(5) الرذائل أو الشرور

(5) الرذائل أو الشرور

1 - ما هو مفهوم الرذيلة؟

إن كانت كل الفضائل المسيحية هى ثمر عمل الثالوث القدوس فى حياة المؤمن التى تُقدم له عربون السماويات، فإن الرذائل من الجانب الآخر هى ثمر الجحود ورفض النعمة الإلهية، حيث يحرم الإنسان نفسه من الشركة مع الله، ويظن أن الفضائل هى مُجرد ممارسة سلوك أخلاقى يُحول حياة الإنسان إلى مظهر براق من الخارج.

2 - ما هو ارتباط الفضائل بالرذائل؟

جاء فى فردوس الآباء: [سُئل شيخ: "كيف يقتنى الراهب فضيلة"؟ فأجاب: "إن شاء أحد أن يقتنى فضيلة، فإن لم يمقت أولاً الرذيلة المضادة لها فلا يستطيع أن يقتنيها. إن شئت أن يكون لك نوح فامقت الضحك، وإن آثرت أن تقتنى التواضع فابغض الكبرياء، وإن أحببت أن تضبط هواك فامقت الشر وتحريف الأمور، وإن شئت أن تكون عفيفاً فامقت الفسق، وإن شئت أن تكون زاهداً فى القنية فامقت حب الفضة. ومن يريد أن يسكن فى البرية فليمقت المدن، ومن يشتهى السكون فليمقت الدالة، ومن شاء أن يكون غريباً من عاداته فليُبغض التخليط (الاختلاط بالناس)، ومن يريد أن يضبط غضبه فليبغض مشيئته، ومن يريد أن يضبط بطنه فليبغض اللذات والتواجد مع أهل العالم، ومن أراد عدم الحقد فليُبغض المثالب، ومن لا يقدر أن يتحمل الهموم فليسكن وحده منفرداً، ومن يريد أن يضبط لسانه فليسدّ أذنيه لئلا يسمع كثيراً، ومن يشاء أن يحصل له مخافة الله فليمقت راحة الجسد ويحب الضيقة والحزن. فبهذه الصفات يمكنك أن تعبد الله بإخلاص"].

3 - ما هى نظرة المؤمن للشرّ؟

لم يخلق الله الكلى الصلاح الشرّ، أما ما حلّ بنا فبسبب دخول الخطية فى حياة البشر، فالله بحُبه لن يسندنا ويجعلها سرّ تطويب وبركة وإكليل أبدى لنا.

4 - لماذا يرفض الأشرار المشيئة الإلهية؟

بالنعمة الإلهية يُعلن طالب العماد او إشبينه الميلاد الجديد، أما غير المؤمن فيعتز ببنوته لإبليس. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [لا يقف الأمر عند العود والحجارة بل اختار الإنسان حتى الشيطان مهلك النفوس ليكون أباً له. لهذا انتهر الرب قائلاً: "أنتم تعملون أعمال أبيكم" (يو8: 41، 44)، "أنتم من أب هو إبليس"، أب البشر بالخداع لا بالطبيعة. فكما صار بولس بتعليمه الصالح أباً للكورنثيين (1كو4: 15)، هكذا دُعى الشيطان أباً للذين يوافقونه بإرادتهم الحُرة.

إننا لا نقبل الشرح الخاطئ للعبارة: "أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس" (1يو3: 10)، قائلين إنه بالطبيعة يخلص البعض وبالطبيعة يهلك آخرون. إنما نحن ندخل فى بنوة مقدسة كهذه ليس عن إلزام بل باختيار، كما لو لم يكن يهوذا الخائن ملزماً أن يكون ابناً للشيطان والهلاك، وإلا ما كان يمكنه ان يُخرج الشياطين باسم المسيح، لأن الشيطان لا يُخرج شيطاناً "(مر3: 23). ومن جانب آخر ما كان لبولس أن يتحول من الاضطهاد ليكون مُبشراً. لكن التبنى فى قوتنا" أى بإرادتنا "، إذ يقول يوحنا إن كثيرون" قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنين باسمه "(يو1: 12)، أى لم يكونوا قبل الإيمان أولاد الله، إنما باختيارهم الإيمان تأهلوا لذلك[84]].

5 - بلا شك يحمل البشر طبائع متنوعة، فلماذا نلقى باللوم عن إرادتنا؟

بالإيمان الحى تتقدس طبائعنا بالرغم من تنوعها، كمثال واضح فى العهد الجديد طبائع بطرس الرسول السريع الانفعال تختلف عن طبائع يوحنا الحبيب المُتسم بالهدوء، وإذ تقدّس الاثنان، شعر كل منهما أن الاخر مُكمل للآخر، فلا نعجب من انطلاقهما للخدمة فى انسجام. ففى مواقف كثيرة انطلقا معاً فى صحبة السيد المسيح (مت17: 1× مر5: 37؛ 13: 3؛ 33: 14؛ لو8: 51؛ 22: 8) كما انطلقا معاً للعمل (أع3: 1، 3، 4، 11، 13)، وأرسلهما الرسل معاً إلى السامرة (8: 14).

إن الشرّ الذى يختاره الإنسان بنفسه هو نتاج الإرادة، وتظهر إرادتنا الحُرة فى ارتكاب الخطية من قول النبى بوضوح: "وأنا قد غرستك كرمة مثمرة، شجرة كاملة، فكيف تحولت إلى شجرة برية وكرمة غريبة؟!" (راجع إر2: 21) كان الزرع جيداً ولكن الثمر جاء رديئاً! فالزارع برئ، وأما الشجرة فتُحرق بالنار، لأنها زرعت جيدة وبإرادتها حملت ثمراً رديئاً. وكما يقول المُبشر: "الله صنع الإنسان مستقيماً، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" (جا7: 29). ويقول الرسول: "لأننا نحن عمله، مخلوقين... لأعمال صالحة وقد سبق الله فأعدها لكى نسلك فيها" (أف2: 1 - 2). فالخالق صالح، خلقنا لأعمال صالحة، أما الخليقة فانحرفت إلى الشرّ بإرادتها الحُرة. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [الخطية شرّ مُرعب للغاية، لكنها ليست من المرض المُستعصى شفاءه. هى مرعبة لمن يلتصق بها، لكن من يتركها بالتوبة يشفى منها بسهولة...

تصور إنساناً يحمل ناراً فى يديه، فإنه مادام يحمل الفحم يتأكد احتراقه، وإن ألقاها يلقى اللهيب أيضاً! لكن إن ظن أحد أنه لا يحترق إن أخطأ، بالكتاب المقدس يخبره قائلاً: "أيأخذ إنسان ناراً فى حضنه ولا تحترق ثيابه؟!" (أم6: 27) الخطية تحرق طاقات النفس (تكسر عظام الذهن الروحية، وتظلم نور القلب[85]) [86]].

6 - هل للشيطان المُخادع سلطان مُلزم للإنسان؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [لست وحدك صانع الشر، بل يوجد من يدفعك إليه بعنف. إنه الشيطان الذى يقترح عليك الشرّ دون أن تكون له سيادة إلزامية على من يقبله. لذلك يقول المُبشر: "إن صعدت عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك" (جا10: 4) [87]. أغلق بابك واطرده بعيداً عنك، فلا يصنع بك سوءاً، أما إن قبلت فكر الشهوة بغير مبالاة، فستتغلغل جذوره فيك، ويُفتن ذهنك بحيله، ويهوى بك فى هاوية الشرور. قد تقول: أنا مؤمن، لا تقدر الشهوة أن تصعد إلىّ حتى وإن فكرت فيها كثيراً! أما تعلم أن جذع الشجرة بالمقاومة المستمرة يستطيع أن يحطم حتى الصخرة؟! فلا تسمح للبذرة أن توجد فيك حتى لا تمزق إيمانك وتحطمه. اقتلع الشر بجذره قبلما يزهر، لئلا بإهمالك فى البداية تحتاج بعد ذلك إلى فؤوس ونار. عالج فى الوقت المناسب عندما يلتهبان، لئلا تصير أعمى، وتحتاج إلى طبيب! [88]].

حتى الشيطان لم تُلزمه طبيعته على السقوط فى الشر، يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [دُعى "إبليس" بسبب أضاليله. كان خادم الله الصالح، وقد صار مدعواً شيطاناً بحق، لأن كلمة "شيطان" معناها "خصم". هذا التعليم ليس من عندى، بل هو تعليم حزقيال النبى الموحى به، إذ رفع مرثاة عليه قائلاً: "كنت خاتم صورة الله، وتاج البهاء، وُلدت فى الفردوس" (راجع حز28: 12 - 17).

يعود فيقول بعد قليل: "عشت بلا عيب فى طرقك من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم". إنه بحق يقول: "حتى وُجد فيك إثم"، إذ لم يُجلب عليه من الخارج، بل هو جلبه لنفسه. وللتو أشار إلى السبب قائلاً: "قد ارتفع قلبك لجمالك بسبب كثرة خطاياك، طعنت فطرحت على الأرض". هذا القول يتفق مع قول الرب فى الإنجيل: "رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء" (لو10: 18).

ها أنت ترى اتفاق العهدين القديم والجديد! عندما طُرد سحب معه كثيرين، إذ يبث الشهوات فيمن ينصتون إليه. منه تنبع الدعارة والزنا وكل أنواع الشر. خلاله طُرد أبونا بسبب العصيان، وتحول عن الفردوس ذى الثمر العجيب إلى الأرض المُنبتة شوكاً[89]].

7 - هل توجد قوائم للرذائل فى كتابات الكنيسة الأولى؟

بجانب ما ورد فى الكتاب المقدس وردت قائمة للرذائل فى "الديداكية" التى غالباً ما ترجع إلى نهاية القرن الأول وبدء القرن الثانى.

يقدم لنا القديس أوغريسEvagriusقائمته المشهورة عن الرذائل الثمانية، وهى: النهم gluttony، والشهوات الجسدية lust، والطمع avarice، والكآبة dejection، والغضب anger، واليأس despondency، والمجد الباطل vainglory، والكبرياء pride. هذه القائمة تضم ثلاث مجموعات:

أولاً: رذائل تمسّ المادة، وهى النهم والشهوات الجسدية، والطمع.

ثانياً: رذائل تمسّ حدة الطبع، وهى الكآبة والغضب والقنوط.

ثالثاً: رذائل تمس الاعتداد بالذات، وهى المجد الباطل والكبرياء.

المجموعة الأولى تصدر عن إساءة الشهوات الغريزية، حيث لا يضبط الإنسان نفسه فى الأكل الشرب أو شهوات الجسد أو محبة المال.

والمجموعة الثانية تصدر عن عدم ضبط الانفعالات الخاصة بحدة الطبع.

المجموعة الثالثة تصدر عن الاعتداد بالذات، فيسقط فى طلب الإنسان فى المجد الباطل والتشامخ.

أما القديس يوحنا كاسيان[90] تلميذ القديس أوغريس فتبنى نفس الفكرة مع ا ختلاف فى ترتيب الرذائل، ليبرز العلاقة بين الكآبة واليأس أو القنوط، فنقل الغضب إلى ما بعد الطمع.

وقام البابا غريغوريوس (الكبير 590 - 604)، فجعل الكبرياء منفصلاً بكونه أم كل بقية الرذائل، وحذف الكآبة بكونها هى عينها اليأس، وأضاف الحسد إلى مجموعة الرذائل[91]، بهذا قدّم قائمة "السبعة خطايا المميتة". التى اشتهر بها الغرب فى العصور الوسطى، وهى:

أ. المجد الباطل.

ب. الحسد.

ج. الغضب.

د. الكآبة.

ه. الطمع.

و. النهم.

ز. الشهوة الجسدية.

أما القديس يوحنا الدرجى (كليماكوس) فلم يلتزم بأى تقسيم، قائلاً بأن الخطية بطبيعتها لا تعرف نظاماً، ولا يمكن تقسيمها فى شئ من الدقة.

التزم بالسبع رذائل، وإذ حذف "الحسد"، وجاءت قائمته هكذا:

أ. النهم.

ب. الشهوة.

ج. الطمع.

د. اليأس.

ه. الغضب.

و. المجد الباطل.

ز. الكبرياء.

مقارنة بين قوائم الرذائل فى كتابات القديسين أوغريس، يوحنا كليماكوس ويوحنا كاسيان:

القديس أوغريس

القديس يوحنا كليماكوس

القديس يوحنا كاسيان

الغضب

اليأس

النهم

النهم

النهم

الشهوة الجسدية

الشهوة الجسدية

الزنا

الطمع

الطمع

البخل أو محبة المال

الغضب

الغضب

اليأس

الحزن (الغم)

المجد الباطل

المجد الباطل

التوانى أو الفتور

الكبرياء

الكبرياء

حب الظهور

أضاف: الحق

الكبرياء

الافتراء (لقذف)

الثرثرة

الكذب (الباطل)

8 - ما هى أصناف الرذائل وأشكالها عند كاسيان (أو عند الأب سرابيون)؟

هذه الرذائل صنفان: خطايا جسدية وخطايا روحية.

أما عن أسلوب الخطية أو الرذيلة فينا فإنه يأخذ أربعة أشكال:

(أ) البعض لا يتم ما لم يقوم الجسد بدور فيه، مثل النهم والزنا.

(ب) والآخر يتم بدون أن يقوم الجسد بأى عمل، مثل حب الظهور والكبرياء.

(ج) والبعض بواعثه من الخارج، مثل الطمع والغضب.

(د) والآخر ينبغ من مشاعر داخلية، كالفتور والغّم.

جاء فى المناظرة5: [إننى لا أتكلم من نفسى حسب ضعفى، إنما ببرهان الكتاب المقدس يظهر أن النهم والزنا وإن كانا يوجدان فينا طبيعياً، إذ ينبعان منا دون حاجة إلى بواعث ذهنية، بل حسب عواطف الجسد وإغراءاته، إلا أنهما لكى يتما فينا، يلزم أن توجد مادة خارجية تثير الجسد. "ولكن كل واحد يُجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تُنتج موتاً" (يع1: 14 - 15). فآدم الأول ما كان يسقط فى النهم لو لم يجد الطعام فى يده مستخدماً إياه بطريقة خاطئة، ولا جُرب آدم الثانى بغير مادة مُغرية، بل قيل له: "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً" (مت4: 3). ومن الواضح أيضاً للجميع أن الزنا لا يتم إلا بعمل جسدى، إذ يقول الله عن هذا الزوج الطوباوى أيوب: "ها هى قوته فى متنية وشدته فى عضل بطنه" (أى40: 16). وبذلك فإذ هاتين الخطيتين بالذات تُثار بمساعدة الجسد، فهما يحتاجان إلى زهداً جسدياً بجوار الاهتمام الروحى، حيث تصميم العقل وحده لا يكفى لمقاومة تلك الحروب. توجد أخطاء مثل الغضب والغم وغيرهما يمكن التغلب عليها بقوة العقل بغير تقشف جسدى.

ويستخدم الزهد الجسدى عن طريق: الصوم والسهر، وأعمال التوبة. أضاف إلى ذلك ترك مكان الخطية، لأنه حيث أن الخطية تنتج عن تضافر أخطاء الجسد مع العقل، لذا يلزم أن تتضافر قواهما معاً للتغلب عليها. ومع أن الرسول الطوباوى يتكلم عن الخطايا عامة بأنها جسدية، إلا أنه يحصى العداوة والغضب والهرطقات أنها اعمال أخرى للجسد. لذا فى معاجلة الخطايا يلزم أن نكشف عن طبيعتها بدقة مميزين بين الصنفين، فندعو البعض جسدى والآخر خطايا روحية. الخطايا الجسدية هى التى تعمل على إشباع الشهوات الجسدية وتلذّذ الجسد. وهذه تهيّج العقل أحياناً ليقبل رغباتها بغير إرادته. وعن هذا يقول الرسول الطوباوى: "الذين نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم فى شهوات جسدنا عاملين مشيئات الجسد والأفكار، وكُنا بالطبيعة ابناء الغضب كالباقين أيضاً" (اف2: 3).

أما الخطايا الروحية فهى تنبع فقط من باعث عقلى، فليس فقط لا تهب للجسد لذة، بل أحياناً تجلب له ضعفاً وتضرّه. إنه اتغذى العقل السقيم بطعام اللذة البائسة. لذلك فهى تحتاج إلى علاج واحد وليس كالخطايا الجسدية التى تشفى بعلاج مزدوج...

لقد لُقب كلاهما ب "آدم". أحدهما كان الأول فى الخراب والموت، أما الثانى فكان الأول فى القيامة والحياة. بالأول صارت البشرية كلها تحت الدينونة وبالثانى تحرر البشرية. لقد جربه الشيطان بنفس الخطايا التى بها انخدع آدم الأول، ظاناً أنه كما خدع الأول يخدع الثانى مثله، فوجد نفسه قد انهزم بالتجارب التى هزم بها آدم الأول. وإذا انتصر الرب فى تجربة النهم لم يجسر الشيطان أن يُجرّبه بتجربة الزنا بل عبر به إلى تجربة الطمع الذى هو مصدر الشرور (1تى6: 10). وعندما انتصر على الطمع لم يجسر أن يحاربه بالتجارب الأخرى التابعة لها والتى مصدرها وينبوعها هو الطمع، لكنه عبر به إلى آخر الخطايا وهى الكبراء، لأنه يعرف أن الكاملين الذين غلبوا كل الخطايا يمكن أن يتأثروا بالكبرياء، ولعلمه أنه هونفسه لوسيفور ومن معه قد سقطوا بسبب الكبرياء من غير أن يسقطوا فى أى خطية من الخطايا السابقة... بهذا الترتيب الذى ذكرناه حسب الإنجيلى لوقا نجد توافقا وترتيباً دقيقاً بين الإغراءات وأشكال التجارب التى هاجمهم بها العدو الماكر آدم الأول وآدم الثانى[92]].

9 - هل من علاقة تربط الخطايا مع بعضها البعض؟

جاء أيضاً فى المناظرة5: [وبالرغم من أن الخطايا الثمانية مختلفة عن بعضها البعض من جهة أصلها وطريقة تأثيرها علينا إلا أن الخطايا الست الأولى: أى النهم والزنا والطمع والغضب والغّم (الكآبة) والفتور لها ارتباطبين بعضها البعض. فإثارة أحداها تكون بداية للتى بعدها. فالزيادة فى النهم يتبعه الزنا، والزنا يتبعه الطمع، والطمع يثير الغضب، والغضب يولد الغم (الكآبة)، والغم يُنشئ الفتور... ويجب أن نراعى هذا فى محاربتنا الخطايا. فالشجرة الطويلة كثيرة الأغصان تجف متى تعرَّت جذورها أو قطعت، وبركة الماء لا يمكن تجفيفها ما لم توقف القناة التى تمدها بالماء.

فإن أردت الغلبة على الفتور يلزمك النصرة على الكآبة. ولكى ما تتخلص من الكآبة يلزم طرد الغضب ولتهدئة روح الغضب يلزم أن نطأ بأقدامنا على الطمع، ولأجل اقتلاع الطمع يلزم الامتناع عن الزنا، ولكى ما نهلك الزنا فلننتهر خطية النهم. أما الخطيتان الباقيتان أى الافتخار والكبرياء. فإنهما مرتبطان معاً بنفس الطريقة إلى حد ما... ونلاحظ أننا نكون فى خطر من هاتين الخطيتين متى صار أنا الغلبة والنصرة الرائعة على الخطايا الستة السابقة[93]].

10 - هل يُهاجم من عدو الخير كل البشر بأسلوب واحد؟

جاء فى المناظرة الخامسة: [وإن كانت هذه الخطايا الثمانية تهاجم البشر جميعاً، إلا أنها لا تهاجم الكل بطريقة واحدة. فقد يحتل الزنا مركز الصدارة عند البعض، بينما يحتل الغضب المركز الأول عند آخرين[94]].

11 - إلى أى مدى يفيدنا التعرف على نوع الرذيلة التى تهاجمنا؟

يقول الأب سرابيون فى مناظرات كاسيان:

[يجب علنيا أن نتطلع إلى جميع الخطايا بطريقة تسمح لكل واحد منا أن يتعرف على الخطية التى تربكه هو بالذات. بهذا يُوجه هجماته الأساسية ضدها معطياً إياها عناية خاصة، ساهراً من أجلها، وموجهاَ ضدها سيوف الصوم اليومى، قاذفاً عليها رماح التنهدات والتأوهات القلبية على الدوام، مجاهداً فى أعمال السهر والتأملات القلبية منسكباً بدموع وصلوات أمام الله، طالباً على الدوام أن يحفظه من هجماتها...

ويكون فى ذلك مثله مثل ذاك الذى يُصارع مع مجموعة من الحيوانات المفترسة فى حضرة ملوك أرضيين، فإنه دون اعتبار إلى المكافأة التى يأخذها فى ذلك المشهد الذى يدعى pancarpus، يُوجه هجومه الأول ضد الحيوان الأقوى والأشد افتراساً، فإذا ما قتله يستطيع بسهولة أن يتغلب على بقية الحيوانات الأضعف غير المُخيفة...

إلا أنه يلزمنا ألا نظن أنه إذا هاجم إنسان خطية مُعينة واحدة يهمل فى الهجوم على بقية الخطايا الأخرى، فإنه لن ينتصر بسهولة بسبب الهجمات المفاجئة التى تثيرها الخطايا الأخرى... [95].

ويُعلمنا المُشرّع نفسه أن نسلك هكذا، غير معتمدين فى ذلك على جهادنا الذاتى، إذ يقول: "لا ترهب وجوههم لأن الرب إلهك فى وسطك إله عظيم ومخوف. ولكن الرب إلهك يطرد هؤلاء الشعوب (رمز للخطايا) من أمامك قليلاً قليلاً. لا تستطيع أن تفنيهم سريعاً ليلاَّ تكثر عليك وحوش البرية. ويدفعهم الرب إلهك أمامك ويوقع بهم اضطراباً عظيماً حتى يفنوا" (تث7: 21 - 23) [96]].

12 - ما هو ملخص مبادئ حديث القديس سرابيون عن الرذائل فى مناظرة القديس يوحنا كاسيان معه؟

  • الخطايا الجسدية التى يشبع فيها الجسد أو يتلذذ تحتاج إلى تضافر قوى الجسد (الصوم والزهد والسهر) مع قوى العقل (صلاة وتنهدات) فى يدى النعمة الإلهية للنصرة عليها.
  • الخطايا سلسلة، كُل منها تُسلّم الإنسان إلى غيرها، لذا يلزم محاربة الأصل...
  • لكل إنسان خطية مُعينة، يلزمه أن يُركز عليها ضربا السهام من صوم وصلاة وسهر وتنهدات ودموع، وتتطلب النصرة عليها الاهتمام بالخطايا الأخرى أيضاً.
  • قد جُرب الرب والنتصر، لكى نعلم أنه لا نصرة لنا بجهودنا الذاتية بل بالرب يسوع المنتصر.
  • تتطلب النصرة حياة الشكر لله، لأنه لا خلاص لنا من خطية بغير نعمة الله وعنايته وحمايته لنا.

[84] - مقال 7: 13.

[85] - هذه العبارة محذوفة من النسختين البندكتية، وال Millesلكنها وردت فى الطبعات الحديثة الدقيقة.

[86] - مقال 2: 1.

[87] - جا10: 4. راجع أيضاً أف2: 7. "ولا تعطوا إبليس مكاناً".

[88] - مقال 2: 3.

[89] - مقال 2: 4.

[90] - ترجمة الكاتب مناظرات يوحنا كاسيان مع مشاهير آباء البرية، مناظرة 5 للأب سرابيون عن الأخطاء الثمانية.

[91] Maralia 87: 31. PL 621: 76.

[92] Conference 4: 5.

[93] Conference 10: 5.

[94] Conference 13: 5.

[95] - تحدث عن الطمع والغضب أنه يمكن التغلب عليهما بسهولة حتى أن الآلاف تركوا ممتلكاتهم وسكنوا البرارى. كذلك عن الغمّ والفتور وهما يظهران بدون حاجة إلى مؤثر خارجى، لذلك فإنهما كثيراً ما يهاجمان المتوحدين.

[96] Conferenve 14: 5.

[97] - الكاتب: الخط الاجتماعى عند آباء الكنيسة الأولى، 2005، مقال 1.

No items found

(6) الإيمان المسيحى والثقافات البشرية

(4) فضيلة العفلة والطهاة

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات