لك القوة – لك القوة والمجد – تسبحة البصخة – البابا شنودة الثالث

لك القوة Qwk te ; jom

أول ما نسبح به السيد المسيح فى هذا الأسبوع، هو أن له القوة. نعم يا رب إن لك القوة. أنت الذى قال عنك بولس الرسول انك قوة الله ((1 كو 1: 24)).

هؤلاء يظنونك ضعيفاً على الصليب. أما نحن فنعلم من أنت. أول شئ نعلمه عن قوتك، هو أنه لك القوة كخالق ((كل شئ به كان، وبغيره لم يكن شئ مما كان)) (يو 1: 3). ولك القوة كديان يأتى على سحاب السماء ويدين الأحياء والأموات.

نعم إن هذا المصلوب الذى يبدو ضعيفاً أمامهم، لو أنهم تأملوه فى كل الأيام التى قضاها بينهم على الأرض، لرأوه قوياً فى كل شئ.

كان قويا فى معجزاته، وفى قداسته

أنت يا رب القوى الوحيد الذى انتصر على الخطية والعالم والشيطان. كل البشر كانوا ضعفاء أمام الخطية إذ ((طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها اقوياء)) (أم 7: 26)، ولذلك قال الكتاب ((الكل زاغوا معاً، فسدوا ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد)) (مز 14: 3). أما أنت يا رب، فأنت الوحيد الذى تحدى العالم قائلاً ((من يبكتنى على خطية)) (يو 8: 46). أنت القوى الوحيد الذى استطعت أن تنتصر على الشيطان وتقول ((رئيس هذا العالم يأتى، وليس له فىّ شئ)) (يو 14: 3). ولذلك رتلوا لك فى سفر الرؤيا قائلين ((لأنك أنت وحدك قدوس)) (رؤ 15: 4). أنت الوحيد القوى فى قداسته، الذى هو ((قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة، وصار أعلى من السموات)) (عب 7: 26).

وقد برهنت يا رب فى معجزاتك على قوة عجيبة، حتى ((عملت أعمالاً لم يعملها أحد غيرك)) (يو 15: 24).

أظهرت قوتك على الطبيعة، فأنتهرت الرياح والبحر والأمواج، ومشيت فوق أمواج البحر، أنت الذى غنّى لك داود قائلاً ((أنت متسلط على كبرياء البحر عند ارتفاع لججه، أنت تسكتها)) (مز 89: 9). لك القوة والمجد...

وأظهرت قوتك على المرض والموت: فكنت تشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب، وبخاصة الأمراض التى استعصت على الكل مثل شفاء العميان، وتطهير البرص، وإبراء المرأة النازفة، والمقعد الذى استمر 38 سنة فى مرضه والمفلوج الذى أنزلوه من السقف، وصاحب اليد اليابسة.

وأنت الذى أقمت الموتى، حتى الذى بقى له أربعة أيام فى القبر وقيل انه قد أنتن (يو11)...

وأظهرت قوتك على الخلق: كما حدث فى معجزة إطعام الآلاف من خمس خبزات وسمكتين، وفى معجزة تحويل الماء إلى خمر إذ خلقت مادة جديدة غير عنصرى الماء. وكما حدث ذلك أيضاً فى خلق عينين للمولود أعمى.

وأظهرت قوتك على الشياطين، فكانت الشياطين تخرج من. كثيرين وهى صارخة. تقول أنت هو المسيح ابن الله... وكنت تنتهر الشيطان فيذهب ولا يستطيع أن يرد.

لا نستطيع أن نحصى معجزاتك، ونكتفى من جهتها بقول يوحنا الحبيب عنها (( وأشياء كثيرة صنعها يسوع. إن كُتبت واحدة فواحدة فلست أظن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة)) (يو 21: 25).

هذه مظاهر كثيرة لقوة الرب فى معجزاته. ولكن هناك قوة أخرى عجيبة أظهرها فى آلامه وصلبه تعطينا فكرة عن مفهوم جديد وضعه الرب لمعنى القوة.

فما هو ذلك المفهوم الجديد لمعنى القوة؟

أعطانا الرب مفهوماً جديداً لمعنى القوة

إن العالم يفهم القوة بطريقة غير التى قدمها لنا السيد المسيح. العالم يرى القوة الخارجية. قوة العنف، قوة الإنسان الذى يستطيع أن يضرب، وأن يحمى نفسه من الضرب، قوة الإنسان الذى يستطيع أن يخضع غيره له.

أما السيد الرب، فأعطانا مثلاً للقوة التى تحب، وتستطيع أن تبذل، وتستطيع أن تحتمل، وأن تعطى ولو على حساب ذاتها.

ونحن عندما نفكر فى القوة، إنما نفكر فيها على المستوى الروحى، وليس على المستوى الجسدى وبهذه النظرة ننظر إلى المسيح فى آلامه.

إن العالم المادى المسكين يظن أن المسيح كان ضعيفاً عندما ضُرب ولُطم واستهزأوا به وعلقوه على الصليب. وحقا كان يمكن أن يقال ذلك، لو أن المسيح احتمل كل تلك الإهانات عن عجز... ولكنه بالعكس من ذلك كان أقوى من ضاربيه ومهينيه وصالبيه.

كانت له القوة أن يبيدهم جميعاً، ولكنه لم يفعل لأنه كان يحبهم، ومحبته كانت أقوى من الموت. كان يمكنه أن يميت كل هؤلاء، ولكنه لم يفعل، لأنه كان قد جاء ليخلصهم من الموت، ويعطيهم الحياة بموته.

لذلك نحن نمجد المسيح فى هذا الإحتمال، شاعرين أن الذى يحتمل هو الأقوى. وهكذا يقول الرسول ((فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعفات الضعفاء ولا نرضى أنفسنا)) (رو 15: 1).

هناك أشخاص ضعفاء لا يستطيعون أن يحتملوا. أقل كلمة تهزهم، وأقل إهانة تثيرهم، فينهارون بسرعة وينتقمون، وفى انتقامهم، أو ردهم للإهانة بمثلها، نشعر بضعفهم وعدم قدرتهم على الإحتمال.

أما المسيح فكان قوياً فى احتماله، وقوة إحتماله تدل على قوة حبه. فالشخص الذى يحب هو الذى يقدر أن يحتمل. وما عدم احتمالنا نحن، إلا دليل على نقص محبتنا.

ولقد جاء المسيح خصيصاً ليحمل خطايانا ((كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه. والرب وُضع عليه إثم جميعنا)) (أش 53: 6). وحمل الرب كل هذه الخطايا عنا، ليدفع ثمنها بنفسه. من أجل كل فرد فينا، إحتمل الرب الإهانات والتعيير والضرب واللطم والبصق، فرحاً فى عمق محبته مغنياً فى أذن كل واحد منا بقوله ((من أجلك احتملت العار، غطى الخزى وجهى)) (مز 69: 7). ونحن نسمع ذلك ونجيبه فى انسحاق ((من أجلى احتملت ظلم الأشرار. بذلت ظهرك للسياط، وخديك أهملتهما للطم. لم ترد وجهك عن خزى البصاق...)).

إن قوة المسيح فى آلامه وصلبه تظهر فى أنه كان يستطيع أن يبيد كل هؤلاء المعتدين ولكنه لم يفعل، من فرط حبه لنا... هو أخذ عقوبتنا، وأعطانا سلامه. أخذ خزينا وأعطانا مجده.

ولكى نفهم قوة المسيح على حقيقتها، علينا أن نسأل: ماذا كان سيحدث لو أن المسيح رفض الإهانة والصلب؟! لو أنه أمر أن تنفتح الأرض وتبتلع كل هؤلاء القائمين، أو تنزل نار من السماء وتحرقهم؟! كان يمكنه ذلك، ولكن يكون الثمن هو هلاكنا نحن، لأن الفادى رفض أن يموت عنا. لذلك قال الرب: أموت أنا، ولا تموتون أنتم. وأهان أنا، وتتمجدون أنتم. إننى إنما جئت فى الجسد خصيصاً لأجلكم، لكى أبذل ذاتى عنكم، وأحتمل الإهانات عنكم، فى حب لكم وللمهيئين.

ولذلك فإنه لم يحتمل فقط ظلم الأشرار، وإنما أكثر من هذا أحبهم، وغفر لهم، وصلى من أجلهم مدافعاً عنهم ومتشفعاً فيهم بقوله ((يا أبتاه إغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون)).

هذه هى القوة الحقيقية، قوة القلب المملوء بالمحبة، والذى يستطيع أن يحتمل المسئ ويحبه ويصلى من أجله، ويفديه بحياته.

مَن مِن الناس يستطيع هذا، مهما بلغ من قوة الجسد، أو من رفعة فى المنصب؟! أى مدير عمل يستطيع أن يحتمل لطمة من فراش، ويحبه ويغفر له، ويدافع عنه، ويرقيه... والقياس مع الفارق بالنسبة إلى هذا الذى حدث بين خالق ومخلوق...

إن بطرس الرسول لم يفهم القوة بمعناها الروحى المسيحى، عندما استل سيفه دفاعاً عن معلمه وقت القبض عليه، وقطع أُذن العبد. لذلك أمره الرب أن يرد سيفه إلى غمده. حسن أن تكون لك غيرة مقدسة، ولكن العنف ليس هو طريقنا. فنحن لنا أسلوب آخر هو الحب. وهكذا لمس الرب أُذن العبد فشفاها وسلم نفسه للخطاة الذين جاء ليفديهم أيضاً...

كذلك فإن يوحنا ويعقوب الرسولين لم يفهما معنى القوة، عندما قالا له ((أتشاء يارب أن تنزل نار من السماء وتحرق هذه المدينة)) دفاعاً عنه إذ رفضته تلك المدينة. ولكن الرب أجابهم: لستما تعلمان من أى روح أنتما. فإن ابن الإنسان لم يأت ليهلك العالم بل ليخلص العالم (لو 9: 54 - 56). إن هذا ليس هو أسلوبى، لقد جئت لأخلص ما قد هلك. بنفس هذا الأسلوب تقدم الرب بإرادته نحو الصليب ليبذل نفسه فدية عن كثيرين.

لذلك نحن يا أخوتى عندما نقف إلى جوار الصليب، لا نقف لكى نبكى على المسيح مثلما فعلت المجدلية ومثلما بكت بنات أورشليم... ولسنا نقف إلى جوار الصليب، لكى نرثى المسيح ونؤنبه، إنما نحن نقف إلى جوار الصليب، لكى نمجده ونمجد المصلوب عليه، ولكى نقول له تلك التسبحة الجميلة:

لك القوة... ⲧ Qwk te ; jom ⲧⲉ.

لذلك فنحن نفتخر بالصليب، ونقول مع بولس الرسول ((وأما من جهتى فحاشا لى أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذى به قد صُلب العالم لى وأنا للعالم)) (غل 6: 14).

((إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهى قوة الله)) (1 كو 1: 18).

لو كان الصليب علامة ضعف، ما افتخرنا به، وما كنا نتخذه شعاراً لنا...

لو كان الصليب علامة ضعف، ما كنا نعلقه فوق كنائسنا وفوق مناراتنا، وما كنا نضعه على صدورنا، ونرشمه على أيدينا، ونرسمه فى كتاباتنا... بل إن الصليب عندنا هو رمز للقوة. فيه تظهر قوة المحبة، وقوة البذل، وقوة إنكار الذات، وقوة الإحتمال. هذه هى القوة فى حقيقتها...

كثيرون كانوا يقولون للسيد المسيح: لو كنت ابن الله، إنزل من على الصليب، فنؤمن بك... ولو استسلم لإثارتهم ونزل من على الصليب، لهلكنا نحن، وضاعت البشرية وضاع الخلاص... ولكنه كان أقوى من إثارتهم، فبقى على الصليب ولم ينزل...

إن المسيح لم تغلبه إثارات هذا المجد الباطل، أعُنى قولهم: لو نزلت من على الصليب تكون حقاً إبن الله، وتثبت قوتك، وتذهل الناس بالمعجزة...؟!! إنه لم يغلب من الملق الباطل، ولم يغلبه هذا المفهوم الخاطئ لمعنى القوة... كان يقدر أن ينزل من على الصليب، ولكنه لم يفعل، لكى نخلص نحن.

إن السيد المسيح لم يفكر فى ذاته، إنما كان تفكيره فينا نحن. لم يهتم بتخليص نفسه من الموت، إنما فكر فى تخليصنا نحن بأن يفدينا بذاته. لم يستسلم للصليب عن ضعف، وإنما عن حب.

لم يفكر فى ذاته ((فالمحبة لا تطلب ما لنفسها)) (1 كو 13: 5). لو كان يفكر فى ذاته وكيف تتمجد بأسلوب العالم، ما أخلى ذاته وأخذ شكل العبد. إنه لم يفكر فى ذاته، لأنه جاء ليبذل ذاته عنا. وعندئذ يعرف الناس قوة ذاته فى قوة محبته وقوة بذله ((ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع نفسه لأجل أحبائه)) (يو 15: 13). وبذلك أعطانا المسيح على الصليب مثالاً للقوة فى الإنتصار على الذات. من أجل هذا رأينا شيئاً عجيباً جداً، وهو أن السيد الرب قابل كل تعدياتهم باستسلام عجيب ((كشاه تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه)) (أش 53: 7).

كان يعلم بكل الإجراءات التى تعمل ضده، ومع ذلك لم يقاوم الشر... بل قال ليهوذا الإسخريوطى فى هدوء ((ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة)) (يو 13: 27). ولسنا نجد تبريراً لكل هذا، سوى أن الرب كان يريد أن يموت عنا. كانت له القوة أن يحطم الصليب والصالبين. ولكنه رضى بالصليب فى قوة أعظم، هى قوة الحب والبذل.

هذه القوة التى كانت له طول رحلة الصليب هى التى سنشرحها الآن بالتفصيل نقطة نقطة متأملين قوته...

كان قوياً فى قبوله للموت

كان المسيح قوياً فى تقدمه نحو الموت. لم يهجم عليه الناس خفية، ويأخذوه عنوة، إنما كان يعلم أنهم سيقبضون عليه. وكان يعرف الموعد الذى يقبضون عليه فيه. ولذلك قال قبلها لتلاميذه: ((تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح، وابن الإنسان يسلم ليصلب)) (مت 26: 2). بل لا نُخطئ إذا قلنا إنه كان يعلم الساعة وذات اللحظة بالضبط. وكان يعرف المكان الذى سيأتون إليه فيه. ومع ذلك ذهب بنفسه إلى المكان الذى سيُقبض عليه فيه وهو يعلم، وذهب فى نفس الوقت المحدد. لذلك عندما حَل الوقت الذى يعرفه، أيقظ تلاميذه النائمين فى بستان جثسيمانى قائلاً لهم ((هوذا الساعة قد اقتربت... هوذا الذى يسلمنى قد اقترب)) (مت 26: 46، 45). ولما اقترب عدوه لم يبتعد هو، بل قام مع تلاميذه وتقدم لملاقاة العدو...

فعل ذلك كله لأنه كان يريد أن يسلم ذاته عنا. من أجل ذلك قال:

((... أضع نفسى لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى، بل أضعها أنا من ذاتى. لى سلطان أن أضعها، ولى سلطان أن آخذها أيضاً)) (يو 10: 18، 17).

إن السيد المسيح يقول إن عدوى قد اقترب، ويتقدم فى قوة وشجاعة لملاقاة العدو. ونحن نسير إلى جوار الرب، قائلين له ((لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين)).

كان الرب يستطيع أن يبعد الموت عنه، ولكنه قِبل ذلك فى رضى، وتقدم نحو الموت فى قوة وشجاعة، لأنه من أجل ذلك جاء ((جاء ليبذل نفسه فدية عن كثيرين)) (مر 10: 45).

كان قويا أثناء القبض عليه

كان المسيح قوياً عندما قُبض عليه. إن الجنود الذين خرجوا عليه بالسيوف والعصى كانوا خائفين منه. وهذا الأمر يشرحه معلمنا يوحنا الإنجيلى الحبيب الذى تبع المسيح حتى الصليب، فيقول: ((خرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتى عليه. وقال لهم من تطلبون. أجابوه يسوع الناصرى. فأجابهم قائلاً إنى أنا هو. فلما قال إنى أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض)) (يو 18: 6، 5).

وقعوا على الأرض من هيبته ومن قوته ومن عدم استطاعتهم أن يواجهوه. كانت قوته العزلاء أقوى من هجومهم المسلح. ولو أراد أن يذهب وقتذاك لأمكنه ذلك. ولكنه بقى فى مكانه فى شجاعة ورصانة. وانتظر عليهم حتى قاموا من سقطتهم، وقال لهم للمرة الثانية من تطلبون فقالوا يسوع الناصرى. فأجابهم ((قد قلت لكم إنى أنا هو. فإن كنتم تطلبوننى فدعوا هؤلاء يذهبون)) (يو 18: 7 - 9).

وهكذا كان المسيح قوياً وقت القبض عليه. هناك أشخاص عندما يُقبض عليهم يرتعشون ويخافون. أما وقت القبض على المسيح، فقد ظهر العكس، كان القابضون عليه خائفين منه، واقعين على الأرض أمامه، لا يستطيعون أن يتقدموا إلى هيبته، حتى أذن لهم وهو يقول ((أنا هو)).

مثال آخر عن قوة المسيح وقت القبض عليه وهو شفاؤه لأُذن ملخس عبد رئيس الكهنة. وذلك ((أن بطرس الرسول تحمس وقت القبض على المسيح، واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى)) (يو 18: 10). أما ربنا الوديع فلم يكن العنف طريقته. لذلك أمر بطرس أن يضع سيفه فى غمده. ورفض أن يدافع عن نفسه، أو يدافع أحد عنه. وقال لبطرس موبخاً ((رد سيفك إلى مكانه... أتظن أنى لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبى فيقدم لى أكثر من اثنى عشر جيشاً من الملائكة؟!)) (مت 26: 53). نعم كان يستطيع، ولكنه رفض أن يفعل. لأنه بشجاعة تقدم إلى الموت، ليخلصنا نحن...

أما عن العبد الذى قُطعت أُذنه، فيقول الكتاب أن المسيح القوى الذى أتوا للقبض عليه ((لمس أذنه وأبرأها)) (لو 22: 51)، صانعاً الرحمة مع أعدائه، حتى فى أحرج الأوقات.

ونحن نقف إلى جوار المسيح المقبوض عليه وهو يشفى أذن العبد، ونقول له فى أُذنه الطاهرة ((ثوك تاتى جوم)).

كان عمله هذا إخجالاً للجنود، وليهوذا، ولرؤساء الكهنة، وشهادة عليهم جميعاً، أو دعوة لهم جميعاً أن يؤمنوا، فيما بعد... ولقد سار المسيح بينهم وهو مقبوض عليه، كما يسير الملك وسط عبيده، أو الخالق وسط مخلوقاته... كان يقدر أن يفنيهم جميعاً، لو أراد. ولكنه لم يرد ليخلصنا...

كان يستطيع أن يفعل مثل إيليا النبى مع رئيس الخمسين الذى جاء يطلب إليه النزول لمقابلة الملك. فأجاب إيليا وقال لرئيس الخمسين: ((إن كنت أنا رجل الله، فلتنزل نار من السماء وتأكلك أنت والخمسين الذين لك. فنزلت نار وأكلته هو والخمسين الذين له)) (2 مل 1: 1). كما أمر فنزلت نار للمرة الثانية وأكلت الخمسين الأخرى مع رئيسها...

أما المسيا الذى جاء ليموت عن البشر، فلم يفعل هكذا. ما كان أسهل عليه أن يفعل مثلما فعل إيليا، ولكنه لم يفعل. إن قوته فى إمساك نفسه عن إبادتهم، هى القوة التى خلصنا بها وهكذا أسلم الرب ذاته عنا، بكل شجاعة دون خوف من الموت...

وكان قوياً أثناء محاكمته:

رؤساء الكهنة كانو خائفين منه، فحاكموه ليلاً. وارتبكوا أثناء محاكمته ((وكانوا يطلبون شهادة زور عليه لكى يقتلوه، فلم يجدوا، ومع أنه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا سبباً لإدانته)) (مت 26: 60، 59). وتعجبوا من هدوئه وصمته. فقام رئيس الكهنة وقال له ((أما تجيب بشئ؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟ وأما يسوع فكان ساكتاً)) (مت 26: 63، 62) 0.

لم يكن من النوع الذى يثيره الإتهام، أو تثيره شهادات الزور... كان صمته أقوى من الكلام. فشعروا بتفاهة تلك الإتهامات وشهادات الزور. وبحثوا عن تهمة أخرى. واستحلفوه أن يخبرهم هل هو المسيح ابن الله. وكان يستطيع أن يصمت أيضاً ويربكهم. ولكنه بكل قوة أجابهم إلى طلبهم وأضاف ((وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء)).

وكما كان قوياً أمام قيافا، كان قوياً أيضاً أمام بيلاطس. هيبته مَلكت ذالك الوالى، فأعترف أكثر من مرة قائلاً ((إنى لا أجد فيه علة)) (لو 23: 21، 14، 4). لم يقنعه بالكلام، بل بصمته، بالقوة التى تشع من شخصه. فاحتال ذلك الوالى بأكثر من حيلة لكيما يطلقه على قدر ما استطاع جبنه أن يفعل. وأخيراً غسل يديه متبرئاً من دمه...

أننا نقف إلى جوار المسيح ونقول له فى محاكمته:

ثوك تيتى جوم... لك القوة...

كان قوياً أثناء صلبه، وأثناء موته

وهو على الصليب، إظلمت الشمس ((وإذا حجاب الهيكل قد إنشق إلى إثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين)) (مت 27: 52، 51).

وكان لهذه الزلزلة تأثيرها على قائد المائة وجنده، الحارسين للصليب ((فخافوا جداً وقالوا حقاً كان هذا هو ابن الله)) (مت 27: 54).

وصار قائد المائة هذا قديساً عظيماً، واستشهد على إسم المسيح، ويدعى القديس لونجينوس، وتعيد له الكنيسة يومين فى السنة، فى السنكسار.

وإظلمام الشمس كان له تأثير آخر بعيداً فى مدينة أثينا ببلاد اليونان. وبسبب ذلك آمن فيما بعد ديونسيوس الأريوباغى العالم الفلكى، وعضو المجلس الأريوباغى، أى البرلمان، فآمن بكرازة بولس الذى شرح له كيف إظلمت الشمس وقت صلب المسيح. وقد صار ديونسيوس هذا أول اسقف لأثينا.

وقد كان المسيح قوياً على الصليب، عندما غفر لصالبيه وعندما وعد اللص اليمين بدخول الفردوس معه فى نفس اليوم.

وكان المسيح قوياً فى موته:

ذلك أنه عند موته ((نادى بصوت عظيم وقال يا أبتاه فى يديك أستودع روحى)) (لو 23: 46). وقد وقف القديس يوحنا ذهبى الفم متأملاً فى قوة المسيح وقت موته التى ظهرت فى عبارة ((نادى بصوت عظيم))...

كيف استطاع أن يكون له هذا الصوت العظيم وقت الموت، وقد كان فى حالة من الإعياء الجسدى لا يمكن أن يعَبر عنها؟!

لقد جاهد جهاداً عنيفاً فى بستان جثسيمانى حتى ((صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض)) (لو 22: 45). وبعد ذلك قبض عليه وسار مسافات طويلة على قدميه إذ حوكم 5 مرات أمام حنان، وأمام قيافا، وأمام بيلاطس، وأمام هيرودس، وأمام بيلاطس مرة أخرى. يضاف إلى هذا الإنهاك المرير الذى كابده عندما جُلد 39 جلدة بكل وحشية، وكم من أناس كانو يموتون من مجرد الجلد أو يصلون إلى قرب الموت. كذلك سفك منه دم من إكليل الشوك. وكابد آلاماً أخرى من كثرة اللطم. ثم تحمل آلاماً أخرى بحمله للصليب، حتى وصل إلى غاية الإعياء فوقع تحت الصليب من شدة التعب. مما دعاهم إلى أن يمسكوا سمعان القيروانى ليحمل الصليب خلفه (يو 23: 26).

بعد كل هذا تحمل آلاماً أخرى عندما سمر على الصليب وآلام الصلب لا تطاق... وزالت كل قوته الجسدية مما نزف منه دماء، حتى لصق جلده بعظمه، وانطبق عليه القول ((وأحصوا كل عظامى)) (مز 22: 17).

ولما وصل إلى لحظة الموت، لم تكن فيه أدنى قوة بعد، ولا حتى مقدرة على الهمس! فكيف إذن نادى بصوت عظيم؟

إننا نقف إلى جواره منذهلين، فى تلك اللحظة المقدسة ونقول:

لك القوة... ⲧ Qwk te ; jom.

وكان المسيح قوياً فى موته، لأنه بموته أبطل الموت. وبموته سحق رأس الحية، ونفذ الوعد الذى أُعطى للبشرية منذ أيام حواء (تك 3: 15). وهكذا فى موته ظهر كمخلص للعالم.

إن أقوى لحظات المسيح هى لحظة موته. لأن فى تلك الساعة استلم ملكه وملك على البشرية كلها، واستعاد الملك من رئيس هذا العالم. ولذلك يقول المزمور ((الرب ملك على خشبة)) (مز95)، ((الرب ملك ولبس الجلال، لبس القوة وتمنطق بها)) (مز92).

ولذلك نجد أن صلاة الساعة التاسعة التى نتذكر فيها موت الرب، هى صلاة مملوءة بمزامير التسابيح والتمجيد وعبارات السجود. وتتكرر فيها عبارة ((الرب قد ملك)).

ونحن نقف أمام الرب القوى فى موته، لنرتل قائلين:

ثوك تيتى جوم... لك القوة..

كـــان قــــوياً بـعد مــــــــوته.

أول شئ عمله الرب عندما أسلم الروح، هو أنه قبض على الشيطان وقيده ألف سنة.

ثم بعد ذلك نزل إلى الجحيم (أف 4: 9)، وبشر الراقدين هناك على الرجاء واقتاد هؤلاء جميعاً. ودخل بهم مع اللص اليمين إلى الفردوس.

بعد موت الرب أستطاع أن يفتح باب الفردوس الذى ظل مغلقاً من آلاف السنين منذ سقطة آدم وحواء.

هذا الذى ظنوه ميتاً فى القبر، وختموا على قبره بالأختامّ، إستطاع أن يفتح باب الفردوس ويدخل فيه كل الراقدين على رجاء، قائداً إياهم فى موكب نصرته.

ومن القصص الجميلة التى تروى عن الرب بعد موته، أن نيقوديموس وهو يكفنه خجل كيف يكفن الرب الخالق، فنظر إليه الرب وابتسم. فقال نيقوديموس. [قدوس الله، قدوس القوى، قدوس الحى الذى لا يموت]. ومن هذه أُخذت تسبحة الثلاثة تقديسات المعروفة.

ونحن نقف إلى جوار القبر المقدس، ونقول للرب فى موته:

لك القوة... Qwk te ; jom ⲉ.

وكان الرب قوياً فى قيامته:

كان قوياً عندما خرج من القبر المغلق، منتصراً على الموت.

أَخفىَ الرب قوته عن الشيطان.

فى الواقع، أنه من أبرز الأسباب التى تجعل البعض يظن أن السيد المسيح كان ضعيفاً، هو أن الرب كان باستمرار يخفى قوته... كان يخفيها من باب الإتضاع، وكان أيضاً يخفيها عن الشيطان لدرجة أن الشيطان. كان يقف متحيراً أمام حقيقة المسيح، يسـأل نفسه: أهو حقاً المسيح أم أنه ليس هو ((يا ترى هو ولا مش هو))...!

لم يكن من الصالح أن يعرف الشيطان حقيقة المسيح. لئلا يبذل جهده لعرقلة عمل الفداء، لأن الشيطان لا يحب خلاص العالم، وكان يتمنى أن ذلك لا يتم.

وسأحاول هنا أن أعرض عليكم بعض أمثلة لهذا الشك الذى وقع فيه الشيطان نتيجة لإخفاء الرب قوته عنه. أرجو أن تتبعوا معى هذه الأمثلة لنأخذ صورة واضحة عن هذا الأمر.

كان الشيطان يعلم أن المسيح سيولد من عذراء، فهكذا تنبأ أشعياء النبى قائلاً بوضوح ((ها العذراء تحبل وتلد إبناً وتدعو إسمه عمانوئيل)) (أش 7: 14)، وشرح صفات هذا الإبن فقال ((لأنه يولد لنا ولد، ونعطى إبناً، وتكون الرئاسة على كتفه. ويدعى إسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام)) (أش 9: 6). وسمع الشيطان تأكيد تحقيق هذه النبوة فى بشارة الملاك ليوسف النجار (مت 1: 23، 22).

كما تأكد بهذا أيضاً من بشارة الملاك للعذراء بأن القدوس المولود منها يدعى ابن الله (لو 1: 35).

وفعلاً حبلت العذراء مريم. والأكثر من هذا أن الشيطان رأى أن هذه العذراء عندما زارت أليصابات امتلأت أليصابات من الروح القدس، وأرتكض الجنين بأبتهاج فى بطنها. وقالت لمريم ((من أين لى هذا أن تأتى أم ربى إلىّ)) (لو 1: 41 - 44).

وقال الشيطان فى قلبه، لابد أن يكون هذا هو ابن الله. ولكنه ارتبك عندما رأى الإله المتجسد يولد فى مزود بقر! كيف يكون هذا؟! من غير المعقول أن يكون إبن الله ذلك الفقير المسكين الذى ليس له موضع فى البيت، المحاط بالبهائم!! لابد أنه ليس هو، إذ كيف يجئ الله إلى العالم بدون إستقبال مجيد، بدون احتفالات، بدون ملائكة تحيط به، وبدون أنوار سمائية، وبدون أن ترتج السماء والأرض لمجيئه!!

فكّر الشيطان فى هذا لأنه لا يفهم مطلقاً معنى التواضع وإخلاء الذات ولو كان يعرف ذلك ما صار شيطاناً...

ثم سمع الشيطان الملاك يبشر الرعاة قائلاً ((ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه وُلد لكم اليوم فى مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة: تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً فى مزود)) (لو 2: 10 - 12).

فقال الشيطان فى قلبه: لابد أن يكون هو. وأيّد ذلك تسبيح الملائكة ((المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة)) الأمر إذن واضح. لا يمكن أن يرجع السلام إلى الأرض إن لم يكن هذا هو المخلص الذى هو المسيح الرب، وأكّد هذا الأمر أيضاً شهادة المجوس، وانطباق النبوة على مولود بيت لحم، واضطراب هيرودس الملك لولادته وسجود المجوس لهذا الطفل المولود (مت 3: 1 - 11).

ولكن رجع الشيطان فشك فى الأمر عندما نظر إلى هذا المخلص الذى سبح له الملائكة، وسجد له المجوس واضطرب منه هيرودس، فإذا به يهرب كخائف إلى مصر. كيف يحدث هذا؟! هل من المعقول أن يهرب الله أمام إنسان؟! أين قوته وملكوته وهيبته. لابد أنه ليس هو...

ثم ينظر الشيطان فيجد أن هذا الطفل عندما دخل إلى مصر، سقطت الكثير من أصنامها وتحطمت. فعرف أن هذا هو تحقيق لنبوءة أشعياء النبى القائلة ((هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها)) (أش 19: 1). وقال الشيطان فى قلبه إنه هو بلا شك، هو المخلص إبن الله.

ولكنه رجع فشك، عندما رأى الطفل لم يرجع إلا بعد موت الذين كانوا يطلبون نفسه، كما رأى أن يوسف النجار خاف على الطفل من أرخيلاوس الذى ملك على اليهودية فسكن معه فى الناصرة (مت 3: 20 - 22). فى الناصرة التى يتعجب الناس أن يكون منها شئ صالح!! (يو 1: 46). فقال الشيطان: كلا، إنه ليس هو...

وبقى الشيطان فى شكه حتى رأى هذا الطفل فى الثانية عشرة من عمره جالساً وسط شيوخ المعلمين وهم مبهوتون من علمه. وسمعه وهو يجيب أمه مريم قائلاً لها وليوسف ((ألم تعلما أنه ينبغى أن أكون فى ما لأبى)) (لو 2: 45 - 49). فقال الشيطان فى نفسه: لابد أن يكون هو. من أين له هذه الحكمة، وما معنى أكون فى ما لأبى؟!

ثم رجع الشيطان فشك عندما رأى الصبى الذى أذهل المعلمين والذى قال ((ينبغى أن أكون فى ما لأبى)). وإذ به يعيش خاضعاً لمريم ويوسف (لو 2: 51). كيف يخضع لهما، وهو الذى ينبغى أن تُخضع له السماء والأرض. لابد أنه ليس هو. وزاد هذا الشك عنده أنه وجده بعد ذلك يعيش 18 سنة ((حتى الثلاثين من عمره)) نكرة غير مشهور، يعمل كنجار بسيط. وهذه زهرة العمر. فكيف يكون هو الله ويحتمل أن يعيش هكذا طوال هذه السنين الذهبية من العمر. لابد أنه ليس هو.

ثم عاد الشيطان فسمع يوحنا المعمدان يشهد للمسيح قائلاً ((فى وسطكم قائم الذى لستم تعرفُونه. هو الذى يأتى بعدى، الذى صار قدامى، الذى لست بمستحق أن أحل سيور حذائه))، وأشار إلى المسيح قائلاً ((هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم)) (يو 1: 26 - 29)، ((لست أهلاً أن أنحنى وأحل سيور حذائه. أنا عمدتكم بالماء، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس)) (مر 1: 8، 7). فقال الشيطان. لابد أنه هو...

ثم عاد الشيطان فأنذهل إنذهالاً لا مثيل له، عندما نظر إلى هذا العظيم الذى لا يستحق المعمدان أن ينحنى ويحل سيور حذائه، هذا المخلص الذى يرفع خطية العالم كله ويعمد الناس بالروح القدس، وإذ به آتياً ليعتمد من يوحنا مثل باقى الناس، كان ينتظر أن يوحنا هو الذى يعتمد منه. أن يسلمه الأمانة حالما يأتى، فيتولى عمله مباشرة، ويعمد يوحنا الذى يعمد الناس. فهكذا تكون الكرامة. ولكنه على العكس سمعه يقول ليوحنا ((إسمح الآن)). وسمح يوحنا وعمّد المسيح. فأنذهل الشيطان الذى لا يفهم الإتضاع، وقال فى قلبه. كلا. إنه ليس هو...

ولكن حدث فى العماد شئ عجيب أثبت أنه هو. ذلك أن السماء انشقت والروح نزل مثل حمامة على المسيح. وكان صوت من السماء ((أنت إبنى الحبيب الذى به سررت)) (مر 1: 10 - 11) فقال الشيطان: بلا شك أنه هو. هوذا شهادة من الآب واضحة...

ثم عاد الشيطان فشك فى الأمر. إذ تأمل هذا الذى شهد له الآب والروح القدس وقت العماد، فوجده ملقى على الجبل، صائماً وقد جاع أخيراً. إذ كيف يجوع وهو القادر أن يحول الحجارة إلى خبز ويأكل. وتأكد له أنه ليس هو، إذ استطاع هذا الشيطان أن يأخذه ويوقفه على جناح الهيكل، وأن يأخذه إلى جبل عال (مت 4: 8، 5). ووصل تأكد الشيطان من أنه ليس إبن الله على الإطلاق، إلى حد أنه تجرأ عليه ((وقال له أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لى)) (مت 4: 9).

ولكن الشيطان عاد فخاف وشعر بقوة هذا الجائع الصائم، عندما انتهره قائلاً ((إذهب يا شيطان، فتركه)) وإذا ملائكة جاءت فصارت تخدمه (مت 4: 11)...

وزاد خوف الشيطان. ورجع يقول إنه هو عندما رآه يعمل معجزات لم يعملها أحد من قبل. ولكنه وجده يخفى بعض هذه المعجزات وراء صلاة او ما يشبه الصلاة، والبعض من المعجزات الخارقة يعملها فى يوم السبت فيشتمه الكتبة والفريسيون كناقض للسبت، ثم رآه يعيش بلا لقب، وبلا وظيفة، وبلا مسكن، يحيط به ضعفاء الناس. فقال فى نفسه: كلا، إنه ليس هو...

ثم سمعه الشيطان يقول لنيقوديموس ((ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذى نزل من السماء إبن الإنسان الذى هو فى السماء)) (يو 3: 13). فقال: ألعله هو؟! كيف يكون فى السماء، وهو قائم على الأرض مع نيقوديموس. ألعله إذن موجود فى كل مكان؟! إذن هو الله. أليست عبارة ((نزل من السماء تؤكد هذا))؟! ثم سمعه يقول ((هكذا أحب الله العالم حتى بذل إبنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية))...

فقال الشيطان لابد أنه هو: الإبن الوحيد، الذى فى السماء، الذى نزل من السماء، الذى من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية، ولكنه عاد فشك بسبب عبارة ((إبن الإنسان)) التى يستخدمها المسيح كثيراً. لماذا يقول فى نفس الوقت ((ينبغى أن يرفع إبن الإنسان، لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية)) (يو 3: 14 - 17).

ولكن أمام المعجزات الكثيرة الدالة على لاهوته، وأمام قوته الجبارة على إخراج الشياطين، يضطر هؤلاء أن يعترفوا له صارخين ((أنت هو المسيح ابن الله)) (لو 4: 41). فكان ينتهرهم...

ثم يعود الشيطان فيشك، عندما يجد الرب متعباً من السير، أو جالساً عند البئر، أو قائلاً للمرأة أعطينى لأشرب!!...

ينتهر المسيح البحر والموج، فيقول الشيطان إنه هو. ولكنه يشك إذ يراه نائماً فى السفينة فيقول فى نفسه كيف ينام وهو الذى يقول عنه المزمور ((انه لا ينعس ولا ينام))!!

وكما يرتبك الشيطان فى من يكون يسوع الناصرى هذا، يرى باقى الناس مرتبكين: ((فيقول عنه البعض انه يوحنا المعمدان، وآخرون انه أرميا، وآخرون انه واحد من الأنبياء)) (مت 16: 14). يسأل المسيح تلاميذه: وأنتم من تقولون إنى أنا، فيجيب سمعان بطرس ((أنت هو المسيح ابن الله الحى)). ويقبل المسيح هذه الشهادة ويطوّب سمعان عليها، ويقول له ((إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبى الذى فى السموات)) (مت 16: 17). ويرى الشيطان أن هذا إعتراف صريح وواضح لا يقبل التأويل. فيقول فى نفسه لابد أنه هو حقاً بلا شك...

ولكنه يسمع الرب بعد ذلك مباشرة يظهر لتلاميذه أنه ينبغى أن يذهب إلى أورشليم، ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويقتل وفى اليوم الثالث يقوم. فيتعجب كيف يكون هو إبن الله ويتألم ويقتل. ألعل هذه هى الوسيلة التى يخلص بها الناس. إذن لابد من منعه عنها. وهكذا يضع على فم بطرس كلمة فيقول لمعلمه ((حاشاك يا رب. لا يكون لك هذا)). ويعرف الرب أنها كلمة من الشيطان فيلتفت ويقول لبطرس ((إذهب عنى يا شيطان. أنت معثرة لى، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس..)) (مت 16: 21 - 23).

ثم يذهب المسيح إلى أورشليم، ويُستقبل كملك عظيم، على اعتبار أنه المسيا المنتظر. ويسبحه الأطفال تحقيقاً لنبوة المزمور ((من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سبحاً)) (مز 8: 2). ويقوم الرب فى هيبة عظيمة ويطهر الهيكل بسلطان فيقول الشيطان: ألعله هو، ولكنه يجده قد انسحب إلى بيت عنيا، فيشك...

ثم يأخذ الرب فى عنف فى تحطيم دولة الشيطان. فيكشف للناس فى صراحة تامة رياء الكتبة والفريسين قائلاً ((ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون...)) (مت23). كما يحطم هيبة الكهنوت اللاوى بمثله عن الكرامين الأردياء (لو 20: 9 - 19). ثم يلقى فى الخزى طوائف الفريسين والهيرودوسيين والصدوقيين حتى ما يستطيعون أن يجيبوه بكلمة (مر12). وعند ذلك يتخذ الشيطان عدته لتسليم المسيح، ويحدث التشاور فى يوم الأربعاء...

ويرى الشيطان إن المسيح يغسل أرجل تلاميذه فى يوم الخميس فيتشجع قائلاً فى قلبه أنه ليس هو. إذ كيف يكون الرب ويغسل أرجل البشر؟! وهكذا إذ يأخذ يهوذا اللقمة يدخله الشيطان ويذهب للتنفيذ...

ثم يسمع الشيطان حديث المسيح الأخير مع التلاميذ، وكيف أنه سيرسل لهم الروح القدس، فيقول ألعله هو؟! من يستطيع أن يرسل روح الله إلا الله وحده!

ثم يسمع صلاته الطويلة الموجهة إلى الآب (يو17) التى يقول له فيها عن التلاميذ... ليكونوا واحداً، كما أننا نحن واحد. ((كما أنك أنت أيها الآب فىّ وانا فيك)) ((إحفظهم فى إسمك، ليكونوا واحداً كما نحن)). فيرتعب الشيطان ويقول لابد أنه هو. ويتذكر قوله من قبل ((أنا والآب واحد)) (يوم 10: 30)، وقوله أيضاً لفيلبس ((من رآنى فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت أرنا الآب ألست تؤمن أنى أنا فى الآب والآب فىّ)) (يو 14: 8 - 10). ويخاف الشيطان قائلاً لابد أنه هو...

ثم يعود وينظر إلى هذا الذى يقول ((أنا والآب واحد. من رآنى فقد رأى الآب)) فإذا به يراه يجاهد فى البستان طالباً أن تعبر عنه تلك الكأس. وقد ((صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض))) لو 22: 44). فيطمئن الشيطان ويقول: كلا، إنه ليس هو. ويأتى الجند للقبض عليه.

وينظر الشيطان فيرى أن الجند الذين أتوا بسيوف وسلاح وعصى للقبض على المسيح، قد وقعوا على الأرض من فرط هيبته وهو أعزل، فينذهل. ويراه وهو يشفى أذن العبد التى قطعها بطرس بسيفه. فيقول: لابد أن يكون هو. من غيره بهذه الجرأة، وبهذه الهيبة، وبهذه المحبة نحو أعدائه، وبهذه القدرة المعجزية... ولكنه يراه يسير معهم كشاة تساق إلى الذبح، ولا يفتح فاه. فيطمئن ويقول كلا، إنه ليس هو...

ويحاكم الرب أمام رؤساء الكهنة. ويقف الشيطان ينصت بكل اهتمام ليرى ماذا يكون الموقف. ويتردد نفس سؤال الشيطان الذى يسأله منذ التجربة على الجبل. ولكنه فى هذه المرة سؤال يصدر من رئيس الكهنة قائلاً ((هل أنت المسيح ابن الله)). ويجيبه الرب قائلاً ((أنت قلت. وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتيا على سحاب السماء...)) (مت 26: 64).

ويسمع الشيطان هذا الإعتراف الصريح من السيد المسيح، فيقول فى نفسه ألعله هو، وهو الذى قال كثيراً من قبل انه سيأتى على سحاب السماء؟! ولكنه يعود فيشك إذ يراه محتقراً ومخذولاً أمام الناس، يشتمونه ويلطمونه ويهزأون به، وهو لايفتح فاه. بذل ظهره للضاربين وخديه للناتفين، ولم يرد وجهه عن خزى البصاق... كما يراه واقعاً تحت الصليب من التعب، حتى حمله عنه سمعان القيروانى. فيقول كلا، من المستحيل أن يكون هو. إن الشيطان يفهم الكرامة والقوة بطريقة العظمة الباطلة. لذلك قال فى نفسه لا يمكن أن يكون هو. وصرخ فى أفواه العامة ((أصلبه، أصلبه))...

أما الرب فما تزال ترن كلمته ((نفسى أنا أضعها عن ذاتى... لى سلطان أن أضعها، ولى سلطان أن آخذها أيضاً))...

ويُرفع المسيح على الصليب، والشيطان ما يزال معذباً فى شكوكه. وإذ أخفى الرب عنه قوته، ما يزال يسأل سؤاله القديم ((إن كنت إبن الله، فانزل من على الصليب)) (مت 27: 40).

وأول عبارة يقولها الرب على الصليب يبدأها بقوله ((يا أبتاه)) ((يا أبتاه إغفر لهم...)) وكلمة ((أبتاه)) هذه تزعج الشيطان. فيقول فى نفسه ((ألعله هو المسيح))؟ ويسأل على فم اللص اليسار قائلاً ((إن كنت أنت المسيح، فخلص نفسك وإيانا)) (لو 23: 39).

ويقول السيد الرب للص اليمين ((الحق أقول لك إنك اليوم تكون معى فى الفردوس)) (لو 23: 42). وهذه العبارة تزلزل الشيطان فيخاف. ما هذا الذى يقوله؟! ألا يعلم أن الفردوس مغلق منذ أكثر من خمسة آلاف سنة. وعلى بابه يوجد ملائكة من طائفتى الأولى ((الكاروبيم)) بلهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة (تك 3: 24). فكيف يفتح الفردوس؟ وكيف يدخله هذا المصلوب واللص معه؟! ألعله المسيح الذى بصلبه يخلص العالم كله؟! لو حدث هذا لكانت كارثة لدولة الشياطين جميعاً ولكل عملهم منذ آدم...

ومن الساعة السادسة تحدث ظلمة على الأرض. ويرى الشيطان أن حجاب الهيكل قد انشق، وأن الصخور قد تفتتت، والأرض قد تزلزلت، والقبور تفتحت. فيزداد رعبه ويقول لا شك أنه هو، هو المسيح المخلص.

ولكنه على الرغم من الزلزلة والظلام يسمع صوت المسيح يقول ((إلهى إلهى لماذا تركتنى)) ثم يقول ((أنا عطشان)). فيطمئن الشيطان ويقول ((إنه ليس هو)).

وينتظر الشيطان حتى يموت المسيح فيقبض على روحه كباقى البشر السابقين ويحدرها معه إلى الجحيم، ولكنه يفاجأ بأن المسيح يصرخ بصوت عظيم ((يا أبتاه فى يديك أستودع روحى)). ويدهش الشيطان. أما يزال هذا المصلوب يقول يا أبتاه. ألعله حقا إبن الله. وما معنى هذه الصوت العظيم؟ من أين أتته هذه القوة؟ ويقول فى نفسه كيف يودع روحه فى يدى الآب. الحق إنه يودعها فى يدىّ أنا.

ويتقدم ليأخذ تلك الروح وهو مرتعب فى شكه، فيمسكه الرب بقوة لاهوته، ويقيده ألف سنة...

No items found

والمجد - لك القوة والمجد - تسبحة البصخة - البابا شنودة الثالث

تسبحة البًصخة - لك القوة والمجد - تسبحة البصخة - البابا شنودة الثالث

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات