(3) فضيلة الطاعة

(3) فضيلة الطاعة[47]

1 - لماذا يمتعض البعض من الطاعة؟

ارتبطت هذه الكلمة فى أذهان الكثيرين، خاصة الفتيان، بالشعور بضعف الشخصية مع الشعور بالمذلة للغير، سواء للوالدين أو المرشدين من قادة المجتمع سواء فى المدرسة أو فى العمل أو الكنيسة. إذ يرون فيها رغبة القادة فى السيطرة وفرض آرائهم وخبراتهم على الغير، مما يُسبب صغر نفس والرغبة فى التمرد، إن صح التعبير، إن لم يكن خلال تصرفات ظاهرة، فبالكبت الداخلى.

الآن لماذ يُطالبنا الله بالطاعة؟ هل الطاعة تتطلب تجاهل حق الحوار؟ هل يدعونا الله للطاعة العمياء؟ - وما هى غاية الطاعة؟ هل نعيش فى مذلة؟ مثل هذه الأسئلة تدفعنا للتمييز بين عظمة الطاعة الإنجيلية والطاعة العملية، وتصحيح المفاهيم الخاطئة للطاعة.

2 - هل الطاعة تعنى ضعف الشخصية؟

أذكر جاءتنى سيدة تقول لى إن لها طفل رقيق الطبع ولطيف للغاية، التحق بإحدى الحضانات، وفى أول يوم عاد من الحضانة صنع شيئاً خاطئاً، فقالت له السيدة: لا تفعل. أجابها الطفل: لا، سأفعله. بلطف قالت له: "هذا خطأ، لا تفعله". فكانت الإجابة: "لا، سأفعله، أنا قلت لا... يعنى لا".

خشت الأم أن تفقد علاقتها بالطفل، فتجاهلت الأمر وصمتت. وفى اليوم التالى سألته إن كان يذكرما فعله اليوم السابق. فأجاب بالإيجاب. سألته: "ما هو رأيك فيما فعلته؟" أجاب: "خطأ! قالت له:" ولماذا تفعل الخطأ؟ "أجاب:" يا ماما أنت لا تعرفين، لو أننى قلت نعم، لكان هذا معناه أن شخصيتى ضعيفة! "دُهشت الأم، فإن هذا أول درس تعلمه من الأطفال حول الطاعة أنها لا تعنى سوى ضعف الشخصية والخنوع. بحكمة صنعت الأم شيئاً خاطئاً أمامه، وإذ قال لها إن هذا خطأ توقفت عن عمله. وبعد يومين دخلت معه فى حوار. هل عندما سمعت كلماته يعنى هذا أن شخصيتها ضعيفة. أجاب الطفل:" لا، بل أحببتك لأنك سمعتى لى ". قالت له: إن الطاعة والحوار لا يفقدنا قوة الشخصية، بل يجعلنا محبوبين وناضجين!

3 - من هو الأعظم؟

يقول الإنجيلى لوقا عن الطفل يسوع: "كان خاضعاً لهما" (لو2: 51). من هو الأعظم: يسوع المسيح أم القديسة مريم والقديسة يوسف؟ ليس من وجه للمقارنة بين كلمة الله المتجسد الخالق وبين المخلوقين مريم ويوسف، ومع هذا خضع لهما، لا عن خنوع، بل بروح الحب والقوة يحاورهما، فعندما عاتبته القديسة مريم: "لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين!" (لو2: 48)، أجابها: "لماذا كنتما تطلباننى؟ ألم تعلما أنه ينبغى أن أكون فى ما لأبى؟" (لو2: 49) بحكمة ورقة وشجاعة تحدث الصبى مع أمه، مُعلناً أن له رسالة إلهية سماوية لم يستطيعا فى ذلك الحين إدراكها.

عظمة الإنسان لا فى إصدار أوامر أو نواه، وإنما إدراك رسالته والعمل بجدية فى تحقيقها... بهذا لا يطلب السُلطة ولا يخاف من الطاعة والخضوع بروح الحكمة والتمييز.

الطفل الصغير الذى لا يُدرك رسالته، كثيراً ما يثور ويغضب سريعاً. هذا كله يكشف عن عدم النضوج بعد، وعدم معرفته وتقديره لرسالته. أما الإنسان الناضج، فيُحقق رسالته بروح الطاعة والخضوع وبرقة ولطف. هذه هى علامات النضوج الحقيقى والعظمة!

4 - هل الطاعة هى إحدى علامات الشركة فى سمات ربنا يسوع المسيح؟

كثيراً ما دافع الرسول بولس عن لاهوت السيد المسيح ومساواته للآب فى ذات الجوهر ووحدته، ولكن قد يتعثر البعض فى كلماته: "ومتى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذى أخضع له الكل، كى يكون الله الكل فى الكل" (1كو15: 28). يتساءل البعض: كيف يخضع الابن لله الآب؟ الخضوع هنا لا يُفهم بالفكر البشرى الذى أفسد معنى الطاعة أو الخضوع، لكنه سمة التواضع التى لآدم الثانى ربنا يسوع القائل: "تعلموا منى، لأنى وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت11: 29). راحة النفس وعظمتها أن تشارك مسيحها سمة الوداعة والتواضع، فتجد فى الطاعة راحة سماوية فائقة ومجداً حقيقياً.

5 - من هو القائد والرئيس؟

عُرف القديس باخوميوس، الرجل العسكرى، بحزمه الشديد فى نظام الشركة، حيث انشأ أكثر من عشرة أديرة للرجال فى صعيد مصر بجانب ثلاثة أديرة للراهبات، وكان عدد الرهبان فى الدير الرئيسى فى بافو حوالى 1500 راهباً. كان هو الرئيس العام لكل هذه الأديرة.

فى أحد الأيام إذ كان القديس باخوميوس ينتظر مجموعة من المتوحدين ليلتقى بهم، لاحظ تلميذه الخاص تادرس أن ملبسه قديم جداً وغير لائق، وكان هو المسئول عن ملابس الرهبان. طلب التلميذ من مُعلمه أن يستبدل ثوبه لمقابلة الضيوف، فلم يهتم الأب بذلك. كرر الأمر مرة ثانية فثالثة ولم يستبدل الأب ثوبه، وإذ راجع الأب نفسه دخل قلايته وبكى بمرارة لأنه لم يطع تلميذه. واعترف بخطيته أمام تلاميذه الرهبان! هكذا حسب مؤسس نظام الشركة فى عدم الطاعة خسارة عظيمة. فالطاعة فى ذهنه ليست من طرف واحد بل خلال الحب والتمتع بالحياة الجديدة تكون متبادلة، وبحكمة وتمييز!

6 - ما هو مفهوم الطاعة فى مسيحنا الوديع؟

الطاعة هى تمتع بكرامة الشركة فى سمات مسيحنا الوديع المتواضع القلب. أطاع الآب مع أن إرادته واحدة مع إرادة الآب، ففى محبته قال: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (مت26: 39)، إنه لا يحمل إرادة مختلفة عن إرادة الآب. بقوله هذا يحملنا فيه لنُردّد ذات كلماته باعتزاز فنتنازل عن إرادتنا من أجل تحقيق الإرادة الإلهية المُعلنة لنا خلال من هم حولنا. الإنسان المُعتد برأيه لا يتمتع بروح الحق والتمييز قيل: اثنان لا يُغيران رأيهما قط، وهما الغبى والميت! أما الحكيم المتزه فيقبل رأى الغير، ويُسر أن يطيع مادام فى الحق.

لكن، قد يسأل أحد: كيف أعرف صوت الحق فأطيعه؟ أو من يدربنى أن النصيحة المُقدمة لى هى حق.

قيل عن أحد الأشخاص، أنه وهو فى أحد برارى شمال غرب أفريقيا... رأى شبه عاصفة ضخمة من التراب، إذ اقترب من العاصفة وجد أعداداً لا حصر لها من الأغنام سببت فى سيرها هذه العاصفة الترابية. فجأة ظهر ستة رعاة معاً. وإذ مالت القطعان إلى جدول مياه شربت واستراحت. بعد قليل انعزل أحد الرعاة الخمسة الآخرين، وابتعد قليلاً ثم بدأ يغنى، وإذا بعدد قليل من الغنم يترك كل القطعان وينسحب نحو هذا الراعى، ومع استمرار الراعى يغنى، تسلسل قطيعه بالتدريج وتجمع حوله بينما ظلت بقية القطعان معاً. وتكرر الأمر، انسحب راعى آخر وبدأ يغنى فتجمع أيضاً قطيعه، وهكذا مع بقية الرعاة. عندئذ تذكر هذا الشخص قول السيد المسيح: "الخراف تتبعه، لأنها تعرف صوته، وأما الغريب فلا تتبعه، بل تهرب منه، لأنها لا تعرف صوت الغرباء" (يو10: 4 - 5).

حين تتساءل: كيف أعرف صوت الحق عندما يحدثنى أحد؟ الإجابة: إن كنت صديقاً له وتمارس الشركة معه، حتماً تعرف صوته وتطيع كلماته خلال الآخرين، خاصة القادة.

قيل أيضاً: إنه فى أثناء الحرب العالمية الأولى حاول بعض الجنود أن يستولوا على مجموعة من القطيع أثناء نوم الراعى، وكان ذلك على تل بجوار أورشليم فى يوم حار. استيقظ الراعى فجأة ووجد قطيعه يقوده الجند. وإذ شعر باستحالة الوقوف أمام الجند، خطرت بباله فكرة لاستعادة القطيع. انطلق إلى الجانب الآخر، وبدأ ينادى قطيعه بصوته وللحال اندفع القطيع نحوه ولم يستطع الجند السيطرة على الموقف. وبينما كان الجند فى حيرة ماذا يفعلون كان الراعى قد انطلق إلى منطقة آمنة والقطيع حوله. لقد عرف القطيع صوت راعيه! [48].

قيل إنه فى إحدى العروض حيث كان الآلاف ينتظرون مشاهدة عروض الكلاب، ضل أحد الكلاب، ونزل إلى الساحة، وفى ارتباك شديد صار يجول من هنا وهناك. كثيرون كانوا يصفرون له لكى يأتى إليه لعلهم يردّونه إلى صاحبه، لكنه لم يبال. وأخيراً صفَر أحد الصبيان من بعيد فانطلق الكلب نحوه وارتمى عليه. لقد عرف صوت صاحبه وميزه من آلاف الأصوات!

7 - هل نسمع لصوت محبوبنا؟!

روى دكتور Lee Robertsonهذه القصة: لاحظ ذات يوم جمهرة من الناس معاً، وإذ بكلب يتحرك ليمارس عملاً ما. تطلع روبرتسون هنا وهناك ماذا وراء الكلب. وإذا به يجد صبياً يُتمتم بشفتيه، والكلب قد وجد أنظاره إليه. بعد قليل سار الكلب نحو هذا الصبى وهو يهز ذيله علامة سروره، وقد ركز عينيه على الصبى دون سواه، ثم اقتراب منه جداً. شعر روبرتسون كأن الكلب يقول له: "ألم أجعلك مسروراً بى؟ ألم أطعك تماماً؟" فى حنان ولطف... ربت الصبى على رأس الكلب وهو يقول له "حسناً Gooddoggi" مكرراً هذه العبارة. سار روبرتسون إلى الصبى وسأله: "هل يمكن أن تبيعنى هذا الكلب العجيب بخمسة عشر دولاراً؟ وكان هذا المبلغ فى ذلك الحين يمثل قيمة كبيرة. أجابه الصبى: ولو دفعت مئة ضعف هذا المبلغ لن أفرط فى كلبى المحبوب! انهارت الدموع من عينى روبرتسون وانسحب وهو يقول فى أعماقه:" لقد عرف هذا الكلب أن يُسر صاحبه ويطيعه، هل لى يا رب أن أكون موضع سرورك وأستمع إلى صوتك، فاسمع صوتك: نعماً أيها العبد الأمين والصالح ". منذ ذلك اليوم لم تفارقنى هذه المشاعر قط!".

8 - كيف نمارس الطاعة مع بساطة المعرفة؟

قيل إن سيداً ملحداً كان لديه عبد بسيط للغاية ومحب لله، وكان لا يكف عن أن يشهد للسيد المسيح بروح البساطة. وفى أحد الأيام أراد السيد أن يسخر به... استدعاه وسأله: "هل أنت كارز يا سام؟" أجابه العبد: "إنى أحب سيدى يسوع المسيح، وأود أن يتمتع الكل بحبه؟" سأله السيد: إن كنت مبشراً، فيلزمك أن تكون عارفاً بمعانى الكتاب المقدس. أخبرنى ما معنى عبارة "الذى سبق فعرفهم سبق فعينهم" (رو8: 29). فى بساطة سأله العبد: أين هذه العبارة يا سيدى؟ "أجابه السيد:" فى رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية! "عندئذ فى بساطة قال له العبد:" سيدى العزيز، إنى سأشرح لك هذه العبارة فى بساطة شديدة... لتبدأ بإنجيل متى وإذ تنفذ كل ما أمر به مسيحنا المحبوب فى هذا الإنجيل، ابدأ فى إنجيل مرقص ونفذ كل ما أوصانا الرب المحبوب فيه، ثم إنجيل لوقا وأطع كل وصايا الرب الواردة فيه، ثم إنجيل يوحنا، فأعمال الرسل، وإذ تصل إلى رسالة رومية ستجدها سهلة جداً وواضحة تماماً!

9 - ألا نطيع صوت ملك الملوك؟

إذ كان أحد المبشرين يتمشى فى حجرة الطعام بالفندق فى الهند لم يجد له موضعاً سوى كرسى بجوار اثنين أحدهما قائد بالجيش والثانى قائد فى البحرية ومعهما عائليتهما. كانا يتناقشان معاً، فقال أحدهما للآخر: إنى متعجب لماذا يأتى المبشرون إلى الهند؟ لماذا لا يلتزمون ببقائهم فى بلادهم؟

تدخل المبشر وسأله: "إن صدر لك أمر الآن من القائد الأعلى أن ترحل فوراً مع الجند إلى موقع مُعين للدخول فى معركة ضد العدو، فهل تتأخر؟ أجابه القائد: يستحيل، لأنى ملتزم بالطاعة لرئيسى لصالح بلدى. عندئذ أجابه المبشر:" أيها القائد العظيم، إنى مسيحى، ويسوع المسيح هو ملكى. أخدمه كمواطن فى ملكوت الله. ملكى قام من الأموات، وعهد إلينا مسئولية إلهية: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس..." (مت28: 19). لهذا السبب جئنا هنا إلى الهند، لنُتمم أوامر ملكنا ونخدم مملكته ".

10 - ما هو تقديرك للشخص المطيع؟

جاء عن أحد المزارعين أنه رأى مجموعة من الفرسان قادمين من بعيد، وإذ خشى أن يعبروا بحقله ويُسببوا خسائر لمزروعاته، طلب من صبى يعمل معه أن يغلق باب الحقل، أسرع الصبى وأغلق الباب. وفى لحظات بلغ الفرسان إلى الباب، فأمر أحد الفرسان أن يفتح الباب، فأجابه الصبى: "لا أستطيع! فإن سيدى أمرنى بإغلاق الباب. عندئذ قال له الفارس:" أما تعرفنى؟ أنا "دوقه والنجتون Duke of Wellington" وأنا آمرك أن تفتح الباب لكى أعبر أنا وأصدقائى ". رفع الصبى قباعته وحيا الدوق بكل وقار، ثم قال له:" إنى واثق أن "دوق والنجتون" لن يقبل أن أعصى أوامر سيدى، فإنى أشعر بالالتزام أن أترك الباب مغلقاً ولا أسمح لأحد أن يعبر منه إلا بسماح من سيدى ". سُر الدوق من ولاء الصبى وطاعته لسيده، ورفع الدوق قباعته يحى الصبى المطيع والشجاع، قائلاً:" إنى أحيى الصبى أو الرجل الذى لا يخاف من الامتناع عن فعل ما هو خطأ. قدم الدوق جنيهاً ذهبياً للصبى، ثم انصرف هو وأصدقاؤه دون أن يدخل الحقل! هكذا تملى الطاعة على الغير أن يحترموا ويقدروا الإنسان المطيع لقادته فى الرب.

11 - هل يلتزم الأبناء والمرؤوسين بالطاعة العمياء للقادة إن طلبوا منهم ما يخالف وصية إلهية؟

عندما عاتبت القديسة مريم ابنها ربنا يسوع لأنه بقى فى الهيكل ثلاثة أيام يحاور المُعلمين وتركها هى والقديس يوسف مُعذبين (لو2: 41 - 52)، لم يعتذر لها لإرضائها، إنما بروح الخضوع لها قال: "ألم تعلما أنه ينبغى أن أكون فى ما لأبى؟!" وعندما تحدث الرب عن صلبه وموته قال له بطرس: "حاشاك يارب لا يكون لك هذا" (مت16: 22)، التفت إليه الرب "وقال لبطرس: اذهب عنى يا شيطان! أنت معثرة لى، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مت16: 23).

12 - ما هو رأى القديس باسيليوس فى الطاعة على حساب الوصية الإلهية؟ [49]

إحدى أساسيات النظام الرهبانى الباسيلى الطاعة، لذلك كثيراً ما أشارت إليها كتابات القديس بالأخص كتاباته النسكية وقوانينه الرهبانية.

1 - إن أدرك أحد أن العلاج الذى يُقدمه الرئيس مُناقضاً للوصية، يلزمه أن يعترض سرياً، فإن لم يجد استجابة، يعترض علانية.

2 - إن اختلف راهب فى رأيه مع الرئيس، وأدرك أن أمر الرئيس لا يمسّ وصية إليهة، يلتزم بالصمت.

3 - إن تشكك فى الأمر، ولم يستطع أخذ قرار إذ لم يعرف إن كان أمر الرئيس مخالفاً للوصية أو غير مخالف، يلجأ إلى آخرين، فإن رأوا أن يطلبه الرئيس مخالفاً للأسفار المقدسة، يكون بهذا قد خلص نفسه وإخوته من العصيان لوصية الله.

4 - لا يجوز للراهب أن يُسبت مناقشات باطلة خطيرة من جهة قرارات الرئيس مادام غير متأكد أنها ضد الوصية الإلهية، حتى لا يُسبب عثرة للبسطاء فى الإيمان.

5 - يحذرنا القديس من الذين يرغبون فى المقاومة والعناد وإثارة منازعات دائمة بلا سبب، مثل هؤلاء يُطردون من الجماعة.

13 - ما هو موقف المؤمن إن طلب منه الشخص أن يحاوره فيما سأله أن يفعله؟

أ. لا يليق بنا أن نطلب من الآخرين أن يطيعوا بدون حوار، فالله نفسه فتح باب الحوار مع إبراهيم الذى شعر أن حرق سدوم وعمورة لا يتناسب مع عدالة الله (تك18: 25).

ب. نعطى للأبناء وللمرؤوسين الفرصة للحوار معنا بروح الحب، فيدركون تقديرنا لأشخاصهم كأناس من حقهم التفاهم مع والديهم، فلا يخضعون فى طاعة عمياء، كأنهم كائنات غير عاقلة.

14 - ماذا يفعل المؤمن إن لاحظ أن أحد المسئولين يخالف وصية إلهية؟

أ. يضع فى قلبه قول إشعياء النبى: "ويل للقائلين للشر خيراً، وللخير شراً" (إش5: 20). لا يليق أن نجعل النور ظلاماً، ولا نحسب الظلام نوراً.

ب. يليق بنا إن رأينا إنساناً كسر الوصية أو ظننا أنه انحرف عن استقامة الإيمان، أن نراعى فى تصرفاتنا مع الآتى:

  • إن كانت لنا دالة عليه، نسأله كمن يستفسر لا كمن ينتقد.
  • إن لم يكن لنا دالة عليه نبحث عمن له دالة عليه ويكون حكيماً فى كلماته وتصرفاته.
  • مراعاة عدم التشهير به حتى فى وسط الأصدقاء حتى أن كان مخطئاً، بل نقتدى بإلهنا الذى يستر علينا، دون التراخى مع الشر.

تخصيص صلوات وأصوام وممارسة مطانيات لكى يستلم الرب نفسه الأمر، وأن يحفظنا الله من التشهير بالآخرين، واهباً إيانا روح الحب والوداعة والتواضع.

15 - هل من حاجة إلى الدولة والطاعة لقوانينها وقادتها؟ [50]

يُعتبر الأب لاكتانتيوس (القرن الثالث / الرابع) أن تكوين الدولة أمر طبيعى يعيش فيه الإنسان طبقاً لطبيعته الاجتماعية. وأنالدولة وسيلة ضرورية والخضوع لنظام مُعين، طالما تستخدم الدولة القانون وهو القوة للسيطرة على الأشرار. فالقانون ضرورة نشأت بسبب الخطية الأصلية، ودخول الشر إلى حياة الإنسان.

يرى القديس أمبروسيوس أن بدراسة تصرفات الطيور والنحل والأسماك، يحتاج الإنسان أيضاً ليس فقط إلى تنظيم اجتماعى، بل وإلى وجود هيكل تنظيمى (القانون) بواسطته تقوم الدولة بتدبير أمور المجتمع. فى رأيه أنه لولا السقوط لكانت الدولة تُمارس سلطانها بروح جماعية للمصلحة العامة، لكن نتج عن السقوط حُب السيطرة والطمع مما جعل بعض القادة فى الدولة يُركزون على السلطان وعلى مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة. ففى رأيه أن قيام الدولة هو لمقاومة الشر وردعه، لكن للأسف عوض مُحاربة الشر، صار الشرّ سمة الدولة (متى كان القادة أشراراً)، لكن لا توجد سلطة شريرة فى ذاتها[51]. فالملك (أو الرئيس) مُمثل لله إن أحسن استخدام السلطة[52].

يرى القديس أغسطينوس أنه لولا سقوط الإنسان فى الخطية، لما صارت هناك حاجة إلى قوانين تردع الإنسان، وإلى سلطة الدولة لحفظ السلام الضرورى لكل الناس. فالدولة تحفظ السلام الأرضى أو الخارجى، ويدعوه سلام بابل Peace of Babylon، الذى لا يُقارن بالسلام الحقيقى لمدينة الله، أو السلام السماوى. يقوم السلام الأرضى على الإلزام والقمع بالعقاب، وهذا يحد] ث خلال السلطة السياسية، التى فى أيدى أناس مُعرضين للخطأ. أما الرعية فيلزمها ألا تتمرد على الحاكمن بل تقبل العقوبة التى تحل بها بسبب تمردها، كما يليق بها أن تُصلى أن يسامح من ظلمها.

16 - ما هى نظرة المسيحية للمدينة الأرضية ومدينة الله؟ [53]

يريد الله دولة تمارس سلطانها وفقاً لإرادة الله، لا تعرف الإستبداد، بل تهتم بالاحتياجات المادية والسلوكية والدينية لمواطنيها. تظهر نظرة القديس أغسطينوس للدولة فى كتابه "مدينة الله". حيث يتحدث عن المدينة الأرضية أو الدولة، فلا ندين الدولة، إلا فيما تمارسه من فساد واستغلال للفقراء واستبداد بالسلطة[54]. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [كيف إذن يظهر أن الحُكم (نظام الدولة) أهم من الأمور الأخرى؟... الخوف من السلطة الحاكمة هو الذى يضع حدوداً (للمواطنين)، ويحفظ ثمار عملهم. دمّر هذه السلطة، فتنهار كل أعمالهم وتصير كلا شئ[55]].

17 - ما هى واجبات الشعب نحو الدولة؟

  1. يرى القديس أغسطينوس أن الشعب مُلتزم بالطاعة لسلطات الدولة كأمر الله[56].
  2. يليق بالمسيحيين أن يكونوا أفضل مواطنى الدولة[57].
  3. الالتزام بدفع الضرائب[58].
  4. خضوع المسيحيين للعدالة الزمنية.

يؤكد القديس أمبروسيوس شرعية النظام القضائى فى الإمبراطورية، فيلتزم المسيحيون بمراعاة القوانين المدينة، واحترام النظام الاجتماعى، على ألا تناقض الطاعة للوصية الإلهية.

18 - كيف نتطلع إلى سلطان المسئولين فى المجتمع؟

كثيراً ما تحدث آباء الكنيسة عن بركات وجود نظام الدولة، فلو أن القادة والشعب يسلكون بروح العدل مع الحب والقداسة، لاستراح الطرفان. كلاهما يعملان بفرح، فالسلطة يُمارسها القادة المُقدسون بروح الأبوة الحانية، فيجدون سعادتهم وغناهم وكرامتهم فى سعادة وغنى وكرامة كل شخص من الرعية. والشعب المقدس، يتنافس فى البذل والعطاء، ويجد لذته فى العمل بكل أمانة.

يرى القديس أمبروسيوس أن البشر فى بدء حياته، كانوا يتقاسمون المسئولية بالتناول، حيث لم يكن للغطرسة موضع فيهم، لكن بدخول حُب السلطة، ظهرت الصراعات على احتلال المراكز القيادية.

يقول القديس أمبروسيوس [فى البداية مارس البشر سلطتهم السياسية المُعطاة لهم بالطبيعة، مُقتدين بالنحل. وبهذا كان العمل والكرامة أمرين مشتركين. فقد تعلم الأفراد الشركة فى واجباتهم وتقسيم السلطة والمكافأة، ولم يُستثن أحد سواء من الكرامة أو فى العمل. وكان هذا أفضل وضع للأمور، حيث لا يُمكن لأحد أن يصير متغطرساً بامتلاكه سلطاناً بصورة دائمة أو الانسحاق بسبب الخضوع الدائم... غير أنه بعد ذلك بدأ الناس فى اشتهائهم للسلطة أن يدعوا حقهم الدائم فيها الأمر الذى لا يليق، ولم يرغبوا فى التخلى عما نالوه[59]]. كما يقول: [ليس من فضيلة يمكنها أن تأتى بمنافع أوفر من تلك التى للإنصاف والعدل. فهى تهتم بالغير أكثر مما لنفسها. تتجاهل المصلحة الخاصة لحساب الصالح العام. العدل هو أهم فضيلة، إذ يُمثل الانسجام بين الفضائل الأخرى... وهو أصل كل الفضائل[60]].

19 - ماذا يقول الرسول بولس عن الخضوع للسلطات فى الرب؟

يقول الرسول بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هى مُرتبة من الله. حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه" (رو13: 1 - 3). "فأطلب أول كل شئ أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس. لأجل الملوك وجميع الذين هم فى منصب، لكى نقضى حياة مطمئنة هادئة فى كل تقوى ووقار. لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا لله" 01تى2: 1 - 3).

نادت المسيحية بالطاعة للسلطات والخضوع للدولة، كما ركزت على السلام الداخلى، والعفو عن المخطئين، وعدم استخدام السيف. يلزم المؤمن أن يُطبق هذه الوصايا، مشتهياً أن يُقدم الحب حتى للأعداء المُقاومين، وذلك بعمل روح الله القدوس فيه.

20 - ماذا يقصد الرسول بقوله: "لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هى مُرتبة من الله. حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأّخذون لأنفسهم دينونة" (رو13: 1 - 2)؟

هل يعنى هذا أن كل حاكم، حتى وإن كان شريراً، هو مُقاوم من الله؟ المُقام من الله النظام، بضرورة وجود رؤساء وحكام، وليس الأشخاص أنفسهم. كأن الرسول يدعونا إلى عدم مقاومة وجود نظام للدولة، لأن هذا النظام سمح به الله لأجل بنيان البشرية وسلامها، وحفظها من الأشرار كالقتلة واللصوص والمفترين والمخادعين الخ. لكن ليس كل حاكم هو من الله. فلا نستطيع القول إن نيرون الظالم من عند الله ولا يوليانوس الجاحد، ولا أريان والى أنصنا الخ.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [الأساس الأول لمثل هذا النظام، وانسجامه مع منطق الإيمان هو أن هذا كله بتعيين من الله. يقول (الرسول): "لأنه ليس سلطان إلا من الله". ماذا تعنى أيها الرسول؟ هل أن كل حاكم هو مختار من الله، ليكون على العرش الذى يشغله؟ يجيب الرسول: "لا، إننى لم أقل هذا، لست أتكلم عن أشخاص الحكام، بل عن السلطان نفسه. أقصد أن هذه هى إرادة حكمة الله أن يوجد سلطان، أن البعض يحكمون والآخرين يطيعون. وأن الأمور تسير هكذا فى هذا الاتجاه. بهذا فإن بولس لا يقول:" إنه لا يوجد حاكم لم يُعينه الله ". بل بالحرى يتكلم عن السلطان نفسه، قائلاً:" لأنه ليس سلطان إلا من الله، (وأن كل السلاطين) الكائنة على الأرض مُرتبة منه "[61]].

يرى العلامة أوريجينوس أن قول الرسول بولس: "ليس سلطان من الله" (رو13: 1)، فيه تحذير للسلاطين الفاسدة. فالسلطان عطية ووزنة من الله لا تُستخدم فى تشامخ لحساب الإنسان، إنما للخدمة ولصالح المجتمع. هذه وزنات سوف يُقدمون عنها حساباً. يقول العلامة أوريجينوس: [لا ينكر أحد أن حواسنا – النظر والسمع والفكر – أعطاها الله لنا. ومع أننا تسلمناها من الله، فإن طريقة استخدامنا لها تتوقف علينا... فإن الله يديننا بالعدل إن أفسدنا ما وهبنا إياه لاستخدامه للصلاح. هكذا حُكم الله ضد السلاطين سيكون عادلاً، إن استخدموا السلطان الذى استلموه حسب شرّهم وليس حسب شرائع الله[62]. يقول القديس باسيليوس الكبير: [من الصوات الخضوع للسلطان الأعلى عندما لا تُنتهك وصية الرب[63]].

21 - ما هو دور كل من القادة المدنيين والقادة الكنسيين؟

يرى العلامة أوريجينوس أن قول الرسول: "السلاطين الكائنة هى مُرتبة من الله" (رو13: 1)، يشير إلى دور السلاطين فى فرض عقوبات على الجرائم، فقادة الكنيسة ليس من حقهم هذا، إنما دورهم التعليم والتحذير وجذب النفوس للشركة مع الله. يقول العلامة أوريجينوس: [القاضى البشرى يعمل كخادم لله. فإن الله يريد أن يعاقب على هذه الجرائم بواسطة قضاة بشريين، وليس بواسطة ممُثلين للكنيسة[64]]. ويرى القديس يوحنا الذهبى الفم أن هذه العبارة تسند القاضى المؤمن فى تطبيقه العقوبات على مرتكبى الجريمة، فلا يتشكك ضميره. [أعطى اسم "خادم الله"... حتى عندما يصدر عقوبة. فإن هذه هى إرادة الله أن يقوم بهذا العمل[65]]. فالقاضى المسيحى من حقه أن يغفر لمن اغتصب شيئاً منه، لكن ليس من حقه أن يعفو عن من يغتصب شيئاً من الآخرين أو يكسر القوانين، بل يلزمه تطبيق القانون الوضعى الجنائى أو المدنى، وهو فى هذا يُحسب خادم الله.

22 - ما هى حدود دور الكنيسة والمسيحى فى السياسة؟

أ. إن كان يليق بالكنيسة أن تكون خميرة مُقدسة فى العالم، لأجل بنيانه ونموه وتقدمه فى كل جوانب الحياة، لذا يليق بها أن تعرف دورها ومسئوليتها وحقوقها. يلزم للكنيسة كأم للبشرية ألا تنحرف نحو السياسة، فمن جانب قد يدفعها هذا إلى التحيز إلى جماعات او أشخاص على حساب الآخرين. يليق بها أن تحمل أمومة وحُب للجميع، فلا يجوز لها أن تُقيم حزباً سياسياً، ولا أن تدفع أولادها إلى الانضمام إلى حزب مُعين.

ب. يليق بالكنيسة أن تقتدى بخالقها ومُخلصها، فتقّدس حرية الإرادة. إن كان خالقنا والعارف بكل الأمور يترك للإنسان كمال الحرية مع تقديم النعمة الإلهية لمساندته وإرشاده، فلا يشرق شمسه على المؤمنين ويحجبها عن غير المؤمنين، ولا يمطر على الصالحين، ويمنع المطر عن الطالحين. إنه يحب الجميع، ويعطى كل إنسان كمال الحرية ليختار طريقه ومنهجه وسلوكه. هكذا عمل الكنيسة أن تسند كل إنسان ما استطاعت لتكون له الشخصية الناضجة السوية. فيمارس حياته الروحية والاجتماعية والعلمية، ويكون ناجحاً فى كل شئ!

ليس من حق الكنيسة أو أب الاعتراف أن يُحرك الإنسان كما لو كان آلة، بل يحترم إنسانيته ولو كان طفلاً صغيراً. إنه يحترم حرية الإنسان، ويُقدر تفكيره ويسنده ويُعينه فى الحدود اللائقة التى فيها لا يجحد الإنسان ما وهبه الله من عقل وتفكير ومواهب. ليس من حق إنسان مان مهما كان مركزه اجتماعياً أو كنسياً أن يُلزم آخر أن يضم إلى حزب سياسى مُعين أو ينسحب منه.

ج. يليق بالقادة الكنسيين أن يُشجعوا دون إلزام من جانبهم على تفاعل المسيحى مع المجتمع الذى يعيش فيه، بطريقة إيجابية. على الكنيسة إدراك دور الله القدوس فى حياة البشرية. كلما تقدّست الكنيسة وصارت فى مخافة الله بروح الحُب مع التواضع، فإنها تتفاعل بحق مع البشرية، وتصير سر بركة وسنداً حقيقياً للشخص كما للأسرة والمجتمع بل وللعالم.

د. دور الكنيسة هو الصلاة من كل القلب من أجل الدولة والقادة فى جوانب أعمالها، وسلام العالم كله، وتشجيع أولادها على ذلك، لكى يعمل الله ويوجه القادة بما فيه بنيان للجميع.

23 - ما هو موقف الكنيسة والمؤمن من الفساد؟

يدعونا السيد المسيح إلى محبة الأعداء وعدم الإدانة، فيهتم المؤمن بتقديس أعماقه الداخلية بالالتصاق بالقدوس لا بإدانة الغير. هذه المحبة تتفاعل مع الحق، فعندما تعدى عبد رئيس الكهنة على السيد المسيح، اعترض السيد المسيح الذى سيُصلب عن هذه العبد، قائلاً: "إن كنتُ قد تكلمت ردياً، فاشهد على الردى، وإن حسناً، فلماذا تضربنى؟" (يو18: 23) فلا يليق بالمؤمن المداهنة على حساب القداسة. إن كانت الكنيسة لا تُقحم نفسها فى السياسة، غير إنها تسند شبابها للتمتع بشخصية سوية، لا تقبل الفساد، فمن حق الشباب أن يشترك فى الاحتجاج على الفساد، بأسلوب روحى ومملوء حباً بحزم وشجاعة، دون أن تمتد يده إلى العنف والتخريب! أيضاً من حق الكنيسة كما المؤمنين ألا ينعزلوا بسبب ما يُعانوه من ظلم، بل بروح الحوار السليم يطالبون المسئولين برفع الظلم عنهم، دون الدخول بروح العداوة أو العنف.

مصدر الحياة المقدسة هو الله القدوس، يهبها لمن بإيمان وإخلاص يطلب أن يعمل فيه وفى أسرته وجيرانه وكل البشرية، مُجاهداً بالصلاة والأصوام وبالحب مع القدوة الصالحة. لذلك قيل عن خدام بيت الرب "جبابرة بأس لعمل خدمة بيت الله" (1أى 9: 13). وحين أقيم فينحاس الكاهن رئيساً على جميع حرس بيت الرب، أبرز الكتاب المقدس سلاحه العجيب "والرب معه" (1أى9: 20). معركتنا هى الخلاص من الفساد بتمتعنا بالتوبة الدائمة، والنمو المستمر فى الالتصاق بالقدوس، فنسترد صورة الله المفقودة، ونجتذب نفوس كثيرة لتقبل الله القدوس يملك فيها.

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [ليس بالأمر العظيم أن ندعوك أن تبنى مدينة، فلتبن نفسك التى هُدمت أيها التائب، وهذا أمر عظيم. هذه (النفس) هى أعظم من العالم بكل اتساعه، فهى ليست أرفع من مكان واحد بل من جميع الأماكن... أن تبنى أسوار مدينة، لا يستحق هذا مديحاً، أما أن تقوم النفس التى سقطت، فشرف عظيم[66]].

24 - ما هى فضيلة إكرام الوالدين؟

تركت الحديث عن فضيلة إكرام الوالدين والطاعة لهما حتى النهاية، إذ أعطاها الكتاب المقدس اهتماماً خاصاً، إذ يقول الرسول: "أكرم أباك وأمك التى هى أول وصية بوعد" (أف6: 2).

هذه الوصية ينقشها الناموس الطبيعى فى القلب، إذ يشعر الأولاد بالتزام طبيعى بالطاعة للوالدين خلال قرابة اللحم والدم القوية وشعور الأولاد ما يحتمله الولدان من أتعاب وأسهار من أجل أولادهما. لا يوجد من يحب للإنسان الخير والتقدم والنجاح أكثر منهما. وهب الله الأم أن تتعب بسرور وبهجة من أجل أبنائها. يُقدم الله حبها لأولادها كتشبيه لرعايته الساهرة لنا "هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك" (إش49: 15). وقد جاء الناموس الموسوى يعلن هذه الوصية ويُشدد عليها (خر20: 12؛ تث5: 16؛ 27: 16). وإذ فشل الإنسان فى إتمام هذه الوصية الطبيعية، أعطاها الرب أولوية حتى عند تقديس سبوته، إذ قيل: "تهابون كل إنسان أمه وأباه وتحفظون سبوتى، أنا الرب إلهكم" (لا19: 2)، كما قدّم تهديدات قاسية ضد كاسرها:

"من ضرب أباه أو أمه يُقتل... ومن شتم أباه وأمه يُقتل قتلاً" (خر21: 15، 17؛ لا20: 9).

"ملعون من يستخف بأبيه أو أمه، ويقول جميع الشعب آمين" (تث27: 16).

"من سبّ أباه أو أمه ينطفئ سراجه فى حدة الظلام" (ام20: 20).

"العين المستهزئة بأبيها والمحتقرة طاعة أمها تقورها غربان الوادى وتأكلها فراخ النسر" (أم17: 30).

أخيراً لم يترك الله الإنسان تحت هذه العقوبات المُرة، فجاء الابن الوحيد الجنس نفسه نائباً عن البشرية يُعلن كمال الطاعة لأبيه حتى الموت موت الصليب (فى2: 8)، بل وخضع للقديسة مريم أمه حسب الجسد وليوسف البار الذى تبناه (لو2: 51)، فصار مثلاً حياً لنا.

يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [فضيلة المسيحيين الأولى هى إكرام الوالدين ومكافأتهم عن متاعب من أنجبوهم، مقُدمين لهم كل راحة قدر ما يستطيعون... فيستريحون بالراحة التى نُقدمها لهم، وعندئذ يثبتون لنا البركات التى نالها يعقوب بمكر عوض أخيه، ويتقبل أبونا السماوى هدفنا الصالح، ويحكم علينا باستحقاق أن "يضئ الأبرار كالشمس فى ملكوت أبيهم" (مت13: 43)، الذى له المجد مع الابن الوحيد مخلصنا يسوع المسيح ومع الروح القدس المحيى الآن وإلى الأبد وإلى أبد الأبد[67]].

ويقول العلامة أوريجينوس: [لنتعلم يا أحبائى الخضوع لوالدينا... خضع يسوع وصار قدوة لكل الأبناء فى الخضوع لوالديهم أو لأولياء أمورهم إن كانوا أيتاماً... إن كان يسوع ابن الله قد خضع لمريم ويوسف، أفلا أخضع أنا للأسقف الذى عينه لى الله أباً؟!... إلا أخضع للكاهن المختار بإرادة الله؟! [68]] ويقول القديس أغسطينوس: [كان العالم خاضعاً للمسيح، وكان المسيح خاضعاً لوالديه[69]].

فى رسالة كتبها القديس جيروم إلى أم وابنتها قام بينهما نزاع جاء: [كان الرب يسوع خاضعاً لوالديه، لقد احترم تلك الام التى كان بنفسه أباً لها. لقد كرم أباه حسب التبنى هذا الذى كان المسيح نفسه يعولها! حقاً، إننى لا أقوم للأم شيئاً، لأنه ربما يكون فى كبر سنها أو ضعفها أو وحدتها ما يعطيها عذراً كافياً لكننى أقول لك أيتها الابنة: هل منزل أمك أصغر من أن يحتملك، هذه التى لم تكن بطنها صغيرة عن حملك؟! [70]].

وضع الرب إكرام الوالدين فى مقدمة الوصايا الخاصة بعلاقتنا بالآخرين، فيأمرنا بإكرامنا لهما قبل أن يوصينا "لا تقتل" أو "لا تزن" الخ... هى الوصية الوحيدة والمقترنة بمكافأة أو وعد (أف6: 2). وأعطى للأبناء حق التفاهم مع الوالدين، والطاعة فى الرب (أف6: 1)، وليس الطاعة المطلقة إذ أساء بعض اليهود فهمها.


[48] Cf Knight's master book of 4000 illustration, 2000, p, 441.

[49] - للرجوع إلى كتابات القديس باسيليوس الكبير راجع للكاتب: القديس باسيليوس، مجلد 2 باب4: 6.

[50] - للكاتب: الطاعة للسلطات ورفض الفساد!، 2011.

[51] Ambrose: Expos. Evang. Lucom, 29: 11 - 31.

[52] Ibid.

[53] - للكاتب: الطاعة للسلطات ورفض الفساد!، 2011.

[54] City of God 14: 3: 4. 3 and 7.

[55] Homilies on 2Cor, homily 3: 15.

[56] Sermons, 8: 62: n. 13.

[57] St. Ambrose: Comm.. On Luke 73: 4.

[58] St. Augustine: Letter 96. St. Ambrose: Ambros: Ep. To Valentinian 21: 11.

[59] The Hexameron, 15: 5: 52.

[60] Paradise, 18: 3.

[61] Homilies on Rom. , 1: 23.

[62] Commentary on Romans.

[63] The Morals 1: 79.

[64] Commentary on Romans.

[65] Homilies on Romans, homily 23.

[66] - راجع ميمر بدير القديس مقاريوس على التوبة.

[67] - مقال 7: 16.

[68] - راجع للمؤلف: إنجيل لوقا (تفسير 2: 49).

[69] Ser. On N. T. lessons 1.

[70] - للمؤلف: الحب العائلى، 1970، ص64، 63.

[71] - القديس أغسطينوس العفة، ترجمة الكاتب، 2010.

No items found

(4) فضيلة العفلة والطهاة

(2) فضيلة التمييز والاستنارة

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات