(4) فضيلة العفلة والطهاة

(4) فضيلة العفلة والطهاة[71]

1 - ما هى فضيلة العفة والطهارة؟

الطهارة من الجانب الإيجابى هى شركة مع القدوس، حتى نصير أيقونة للعريس السماوى، فلنتأهل للعُرس بكوننا العروس المقدسة الطاهرة الكاملة، للعريس القدوس الكامل. فالطهارة هى هبة الله الآب لنا فى ابنه القدوس خلال عمل روحه القدوس.

الطهارة أو نقاوة القلب تمسّ كل كيان الإنسان: نفسه كما جسده، عقله كما عواطفه، قدراته وطاقاته، أفكاره وكلماته كما أفعاله. حياة واحدة فى المسيح القدوس تُعلن خلال كياننا كله، حيث يعتز المؤمن بصورة الله التى جُبل عليها وأعيدت إليه بالصليب بعد أن أفسدتها الخطية.

للأسف كثيراً ما يتطلع الإنسان إلى الطهاة فى سلبية، وكأنها هى امتناع عن الممارسات الجسدية الخاطئة، والأفكار الشريرة، والكلمات غير اللائقة، وكل التصرفات الدنسة. ونحن بهذا نهين الطهارة، إذ نحسبها كأن لا وجود لها بل للدنس والنجاسة وجود، وفى غيابهما نُحسب طاهرين. لكن مسرة الله أن يرى فى أولاده أن يكونوا أطهاراً فى كل شئ كما هو طاهر (1يو3: 3)، وكاملين كما هو كامل (مت5: 48)، وقديسين لأنه هو قدوس (لا11: 44 - 45).

يقول الأب خروماتيوس: [يظهر الرب أن الشعب النقى القلب هو مطوّب. إنهم هؤلاء الذين إذ يعيشون بالإيمان بالله بذهن نقى وضمير بلا غضن، يرجون الحق فى رؤية إله المجد فى الملكوت السماوى العتيد. وكما يقول الرسول إنه ليس فى مرآة فى لغز لكن وجهاً لوجه (1كو13: 12) [72]].

2 - كيف جذبت الطهارة والبراءة والعفة الوثنيين لقبول الإيمان المسيحى فى الكنيسة الأولى؟

يمتدح العلامة أثيناغوراس الطهارة كإحدى ثمار الحياة المسيحية الجليلة موضحاً الهدف الإيجابى منها، فيقول: "فى وسطنا رجال كثيرون ونساء كثيرات غير متزوجين وهما يمارسون حياة أعماق مع الله". ووضع الشهيد Apoolloniusمن الأشراف قائمة بالفضائل للحاكم برينيس Perennis: [علمنا (يسوع) أن نترك الغضب، وأن نلجم جشعنا، ونسيطر على اللذة، وننزعه الحزن عنا، وأن نجعل ممتلكاتنا للنفع العام، وننمى الصداقة، ونزيل كل تباهِ، لا نطلب الانتقام لمن يؤذينا، ونستخف بالموت الذى يصدر بالحكم علينا، إذ نحن ضحايا الظلم – نحتمل الظلم ولا نستسلم له – نطيع الناموس الإلهى، نكرم الإمبراطور، نعبد الله الخالد وحده، نؤمن بخلود النفس والدينونة بعد الموت[73]].

جاء فى كتاب الراعى لهرماس الخطوط العريضة لقواعد الفضائل: [تولد العفة عن الإيمان، ومن الإيمان البساطة، ومن البساطة البراءة، ومن البراءة الطهارة، ومن الطهارة المعرفة، ومن المعرفة التهذيب والمحبة[74]].

يقول العلامة أوريجينوس: [قبلاً كنت تجرى نحو الهيكل (الوثنى)، الآن تجرى نحو الكنيسة. أولاً كنت تسفك دمك، الآن تحرر دماء الآخرين. كنت قبلاً تبدد ثروة الغير، الآن تعطى ممتلكاتك للآخرين، قبلاً كانت عيناك تتطلعان إلى النساء والأمور الأخرى مشتهياً بنظراتك، والآن تدع عينيك تتطلعان إلى الفقير والضعيف والبائس لتعزيتهم... لسانك الذى كان قبلاً ينطق ببذاءة الآن يبارك الله ويعلن الحق[75]].

يقول القديس باسيليوس الكبير: [نجد هنا تعليماً بأن ندهش من أجل هبات الله غير المنطوق بها فى المسيح يسوع وبخوف أعظم أن نتطهر من كل دنس الجسد والنفس[76]]. ويقول القديس أغسطينوس: [العفة الحقيقية هى التى من فوق، وهى لا تتم بنزع الخطايا بخطايا، بل بشفاء الشرور بالخير[77]]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزى: [هذه الثلاثة أمور يطلبها الله من كل إنسان من بنى المعمودية: إيمان صحيح فى القلب، وصدق فى اللسان، وطهارة الجسد وعفته]. ويقول القديس مرقس الناسك: [نحن الذين وهبت لنا الحياة الأبدية نصنع الأعمال الصالحة لا لأجل الجزاء، بل لحفظ النقاوة التى وُهبت لنا].

يقول القديس غريغوريوس النيسى: [يظهر أنه ليس ممكناً للنفس أن تتحد بالله غير الفاسد بأية وسيلة ما لم تصر تقريباً طاهرة خلال عدم الفساد، حتى تنعم الشبه بالشبه، وتقيم نفسها كمرآة تتطلع نحو نقاوة الله، فيتشكل جمال النفس بالشركة فى الجمال الأصلى والتمتع بانعكاسه عليها[78]].

[مادمنا قابلين للتغيير فالأفضل أن نتغير إلى ما هو أفضل: "من مجد إلى مجد" (2كو3: 18). وهذا يجعلنا نتقدم دائماً نحو الكمال بالنمو اليومى، مع عدم الاكتفاء بحدود مُعينة نحو الكمال، يعنى عدم التوقف نحو ما هو أفضل، وعدم وضع أية حدود نقف عندها فى نمونا[79]].

[نحن نرى الآن العروس يقودها الكلمة إلى أعلى درجات الفضيلة، إلى علو الكمال. فى البداية يرسل لها الكلمة شعاعاً من نور من خلال شبابيك الأنبياء وكوى الوصايا. ثم يشجعها على أن تقترب من النور، وتصير جميلة بواسطة تحولها إلى صورة الحمامة فى النور. وفى هذه المرحلة تأخذ العروس من الخير قدر ما تستطيع. ثم يرفعها الكلمة لكى تشارك فى جمال أعلى لم تتذوقه من قبل. وبينما هى تتقدم تنمو رغبتها فى كل خطوة، لأن الخير غير محدود أمامها. وتشعر باستمرار مع حلول العريس معها انه قد أبتدأت صعودها للتوّ فقط. لذلك يقول الكلمة للعروس التى أقامها من النوم: "انهضى". وإذ جاءت إليه يقول لها: "تعالى" (نش2: 10)، لأن الشخص الذى دعاها للنهوض بهذه الطريقة فى استطاعته أن يقودها إلى الارتفاع والنهوض بها إلى مستوى أعلى. الشخص الذى يجرى نحو الله ستكون أمامه مسافات طويلة. لذلك يجب علينا أن نستمر فى النهوض، ولا نتوقف أبداً عن التقرب من الله. لأنه كلما قال العريس: "انهض" و "تعال" فإنه يعطى القوة للارتفاع لما هو أفضل. لذلك لابد أن تفهم ما يأتى بعد فى النص. عندما يحفز العريس العروس الجميلة لكى تكون جميلة فهو يُذكرنا حقاً بكلمات الرسول الذى يطلب منا أن نسلك سلوكاً فاضلاً، لكى نتغير من مجد إلى مجد (2كو3: 18). وهو يعنى بكلمة "مجد" ما فهمناه وحصلنا عليه من بركة فى وقت من الأوقات، ولا يهم مقدار ما حصلنا علين من مجد وبركة وارتفاع، لأنه يعتقد أننا حصلنا على أقل مما نأمل فى الحصول إليه. ولو أنها وصلت إلى جمال الحمامة بما قد حققه إلا أن العريس يأمرها بأن تكون حمامة مرة أخرى بواسطة تحولها إلى شئ أفضل. فإذا حدث ذلك فإن النص سوف يُظهر لنا شيئاً افضل من هذا الاسم "حمامة" (نش2: 14) [80]].

3 - هل أستطيع أن أحيا عفيفاً؟

جبل الله الإنسان، وفيه حنين داخلى نحو حياة السمو والطهارة. يود أن يعلو فوق كل الشهوات، وأن يطأ تحت قدميه الملذات الجسدية. فحتى الزناة المنحرفين فى تيار الخطية العنيف، المُتلذذين بشهواتها، والمنحنين بكل طاقتهم لأجل إشباع شهواتهم، أحياناً وهم فى ألذ فترات الشهوة، يتحسسون فى داخلهم برغبة سرية عميقة تطالب بحياة النقاوة والعفة. فالعفة كما يعرفها القديس يوحنا الدرجى هى [إننا نلبس الطبيعة الملائكية: هى مسكن مستمر للسيد المسيح، ونعيم للقلب وسط هذه الحياة. هى إنكار غير طبيعى للطبيعة]. لكن مع كل هذه الاشتياقات لا يزال يظن البعض أنها مُجرد كلمات لا وجود لها إلا فى قاموس اللغة أو فى خيال المُتدينين وكتاباتهم، أو هى حياة الأطفال الصغار أو الرجال العاجزين أو الرهبان المتوحدين البعيدين عن الشر، أو ربما تخص الملائكة والسمائيين وحدهم. من أجل هذا كثيراً ما يتساءلون:

  1. لماذا يُطالبنا الله بأمر نعجز عن تحقيقه؟
  2. وهل يريد الله أن يُضايقنا؟
  3. ولماذا خلق لنا جسداً بغرائزه؟
  4. وهل يقدر الإنسان السوى أن يضبط نفسه أمام الإغراءات وشهوة الجسد؟
  5. وما الداعى لحياة عفة تحرم الإنسان من إشباع شهواته وغرائزه كيفما تريد؟!

إننا نذكر حديث القديس أغسطينوس الذى اختبر الخطية فى أبشع صورها، ولو أنه على حد تعبيره كان كثيراً ما يقول: أعطنى يا رب حياة الوداعة والعفة ولكن ليس الآن، لأننى لا أريد أن أحرم من لذة الخطية رغم مرارتها، ولا يود جسدى أن يتخلص منها، وأتصور كأن لا وجود لى بدونها. كذلك اختبر حياة العفة بل البتولية فى أسمى درجاتها إذ عشق الرب، وأحبه، وجذب كثيرين إليها.

4 - ما هى حياة العفة؟

يقول القديس أغسطينوس: [ليس كل من يضبط نفسه أو يمنع نفسه عن الشهوات أو يبحث عن العفة هو "عفيف"، لأن كثيرين بحثوا عن العفة واقتنوا شيئاً آخر غير العفة].

العفة هى عطية الله، الذى يريدك أن تكون مُقدساً كما هو قدوس (1بط1: 16)، وإذ يعلم بضعفك وعجزك، لا يطلب منك أن تقتنى شيئاً من ذاتك. إنما يريد أن يهبك "العفة" التى من عنده. إنك عروس الرب يسوع، وهو كعريس مُحب للبشر، يود قداستك، ويهتم بك أكثر من اهتمامك بنفسك... الرب يسوع هو قداستك، "دفنا معه بالمعمودية للموت... عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليبطل جسد الخطية كى لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية" (رو6: 4 - 6). وإذ هو يعلم أنك تعجز بذاتك عن تقديس نفسك وجسدك، وهبك فى سرّ الميرون الروح القدس النارى القادر أن يحرق أشواك الخطية. حياة العفة هى عمل الروح القدس، إذ يقود قلوب المجاهدين، يُبكت قلبك، ويمسك بيدك، ويسير معك فى طريق الرب المصلوب القائم من بين الأموات. يا إنسان الله لا تخف من نيران الخطية، فإن الذى غير طبيعة النار بالنسبة للثلاثة فتية، إذ هم اتكلوا عليه، فكان ابن الله يتمشى معهم فى الأتون كما فى فردوس مُمتع. هو نفسه ساكن فيك، يحرق نيران الشهوة.

5 - ما دام يطلب تقديسنا، فلماذا وهبنا الجسد بغرائزه؟

لا تخف فإن هذا الجسد، وتلك الدوافع والعواطف والانفعالات هى ليست من صنعك، بل من خلق إله صالح مُحب للبشر لا يصنع إلا الخير. هذه الطاقات التى تُحطم علاقاتك بالرب، هى التى تعينك فى طريق الرب، متى سُلمت فى يدى الروح القدس. فالجسد وكل ما فيه هو، كقول الذهبى الفم، [القيثارة التى فى يد العازف، والسفينة التى فى يدى الربان، مُعين للنفس ونافع له إن أحسن استخدامه]. لقد دخلت الخطية إلى الإنسان، نفسه وجسده معاً، ففسد الإنسان كله، لكن إذ الجسد الجانب الأضعف، نُسبت أعمال الشر إليه، ولقب الإنسان فى الخطية أنه "جسدانى". لقد اختل توازن الإنسان، وصار بلا ضابط، واحتاج إلى مُعين يسند النفس فى قيادة الجسد، والجسد فى خضوعه للنفس... هذا المُعين هو الروح القدس.

6 - ما معنى قول الرسول "وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد" (غل5: 16)؟

لقد مُسحت أعضاؤك بزيت الميرون، وسكن فيك الروح القدس، وتقدست وتخصصت للرب وحده. فبقدر ما تخضع متجاوباً مع الروح القدس، تكون أعضاؤك مُقدسة له ومعيناً لك فى طريق الحياة. كمثال: غريزة الحب التى تستخدمها كآلة إثم للموت، تجعلك بالروح القدس عاشقاً للرب وآلة برّ تثمر لله. وغريزة الغضب تثيرك ضد أخيك، لكن إن جاهدت مُسلماً إياها للروح القدس، فإنك تثور ضد نفسك وخطيتك وشهوتك. وغريزة الخوف فى حياة المجاهدين، بالروح القدس لا تكون مصدر رعب وخوف من النار بل تقول: "يفرح قلبى عند خوفه من اسمك" (مز86: 11).

إن هذه الآلات التى كانت قبلاً تُستخدم للإثم، تصير آلات برّ الله. لقد صارت أعضاؤك أعضاء المسيح (1كو6: 15)، لها قُدستها وقيمتها.

7 - لماذا لا أحيا عفيفاً مع أننى مؤمن والروح القدس ساكن فىَّ؟

هذا هو الإيمان المسيحى: إننا قد "دُفنا معه بالمعمودية للموت... عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب ليُبطل جسد الخطية كى لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية" (رو6: 6). لقد نلنا الإنسان الجديد الحُر، لكن حركات شهوة الجسد تحاربنا ونحن غير مستعبدين لها وذلك، كقول أغسطينوس، بجهادنا المرتكز على عمل النعمة. فبالروح نرفض حركات الشهوة ولا تطيع أعضاؤنا شهوة الجسد.

أ. نرفض حركات الشهوة، ولا نوافقها، إذ صارت إرادتنا صالحة، وبالروح القدس قادرة، رغم هجومها حركات الشهوة المستمر. وهكذا نقول مع الرسول: "أشكر الله بيسوع المسيح. إذا أنا نفسى بذهنى أخدم ناموس الله، ولكن بالجسد ناموس الخطية" (رو7: 25). بمعنى إننى بالروح أريد الخير وأخدم ناموس الله، لكن حركات الشهوة التى فى الجسد تحارب فى أعضائى دون أن تستعبدنى.

ب. عدم طاعة أعضائنا لشهوة الجسد: لقد صُلبت شهوة الجسد، إذ صُلب إنساننا العتيق، لكن حركاتها المصلوبة لا تكف عن المصارعة. وعملنا نحن بالروح القدس ألا تطيعها أعضاء جسدنا "لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيداً للنجاسة... هكذا الآن قدّموا أعضاءكم عبيداً للبرّ والقداسة" (رو6: 20).

لقد مُت مع المسيح وقُمت بذهنك معه، لكن لا تكف عن الجهاد لاغتصاب الملكوت برفضك فكر الشر وحركاته وعدم إخضاع أعضائك له.

فبعدما أكد الرسول "أن إنساننا العتيق قد صُلب ليبطل جسد الخطية كى لا نعود نُستعبد للخطية"، عاد ليأمرنا فى نفس الموضوع "احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية (أى لا توافقوها) إذ لا تملكن الخطية فى جسدكم المائت لكى تطيعوها فى شهواته. ولا تُقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية بل قدّموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم ألات برّ الله" (رو6: 13).

إن من مات مع الرب يسوع وقام معه بذهنه، يلزمه ألا تملك الخطية عليه وذلك بالجهاد والتغصب، إذ "من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط" (1كو10: 12). وفى هذا يحدثنا الرسول: "يا أولادى أكتب إليكم هذا لكى لا تُخطئوا (اى كأولاد لله جاهدوا بالروح القدس ضد الخطية). وإن أخطأ أحد، فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا" (1يو2: 1 - 2).

هذا هو مفهوم الحياة مع المسيح، سعى مستمر بقوة النعمة نحو حياة القداسة، مع عدم السقوط فى اليأس وفقدان الرجاء فى مراحم الله، حتى إن تعثر أحد وسقط. يقول الرسول: "وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تُكملوا شهوة الجسد" (غلا5: 16)، وهو بهذا يُحذرنا من حركات الشهوة المضادة لنا لئلا نُكملها. وفى موضع آخر يحدثنا الرسول قائلاً: "لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح فى الله" (كو3: 3) ومع ذلك يعود فيأمرنا قائلاً: "فأميتوا أعضاءكم التى على الأرض الزنا والنجاسة. الهوى والشهوة الردية الطمع الذى هو عبادة الأوثان" (كو3: 1 - 5).

لقد "مُتنا" فكيف يقول "أميتوا أعضاءكم"؟ حقاً إن من مات مع ربنا يسوع وحياته مستترة مع المسيح فى الله، يلزمه ألا يرتكب هذه الشرور من زنا ونجاسة وهوى الخ لكن حركات شهوة الجسد تحاربه دون أن تستعبده مادام على الدوام سالكاً فى طريق التوبة الدائمة رافضاً حركات الشهوة غير خاضع لها بأعضائه. إنه يردف للحال مطالباً إياناً "وأما الآن فاطرحوا عنكم أنتم أيضاً الكل... إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو3: 8 - 11). باختصار، العفة ليست صعبة لأنها عمل الله فى حياتك، وإن كان الله قد وهبك توبة، فجاهد خاضعاً للرب حتى لا تفقد ما قد نلته بل يتجدد إنسانك الجديد – الذى نلته بالمعمودية – للمعرفة حسب صورة خالقه.

8 - كيف يمكنك أن تغلب عملياً؟

  • اعرف من أنت؟ أنت موضوع حب الله ولذته. يشتاق إلى قداستك (1تس4: 3).
  • اعرف ضعفك أيضاً، إنك محتاج دوماً إلى عمل نعمة الله حتى تجاهد وتغتصب.
  • افتح أبواب جسدك ونفسك على الدوام لتأخذ من الله وتعطى الناس.
  • لتدرك أنه ليس للخطية سلطان عليك، لكنك قبلت أفكارها يوماً ما بإرادتك.
  • اقمع جسدك واستعبده بالصوم والسهر مع الصلاة، عالماً أن جسدك هو ملك للرب.
  • استفد من وسائط النعمة، فباب التوبة والاعتراف مفتوح، وجسد الرب ودمه مُقدمان لك للثبات فيه.
  • لتكن عفيف فى كل حواسك وأفكارك وكلماتك حتى فى معدتك وفى كل الأرضيات!

وأخيراً، تذكر أيها العزيز أنه ليس إكليل بغير نصرة، ولا نصرة بغير حرب، ولا حرب بغير عدو. فقد وُضعت لتحارب وتجاهد فتنتصر بالرب وتتكلل! لا تأتمن جسدك مهما كان ماضيك!

9 - ماذا يقول القديس أغسطينوس عن عفة القلب؟

[لئلا يُظن أن العفة التى نرجوها من الله تقف عند تلك التى تخص شهوة أعضاء الجسد... يتغنى المزمور قائلاً: "ضع يارب حافظاً لفمى وباباً حصيناً a door of continence لشفتى" (مز141: 3)، فإن أدركنا مفهوم كلمة "فمى" كما يلزم، لعرفنا ما هى عطية الله من جهة العفة التى يهبها لنا فإنها لا تعنى "الفم الجسدى"، فيُحفظ لكى لا يخرج منه صوت شرير، إنما يوجد فى الداخل "فم القلب" الذى يريد – ناطق هذه الكلمات وكاتبها لكى ننطق نحن بها – أن يحرسه الله ويُقيم عليه باباً حصيناً (عفيفاً)].

10 - ما هو موقفنا من الأفكار الشريرة؟

يقول القديس أغسطينوس: [ولكى يتضح "الفم الداخلى" بصورة أعظم فى قوله "ضع يا رب حافظا لفمى وباباً حصيناً لشفتى"، أضاف "ولا تمل قلبى إلى كلام الشر" (مز141: 4). وماذا يعنى ميل القلب إلا القبول والرضى. لأن من لا يميل قلبه بالرضى فيما يفكر فيه فى أى أمر من الأمور التى تقابله، فإنه لا ينطق به. لكن متى وافق على الفكر يكون قد تكلم به فى قلبه، حتى ولو لم يخرج صوتاً من فمه... حقاً إن أناساً كثيرين يعملون وفمهم مُبكر ولسانهم هادئ، وصوتهم مضبوط، لكنهم لا يفعلون شيئاً بجسدهم ما لم ينطقوا به فى القلب. وهكذا يمكننا أن ترتكب الخطايا فى أحاديث داخلية، حتى وإن لم تترجم فى أعمال ظاهرة، بينما لا توجد أعمال ظاهرة ما لم تكن قبلاً حديثاً داخلياً. لهذا إن أغلق الباب الحصين عند الشفتين الداخليتين فستكون هناك طهارة فى كليهما. لهذا قال ربنا "نق أولاً الداخل لكى يكون الخارج نقياً" [81]... "لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنا، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف، هذه هى التى تنجس الإنسان" (متى15: 16 - 10)].

11 - هل حربنا ضد الشهوات يتوقف؟

يقول القديس أغسطينوس: [بالرغم من إنه لا يوجد بعد الكمال الذى فيه لا تصارع العفة مع الرذيلة إنما إلى الآن لا يزال "الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد" (غلا5: 17)، إنما يكفينا ألا نوافق الشرور التى نشعر بها فينا. لأنه بموافقتنا لها يخرج من فم القلب ما يُدنس الإنسان. وبرفضنا لها خلال العفة لا يضرنا شر شهوة الجسد التى تحارب شهوة الروح].

12 - ما هى عفة الجهاد؟

يقول القديس أغسطينوس: [هناك فارق بين أن يحارب الإنسان ههنا محاربة حسنة، مقاوماً نزاع الموت، وبين ما سيكون عليه عندما ينتهى الموت الذى هو "آخر عدو" (1كو15: 26). إذ هناك لا يكون لنا خصم (شهوة الجسد)، أما هنا فتُخضع العفة الشهوات، طالبة الخير الذى نبغيه. وفى نفس الوقت ننبذ الشر الذى نناضل ضده خلال هذا المائت (الجسد). بالتأكيد ما كان للعفة أن تعمل فى قمع الشهوات لو لم تكن لدينا شهوات تضاد ما هو لائق، ولدينا معاكسة من جهة الشهوة التى تضاد إرادتنا الصالحة. إذ يصيح الرسول عالياً قائلاً: "فإنى أعلم أنه ليس ساكن فىَّ أى فى جسدى شئ صالح. لأن الإرادة حاضرة عندى وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد" (رو7: 18). فالآن (فى الحياة الحاضرة) يمكننا صُنع الخير بقدر عدم موافقتنا للشهوة الشريرة. لكن سيكمل الخير عندما تنتهى الشهوة ذاتها. لذا يصرخ مُعلم الأمم ويقول: "فإنى أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن ولكن أرى ناموساً آخر فى أعضائى يحارب ناموس ذهنى" (رو7: 22 - 23)].

13 - ما هو دور الناموس فى الكشف عن شهواتنا؟

يقول القديس أغسطينوس: [لا يحدث هذا النزاع (بين الإرادة الصالحة وشهوة الجسد) ما لم يحارب الإنسان الرذائل بالفضائل. فعاصفة شرّ الشهوة لا يُثيرها إلا خير العفة. فيوجد من هم جاهلون بناموس الله تماماً، هؤلاء لا يرون فى شرّ الشهوات أنها عدو لهم، بل خلال عماهم البائس يُستعبدون لها، وبإشباعهم لها بدلاً من ترويضها يظنون أنهم مباركون[82]. أما الذين صارت لهم معرفة خلال الناموس "لأن بالناموس معرفة الخطية" (رو3: 20)، "فإننى لم أعرف الشهوة إن لم يقل الناموس لا تشته" (رو7: 7)، وهم لا يزالون مغلوبين فى معركة الشهوات لأنهم يعيشون تحت الناموس، الذى أوصى بما هو خير دون أن يعطيه، هؤلاء لم يعيشوا تحت النعمة التى تهب خلال الروح القدس تنفيذ ما أمر به الناموس... إذن لا عجب إن كان ضعف الإنسان يجعل من الناموس الصالح ما يزيد من الشر، مع أنه قد عهد إليه به لينفذ الناموس].

14 - ما هو دور النعمة فى الجهاد؟

يقول القديس أغسطينوس: [شهوة الخطية فينا، لكننا لا نسمح لها أن تملك علينا، ورغباتها موجودة، لكن يلزم ألا نطيعها حتى لا تسيطر علينا. وإذ لا نسمح للشهوة أن تغتصب أعضاءنا بل للغفة أن تطلبها كحق لها، بهذا تكون آلات بر الله وليس آلات إثم للخطية. بهذا لا تسودنا الخطية، لأننا لسنا تحت الناموس الذى يأمر بما هو للخير دون أن يهبه، بل تحت النعمة التى تُحببنا بما يأمر به الناموس، وهى قادرة على السيطرة على (الإدراة)].

15 - ما هو مفهوم السلوك حسب الجسد؟

يلزمنا على وجه الخصوص أن نلاحظ فخاخ اقتراحات الشيطان، فلا نتكل على قوتنا الذاتية، لأنه "ملعون الرجل الذى يتكل على الإنسان" (إر17: 5)... ونحن لا نقدر أن نقول بأن المُتكل على ذاته ليس متكلاً على إنسان. فإن كان القول "من يعيش حسب البشر (الإنسان)" لا تعنى إلا أن "يعيش حسب الجسد"، لذلك فمن يرضخ لهذا الاقتراح (أى يتكل على ذاته، على بشر وبالتالى حسب الجسد)، فليسمع ويرتعب إن كانت لديه أية مشاعر مسيحية "لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون". (رو8: 13)].

16 - لماذا قيل: "الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رو6: 14)؟

يقول القديس أغسطينوس: [عندما تسمع القول: "فإن الخطية لن تسودكم" لا تثق فى نفسك أن الخطية لن تسود عليك، بل ثق فى الله الذى يتوسل إليه قديس، قائلاً: "ثبت خطواتى فى كلمتك ولا يتسلط على إثم" (مز119: 133). ولئلا عند سماعنا "الخطية لن تسودكم" ننتفخ، وننسب ذلك إلى قوتنا الذاتية، أردف الرسول قائلاً: "لأنكم لست تحت الناموس بل تحت النعمة". فالنعمة هى التى تنزع تسلط الخطية عنا. فلا تثق فى ذاتك لئلا تتسلط عليك بصورة أشد. وعندما نسمع القول: "إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو8: 13)، لا ننسب هذا العمل إلى أرواحنا نحن كأنها قادرة على ذلك. ولكيلا نقبل هذا الإحساس الجسدى، فتموت الروح عوض أن تميت هى أعمال الجسد، أضاف للحال: "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم ابناء الله" (رو8: 14). فلكى نُميت أعمال الجسد بروحنا يلزمنا أن ننقاد بروح الله واهب العفة، فبها نقمع الشهوة ونغلبها ونُروضها].

17 - ما هى الأعذار الباطلة التى تدفعنا لتبرير سقوطنا فى الشهوات؟

أ. أننا نرتكب الخطية قضاءً وقدراً، فنتجاهل الإمكانيات التى يهبها الله لنا. بينما يقول المرتل: "حِد عن الشر واصنع الخير، اطلب السلامة وإسع وراءها" (مز34: 14).

ب. ندعى أن الشيطان بمقترحاته الخفية هو السبب. إنهم لا يقدرون أن يشكوا فى أنهم قد قبلوا الاقتراحات أيا كان مصدرها.

ج. يقول أتباع مانى إنهم يخطئون عندما تغلب طبيعة الجسد الشريرة طبيعة الروح التى خلقها الله. إذ نحن نوجد بالاثنين معاً، هذين اللذين يتعارض أحدهما مع الآخر، فلنصلِ ولنجاهد ليكونا فى اتفاق بعمل الروح القدس فيهما. لهذا يلزمنا ألا نحسب أحدهما عدواً، بل "الخطأ" الذى يجعل الجسد يشتهى ضد الروح. فإذا ما شُفى لا يعود يوجد الخطأ ولا يعود هناك صراع بينهما، ويصير جسدنا محبوباً، وإذ يلزمنا أن نعتنى به كقول الرسول: "فانه لم يبغض أحد جسده" (أف5: 29).

18 - هل جسدنا عنصر ظلمة كما ادعى أتباع مانى؟

يوصى الرسول الرجال أن يحبوا نساءكم على مثال حُبهم لأجسادهم، وفى نفس الوقت على مثال حب المسيح للكنيسة (أف5: 29). يُعلمنا الرسول عن ثلاث وحدات:

وحدة بين المسيح والكنيسة،.

ووحدة بين الزوج وزوجته،.

ووحدة بين الروح والجسد.

فى هذه الوحدات، يُقدم الطرف الأول المشورة الصالحة للثانى، والثانى يترقب الأول (مُسترشداً به). ونلاحظ أن كل الأطراف صالحة، ولو سما الطرف الأول عن الآخر متفوقاً عليه، وخضع الثانى للأول خضوعاً لائقاً.

19 - ماذا نطلب من الله لنتمتع بالنقاوة والعفة؟

يدعونا القديس أفراهاط الحكيم الفارسى أن نطلب ما نحبل به فى فكرنا أى نقاوة القلب فتلد العفة. إذ يقول: [قبل الله تقدمة هابيل بسبب نقاوة قلبه، ورُفضت تقدمة قايين (تك4: 4)... كيف شعر هابيل بقبول تقدمته؟ وكيف تأكد قايين من رفض تقدمته؟... أنت تعلم يا عزيزى أن علامة التقدمة المقبولة من الله هو نزول نار من السماء تحرق التقدمة. عندما قدم هابيل وقايين تقدماتهما معاً، نزلت النار الحية التى تخدم أمام الله (مز104: 4)، والتهمت ذبيحة هابيل النقية، بينما لم تمس ذبيحة قايين غير النقية. هكذا عرف هابيل قبول تقدمته، وعرف قايين رفض تقدمته.

لقد عُرفت ثمار قلب قايين بعد ذلك حين أختبر ووجد أن قلبه مملوء غشاً، حين قتل شقيقه، فما حبل به فى فكرة ولدته يداه. ولكن نقاوة قلب هابيل كانت أساس صلاته[83]].

20 - ما هو موقفنا من الأفكار التى تتسلل إلى عقولنا؟

يقول القديس مرقس الناسك: [ظهور الفكر فى ذاته ليس شر أو خير، إنما هو اختبار لإرادتنا الحُرة، فمن يتمسك بالوصية يُكافأ بإكليل (النصرة) جزاء إيمانه، ومن يميل إلى التراخى يُعلن عن استحقاقه للدينونة جزاء عدم إيمانه. غير أنه يجب أن تعرف أننا لا ندان هنا فى الحال بعد كل تصرف إن كنا نظهر فيه أننا ناجحون أو مستحقون للتوبيخ. بل بعدما نكمل حياتنا كلها التى خلالها نُجرب بالأفكار، فمرة ننتصر وأخرى ننهزم، نسقط ونقوم، نضل الطريق ونرجع إليه... هذا كله يحتسب لنا بعد الرحيل، وبمقتضاه إما ندان أو نتزكي].


[72] Tractate on Matt, hom 6: 17: 3 - 4.

[73] Acta Apoll. , 37.

[74] Hermas: Pastor, visions 8: 3, 7.

[75] In Epist. Ad Rom. , 4: 6.

[76] Concerning Baptism 2: 1.

[77] - العفة للقديس أغسطينوس، 28.

[78] Concerning Virginity 11. PG 368: 46 BC.

[79] - من مجد إلى مجد، تعريب القمص إشعياء ميخائيل، 1984، فصل 1: 2.

[80] Commentary on Song of Songs, Homily 5.

[81] - "نق أولاً داخل الكأس والصحفة لكى يكون خارجها أيضاً نقياً" (مت23: 26).

[82] - هذا الخداع يسقط فيه كثيرون، مثال ذلك نجد شاباً يتعلل بأنه عندما أحب فتاة مُعينة وكون معها علاقات عاطفية لم تعد له نظرات شريرة ولا تخالجه أفكار دنسة، وهو فى هذا يحسب نفسه قد تقدس وهو لا يعلم أن الشهوات التى فيه قد استراحت بانحرافه فلا حاجة لثورتها فيه، لإنهاء ملكته واستعبدته تماماً تحت صورة شبه مقدسة. وأيضاً نجد العكس عندما يبدأ إنسان بقطع العلاقة، تبدأ حرب الأفكار والنظرات تجاهها وتجاه غيرها تزداد، لأن شهوة الجسد تقاوم شهوة روحه أى العفة.

[83] Demonstrations, 2: 4 (On Prayer) ترجمة الدكتور صفوت منير.

No items found

(5) الرذائل أو الشرور

(3) فضيلة الطاعة

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات