يدخل أيضاً فى مجموعة كتب (التوبة).

وقد قدمت لكم من هذه المجموعة ثلاث كتب هى:

حياة التوبة والنقاوة – اليقظة الروحية – السهر الروحى.

فليكن كتاب المخافة هو الرابع فى هذه المجموعة.

البابا شنوده الثالث.

الباب الأول لَماذا نتحدث عَن مخَافة الله

لعل البعض يتساءل: لماذا نتكلم عن مخافة الله؟! بينما قد بشرتنا الأناجيل بأن الله أب لنا، بكل ما تحمله كلمة أب من معانى الحنو والحب؟.. وقد تعود الناس منا أننا كنا نكلمهم باستمرار عن إلهنا الطيب الحنون، الذى يعاملنا بكل شفقة ورأفة. ويقابل خطايانا – إذ تبنا – بالمغفرة والتسامح.. فلماذا نتكلم عن المخافة إذن؟

أقول: إن الناس على نوعين: ونوع يذيبه الحب.. نوع آخر يستغل المحبة مجالاً للاستهانة والاستهتار.

وحتى الذى تذيب المحبة قلبه على نوعين:

فهناك من يحبون الله، ويعملون كما يليق بالمحبة، بكل قوة. وتظهر محبة الله فى حياتهم، وفى سلوكهم، وفى طاعتهم لله، واتفاق مشيئتهم ورغبة قلوبهم مع مشيئة الله.. وهذا هو النوع المثالى، ولكن ليس جميع الناس مثاليين..

وهناك من يحبون الله، وتنقصهم الإرادة والتنفيذ.

المحبة خاتم على قلوبهم، ولكنها ليست خاتماً على سواعدهم (نش 8: 6). مثال ذلك القديس بطرس الرسول ساعة الإنكار. لقد أنكر السيد المسيح، ومع ذلك كان يحبه. وقد قال له بعد القيامة "انت تعلم يا رب كل شئ. انت تعلم أنى أحبك" (يو 21: 17).

فى ساعة إنكاره: أكانت له المحبة، ولم تكن له المخافة؟

أقصد مخافة الله.. لأن بطرس كان وقتذاك خائفاً من الناس أن يضروه بسبب صلته بالمسيح. وكان خوفه من الله فى ذلك الوقت أقل من خوفه من الناس.. وحتى محبته لله أثناء تلك التجربة، لم تكن محبة كاملة. لأنها لو كانت محبة كاملة، لانتصرت على الخوف من الناس، وما كان قد أنكر الرب...

يا ليت بطرس فى ذلك الوقت، كانت فى قلبه مخافة الله...

أما النوع الثانى من الناس، فإنه يخطئ فهم المحبة!

فإذ يعرف أن الله يغلبه حنانه، فيغفر ولا يعاقب، لذلك فهذا النوع لا يخاف، ويخطئ..!

إنه يتدلل على الله تدللاً خاطئاً غير مقبول.

ويقول فى نفسه، وربما أمام الناس: مادمنا نتعامل مع إله رحوم، إله حنون شفوق طيب، فلا نخاف إذن مهما أخطأنا. لابد أن لله سيغفر – إنه غفر للمرأة الزانية، وغفر لمريم المجدلية التى أخرج منها سبعة شياطين (مر 16: 9). إلهنا الطيب قبل إليه زكا العشار، واختار أيضاً متى العشار رسولاً، وأشفق على الخاطئين..

وهكذا يستهين بمحبة الله، أقصد محبة الله له. أما هو فلا يكون محباً لله وهو يعصى وصاياه!

لذلك فالحديث عن مخافة الله لازم جداً، بالنسبة إلى هذا الجيل الذى نعيش فيه...

وذلك لأننا نعيش فى جيل، فقد فيه الناس خوف الله: فمنهم من ينكر وجوده، ومنهم من يهاجمه فينتقد الله ويتهمه. وفى هذا الجيل أيضاً من يتذمر على الله، ومن يكسر وصاياه بكل جرأة وبلا خوف..!

هذا الجيل الذى تفشت فيه الاستباحة وألوان من الاستهتار. وأصبح كثيرون يثورون على القيم والمبادئ، ويسيرون بأسلوب قاضى الظلم الذى قيل عنه إنه كان "لا يخاف الله، ولا يهاب إنساناً" (لو 18: 2).

نعم، ينبغى أن نتحدث عن مخافة الله فى هذا الجيل، الذى نزع فيه الخوف من قلوب الكثيرين، حتى من الصغار.

وأصبح لا خوف من أب ولا من أم، ولا من معلم ولا شيخ، ولا من رئيس.. بل هى ثورة حتى على الأنظمة والقوانين، وعلى كل سلطة فى البيت أو فى المدرسة أو فى الشارع، أو فى العمل.. هذا الوقت يلزمه الحديث عن المخافة، أكثر من أى وقت آخر..

وقد يحتج البعض بأن المخافة هى من سمات العهد القديم. أما العهد الجديد فهو عهد النعمة والمحبة.

وهذا تعلم خاطئ لأن الله هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد (عب 13: 8). "ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (يع 1: 17). إن كانت هناك مخافة فى العهد القديم، فقد كانت فيه وصية المحبة أيضاً "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" (تث 6: 5). وقال السيد المسيح إنه بهذه المحبة "يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت 22: 4).

وإذ ثبت العهد الجديد هذه المحبة، فإنه تحدث عن المخافة أيضاً، فى أقوال السيد المسيح ورسله القديسين. يكفى أن أسجل قول السيد الرب:

"أريكم ممن تخافون: خافوا من الذى بعد ما يقتل، له سلطان أن يلقى فى جهنم. نعم أقول لكم: من هذا خافوا" (لو 12: 5، 4) (مت 10: 28).

وهكذا عبارة الخوف ثلاث مرات فى وصية واحدة، بدأها بعبارة "أقول لكم يا أحبائى.." (لو 12: 4). إذن المحبة لا تتعارض مطلقاً مع الخوف.

والقديس بطرس يقول للكل "سيروا زمان غربتكم بخوف" (1 بط 1: 17). ويقول للنساء "ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف" (1 بط 3: 2).

صدقنى يا أبى ومعلمى القديس بطرس، لقد تحدثت عن الخوف فى رقة، فهوذا القديس بولس يقول:

"تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" (فى 2: 12).

فأضاف إلى الخوف كلمة الرعدة، وهى أشدّ...

ولعل من أوضح الآيات الكتابية عن المخافة فى العهد الجديد هى قول القديس بولس الرسول أيضاً "مكملين القداسة فى خوف الله" (2 كو 7: 1).

ويقول القديس يهوذا الرسول "ارحموا البعض مميزين. وخلصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار، مبغضين حتى الثوب المدنس من الجسد" (يه23، 22).

وبهذا نرى أن الخوف يصلح أن يكون أسلوباً من أساليب الرعاية وانقاذ النفوس.

البعض نرحمه مميزين. والبعض نخلصه بالخوف، نخطفه من النار حتى لا يحترق. فالنفوس ليست كلها واحدة. منها بلا شك من ينفعه الخوف.

وفى هذا المعنى نفسه يقول القديس بولس لتلميذه تيموثاوس الأسقف "الذين يخطئون، وبخهم أمام الجميع، لكى يكون عند الباقين خوف" (1 تى 5: 20). هذا الخوف نافع، حتى لا يستهتر الباقون...

وكانت سياسة الخوف نافعة فى معاقبة حنانيا وسفيرا.

لأنه كان من الممكن أن يتكرر الخطأ الذى صدر من حنانيا وسفيرا، ويسلك بنفس سلوكهما آخرون. ولكن لما أوقع القديس بطرس عليهما العقوبة، على الرغم من شدتها، يقول سفر أعمال الرسل "فصار خوف عظيم على جميع الكنيسة، وعلى جميع الذين سمعوا بذلك" (أع 5: 11). وكان هذا الخوف لصالح الكنيسة واستقرارها منذ تأسيسها.

هكذا عاشت الكنيسة فى تعليمها منذ أيامها الأولى. لماذا يحاول البعض إذن – فى هذه الأمور الروحية – أن يفرّق بين تعليم العهد القديم وتعليم العهد الجديد؟! أليس الكتاب وحده واحدة متجانسة، يقول عنها الرسول:

كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذى فى البر "(2 تى 3: 16).

إن إله العهد القديم، هو نفسه إله العهد الجديد لم يتغير. فلا تظنوا أن الله كان مشدداً من جهة الخطية فى العهد القديم، ومتساهلا من جهتها فى العهد الجديد!!.. حاشا. فالخطية هى هى فى كل بشاعتها. والله هو هو، الكلى الصلاح، والكلى القداسة، والكلى العدل، فى العهدين كليهما...

ليس العهد القديم إذن هو عهد الخوف والعقوبة، وليس العهد الجديد هو وحده عهد النعمة والمحبة.

فالخوف والفرح فيهما كليهما. الفرح للذين يؤمنون ويثبتون فى الإيمان. والخوف لغير المؤمنين، وللذين يسقطون أو ينحرفون.

وليس العهد القديم هو عهد التهديد والوعيد، بينما العهد الجديد هو عهد الوعود!!..

فالوعيد والوعود فيهما معاً. ولا ننسى أنه فى العهد الجديد يقول الإنجيل:

"كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً، تقطع وتلقى فى النار" (مت 3: 10).

وبقول السيد المسيح فى كل محبته "إن كان أحد لا يثبت فىّ، يطرح خارجاً كالغصن، فيجف، ويطرحونه فى النار فيحترق" (يو 15: 6).

إن الله يعرف طبيعة الإنسان، ويعرف أن المخافة نافعة ولازمة لهذه الطبيعة. ولذلك تحدث عن المخافة فى كلا العهدين، القديم والجديد.

وفى العهد القديم، لم يتحدث عن المخافة فقط فى مجال التهديد، بل فى مجال الحب والنعمة أيضاً.

فقيل فى سفر المزامير:

"سر الرب لخائفيه" (مز 25: 14).

"عين الرب على خائفيه" (مز 33: 18).

"ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم" (مز 34: 7).

"خلاصه قريب من خائفيه" (مز 85: 9).

"قويت رحمته على خائفيه" (مز 103: 11).

"يتراءف الرب على خائفيه" (مز 103: 13).

"من هو الإنسان الخائف الرب. يعلّمه طريقاً يختاره. نفسه فى الخير تبيت. ونسله يرث الأرض" (مز 25: 12).

ويقول الرب فى سفر ارمياء النبى "وأعطيهم قلباً واحداً وطريقاً واحداً، ليخافونى كل الأيام لخيرهم وخير اولادهم" "وأقطع لهم عهداً أبدياً أنى لا أرجع عنهم، لأحسن إليهم، وأجعل مخافتى فى قلوبهم، فلا يحيدون عنى" (ار 32: 38 - 40).

فى العهد الجديد، وردت مخافة الله مرتبطة بفضائل، وعدم المخافة مرتبطاً بالخطية.

فقد قيل عن كرنيليوس البار إنه "تقى وخائف الله مع جميع بيته، يصنع حسنات كثيرة للشعب، ويصلى كل حين" (أع 10: 2).

وامتزج الخوف مع تمجيد بالنسبة للذين رأوا شفاء المفلوج "فاخذت الجميع حيرة، ومجدوا الله وامتلأوا خوفاً، قائلين إننا قد رأينا اليوم عجائب" (لو 5: 26).

وعند إقامة ابنة ارملة نايين "أخذ الجميع خوف، ومجدوا الله" (لو 7: 16).

وفى سفر الرؤيا، رأى القديس "ملاكاً طائراً فى وسط السماء، معه بشارة أبدية ليبشر الساكنين على الأرض، وكل أمة وقبيلة ولسان وشعب، قائلاً بصوت عظيم" خافوا الله وأعطوا مجداً (رؤ 14: 7، 6).

ورأى القديس يوحنا ملائكة يسبحون الله قائلين "من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لأنك أنت وحدك قدوس" (رؤ 15: 4).

ويشبه هذا قول القديس بطرس الرسول "أحبوا الأخوة. خافوا الله" (1 بط 2: 17).

وكما تمتزج المخافة بالفضيلة، يمتزج عدم المخافة بالخطية. وهكذا نجد على الصليب، أن اللص التائب ينتهر اللص الآخر الذى كان يجدف على الصليب، ويقول له "أو ما تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟! أما نحن فبعدل ننال استحقاق ما فعلنا" (لو 23: 41، 40).

وقيل عن قاضى الظلم إنه "لا يخاف الله" (لو 18: 1).

وأبونا ابراهيم أبو الآباء، لما تغرب فى أرض جرار، وصف شرها بقوله "إنى قولت ليس فى هذا الموضع خوف الله البتة. فيقتلونى لأجل امرأتى" (تك 20: 11).

+ + +.

الباب الثانى أسَباب الخوف

الخوف يرتبط بالخطية

إن الملائكة – وهم يتكللون بالبر – لا يخافون. أما البشر وهم يسقطون فى الخطايا كل يوم، فإن الخوف يلاحقهم، لأنه لاصق بالخطية. هو يسبقها، وهو أيضاً يلحقها. وهو مرتبط بها على الدوام.

أول نوع من الخوف، هو خوف السقوط:

هو خوف يسبق الخطية، وهو نافع إن دفع صاحبه إلى الحرص. الإنسان الذى يحب أن يحيا حياة طاهرة يخاف من السقوط. لأنه قيل عن الخطية إنها طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقويا (ام 7: 26). نعم، هذه الخطية التى اسقطت جبابرة أمثال داود وسليمان وشمشون، والتى اسقطت رسلاً مثل بطرس ومثل توما... لذلك يقول القديس بولس الرسول محذراً...

"لا تستكبر، بل خف" (رو 11: 20).

حتى الإنسان الروحى، ينبغى أيضاً أن يخاف السقوط، ليس عن رعب، إنما عن حرص. ذلك بسبب عنف الحروب الروحية وقوة الشيطان المخادع الذى قال عنه القديس بطرس الرسول "اصحوا واسهروا، لأن ابليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو" (1 بط 5: 8). وقال القديس بولس الرسول عن المحاربات الروحية "فإن محاربتنا ليست من لحم ودم، بل مع الرؤساء مع السلاطين.. مع اجناد الشر الروحية فى السماويات.." (اف 6: 12). ولذلك فإنه يقول أيضاً "من يظن أنه قائم فلينظر لئلا يسقط" (1 كو 10: 12). بل إنه قال عن نفسه، ليحذرنا:

"اقمع جسدى واستعبده، حتى بعد ما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسى مرفوضاً" (1 كو 9: 27).

نعم، ما اخطر هذه العبارة، يقولها رسول عظيم قد صعد إلى السماء الثالثة، وتعب أكثر من جميع الرسل. لذلك على الإنسان الروحى أن يبذل كل جهده، ويبعد عن كل أسباب الخطية ومصادرها خوفاً من أن يسقط!!

يفعل هذا، حتى إن كان قد سار شوطاً فى الحياة بالروح، لعله يحدث له كما حدث لأهل غلاطية الذين وبخهم الرسول قائلاً:

"أبعدما ابتدأتم بالروح، تكملون الآن بالجسد؟!" (غل 3: 3).

ليس المهم إذن كيف بدأنا؟ أو كيف نحن الآن؟ وإنما ماذا سنكون، وكيف ستكون نهاية سيرتنا..

هذا هو أول خوف يرتبط بالخطية وهو خوف السقوط. ويستغله الروحيون لفائدتهم، مستمعين إلى قول المرتل فى المزمور "طوبى للإنسان الذى لم يسلك فى مشورة الأشرار، وفى طريق الخطاة لم يقف، وفى مجلس المستهزئين لم يجلس.." (مز1).

فإن أخطأ الإنسان يقع فى خوف آخر، هو خوف الانكشاف.

يخاف أن يعرف الناس خطيئته، وأن ينكشف، فيقع فى الفضيحة والعار، ويتعرض لألسنة الناس التى لا ترحم، وتصبح سمعته مضغة فى أفواههم..!

لذلك يقول علماء النفس أن المجرم كثيراً ما يحوم حول مكان جريمته، خائفاً من أن يكون قد ترك هناك أثراً يدل عليه.. وهذا العامل النفسانى يستغله المحققون. فإن أشاروا إلى شئ من آثار الجريمة، قد يضطرب المجرم أو ينهار.

ومن أجل خوف الإنكشاف نلاحظ ملاحظة هامة وهى:

إن الخطية كثيراً ما تعمل فى الظلام وفى الخفاء.

وهكذا قيل عن الخطاة أنهم "احبوا الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو 3: 19) "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، لئلا توبخ أعماله. وأما من يعمل الحق، فيقبل إلى النور، لكى تظهر اعماله أنها بالله معمولة" (يو 3: 21، 20).

ولهذا فإن الأبرار يلقبون بأبناء النور، والأشرار بأبناء الظلمة، لأنهم يدبرون خطاياهم فى الخفاء.

لذلك يخافون من اليوم الأخير الذى تنكشف فيه الأعمال، وتفتح الأسفار، وتفحص الأفكار والنيات.

أين يهربون فى ذلك اليوم؟ وأين يختفون؟!

إن كانت خطاياهم لا تنكشف على الأرض، بأسباب وطرق شتى، فلابد أنها ستنكشف أمام الديان العادل وأمام الكل فى يوم الحساب... يخافون من أن الذى يقال فى المخادع، يُنادى به فوق السطوح. ويخافون من تلك العبارة الرهيبة التى قالها الرب:

ليس مكتوم لن يُستعلن، ولا خفىّ لن يعرف (مت 10: 26).

أين يخفون وجوهم إذن؟ حين لا تكون هناك أسرار ولا خفايا، بل الكل معلن والكل معروف..

بل هناك أمر آخر يخاف منه الإنسان الروحى، وهو أن خطاياه قد تكون مكشوفة أمام أرواح الذين انتقلوا من هذا العالم، سواء أحبائه الذين كانوا يثقون به فيندهشون! أو أمام الذين كانوا ينتقدونه فيرون أنهم كانوا على حق..!

لعل إنسان يسأل: وماذا ترانى أفعل إذن؟

اقول لك إن التوبة تمحو خطاياك، وكأنك لم تفعلها. وتغسلك فتبيض أكثر من الثلج.. ولا تعود لك خطايا تخاف من أن تنكشف.. فإن كنت تخاف الإنكشاف، تب. وحينئذ يفرح بك ملائكة الله وأرواح القديسين. لأنه يكون فرح فى السماء بخاطئ واحد يتوب (لو 15: 7).

نوع أخر من الخوف يرتبط بالخطية، وهو خوف العقوبة، أو الخوف من نتائج الخطية..

ابونا آدم لما أخطأ، خاف واختبأ خلف الشجر. تحولت علاقته مع الله من حب إلى خوف. وقايين القاتل، وقع ليس فى الخوف فقط بل فى الرعب. وهكذا قال لله "ذنبى أعظم من أن يُحتمل. إنك طردتنى اليوم عن وجه الأرض، ومن وجهك اختفى. وأكون تائهاً وهارباً فى الأرض" (تك 4: 14، 13). وداود النبى أيضاً لما أخطأ خاف. وقال "يا رب لا تبكتنى بغضبك، ولا تؤدبنى بسخطك. إرحمنى يا رب فإنى ضعيف. اشفنى فإن عظامى قد اضطربت" (مز6).

والخاطئ يخاف من عقوبتين: أرضية وسماوية:

أما العقوبة السماوية، فهى رهيبة وأبدية. وأرجو أن أتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد.

وأما العقوبة الأرضية فهى كذلك على أنواع: إما عقوبة من المجتمع: فضيحة واحتقار، أو نبذ هذا الإنسان من المجتمع، أو عدم الثقة به فى المستقبل... أو عقوبة من القانون مثل السجن، أو ما هو أشد.. أو عقوبة يوقعها الله عليه من مرض أو عاهة أو اللعنات التى وردت فى (تث28)، أو عقوبة تصيبه فى أولاده واحفاده.

هناك خوف روحى أيضاً يتابع الخاطئ، أو يخافه الإنسان المحترس من السقوط.

إنه يخاف من غضب الله عليه، أو رفض الله له، مثلما رفض شاول الملك من قبل (1 صم16).

يخاف أن يحزن الروح أو يطفئ الروح، بل يخاف أن يفارقه روح الله (1 صم 16: 14) أو أن تتخلى عنه النعمة، ويسلمه الله إلى ذهن مرفوض، أو يسلمه إلى شهوات قلبه (رو 1: 24، 28). يخاف أن يفقد صورته الإلهية التى خلقه الله بها فى البدء. ويخاف لئلا يأخذ أحد إكليله وتتزحزح منارته من مكانها (رؤ 2: 5).

يخاف أن يأخذ العدو سلطاناً عليه، ويأتى وقت عليه يفقد فيه إرادته، ويفقد حرية أولاد الله. والشر الذى ليس يريده، اياه يفعل (رو 7: 19).

وهكذا يخاف أيضاً أن يتطور إلى أسفل وإلى أسوأ.

يخاف من قول الرب له: أنا عارف أعمالك، أن لك إسماً أنك حى وأنت ميت (رؤ 3: 1).

يخاف أن يأتيه الموت فجأة، وهو فى حالة غفلة، وغير مستعد لملاقاة الله...

أحد القديسين قال إنى اخاف من ثلاثة أمور:

اخاف من لحظة مفارقة روحى لجسدى. وأخاف من ساعة الوقوف أمام الديان العادل، كذلك أخاف من لحظة صدور الحكم علىّ...

فإن كان القديسون يخافون مع ارتفاعهم العجيب فى حياة الفضيلة، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟!

الذى يخاف الله لا يخطئ. والذى يخطئ هو إنسان لا يخاف الله.

الذى يخاف الله لا يظلم، لأنه يخاف الله الذى يحكم للمظلومين.

والذى يخاف الله لا يتدنس، لأنه يعرف أن الله قدوس.

والذى يخاف الله لا يعمل الشر حتى فى الخفاء، لأنه يعرف أن الله يرى كل شئ، ويسمع كل شئ، ويفحص حتى أعماق القلوب.

ولعل البعض يسأل: ما رأيك إذن فيمن يفعل الشر ولا يخاف؟

نقول إنه وصل إلى حالة الاستهتار أو اللامبالاة. أو أن ضميره مريض أو متعطل عن العمل. أو أن دوامه العالم تجرفه ولا تعطيه فرصة لمراجعة نفسه ولا للتفكير فى أعماله. فهو فى غيبوبة روحية: إن استيقظ منها لابد سيخاف. وبعض من مثل هؤلاء الناس، نراهم فى ساعة الموت، أو إذا اقتربوا من الموت، لابد أن الخوف يرعبهم. لأنهم لم يعملوا لأجل تلك الساعة ولم يستعدوا لها... ويشعرون أنهم أضاعوا حياتهم.

تقول: أريد أن أحيا حياة الحب وليس الخوف.

أقول لك: إذن لا تخطئ، فالخطية مرتبطة بالخوف.

يقيناً أن الشخص الذى يخطئ، كان فى وقت خطيئته لا يخاف الله. أو يقول المزمور عن أمثال هذا الإنسان "لم يسبقوا أن يجعلوا الله أمامهم". لو كنتم بلا خطية، لا تخافوا.

ولو أخطأتم وعدتم فأصطلحتم مع الله، وندمتم ووبختم أنفسكم وعاقبتموها، وعشتم فى حياة التوبة، حينئذ سوف لا تخافون...

أما ونحن خطاة، فقد وهبنا الله المخافة لكى نصلح مسارنا.

استمع إلى قول الرسول "فلنخف أنه مع بقاء وعد الدخول إلى راحته، يرى أحد منكم أنه قد خاب منه" (عب 4: 1).

وإن كنت تريد ألا تخاف فى ذلك اليوم، فلتخف الآن. والخوف يمنعك من الخطية، ويمنع عنك الخوف فى اليوم الأخير.

No items found

الباب الثالث فوائد مَخافة الله - مخافة الله - البابا شنودة الثالث

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

جدول المحتويات