الفصل الثاني (أ) قانون الإيمان وبدء القوانين الكنسية 2 )ب( حول قانون الإيمان القبطي الأرثوذكسي 2 (ج) تفسير قانون الإيمان

الفصل الثاني

(أ) قانون الإيمان وبدء القوانين الكنسية

1 - كيف بدأت القوانين الكنسية؟

نزل كلمة الله الأزلى إلينا متجسداً لكى يقيم منا كنيسة متحدة به، تحيا فيه، وتحمل صورته. وهكذا إذ وهبنا العضوية فى جسده الأقدس، أى فى الكنيسة المتحدة به، ندخل حياته ونمارس سلوكه السماوى، ونكتشف ملكوته داخلنا. لقد صبغ كنيسته بصبغة سماوية، ودخل بها إلى "الحياة الفائقة الطبيعة" خلال اتحادها به، لا كحياة خيالية تسجلها الكتب أو يعظ بها خدام الله، لكنها "خبرة واقعية فى المسيح" الذى جاء إلينا فى واقعنا الأرضى. فإن كانت الحياة المسيحية هى حياة شبه سماوية لكنها تُمارس على الأرض، إذ لم يدخل بنا الله إليها كمن هو منعزل فى السماء، بل نزل الكلمة الإلهى واتحد بناسوتنا، وعاش على الأرض، وخضع لقوانينها ومارس طقوس العبادة فيها وهو الأبدى المعبود! لقد أعطانا عربون الأبدية خلال واقع الزمن، فنجلس فى السماويات ونحن بعد على الأرض.

هكذا عاشت الكنيسة فى عصر الرسل كما فى عصر الآباء الأولين، تسلك بروح سماوى واقعى، تحمل سمة الإسخاتولوجية (الأخروية) والواقعية فى نفس الوقت. تعلن فى غير توقف حنينها نحو اللقاء الأبدى مع الرب وجهاً لوجه فى الفردوس دون تجاهل للحياة الزمنية المقدسة فى المسيح يسوع.

انعكس هذا كله فى حياة الكنيسة، فى عبادتها وكرازتها وسلوكها، إذ كانت تود أن تدخل بالعالم كله إلى "الأبدية". تنطلق بكل نفس إلى ما وراء الزمن وتفتح كل بصيرة لمعاينة ملكوت الله الذى لا يُعبَر عنه بلغة ولا تحده قوانين ولا يخضع لنظم بشرية. لكنها فى نفس الوقت لا تتجاهل واقعنا كأناس نحمل جسداً ونسلك على وجه الأرض. قدمت لنا الكنيسة إيمانها فى عبارات وقوانين لكى تدخل بنا إلى ما وراء العبارات والقوانين. من أجل هذا يليق بنا أن ندرس معاً، تحت قيادة الروح القدس، قوانين الرسل كما سجلتها لنا الكنيسة الأولى: كيف بدأت؟ وكيف تطورت؟ وما هى غايتها؟

2 - ما هو قانون الإيمان للرسل Symbolum Apostolicum؟

يقول القديس هيلارى[1]، نحن ملتزمون أن نتكلم بأمور لا يُنطق بها، وعوض هيام الإيمان الفكري المجرد نلتزم أن نعهد أمور الدين إلى مخاطر التعبير البشرى. لقد سأل السيد المسيح تلاميذه عن إيمانهم فيه فاعترف بطرس أنه "هو المسيح ابن الله الحي" (مت16: 16). ولعل هذه الشهادة قدمت الفكرة الرئيسية لإيجاد قانون إيمان كنسى يعلن عن السيد المسيح المخلص. مرة أخرى جمع السيد تلاميذه وأعطاهم سلطاناً للكرازة والتعليم والعماد قائلاً: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت28: 19). مقدماً لهم صيغة قانون الإيمان الثالوثى الخاص بالعماد. هكذا سجل لنا العهد الجديد صيغة الإيمان بالمسيح وصيغة الإيمان الثالوثى، هاتان الصيغتان هما جوهر إيمان الكنيسة.

يقول [2]F. L. Cross إن قانون الإيمان الرسولى Apostolic Creed يخص فترة ما بعد الرسل، لكنه سمى رسولياً لأن عناصره جميعها تعبر عن الإيمان فى عصر الرسل.

يقدم لنا علم الباترولوجى الكثير من صيغ قوانين الإيمان التى جاءت خلال كتابات الآباء الشرقيين والغربيين، نذكر منها ما ورد فى كتابات أيريناؤس أسقف ليون سنة 180م؛ والعلامة ترتليان بقرطاجنة سنة 200م؛ وكبريانوس أسقف قرطاجنة سنة 250م؛ ونوفتيان بروما سنة 250م؛ وأوريجينوس بالإسكندرية سنة 250م؛ وغريغوريوس أسقف قيصرية الجديدة سنة 270م؛ ولوتيانوس بانطاكية سنة 300م؛ ويوسابيوس أسقف قيصرية سنة 325م؛ ومارسيليوس بأنقرا سنة 340م؛ وكيرلس الأورشليمى سنة 350م؛ وأبيفانيوس أسقف قبرص سنة 374م؛ وروفينوس بقبرص سنة 390م؛ والقانون الوارد فى القوانين الرسولية Apostolic Constituitions.

امتازت النصوص الشرقية عن الغربية أنها بصورة عامة أطول وأكثر تغييراً، لها جانب ميتافزيقى (علم ما وراء الطبيعة)، وتشمل عدداً من التعبيرات التعليمية رداً على الهرطقات المنتشرة فى الشرق.

3 - كيف تطور قانون الإيمان الكنسى؟ [3]

  1. إذ انطلقت الكنيسة فى عصر الرسل تكرز وتبشر العالم بالخلاص، كان لزاماً أن يعترف كل موعوظ بإيمانه جهراً فى صيغة مختصرة قبلما يتقبل العضوية فى جسد المسيح، أى قبيل عماده مباشرة. وذلك كما فعل الخصى الأثيوبى (أع8: 37) حين أعلن رغبته فى العماد معترفاً "أنا أؤمن أن يسوع المسيح هو ابن الله". ظهر "قانون الإيمان الكنسى" كصيغة خاصة بالمعمودية، يعترف بها طالب العماد معلناً قبوله الحق ودخوله "الحياة فى المسيح يسوع".
  2. إذ ظهرت غنوصيات غير أرثوذكسية تنادي بالثنائية، تحتقر المادة وتشوه حقيقة التجسد الإلهى، لم يعد "قانون الإيمان" فى صورته الأولى كافياً، إنما يلزم الاعتراف بالحبل بالسيد المسيح بالروح القدس، وولادته من العذراء مريم، وتألمه فى عهد بيلاطس بنطس وموته ودفنه وصعوده (وليس كما عَلّم الغنوصيين أنه اختطف إلى السماء من على الصليب أو قبيل صلبه)، وأن الروح القدس حالّ فى الكنيسة. يظهر هذا الأثر بصورة واضحة فى قانون الإيمان للقديس هيبوليتس المستعمل فى العماد، إذ كان طالب العماد يُسأل ثلاثة أسئلة ويجيب عليها[4]: ينزل (طالب العماد) فى الماء، ويضع المُعمد يده على رأسه، قائلاً: أتؤمن بالله ضابط الكل؟ يقول الذى يُعتمد: أؤمن. عندئذ يعمده (يغطسه) واضعاً يده على رأسه. بعد ذلك يقول له: أتؤمن بيسوع المسيح ابن الله، الذى وُلد بالروح القدس من العذراء مريم، وصُلب فى عهد بيلاطس بنطس ومات وقام من الأموات فى اليوم الثالث وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب هذا الذى يأتى ليدين الأحياء والأموات؟ وإذ يقول: أؤمن، يغطسه مرة أخرى. وأيضاً يقول له: أتؤمن بالروح القدس وبالكنيسة المقدسة وقيامة الجسد؟ فيقول المُعمد: أؤمن، فيغطسه المرة الثالثة.
  3. إذ بدأت الهرطقات تنتشر لم يعد "قانون الإيمان" خاصاً بطالبى العماد فقط، إنما صارت الحاجة ملحة لاستعماله الكنسى فى العبادة الليتورجية والعبادة الخاصة. بدأت المجامع المسكونية تضع قانون الإيمان لأهداف دفاعية وتعليمية. ففى مجمع نيقية وُضع قانون الإيمان يحارب الأريوسية.

فإنه وإن اقترب من قانون الإيمان الأورشليمى الخاص بالعماد قديماً، لكنه أضاف إلى الفقرة الثانية الخاصة بالسيد المسيح هذه الصيغة: "نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، واحد مع الآب فى الجوهر". هذه الصيغة لا يستطيع الأريوسيون أن ينطقوا بها، فتفرزهم عن المؤمنين. بهذا قدم مجمع نيقية للكنيسة صيغة لاهوتية مبسطة تعلن إيمان الكنيسة، يعترف بها المسيحيون ويترنمون بها ويصلونها، وليست اختباراً لطالبى العماد فقط.

وفى المجمع المسكونى الثانى بالقسطنطينية فى عام 381م بسبب إنكار مقدونيوس الذى كان بطريركاً للقسطنطينية ألوهية الروح القدس دون أن ينكر الوهية السيد المسيح، أضيف إلى قانون الإيمان النيقوى صيغة خاصة بالروح القدس: "الرب المحيى، المنبثق من الآب، نسجد له ونمجده مع الآب والابن، الناطق فى الأنبياء..." بهذا صار قانون الإيمان ملخصاً للإيمان الأرثوذكسى أكثر منه اعترافاً يردده طالبو العماد.

2) ب (حول قانون الإيمان القبطي الأرثوذكسي

  1. ماذا تعنى الكنيسة بقانون الإيمان؟

كل مؤسسة فى العالم سواء كانت تعليمية أو اجتماعية أو صناعية أو تجارية يلزم أن يوضع قانونها التأسيسى، يوضح هدفها وتنظيمها وإمكانياتها. أما كنيسة الله فهى جسد المسيح، مؤسسها هو الله نفسه الذى هو "ليس إله تشويش" (1كو14: 33)، بل يُقيم من المؤمنين جسد المسيح، كقول الرسول: "وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً" (1كو12: 27). غاية الكنيسة أن يعمل الله فيها وبها ليحقق إرادته، إذ "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تى 2: 4). أما إمكانياتها فهى النعمة الإلهية التى تعمل فى المؤمنين العاملين فى غيرة مقدسة. وكما يقول الرسول: "أنا تعبت أكثر منهم جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التى معى" (1كو15: 10).

  1. ما هى غاية قانون الإيمان؟
  1. تأكيد وحدانية الله حتى لا يسقط أحد فى عبادة الأوثان.
  2. الإيمان بالثالوث القدوس العامل لأجل بنيان ملكوت الله داخل كل إنسانٍ مُخلص فى حياته ومشتاق للعبور إلى الأبدية، مع وحدانية اللاهوت.
  3. إدراكنا لمحبة الله لنا والإمكانيات التى يقدمها لنا للعمل لحساب ملكوته.
  4. تقديس العقل البشرى وكل الإمكانيات والمواهب والقدرات والطاقات التى فينا، والسمو به للتجاوب مع نعمة الله الفائقة.
  5. حفظ إيماننا من الانحرافات والبدع.
  6. بث روح الرجاء فينا وفى العاملين معنا والذين هم حولنا.
  7. الكشف عن غاية حياتنا على الأرض ونحن منطلقون نحو الحياة الأبدية.
  8. إدراكنا لخطة الله فى حياتنا وفى كل البشرية.
  9. فى الليتورجيات يصلى الشعب مع رجال الكهنوت معاً قانون الإيمان بصوتٍ مرتفعٍ.
  1. ماذا قدم لنا آباؤنا فى العصور الوسطى؟

تقدم لنا مكتبات أوربا فيض من مخطوطات الأقباط باللغتين القبطية والعربية تكشف عن غنى الكنيسة القبطية فى اللاهوتيات فى العصور الوسطى، هذا ما دفعنى لتقديم مثالاً لاهتمامهم بالكتابة فى قانون الإيمان.

ارتبط اسم الكاهن أبو المجد بن يؤانس بمنية بنى خصيب (حالياً المنيا) الذى تنيح عام 1357م، بشرحه لقانون الإيمان فى حوالى 50 صفحة قطع كبير. كتبه بناء على طلب الأنبا غبريال أسقف قوص بقصد الرد على يهودى انتقد قانون الإيمان، قائلاً: من أين أتيتم بهذا النص؟ ولماذا أدرجتموه بين كتب الكنيسة؟ لهذا يحتوى الكتاب على مجموعات من النصوص الواردة فى العهد القديم لتثبيت كل بند من بنوده.

هذا العمل يختلف فى هدفه عن ثلاثة أعمال قبطية عن قانون الإيمان فى العصور الوسطى لساويرس بن المقفع، حوالى عام 940م، وأبو البركات بن كبّر فى بدء الفصل الثانى من دائرة المعارف الخاصة به، والثالث أيضاً لأبى البركات نفسه فى نفس المرجع (عام حوالى 1310م). مقتبسات أبى البركات غالباً من العهد الجديد. هذه المراجع كما يقول الدكتور الأب سمير خليل إنها تكمل بعضها البعض بطريقة لائقة[5].

النص كما ورد فى أبى المجد بن يؤنس[6] هو:

  1. نؤمن بإله واحد: هذا النص مُقتبس من التوارة ومن إشعياء وإرميا والإنجيل.
  2. الله الآب ضابط الكل (البانتوكراتور) خالق كل شئ، ما يرى وما لا يرى. مُقتبس من زكريا وناحوم وأسفار الملوك.
  3. ورب واحد يسوع المسيح. مُقتبس من إشعياء وسليمان وميخا.
  4. نور من نور، إله حق من إله حق. مُقتبس من إشعياء وإرميا وداود.
  5. من أجلنا نزل من السماء. مُقتبس من داود، وإشعياء واسدراس (عزرا) وإرميا وداود، ونبى آخر لم يّذكر اسمه.
  6. تجسد بالروح القدس من العذراء مريم. مُقتبس من إشعياء وحزقيال وناحوم وصفنيا وزكريا ودانيال.
  7. تألم ودُفن فى القبر. مُقتبس من إشعياء وعاموس ويونان وزكريا ويؤئيل وإرميا وحزقيال ودانيال وأيوب واسدراس الكاهن (عزرا) وداود.
  8. قام من الأموات فى اليوم الثالث. مُقتبس من داود وإشعياء واسدارس الكاهن (عزرا).
  9. صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الآب فى الأعالى. مُقتبس من داود وزكريا ودانيال.
  10. وسيأتى ثانية فى مجده ليدين الأحياء والأموات. مُقتبس من إشعياء وسليمان وداود وملاخى وإرميا.
  11. نؤمن بالروح القدس، الرب المحيي، الناطق فى الأنبياء. مقتبس من إشعياء ويوئيل وإرميا وحزقيال.
  12. ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا. مقتبس من إشعياء وحزقيال.
  13. وننتظر (ونترجى) قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى. مقتبس من إشعياء وحزقيال وملاخى.

4. ما هو ارتباط قانون الإيمان بالصلاة الربانية؟

نجد عاملاً مشتركاً فى العبادة فى الكنيسة القبطية وهى تلاوة الصلاة الربانية وأيضاً قانون الإيمان فى جميع الليتورجيات الخاصة بالمعمودية والإفخارستيا والزواج والخطبة والجنازات وفى العبادة الشخصية مثل صلوات السواعى (الأجبية)، فما الارتباط بينهما؟

فى كل عبادتنا الجماعية والشخصية ما يشغلنا أن نتهيأ لمجئ السيد المسيح الأخير ومرافقته لننطلق معه إلى السماء، بكوننا العروس المتهللة المتحدة بعريسها السماوى. بالصلاة الربانية نرفع قلوبنا إلى الآب السماوى بروح الفرح بالصلاة التى علمنا إياها العريس نفسه، الابن الوحيد الجنس المتجسد، فهى بالحق موضع سرور الثالوث القدوس، متى قدمت من القلب بفكر سماوى وإيمان مستقيم غير منحرف. هذا هو دور قانون الإيمان أيضاً حينما نتلوه بروح الصلاة. فغاية الصلاة وقانون الإيمان أن نصير العروس المرتفع قلبها دوماً بالصلاة مع التمسك بالإيمان المستقيم غير المنحرف. هذا الفكر الذى لا يفارقنا سواء فى الكنيسة أو البيت أو حتى فى العمل ومع الأصدقاء، يليق أن يدركه الطفل والشاب حتى الشيوخ. إذ يقول الرسول: "لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع" (لو3: 26).

5. ما هو دور قانون الإيمان فى الغنى الداخلى؟

فى الكنيسة الأولى كان بعض اليهود وأيضاً الأمم الراغبون فى الانضمام للكنيسة يُطالبون بالحضور فى دراسات خاصة بطالبى العماد. لم تكن هذه الدراسات لمجرد تقديم معلومات، وإنما كانوا يتمتعون بمفاهيم الإيمان والصلاة الربانية والسلوك فى المسيح يسوع الخ. لكى يدركوا الغنى الذى يتمتعون به خلال المعمودية والشركة مع الثالوث القدوس.

كان أهل البيت يعتمدون مع من ينال المعمودية كما حدث مع حارس السجن بفيلبى (أع 31: 31، 34) وكرنيليوس (أع 10: 48) فلماذا كان المؤمن يعتمد معه أهل بيته؟ كان دور المؤمن كإشبين لأطفاله أن يقودهم كأب إلى الغنى الذى نالوه فى طفولتهم بالعماد. دوره الرئيسى أن يشرح عملياً ما قاله السيد المسيح لتلاميذه: "ملكوت الله داخلكم" (لو17: 21). للأسف بعض المؤمنين يركّزون فى تربيتهم لأطفالهم على نقدهم لتصرفاتهم الخاطئة، عوض إبراز محبة الثالوث القدوس لهم وعمله فيهم.

أذكر فى أثناء خدمتى بلوس أنجيلوس، زارتنى باكراً جداً سيدة تعانى من بعض الظروف المادية وكانت متهللة للغاية سألتها عن سبب فرحها، فقالت لى إن ابنها الصغير جاء إليها فى الصباح الباكر وأيقظها، وقال لها: "أنا أغنى إنسان فى العالم" دُهشت للغاية، وظنّت أنه رأى حلماً فى نومه أنه صار غنياً جداً. سألته: لماذا تقول هذا؟ أجابها: "أنا أغنى إنسان، لأنك أنت أمى!" لم تصدق نفسها، وامتلأت بهجة وجاءت تخبرنى بما قاله لها ابنها.

شعرتُ أن ما قاله هذا الطفل الصغير يليق بكل مؤمن أن يشعر به أنه أغنى كائن على وجه الأرض، لأنه صار ابناً لله وهيكلاً مقدساً وروح الرب يسكن فيه (1كو 3: 16).

لست أعنى بذلك لا نوجه أطفالنا عى أخطائهم، وإنما أن نبدأ التعامل مع أطفالنا وهم رُضع بكشف أعينهم عن الغنى الذى فى أعماقهم.

أحسب أنه يليق بنا فى دراستنا لقانون الإيمان ان نركز على الغنى الذى نتمتع به فى أعماقنا، خلال عمل الثالوث القدوس. هذا ما أراده الرسول بولس بقوله: "فإن كل شئ لكم... وأما أنتم فللمسيح، والمسيح لله" (1كو 3: 21، 23). فنحن هنا على الأرض، نتمتع بعربون ميراثنا الأبدى. انه سرّ غنانا وسعادتنا. يقول القديس كيرلس الكبير: [أولئك الذين بسبب الجهل قللوا من قيمة اقتناء الإيمان المستقيم ممجدين حياتهم بسبب اعمال الفضائل، يشبهون أناساً ذوى ملامح حسنة فى وجوههم، ولكن نظرة عيونهم مصابة بتشويه وحول. وينطبق عليهم قول الله بصوت إرميا إلى أمة اليهود، أى أورشليم: "لأن عينيك ليستا مستقيمتين وقلبك ليس صالحاً" (أنظر إر22: 17). لذلك من الضرورى – قبل أى شئ آخر – أن يكون لكم ذهن سليم فى داخلكم، وأن تهتموا بالأسفار المقدسة التى تخاطبكم قائلة: "لتنظر عيناك باستقامة" (أم4: 25LXX)، لأن الابتعاد عن استقامة التعاليم المقدسة لن يكون له شئ آخر سوى أن تنام نوم الموت[7].].

2 (ج) تفسير قانون الإيمان

  1. ما هو مدى ارتباط قانون الإيمان بالاستعداد لنوال العماد وحفظ الإيمان الأرثوذكسي؟

اهتم كثير من آباء الكنيسة بشرح قانون الإيمان أو أجزاء منه، خاصة الذين كانوا يهيؤون طالبى العماد، وأيضاً الذين كانوا يواجهون بعض البدع، مثل القديس كيرلس الكبير وكيرلس أسقف أورشليم وأغسطينوس.

جاء فى القوانين (الدساتير) الرسولية: [على الموعوظين أن يتسلموا قبل المعمودية معرفة الله الآب والابن الوحيد والروح القدس، ونظام خلق العالم والإعلانات الإلهية، ولماذا خُلق الإنسان والعالم، ويتعلم من ناموس الطبيعة لكى يعرف الهدف الذى خُلق لأجله. ويتعلم كيف أن الله عادل... ويكلّل قديسيه فى كل جيل، مثل شيث وأنوش وأخنوخ ونوح وإبراهيم وملكىي صادق الخ. ويتعلم تجسد المسيح وآلامه وقيامته وصعوده، وما معنى جحد الشيطان والدخول مع المسيح فى عهدٍ[8].].

ويظهر اهتمام الكنيسة بتسليم قانون الإيمان أن الأساقفة كانوا يهتمون أن يقوموا بهذا العمل بأنفسهم، فقد كتب الأسقف أمبروسيوس إلى اخته مرسيلينا: [فى اليوم التالى، إذ كان يوم الرب، بعد الدرس والعظة، كما خرج الموعوظون، سلمت طالبى العماد قانون الإيمان فى معمودية البازليكي[9].].

كذلك يفتتح الأسقف أغسطينوس مقاله عن "قانون الإيمان لطالبى العماد"، قائلاً: [استلموا يا أولادى دستور الإيمان الذى يُدعى قانون الإيمان... وإذ تتقبلوه، اكتبوه فى قلوبكم، ورددوه كل يوم قبل النوم وقبل الخروج. تسلّحوا بقانون إيمانكم. إنه قانون لا يكتبه الإنسان لكى يقرأه بل لكى يردده، حتى لا ينسى ما قد تسلمه بعناية. سجلوه فى ذاكرتكم.].

ويقول القديس كيرلس الأورشليمى: [عندما تتعلم "الإيمان" والاعتراف به، اطلب هذا الإيمان وحده الذى تُسلمه لك الكنيسة الآن. احتفظ بهذا الذى يشيد به الكتاب المقدس بقوة... لا تكتبه على ورق بل انقشه بذاكرتك على قلبك... إننى أرغب فى تقديمه لك كعون يسندك كل أيام حياتك].

وكتب الأنبا يوحنا الأورشليمى للقديس جيروم: [العادة عندنا أننا نسلم التعليم بالثالوث القدوس بصورة عامة خلال الأربعين يوماً للذين سيتعمدون.].

الاعتراف بالإيمان هو دخول فى ميثاق إلهى أو توقيع عقد مع الله، يُسجل فى سفر السماء. وفى هذا ويقول الأب ثيؤدور المصيصى: [أن نقيم العقود والمواثيق مع الله ربنا بالاعتراف بالإيمان، خلال وساطة الكاهن نصير مؤهلين للدخول فى بيته والتمتع برؤيته ومعرفته وسكناه وأن تُسجل فى المدينة ونُحسب مواطنين فيها ونصير أصحاب ثقة عظيمة[10].] كما يقول: [بالاعتراف بالإيمان تربط نفسك بالله بواسطة الأسقف، وتقيم ميثاقاً تتعهد فيه أن تثابر فى محبة الطبيعة الإلهية[11].].

2 - ما هى بنود قانون الإيمان الحالى؟

يمكننا تقسيم قانون الإيمان إلى ثلاثة عشر بنداً:

  1. بالحقيقة نؤمن بإله واحد،.
  2. الله الآب، ضابط الكل، خالق السماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى.
  3. نؤمن بربٍ واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوى للآب فى الجوهر، الذى به كان كل شئ.
  4. هذا الذى من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد بالروح القدس ومن مريم العذراء.
  5. تأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس بنطس.
  6. تألم وقبر وقام من بين الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب.
  7. وصعد إلى السماوات، وجلس عن يمين أبيه.
  8. وأيضاً يأتى فى مجده ليدين الأحياء والأموات، الذى ليس لملكه انقضاء.
  9. نعم نؤمن بالروح القدس، الرب المحيى المنبثق من الآب. نسجد له ونمجده مع الآب والابن، الناطق فى الأنبياء.
  10. وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية.
  11. ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا.
  12. وننتظر قيامة الأموات.
  13. وحياة الدهر الآتى.
  14. آمين.

البند الأول: "بالحقيقة نؤمن بإله واحد".

3 - لماذا يُفتتح قانون الإيمان بالقول: "بالحقيقة نؤمن"؟

أ. فى تلاوة قانون الإيمان يلزمنا أن ندرك أن الإيمان ليس مشاعر مجردة فحسب، وإنما هو تمتع بالمعرفة فى حياتنا العملية. كما يليق بالمؤمن ألا يتوقف عند المعرفة البشرية متجاهلاً دور النعمة الإلهية التى تقدس العقل وتعمل فى حياة المؤمن ليختبر أموراً تسمو فوق العقل البشرى، فيختبر الحياة الكنسية المتهللة والحكيمة.

ب. بقوله "نؤمن" بصيغة الجمع سواء أثناء الليتورجيات او فى صلوات المخدع، يليق بالمؤمن أن يدرك أن قانون الإيمان ليس من تأليف الشخص المصلى، إنما يعلن عن قبول الإيمان الكنسى الجماعى. سرّ تقدم المؤمن أنه عضو حىّ فى كنيسة الله الجامعة.

ت. نقول: "نؤمن" وليس "نعرف"، لأن الإيمان يسبق المعرفة، كما أن الإيمان يلزم أن يمس حياتنا، بينما قد تقف المعرفة عند أمور لا تمس حياتنا. الإيمان يعطى لحياتنا معنى وسعادة وصبراً واستمرارية، وفى نفس الوقت يكشف عن التزاماتنا وتجاوبنا عملياً مع من نؤمن به. نؤمن بالله ليس خلال مناقشات فلسفية نظرية، إنما خلال حياة حب مشترك بيننا وبين خالقنا، وبيننا نحن البشر وبعضنا البعض. إيماننا يحثنا على التلاقى والتفاعل مع خالقنا الذى ليس صادراً عن كائن يسبقه، لأنه أزلى. ونثق فيه لأنه أبدى، وليس مثل الكائن البشرى له بداية كما لحياته على الأرض نهاية.

4 - لماذا يبدأ بتأكيد الإيمان بالله الواحد؟

لكى يحفظ المؤمنين من الانحراف إلى عبادة الأوثان. يقول القديس كيرلس الكبير: [قال الآباء بإله واحد لكى يهدموا ضلالة الآلهة، تابعين الأسفار المقدسة من كل جهة، ومظهرين جمال الحق لكل إنسان يُسمى تحت الشمس. هذا ما فعله موسى الحكيم جداً أيضاً بكل وضوح: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد" (تث6: 4؛ راجع خر20: 3؛ إش4: 6) [12].].

5 - ماذا يعنى أننا نؤمن بالله بالواحد؟

هذا يعنى أننا نتفاعل مع الله الموجود فى كل مكانٍ ومع سماته، فنسلك فى الرب. يميز يعقوب الرسول بين إيمان إنسان بالله وبين إيمان الشيطان بالله. "أنت تؤمن أن الله واحد حسناً تفعل، والشياطين يؤمنون ويقشعرون. ولكن هل تريد أن تعلم أيها الإنسان أن الإيمان بدون أعمال ميت (يع2: 19 - 20)؟! كما يقول الرسول بولس:" الإيمان العامل بالمحبة "(غل5: 6).

يقول القديس أغناطيوس النورانى: [يوجد الله الواحد الذى أعلن عن نفسه بيسوع المسيح ابنه، الذى هو كلمته (اللوغوس)، ليس منطوقاً به بل جوهرى. لأنه ليس صوتاً لأداة نطق، بل أقنوم مولود بالقوة الإلهية[13].].

يتحدث اللقديس ماريعقوب السروجى عن الإله الواحد غير المنعزل فى سماواته كما يظن البعض، بل عامل فى خليقته المحبوبة لديه، فيقول:

[الله حال بقوته داخل الخليقة، ويحركها لتكون قائمة بذاتها.

هو ساكن فوق العلو وتحت الأعماق وداخل العالم وخارجه وبكل الجوانب.

كمثل النفس حالة وساكنة داخل الأعضاء، فى الرأس والرجلين وفى كل الحواس وهى كما هى...

ليس ثمة موضع فى الجسد لا تكون النفس فيه.

بالنفس الأعين تنظر، والأيادى تلمس، والفم ينطق، والشم يستنشق، والأذن تسمع.

وبدون النفس ليس ثمة حواس، ولا يتحرك عضو إلا بها.

هكذا الخليقة قائمة بالله، ومنه تبدو، وعليه تستريح بالكمال.

به يختلج العلو والأعماق بانضباط، وأيضاً الأقطار والجهات وساكنوها.

به تنير الأضواء بسلطانها، الشمس بإشراقها والقمر بتغيره، والثريا والكواكب تتحرك فى سبلهم].

ويقول القديس كيرلس الكبير: [الله السخى جداً لا يحتقرنا نحن الذين نجاهد جائعين إلى خيراته[14].].

البند الثانى: "الله الآب، ضابط الكل (البانتوكراتور)، خالق السماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى.".

أولاً: الله الآب.

6 - كيف نميز بين أبوة الآب للآبن وأبوته للمؤمنين؟

إذ كان ربنا يسوع يتحدث عن الآب يقول: "أبى" (يو38: 8)، كما دعا مؤمنيه أن يساهموا معه فى هذه العلاقة، فنقول فى الصلاة الربانية "أبانا" (مت6: 9). لكن بنوة الابن الوحيد الجنس فريدة، إذ هو واحد مع الآب فى ذات الجوهر، بنوته أزلية طبيعية. أما بنوة المؤمنين للآب فهى هبة لهم بالنعمة الإلهية صار لنا هذا الحق بكوننا أعضاء جسد يسوع المسيح. لقد ميَز السيد المسيح بين بنوته وبنوتنا بقوله: "أبى وأبيكم" (يو20: 17)، ولم يقل "أبانا".

يقول القديس غريغوريوس النزينزي إن أقنومى الآب والابن لهما هذان اللقبان دون تصور لفكرٍ جسديٍ حتى فى أذهاننا. الأبوة والبنوة هنا علاقة حب فريدة لا يمكن تصورها. الآب مصدر والابن مولود منه فى ذات الجوهر. يقول القديس أثناسيوس: [يجب تحاشى كل فكر جسدىٍ فى هذه الأمور[15].].

الله الواحد هو حب بلا شهوات جسدية، ولا يخضع لجنس ما. أما آلهة اليونانيين والرومان فيسقطون فى شهوات ويُحسبون ذكوراً وأناثاً، بل ويُمكن أن يدخلوا فى صراع وحروب فيما بينهم.

إن كانت كلمة آب تشير إلى علاقة فى الأصل منذ الأزل، فهذا يعنى أن الابن أزلي مع الآب. فبدون ابن لا يوجد أب، وبدون آب لا وجود للابن. يقول العلامة ترتليان: [الآب يلزمه وجود الابن، والابن يلزمه وجود الآب[16].] فعندما نعترف أن الله أب أزلي، ندرك فى أذهاننا أيضاً أن الابن أزلى حقيقةُ.

يقول القديس أغسطينوس: [لنا والدان ولدانا على الأرض للشقاء ثم نموت. ولكننا وجدنا والدين آخرين. فالله أبونا والكنيسة أمنا، ولدانا للحياة الأبدية. لنتأمل أيها الأحباء أبناء من قد صرنا؟ لنسلك بما يليق بأبٍ كهذا... وجدنا لنا أباً فى السماوات، لذلك وجب علينا الاهتمام بسلوكنا ونحن على الأرض. لأن من ينتسب لأبٍ كهذا عليه السلوك بطريقة يستحق بها أن ينال ميراثه[17].].

ويقول القديس كيرلس الكبير: [يُلقب الآب ضابط الكل لكى بذكرهم الآب يظهرون الابن معه الذى به هو الآب قائم معه وكائن معه دائماً[18].].

كما يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [أب كامل ولد ابناً كاملاً، وسلم كل شئ للمولود، إذ قال: "كل شئ قد دُفع لى من أبى" (مت11: 27)، وتمجد بواسطة الابن الوحيد إذ يقول الابن: "أكِرم أبي" (يو8: 49)، وأيضاً: "كما إنى أنا قد حفظت وصايا أبى وأثبت فى محبته" (يو15: 10). لذلك فنحن نقول مع الرسول: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية" (2كو1: 3). ونحني ركبنا لدى الآب الذى منه تُسمى كل أبوة ما في السماوات وما على الأرض (أف3: 14 - 15). فنمجده مع الابن الوحيد، لأن "الذى ينكر الابن ليس له الآب أيضاً ومن يعترف بالابن، فله الآب أيضاً" (1يو2: 23)، عالمين أن "يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فى2: 11) [19].].

يليق بنا أن نعتز بلقب الآب، إذ هو يُسر بأن ندعوه "أبانا"، إذ بالمعمودية صرنا أولاداً لله والكنيسة. نتهلل دوماً بقبولنا البنوة لله وتجاوبنا معها، لذلك يؤكد الرسول: "والآن أيها الأولاد اثبتوا فيه... إن علمتم أنه بار، فاعلموا أن كل من يصنع البرّ مولود منه" (1 يو2: 28 - 29). "أنظروا أيَّة محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله... كل من يثبت فيه لا يخطئ. كل من يخطئ، لم يبصره ولا عرفه. أيها الأولاد لا يضلكم أحد. من يفعل البرّ، فهو بار، كما أن ذاك بار... من يفعل الخطية فهو من إبليس، لأن إبليس من البدء يخطئ... كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ، لأنه مولود من الله. بهذا أولاد الله ظاهرون، وأولاد إبليس. كل من لا يفعل البرّ، فليس من الله" (1 يو3: 1 - 10.).

7 - لماذا يُدعى الله الضباط الكل (البنتوكراتور)؟ وماذا تعنى كلمة بانتوكراتور أو ضابط الكل؟

يشير هذا التعبير إلى قدرة الله فى تدبير كل الحياة وتحقيق إرادته فيها.

الله الواحد هو مصدر القوة لكل المخلوقات السماوية والأرضية. سلطانه يهب أماناً للحرية البشرية ولا يهددها. سلطانه متناغم مع حبه، كلي القدرة فى مرافقته للبشرية وفى تقديسه المؤمن، وأيضاً وهو فى القبر بين الأموات. لا يُمكن أن تُقارن قدرته مع قدرة كائن آخر، وإلاَّ كان إلهاً وثنياً.

نعتز بأبينا الضابط الكل ونختفى فيه، فلا نخاف من كل قوات الظلمة ولا تجد الخطية لها موضعاً فينا، ولا يحرمنا الموت من الميراث الأبدى.

8 - لماذا نعتز بالله كخالق الكل؟

إذ نعلن خلال قانون الإيمان أن الله هو خالقنا، يليق بنا أن نلتصق به فنحيا حسب إرادته المقدسة، ونحن فى طريقنا إلى الاستقرار فى الأحضان الإلهية. يقول القديس كيرلس الكبير: [لا يمكن المقارنة بين الخالق والمخلوق، وبين غير الحادث (أى ليس له بداية) والحادث (الذى له بداية)، ولا بين الطبيعة الخاضعة لنير العبودية والطبيعة المزينة بكرامات السيادة والمالكة لمجد إلهىي لا يُوصف وأعلى من مجد العالم[20].] يمكننا معرفة الله عن طريق أعماله. يقول القديس باسيليوس الكبير: [ليكن بهاء هذه الأشياء المنظورة مدعاة لنا لفهم غير المنظور والذى هو فوق كل جمالٍ أرضيٍ. ولترفعنا روعة هذه المحسوسات المحدودة إلى إدراك السامية عمن هو سرمدى غير محدود ذو جبروت يتخطى مدارك عقولنا وإفهامنا[21].].

9 - لماذا وضعت الكنيسة بند "خالق السماء والأرض"؟

الله الكلي القدرة والكلي الصلاح خلق السماء والأرض وكل ما فيهما صالح. لم يكن الغنوصيون قادرين على إدراك أن كل ما خلقه الله صالح، فحسبوا أن الجسد والمادة والجنس والزواج وإنجاب الأطفال من صنع إله شرير أو إله أقل من الإله السامي، وأن الخلاص يتحقق بالهروب من العالم المادى بواسطة حكمة سرّية. هذا ما دفع الكنيسة أن تضع هذا البند فى قانون الإيمان لكي ما يتطلع المؤمنون إلى كل الخليقة أنها صالحة. وهذا ما أوضحه الإنجيلى بقوله: "به كان كل شئ" (يو1: 3). يتساءل الغنوصيون: لماذا توجد شرور كثيرة فى العالم؟ وتأتى إجابتهم: إنها من صنع إله شرير! هكذا يتطلع الغنوصيون إلى العالم أنه سجن شيطانى، وفى نظرهم كل العالم المادى شرّ بما فيه الجسد البشرى، ويسعون للخلاص منه.

عوض إدراك أن الشرّ مصدره الإرادة الشريرة غير المقدسة ينادون بتحطيم كل ما هو مادى لأنه شرير، عوض المناداة أن الظلمة هى نتاج غياب النور، والشرّ هو ثمر انحراف الإرداة وإساءة استخدام المادة فى الطريق المستقيم. يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [إن اختار شخص أن يغلق عينيه فى موضع فسيح به نور النهار، فإن عجزه عن النظر ليس خطأ فى الشمس[22].].

لو أن إنساناً ضرب شخصا بمصباح منير، فليس المصباح ولا قوة يديه شراً، إنما الشر فى إرادة الشخص الذى أساء استخدام المصباح كما أساء قدرة يديه التى هى عطية من الله. وجود شرور كثيرة فى العالم ليس علتها الخالق الصالح إنما انحراف البشر وحاجتهم إلى الشفاء. هذا هو الفارق بين المسيحية والغنوصية. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [رب قائل يعترض: إن كان جوهر اللاهوت لا يقع تحت الحواس، فلماذا نتحدث فى هذه الأمور؟ نعم، هو لأننى لا أستطيع أن أشرب النهر كله يكون هذا سبباً فى ألا أستقى منه باعتدال قدر ما يناسبنى؟! هل لأن عينى تعجزان عن استيعاب أشعة الشمس فى كمالها لا أنظر إليها قدر ما احتاج؟! وإذا دخلت حديقة عظيمة ولم أقدر أن آكل كل ثمارها هل تريد منى أن أخرج منها اجائعاً؟! إذن، لأسبح الله خالقنا وأمجده، إذ وُهبت لنا وصية إلهية تقول: "كل نسمة فلتسبح الرب" (مز150: 6). إننى أسعى الآن لأقوم بتمجيده دون أن أصفه، عالماً أنه بالرغم من عجزى عن القيام بتمجيده حسبما يستحق، لكن حتى هذا السعى هو من الأعمال التقوية. ويشجع الرب يسوع ضعفى بقوله: "الله لم يره أحد فى أى زمان (يو1: 18) [23]".].

البند الثالث: "نؤمن بربٍ واحدٍ يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوى للآب فى الجوهر، الذى به كان كل شئ.

10 - لماذا نؤمن بربنا يسوع؟

أولآً: الإيمان بيسوع المسيح يعتبر مركز الإيمان المسيحى. كان الكرازة تبدأ بالحديث عن الربَ يسوع Kyrios lesous، يقول الرسول بولس: "إن اعترفت بفمك بالرب يسوع" (رو 10: 9). كما يقول: "ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس" (1 كو12: 3).

إذ أعلن توما عن إيمانه بعد أن طلب أن يراه بعد القيامة ويلمس بيديه جراحاته، قال: "ربى وإلهى" (يو20: 28). وفى نهاية رؤيا يوحنا الحبيب أعلن الرائى عن مدى شوق الكنيسة لمجئ ربنا يسوع، قائلاً: "آمين، تعال أيها الرب يسوع" (رؤ22: 20).

ثانياً: هذا الإيمان يدفعنا إلى علاقة شخصية وولاءٍ صادقٍ له. محور الإيمان الرئيسي الشعور أن كل كياني الروحى والنفسى والجسدى هو التمتع بالمخلّص الإلهي ربنا يسوع. هذا الإيمان الشخصى يحملنى لحياة الشركة مع السمائيين والقديسين، إذ يقول الرسول: "لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض (أى السمائيون والبشر حتى الشياطين تجثو له فى رعب ومذلةٍ)، ويعترف كل لسانٍ ان يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (في 2: 9 - 11).

ثالثاً: الولاء لربنا يسوع يفتح الباب لكل المؤمنين للتمتع بروح الأخوّة الصادقة، فليس يهودىٍ ويونانىٍ، ولا حر وعبد (غل 3: 28).

إذ ردَّ الرسول بولس العبد الهارب أنسيموس إلى سيده فليمون كتب إليه: "لأنه ربما لأجل هذا افترق عنك إلى ساعةٍ لكى يكون لك إلى الأبد، لا كعبد فيما بعد، بل أفضل من عبدٍ أخاً محبوباً ولا سيما إلىَّ، فكم بالحريّ إليك فى الجسد والرب جميعاً" (فل15 - 16).

بدأت مدرسة الإسكندرية كمدرسة للموعوظين[24] Catechumens تضم طالبى العماد من أمم ويهود لتعليم الإيمان المسيحى، تُقدم لهم دراسات تؤهلهم لنوال سّر المعمودية. فتحت المدرسة أبوابها أمام الجميع، يلتحق بها أناس من ديانات مختلفة وثقافات متباينة وذوى مراكز اجتماعية مختلفة وأعمار متفاوتة... "كان التعليم بها جامعياً وموحداً، لا يميز بين الطبقات أو الظروف، بين العبيد أو السادة" [25]، فى وقت كان العبد رخيصاً، يُباع كالسلعة ويُشترى!

تشهد كتابات الآبار الرسوليين[26] عن اهتمام الكنيسة الأولى منذ وقت مبكر بالمسبيين والذين فى المناجم والمسجونين، كما خصصت بعض الليتورجيات القديمة صلوات من أجلهم. يذكر القديس يوستين[27] جمع عطايا بعد القداس لخمسة فئات من بينهم الذين فى القيود. ويشير اريستيدس[28] من بين فضائل المسيحيين التعامل مع العبيد كإخوة وأخوات، وأيضاً تعاون المسيحيين لتحرير المسجونين من أجل المسيح. ويذكر العلامة ترتليان الجمع الشهرى للعطايا، الذى كان يوزع منها لاحتياجات العبيد المسنين، والذين فى المناجم والنفى والسجون من أجل الإيمان. وأشارت الدسقولية إلى نفس الأمر.

كتب القديس غريغوريوس أسقف نيصص عدة مقالات عن تحرير العبيد، ليس معتمداً على حقوق الإنسان فى الحرية، إنما على التزام البشر جميعاً للخضوع لسيدٍ واحدٍ، رب واحد لا يستعبد أحداً بل يدعو الكل إلى الحرية[29]. وفى عظة له على عيد قيامة السيد المسيح، حث القديس غريغوريوس أسقف نيصص السادة على تحرير عبيدهم كما حررنا السيد المسيح بقيامته من عبودية الخطية.

[الآن هل تحرر المسجونون، وعُفى عن المدينين، وعُتق العبيد بإعلان صالح ولطيف من قبل الكنيسة؟!... لقد سمعتم أيها السادة، أعطوا اهتماماً لقولى كقول صادقٍ.

لا تهينونى لدى عبيدكم، متطلعين إلىّ اليوم كعظة بليغة باطلة.

انزعوا الألم عن النفوس المتضايقة، كما ينتزع الرب الموت عن الأجساد.

وحولوا عارهم إلى كرامةٍ، وضيقهم إلى فرحٍ، وخوفهم من أن يتحدثوا إلى انفتاحٍ.

أحضروا المطروحين فى الزوايا كما من قبورهم،.

اجعلوا جمال العيد يزهر كزهرة فوق كل أحدٍ[30].].

يليق بكل البشر الولاء ليسوع المسيح الذى وهبنا البنوة لله الآب خلال عمل روحه القدوس فى المعمودية. بهذا جاء انهيار العبودية ليس خلال ثورة على السادة، إنما انفتح الباب بالإيمان بربوبية يسوع المسيح.

11 - كيف ننتفع بألقاب السيد المسيح؟

دُعى يسوع: كلمة "يسوع" فى العبرية تعني "الله يخلص". أعطى رئيس الملائكة جبرائيل هذا الاسم للقديسة مريم "ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسميه يسوع" (لو1: 31). وظهر ملاك الرب ليوسف فى حُلم، قائلاً: "يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذى حُبل به فيها بالروح القدس، فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (مت1: 20 - 21).

هذا الاسم يُعبر عن شخصه وعن رسالته. فمن جهة شخصه فهو خلق آدم على صورته كشبهه (تك1: 26 - 27)، وقد فقد آدم هذه الصورة وفسدت طبيعته بسبب خطيته إذ عصى الوصية. وأنه ليس أحد فى السماوات أو على الأرض قادر أن يغفر الخطايا إلا الله. ليس اسم آخر تحت السماء به نخلص (أع4: 12؛ 9: 14؛ يع2: 7). لذلك يسوع الذى هو الله يخلص، صار بتجسده إنساناً يجمع المؤمنين به ويهبهم المغفرة (يو3: 18؛ أع2: 21؛ 5: 41؛ رو10: 6 - 13).

دُعى أيضاً المسيح أو المسيّا Messiah أى الممسوح.

فى العهد القديم كان الملوك والكهنة وأحياناً الأنبياء، هؤلاء الثلاث فئات يُحسبون "مسحاء الرب". لم يكن يجوز للملك الممسوح الذى من سبط يهوذا أن يمارس الكهنوت، لأنه ليس من نسل هرون الذى من سبط لاوى. ومتى مُسح الملك لا يجوز لإنسان آخر أن يُقام ملكاً إلا إذا فسد الملك وصار مرفوضاً من الله، كما حدث مع شاول الملك (1صم16: 1).

أما السيد المسيح فهو ملك الملوك (رؤ17: 14)، أقام المؤمنين ملوكاً وكهنة لله أبيه (رؤ1: 6؛ 5: 10). وهو نفسه رئيس الكهنة السماوى (عب7: 26) الذى وحده بلا خطية، لا يحتاج إلى تقديم ذبائح عن نفسه مثل هرون (عب5: 3). وفى نفس الوقت يُعلن لمؤمنيه أسرار ملكوته السماوى، ويهبهم اختبار عربون السماويات. جاء هذا الملك الإلهى السماوى لا ليُخدم بل يخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين (يو3: 31). خدمته تتمثل فى قبولهم بروحه القدوس حياة الشركة فيه، فيحملون سماته.

مُسح ليُعلن ملكوته على الصليب (اع2: 36)، الأمر الذى تمتع به اللص الذى على اليمين فشهد له: "اذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك" (لو23: 42).

يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [إنه يُدعى "الباب" (يو1: 7، 9). لا تأخذ المعنى الحرفى للكلمة كمادة خشبية، بل المعنى الروحى. إنه "باب حىّ" يميز الداخلين فيه.

ويُدعى "الطريق" (يو14: 6) لا أن يُداس بالأقدام، بل لكى يقودنا للآب السماوى.

يُدعى "الحمل" (يو1: 29؛ إش53: 7، 8؛ أع8: 32) لا كغير عاقلٍ، بل لأن بدمه الثمين يطهر العالم من خطاياه، ويقف صامتاً أمام جازيه.

هذا الحمل دُعى مرة ب "الراعى" إذ يقول: "أنا هو الراعى الصالح" (لو10: 11). هو حمل من جهة ناسوته، وراعى بالحب المترفق الذى للاهوته. هل تريد أن تعرف حملان عاقلة؟ اسمع المخلص يقول للرسل: "ها أنا أرسلكم كحملانٍ بين ذئاب" (مت 10: 10، 16).

إنه يُدعى "أسداً" (تك39: 9؛ رؤ5: 5)، ليس مفترساً للبشر، بل لكرامة شخصه الملوكية وثباته وقوته. لقد دعي أسداً، لأنه يقف قبالة الأسد المقاوم الذى يزأر ملتمساً أن يفترس من يخدعهم (1بط5: 8). لأن المخلص فى مجيئه لم يغير وداعة طبيعته، بل بكونه "الأسد الخارج من سبط يهوذا" (مز118: 22) يخلص المؤمنين ويطأ على المقاوم.

يُدعى "حجراً" ليس بلا حياة أو مقطوع بيد بشرية، بل "حجر الزاوية الرئيسى" (إش28: 16)، من يؤمن به لن يخزى[31].].

12 - لماذا يعلن قانون إيماننا أنه ابن الله الوحيد؟

شهد له الآب السماوى فى عماده كما فى تجليه، ففى عماده قيل: "وإذا السماوات قد انفتحت له... وصوت من السماوات قائلاً:" هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت "(مت3: 17). وفى تجليه على جبل تابور قيل:" وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيَرة ظللتهم وصوت من السحابه، قائلاً: "هذا هو ابنى الحبيب الذى به سُررت. له اسمعوا" (مت17: 5).

وعندما "قال لهم وأنتم من تقولون إنى أنا؟ أجاب سمعان بطرس وقال:" أنت هو المسيح ابن الله الحىَ. فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحماً ودماً لم يُعلن لك، لكن أبي الذى فى السماوات "(مت16: 15 - 17).

لقد ميَز السيد المسيح بين بنوته الطبيعية الأزلية للآب (يو29: 17)، وبين بنوتنا نحن له بالنعمة (مت5: 48)، إذ يقول: "أبى وأبيكم" (مت5: 48؛ يو20: 17). وبعد قيامته وصعوده يقول القديس يوحنا الحبيب: "ورأينا مجده مجداً كما لوحيدِ من الآب مملوء نعمة وحقاً" (يو1: 14).

يقول القديس كيرلس الكبير: [لكى لا يُظهر أنهم ينسبون إليه اسمَاً مشتركاً مثل الاسم الذى يُمكن أن يُنسب إلينا نحن أنفسنا، لأننا نحن نُدعى أيضا أبناء (غل4: 6)، فبكل فطنة وصفوه بتلك الأسماء... قالوا: إنه "مولود غير مخلوق، مدركين أنه من جهة الجوهر لا يُصنَف مع المخلوقات، بل بالحري أكَدوا بيقينٍ أنه مولود من جوهر الله الآب خلواً من زمنٍ وبطريقة تفوق الإدراك،" فى البدء كان الكلمة "(يو1: 1)... مثل ولادة النور من النور. وهكذا نحن نقول: إن الابن فى الآب، والآب فى الابن (يو14: 9 - 10)، وتبعاً لذلك فهو من نفس الجوهر مع الآب... فالولادة ليست جسمانية وبسيطة، وتفهم على أنها منه وفيه، وأن كل منهما موجود بأقنومه الخاص، لأن الآب هو أب وليس ابناً، والابن هو المولود وليس هو أباً[32].].

13 - لماذا نردد بإيمان "به كان كل شيءٍ" (أى خالق)؟

خلق الله الآب كل شئ بابنه، بكونه حكمة الله وقوته (1كو1: 24)، وكلمته الأبدي (يو1: 3). سبق أن تحدثنا عن الآب الخالق، وهنا نشير إلى الابن "به كان كل شيءٍ. يقول يوحنا الإنجيلى:" كل شيءٍ به كان، وبغيره لم يكن شيءٍ مما كان "(يو1: 3).

جاء الحرف "به" يحمل معنى بواسطته ومن خلاله وفيه، فقد خلق وبقى مدبراً لخليقته معتنياً بها وحافظاً لها. هذا ما عبر عنه الرسول بولس: "فإن فيه خُلق الكل"... به وله قد خلق... وفيه يقوم الكل "(كو16: 1 - 17)." حامل كل الأشياء بكلمة قدرته "(عب1: 3)." لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد "(أع17: 28). يرى القديس يوحنا الذهبى الفم أن الإنجيلى يركز على وحدة العمل الخاص بالخلقة بين الكلمة والآب، لإظهار لاهوت الكلمة ومساواته للآب. بالقول:" وبغيره لم يكن شيءٍ مما كان "يؤكد أن دور الكلمة فى الخلق أساسى، بدونه استحالة تحقيق الخلقة أو استمرارها.

يقول القديس كيرلس الكبير: [ "كل شيءٍ به كان، وبغيره لم يكن شيءٍ مما كاان". لأننا نؤمن أن كل شيءٍ قد خُلق بواسطة الابن لا نستطيع أن نحسبه كواحدٍ من الكل (المخلوقات)، بل هو غيّرها تماماً، لأنه ليس ضمن الطبائع المخلوقة، بل نعترف أنه وحده بالطبيعة الإله الحق.] كما يقول: [لم ينل قوة من آخر لكى يخلق، وإنما هو قوة الله الآب، الابن الوحيد، الذى يعمل كل شيءٍ مع الآب والروح القدس. لأن كل شيءٍ من الآب بالابن، لأنه لو خلق الابن منفصلاً عن الآب لما استطاع الابن أن يقول: "أنا فى الآب والآب فىّ" (يو14: 10).].

البند الرابع: "هذا الذى من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد بالروح القدس ومن مريم العذراء."

14 - كيف نقول: "نزل من السماء"، وهو حاضر في كل مكان؟

حقاً إنه حاضر فى كل مكانٍ فهو على الدوام فى السماء وعلى الأرض، لكنه هو غير منظور على الأرض، ظهر عليها بتجسده، لذا قيل: "نزل من السماء". يقول السيد نفسه: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء" (يو3: 13).

15 - هل ترك السماء؟

بعدما قدم لنا قانون الإيمان وحدانية الله كى لا نسقط فى تعدد الآلهة، بل نثق فى الله الواحد القدير ضابط الكل، قدم لنا أقنوم الآب بكونه أباً لابنه الوحيد الجنس منذ الأزل، واحد معه فى الجوهر، يهبنا البنوة له بالنعمة الإلهية، الآن يعلن لنا عن نزول الابن من أجلنا. قيل عنه: "سيأتى الله ظاهراً ولن يصمت" (مز49: 3LXX).

وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [من عادة الأسفار المقدسة أن توضح ما يعلو على أفكارنا بكلمات مناسبة لنا. ولذلك قال الرب حينما كان يتحدث مع التلاميذ القديسين: "خرجتُ من عند الآب وقد أتيت إلى العالم، وأيضاً أترك العالم وأذهب إلى الآب" (يو16: 28). وأيضاً: "أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق" (يو8: 23). وبالرغم من أنه كائن فى أعلى الأعالي، وهو بحسب الجوهر فوق الكل مع أبيه، إذ أنه متوجَّ معه بوحدة الطبيعة، فهو "لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه أخذا صورة عبدٍ، صائراً فى شبه الناس، وإذ وُجد فى الهيئة كإنسانٍ وضع نفسه" (فى2: 6 - 8). لأن الكلمة هو الله أخذ جسدنا ومع ذلك بقى إلهاً... لم يأخذ جسداً بلا نفس كما ظن بعض الهراطقة، بل بالحري تُحييه نفس عاقلة... احتمل الولادة بحسب الجسد مع امرأة، وجاء فى شكلنا، وهذا هو معنى أنه تأنس... إنه رب القوة فى ضعف الجسد. وفى قياس (قامة) بشريته كان يملك ما هو فوق كل الخليقة خاصاً به. لأنه ما كان عليه قبل التجسد كان خاصاً به ولا يُمكن أن يُفقد، لأنه كان إلهاً، وهو الابن الحقيقى، والوحيد الجنس، والنور، والحياة، والقوة. أما ما لم يكن عليه، فإنه يُرى أنه قد أخده مضافاً من أجل التدبير (التجسد)... يقول يوحنا الحكيم: "الكلمة صار جسداً" (يو1: 14). وهو صار جسداً ليس لأنه تغير إلى طبيعة الجسد بانتقالٍ أو تحولٍ أو تغير، ولا لأنه تعرض لاختلاطٍ أو امتزاجٍ فى الجواهر كما يثرثر بعض الناس، لأن هذا مستحيل، إذ هو بالطبيعة غير متغير ولا متحول[33].].

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عندما يقول إن المسيح "خرج" من عند الآب، لا تتخيل تغيراً فى المكان كما يحدث مع الناس. لا تُفهم "أنا أتيت" بلغة الحركة، وإنما بخصوص التجسد[34].].

ويقول القديس هيلارى أسقف بواتييه: [يقول من عند الله خرجت، مبلغاً أن طبيعته هى ذاتها كما هى التى أعطيت له بميلاده... "خرجت من عند الآب، واتيت إلى العالم" العبارة الأخيرة تشير إلى تجسده، والأولى إلى طبيعته[35].].

16 - لماذا قيل إنه نزل من السماء لأجلنا؟

إنه لم ينزل من أجل فئة معينة من البشر، وإنما من أجل بني البشر ليخلّصهم من الخطية ومن اللعنة التى حلّت بسبب الخطية وأيضاً من الموت. يقول القديس يوحنا: "الخطية هى التعدي، وتعلمون ان ذاك أظهر لكى يرفع خطايانا، وليس فيه خطية" (1يو3: 4 - 5).

17 - ماذا يقول الكتاب المقدس عن تجسد ابن الله بالروح القدس من العذراء مريم؟

عندما دهُشت العذراء مما بشرها به رئيس الملائكة جبرائيل، سألته: "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟ فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العليّ تظللكِ، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله" (لو1: 34 - 35).

18 - ماذا يُقصد بالتجسد والتأنس؟

يأخذ ابن الله لنفسه جسداً فى أحشاء القديسة العذراء مريم، ويصير جنيناً بدون خطية، ويصير إنساناً دون أن يكف عن كونه إلهاً. يقول الإنجيلى: "الكلمة صار جسداً" (يو1: 14). هذا الإله المتأنس يشفع فى البشرية، مقدمّاً نفسه ذبيحة عنهم. ولكى يؤكد الرسول بولس أنه صار إنساناً حقيقياً وليس جسداً خيالياً كما ادعى الغنوصيون، قال: "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح" (1تى2: 5).

19 - كيف يوجد فى المسيح طبيعة واحدة؟

يوجد فى المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين دون انقسام ولا امتزاج ولا اختلاط، هى طبيعة الكلمة المتأنس، وقد رفضت الكنيسة الفكر النسطوري الذى يجعل من المسيح شخصيتين، كما ترفض الفكر الأوطاخي الذى نادى بأن الناسوت تلاشى فى اللاهوت.

خلال اللقاءات غير الرسمية والرسمية التقت الأسرتان الأرثوذكس الخلقدونيون مع الأرثوذكس غير الخلقدونيين وكلاهما يرفض الفكر النسطوري والفكر الأوطاخي. كما أوضح الاثنان رفض الانقسام أو الامتزاج بين اللاهوت والناسوت.

20 - لماذا ورد فى قانون الإيمان: "تجسد بالروح القدس ومن مريم العذراء"؟

كان لولادات معجزية كثيرة بصماتها على تاريخ شعب الله، منها وعد الله لإبراهيم وسارة بميلاد إسحق (تك12: 17)، وحنة بميلاد صموئيل النبى (1صم1: 1 - 20)، ولمنوح وامرأته العاقر بميلاد شمشون (قض13: 2 - 3)، ولزكريا الكاهن واليصابات بميلاد يوحنا المعمدان (يو5: 25: 1). أما حبل فتاة بتول بسيطة بميلاد يسوع مخلّص العالم فاق كل الوعود الإلهية السابقة وغيرها، لقد حملت البتول هذا الوعد الذى يمس خلاص العالم فى جسدها. فى البشارة بالتجسد قال الملاك جبرائيل: الروح القدس يحلّ عليكِ، وقوة العليّ تظللكِ "(لو1: 35).

تعدد الآلهة دعا إلى مجئ الابن ليبطل هذا الفكر. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [هل جاء الابن باطلاً؟ أم جاء لكى يُخبر عن الآب؟! لقد عرفت ما هو الدافع لمجئ الابن الوحيد من العرش عن يمين الآب فإذ هم احتقروا الآب جاء الابن يُصلح الأمر. إذ به خُلق كل شيءٍ التزم أن يحضر "الخليقة" بأسرها كتقدمة لرب الكون! لاق به أن يضمد الجراحات، لأنه أية جراحات أشر من أن يُعبد الحجر عوض الله؟! [36]].

21 - هل من ضرورة لتجسده؟

أ - ما كان يمكن أن يتمتع إنسانّ ما بالخلاص من خطاياه، ويلتحق بالبرّ الحقيقى الذى يُسر به الله ما لم يتجسد ابن الله الواحد مع الآب فى الجوهر، ويبذل نفسه عن الخطاة. وكما يقول بولس الرسول: "فليكن فيكم هذا الفكر الذي فى المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى ذاته آخذاً صورة عبدٍ، صائراً فى شبه الناس، وإذ وُجد فى الهيئة كإنسانٍ، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى2: 5 - 8).

بتقديمه ذبيحة الصليب قدم أيضاً ذبيحة الطاعة لمشيئة الآب، عوض خطية العصيان التى ارتكبها آدم الأول. يقول الرسول: "لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم تُرد، ولكن هيّأت لي جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسر. ثم قلت هأنذا أجيء فى درج الكتاب. مكتوب عنى: لأفعل مشيئتك يا الله" (عب10: 5 - 17).

ب - بالتجسد وبذله لحياته قدم الحب الإلهي فى أسمى صورة، إذ يقول: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية، لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليُخلص به العالم" (يو3: 16 - 17).

ت - لتعليمنا؛ إن كنا بآدم ورثنا فساد الطبيعة البشرية وضعف الإرادة والعجز عن التمتع بالحياة المطوّبة، جاء كلمة الله المتجسد لا ليرد لنا جنة عدن، وإنما لكي يحول ما ورثناه من آلام وضيقات ومرارة إلى ما هو لبنياننا وتطويبنا وإعددانا للمجد الأبدي. يقول السيد المسيح (آدم الجديد): "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني" (مت11: 29). لقد قبل مسيحنا نير آلامنا، وحوّلها من آلام بسبب الخطية إلى آلام بسبب الحب، فصارت آلامنا التى حملها بهيّة ومباركة، وإذ يدعونا أن نحمل نيره تصير حياتنا مطوّبه. هكذا يعلمنا عملياً بأن نقبل نيره المُفرح، الأمر الذى لا يستطيع كائن ما سواء كان سماويّاً أو أرضيّاً أن يقدمه لنا.

بنفس الفكر جاء تلاميذ يوحنا المعمدان وأخبروا يسوع بأن رأس يوحنا قُدّم على طبق لابنة هيروديا (مت14: 12)، لم يعلن عن شيءٍ بل انصرف إلى موضع خلاء منفرداً (14: 13).

بتجسده قدم لنا مثالاً عملياً لمعالجة الكوارث والاضطهادات، ألا وهو أن ننطلق إلى موضع خلاء سواء فى كنائسنا أو بيوتنا لننفرد مع الله القادر وحده أن يعالج هذه الكوارث حسب مسرته الإلهية. إنه المعلم الفريد، آدم الجديد!

ث - بتجسده أقام الكنيسة جسده، فنقتدى بالرأس من جهة حبنا لبعضنا البعض وتواضعنا وخدمتنا لهذا يقول: "هذه هى وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم" (يو15: 12). مرة أخرى عندما غسل أقدام تلاميذه، قال لهم: "فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض لأني أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً" (يو13: 14 - 15).

ج - التمتع بشركة الطبيعة الإلهية (2بط1: 4). كما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: "صار كلمة الله إنساناً، لكى يصير الإنسان إلهاً[37].".

البند الخامس: "تأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس بنطس."

22 - لماذا التزم السيد المسيح بالصمت عند محاكمته دينياً ومدنياً؟

إذ هاجم الفيلسوف اليوناني صلسس Celsus الإيمان المسيحى، طُلب من العلامة أوريجينوس الرد عليه، فكتب: [يسوع دائماً يُتهم زوراً، ولم يوجد وقت لم يُتهم فيه... ولازال صامتاً أمام هذه الاتهامات ولا يجيب بصوته. إنما جعل دفاعه في حياة تلاميذه الحقيقيين، حياتهم تصرخ بالحقائق الصادقة وترد على كل الاتهامات الكاذبة[38].] لم يسجل لنا السيد كتباً، ولا قدم إجابات على الأسئلة السلوكية، لكنه قدم طريق حياة استلمها تلاميذه منه عملياً، سواء كانت ممارسة الحب أو المشاركة فى الاحتفال بالأعياد بأسلوبٍ روحي لائق أو المغفرة لمقاوميه وصالبيه، وأسلوب التعليم حتى قبوله للموت، لم يطلب من تلاميذه أن يدرسوا حياته وعظاته بل بالحري أن يشاركوه حياته وآلامه وصلبه.

قدم ربنا يسوع المسيح الإجابة على الاتهامات الباطلة فى حياة تابعيه كى يتلمذوا الآخرين. لقد استلمت الكنيسة هذا المبدأ لذلك اهتمت بشركة القديسين.

البند السادس: تألم وقبر وقام من بين الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب.

23 - لماذا أشار قانون الإيمان إلى آلام المسيح؟

لم يُشر قانون الإيمان إلى عصيان آدم وحواء وسقوطهما، إنما أشار إلى ما قدمه آدم الثاني من أجل خلاص البشرية. فما يشغل كنيسة المسيح هو خلاص الإنسان، واسترداد أيقونة الله فينا خلال آلام السيد وصلبه. "إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله" (يو1: 11).

لم يورد قانون الإيمان شيئاً عن خدمة السيد المسيح ومعجزاته، إنما ركَّز على رفض العالم له! فغاية قانون الإيمان لا أن يسجل تاريخ حياة ربنا يسوع على الأرض، إنما أن يلهب قلوبنا بالحب نحو الله والناس، فنسرع إلى قراءة الأناجيل الأربعة وبقية أسفار الكتاب المقدس.

بقوله "تألم"، لخص كل الأحداث من ميلاده إلى قيامته. فقد تألم وهو رضيع إذ طلب هيرودس قتله، وأيضاً حتى بعد موته طلب الكهنة ختم القبر وحراسته لئلا يسرق تلاميذه جسده ويدّعون أنه قام. لخَّص الرسول حياة السيد بقوله: "لأنه فيما هو قد تألم مجرّباً يقدر أن يعين المجرَّبين" (عب2: 18). وأوضح الرسول بطرس أن السيد المسيح تألم لأجلنا بالجسد (1بط4: 1) حتى لا يسقط المؤمنون فى الغنوصية التى صوَّرت السيد المسيح أنه ليس بإنسانٍ حقيقيٍ. ويؤكد الرسول بولس أننا "ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه" (رو8: 17).

24 - ما أهمية ذكر "على عهد بيلاطس بنطس" فى صدر قانون الإيمان؟

ذُكر اسم الوالي لتأكيد حقيقة صلب المسيح تاريخياً. قصة آلام السيد المسيح وصلبه فى عهد بيلاطس بنطس هي قصة واقعية، يعيشها المؤمنون فى حياتهم اليومية وتبقى مُعاشة إلى يوم مجيء الربّ الأخير.

25 - كيف تحول الصلب من كونه مذلة إلى كرامةٍ ومجدٍ؟

قيل عن السيد المسيح: "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه إنسان، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى2: 7 - 8). لذلك كان أتباعه المؤمنون به أول شعب فى تاريخ البشرية يحسبون المذلة فضيلة، لأنها ليست صادرة عن إثم ارتكبه المصلوب، بل عن حبٍه نحو كل بني البشر. لذلك يدعونا الرسول أن يكون لنا فكر المسيح (فى2: 5)، نجحد الكرامة الزمنية ونستعبد أنفسنا بالحب للآخرين. كان يُنظر إلى الصلب أنه أبشع من الموت، لأنه يحمل لعنة الله والناس على المصلوب. قدم المرتل مزموراً خاصاً بالمذلة: "إلهي، إلهي، لماذا تركتنى... أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر ومحتقر الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون بى، يفغرون الشفاه، وينغضون الرأس" (مز22: 1، 6 - 7).

إن كان السيد المسيح قد صار عبداً خلال محبته لنا، فيليق بنا أن نردد مع الرسول القائل: "عبد يسوع المسيح" (رو1: 1)، حاسبين العبودية للمسيح أسمى كرامة فى العالم. لقد غيَّر الصليب مفاهيم العالم، فصار الكثيرون يفضلون أن يخدموا عن أن يُخدموا (مر10: 45). بالصليب أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين (لو1: 52).

26 - ما هو سر كرامة الموت والدفن مع المسيح؟

بموته المخزي الذي أراده الربّ نال لحسابنا كرامة عظيمة، "لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم" (فى2: 9). إذ نقبل موته فينا، يُقال عن جسدنا: "يُزرع فى هوانٍ ويُقام فى مجدٍ، يُزرع فى ضعف ويٌقام فى قوة، يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام روحانياً" (1كو15: 43 - 44). موته حوَّل ظلمة القبر إلى نورٍ، ووهبنا النُصرة على قوات الظلمة.

[لم يزدرِ بالطبيعة البشرية، ولم يتعالى عليها... إذ صار طفلاً بين الأطفال قدَّس الأطفال... وإذ صار شاباً بين الشباب صار مثالاً للشباب الناضجين وقدَّسهم للربَ... أخيراً إذ جاء حتى إلى الموت ليصير بكراً بين الأموات؛ صار متقدماً فى كل شيء (كو1: 18) [39].].

27 - لماذا مات السيد المسيح؟

ليعلن مشاركته الكاملة لطبيعتنا: يرى القديس غريغوريوس النيسي، أن الطبيعة البشرية تنحصر فى أمرين الميلاد والموت، فمن يشارك أحدهما دون الآخر لا يُحسب أنه شاركنا فى طبيعتنا. يقول القديس: [الميلاد يجعل الموت ضرورياً. ذاك الذى قرر أن يشاركنا فى بشريتنا يلزمه أن يشاركنا فى كل ما يخص طبيعتنا. الآن الحياة البشرية محصورة فى حدّين، فإن جاز فى أحدهما دون الآخر، يكون قد حقق نصف هدفه فقط... طبيعتنا كلها لابد أن ترجع بالموت. هكذا انحنى إلى موت جسدنا ومدّ يده كما إلى المنبطحين. لقد اقترب إلينا ليبلغ إلى الاتصال (بنا) بالموت[40].].

فى المسيح يسوع شاركنا الله تماماً، فلا يقدر أن يسحبنا أحد من الشركة معه. فإن كنا نتألم معه فسنتمجد معه (رو8: 17)، فإن كنا نموت معه فسنقوم أيضاً معه. بموتنا معه يزول ضعفنا البشري وندخل إلى حياته الغالبة للموت. موته جعلنا نتحدى معه الموت. يقول الرسول: "فإنى متيقن أنه لا موت ولا حياة... تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التى فى المسيح يسوع ربنا" (رو8: 38 - 39). لم نعد نخشى الموت، لأننا نجد مسيحنا الذى رافقنا فى كل حياتنا ينتظرنا ويُرحب بنا.

28 - لماذا دُفن فى قبرٍ؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [بحق وُضع فى قبرٍ منحوتٍ فى الصخر، لكن الصخور تشققت مرتعبة بسببه! لقد نزل إلى أسافل الأرض ليخلص الأبرار[41].] [أخبرني، هل ترغب فى أن يتمتع الأحياء وحدهم بنعمته ولا ترغب فى أن ينالوا حريتهم من هم مسجونون مع آدم منذ زمان طويل؟! لقد أعلن إشعياء النبى بصوتٍ عالٍ عن أمورٍ كثيرة تخصه، ألا تريد أن ينزل الملك ويخلص رسوله؟! أيضاً داود وصموئيل وكل الأنبياء كانوا هناك، ويوحنا نفسه القائل خلال تلميذيه "أنت هو الآتي أم ننتظر آخر" (مت11: 3)، أما ترغب أن ينزل ويخلص أمثال هؤلاء؟! [42]].

29 - لماذا نزل السيد المسيح إلى الجحيم؟

يقول المرتل: "إن فرشتُ (نمتُ) فى الهاوية فها أنت" (مز139: 8) نزل السيد المسيح إلى الجحيم وحرر الذين سُجنوا فيه، إذ بسط يديه واحتضنهم، فلم يعد للجحيم سلطان عليهم أن يحتفظ بهم لأن أبوابه قد تحطمت. قبل ربنا يسوع بشريتنا حتى إلى موتنا ليهبنا الحياة الجديدة فيه. بموته نزل ابن الله إلى الموت وأعلن الحياة الأبدية التي ننعم بها خلال اتحادنا به.

كان اليهود يقيمون المدافن خارج المدن لأنهم يحسبون أن من يلمس ميتاً يتدنس، والآن فى المسيح يسوع يعتز المسيحيون برفات القديسين ويقبِّلونها ويمارسون التسبيح لله. يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن مقابر القديسين، قائلاً: "مقابر فيها حياة، مقابر ناطقة" [43].

ويقول القديس أثناسيوس: [فإن من ينظر إلى حية تطأ تحت قدم شخصٍ، خاصة إن كان يعرف جسارتها السابقة، لا يشك فى أنها ميتة وقد فقدت قوتها تماماً، ما لم يكن مختل العقل وليس فيه أي إحساس جسدي سليم. ومن يرى أسداً يلعب به أطفال ولا يدرك أنه ميت أو فاقد كل قوته؟ هكذا أيضاً فإنك تستطيع أن ترى هذا بعينى الحق، إذ صار الموت ألعوبة ومحتقراً بواسطة المؤمنين بالمسيح، فلا يعود أحد بعد يشك أو يطلب برهاناً أن الموت قد صار بالمسيح عدماً وفساد الموت قد انتهى وتوقف[44].].

حسب الطبيعة جميعنا فى طريقنا من الميلاد إلى الموت، ولكن بالنعمة نحن راحلون فى اتجاه عكسى. فإننا إذ بدأنا فى المعمودية حيث نُدفن مع المسيح، ونحن فى طريقنا إلى الحياة الأبدية. إننا نتألم ونموت لنتمجد أيضاً معه. يقول الرسول: "مدفونين معه فى المعمودية التي فيها أقمتم أيضاً معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات (كو2: 12).

30 - لماذا يرفض اليهود قيامة السيد المسيح؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [لكن الذي نزل إلى طبقات الأرض السفلى قام أيضاً. يسوع الذى دفن بالحق قام فى اليوم الثالث. وإن ضايقك اليهود فى هذا، اسألهم: هل يخرج يونان من جوف الحوت فى اليوم الثالث ولا يقوم المسيح من الأرض فى اليوم الثالث؟! إن كان الميت بلمسة عظام إليشع عاد إلى الحياة، أفليس بالأولى جداً على خالق البشرية أن يقوم بالآب؟! [45].

البند السابع: وصعد إلى السماوات، وجلس عن يمين أبيه.

31 - ما هو رأى الغنوصيين فى الصعود؟

يعتقد الغنوصيون بالثنائية فى الخليقة، فيرون أن خالق الأرواح هو الله الصالح أما خالق المادة خاصة الجسد فهو إله شرير. هذا دفعهم إلى حذف قصص ميلاد المسيح وصعوده، لأنهم يرون أنه جاء يخلص البشر من الجسد المادي الشرير. لقد أكد الكتاب المقدس قصة الصعود (مر16: 19؛ لو24: 51؛ أع1: 9 - 11). نادى بعض المعلمين المتأثرين بالغنوصية بأن صعود السيد المسيح روحي، لأن المخلص ليس له جسد. لهذا اهتم آباء الكنيسة الأولى بتأكيد تجسد الكلمة، وقيامة جسده، وصعوده جسدياً لأن المخلص ليس له جسد. لهذا اهتم آباء الكنيسة الأولى بتأكيد تجسد الكلمة، وقيامة جسده، وصعوده جسدياً.

32 - هل بصعوده ترك السيد المسيح العالم؟

صعود السيد المسيح إلى السماء لا يعني غيابه عن العالم. جلس عن يمين الآب بكونه رب المسكونة، رب السماء والأرض. لاهوته يملأ السماء والأرض. حينما يجتمع المؤمنون معاً يكون حاضراً معهم (أف1: 20 - 2). يقول المرتل: "أين أذهب من روحك؟... إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك. وإن فرشت (نمت) فى الهاوية فها أنت" (مز139: 7 - 8). إذ جالس عن يمين الآب العظيم. بصعوده بالجسد إلى السماء، صار بكراً لنا فى قيامته وفى صعوده.

صعوده إلى السماء فتح الباب لقلوبنا أن تراه وتتمتع بحضوره، أما من يرفضه، فيحرم نفسه من التمتع بنوره. يقول الإنجيلى: "وهذه هى الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو3: 19). من جانب السيد المسيح فهو مملوء نعمة وحقاً (يو1: 14)، لكن من لا يقبل النعمة يحرم نفسه من الحق ومن النور.

يكشف آباء الكنيسة عن الله الواحد الذى هو النور بلا ظلمة. يرى القديس مار إسحق السريانى أن كل البشرية تلتقي بالرب فى يوم الدين (مت25: 32)، البعض يفرح بالنور الإلهي، ويستعذبون الحب الإلهي، وغير المؤمنين يتعذّبون لأنهم حرموا أنفسهم من الحب الإلهي، وصار النور مبكَتاً لهم، أو يدينهم[46].

ويرى القديس مار إسحق أن الذين فى الجحيم يذوقون المرارة بجلدات الحب المرفوض منهم، قائلاً: إنه ليس من مرارة أقسى من جلدات الحب.

البند الثامن: وأيضاً يأتي فى مجده ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء.

33 - ماذا يعني يوم الرب العظيم فى فكر الكنيسة؟

كان مجيء السيد المسيح القادم والأخير يشغل ذهن الكنيسة الأولى فى تمتعها بكلمة الله وفى عبادتها وفى إرشاداتها. بكون هذا الحدث القادم هو بلوغ بالتاريخ البشري إلى قمته، حيث يظهر السيد المسيح على السحاب، ويحمل كنيسته التي تضم جميع المؤمنين من آدم إلى آخر الدهور إلى حضن الآب، للتمتع بشركة الأمجاد الأبدية. إنه يوم الرب العظيم كما يدعوه الكتاب المقدس حيث تنفتح عيون السمائيين والأرضيين لاكتشاف قمة الحب الإلهي الفائق المُقدم للبشرية المقدسة، والتى تدخل فى شركة مع السمائيين على مستوى فائق أبدي، ويتهلل السمائيون والأرضيون بهذا الحب الإلهي الذى يوجَد الجميع معاً.

سبق فرأى بطرس الرسول مجد الرب فى تجليه على جبل تابور، فالتهب قلبه بسرعة بمجئ هذا اليوم المُفرح، حيث نسكن فى "أرض الأحياء" مع كافة القديسين الأحياء بالروح، ويتمتع المؤمنون بالمجد الأسنى. إنه يقول: "فبما أن هذه كلها تنحل، أى أناسٍ يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى، منتظرين وطالبين سرعة مجئ يوم الرب الذي به تنحل لسماوات ملتهبة، والعناصر محترقة تذوب، ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البرّ" (2بط3: 12 - 13). يقول القدّيس مار أفرآم السرياني [احذروا يا إخوتي أن يعدم أحدكم هذا الميراث السعيد. فإنه، ها هو على الأبواب! نزل النور إلينا فأنارنا، وقرَّبنا إليه، وأصعدنا معه. نزل إلينا فصار من أجلنا مثلنا، ليجعلنا مثله. من لا يموت نزل إلى المائتين، وإذ جعلها غير مائتين ارتفع إلى الآب، وسيجيئ بمجد أبيه المبارك، يدين الأحياء والأموات. صار لنا طريق حياة مملوءة نوراً ومجداً، لكى نسلك نحن في لنور إلى الآب[47].].

يقول الشهيد كبريانوس: [يا له من يوم عظيم ذاك الذي يعطينا فيه السيد مكافأة الإيمان والإخلاص! كيف سيكون المجد؟ وكم يكون فرح الدخول إلي حضرة الله عظيماً. أن نتشرف بقبول الفرح الذي للنور الأبدي والخلاص فى حضرة المسيح الرب إلهنا! إننا نتقابل مع إبراهيم وإسحق ويعقوب وكل البطاركة والرسل والأنبياء والشهداء. فى بهجة الخلود الذى سيُمنح لنا نقبل هناك ما لم تره عين، ولم تسمع به آذن، ولم يخطر على قلب بشرٍ.].

يقول العلامة أوريجينوس [يُقدم حساب الحياة كلها بأكملها بدقةٍ فيما يُدعى بملكوت السماوات الذى يشبه ملكاً حيث نقف أمام كري المسيح للحكم، وينال كل واحدٍ ما قد فعله فى الجسد إن كان خيراً أو شراً. وإذ يتم الحساب يقدم فيه كل كلمة بطالة نطق بها البشر (مت12: 36)، وكل كأس ماء بارد قُدم للشرب باسم تلميذٍ (مت10: 42) [48].].

34 - ماذا يطلب السيد المسيح منا؟

ما يطلبه منا هو أن نقبله ونتعرف عليه، يقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [اقبل المسيح، اقبل البصيرة، اقبل نورك، لكي تعرف الله والإنسان حسناً. "حلوّ هو الكلمة الذى يهبنا النور، أنه" أثمن من الذهب والحجارة الكريمة، وأشهى من العسل وقطر السهاد "(مز19: 10) [49].] [كل لقب من ألقابه لا يعبر بمفرده عنه، لكنها كلها معاً تشير إلى قدرة القدير... يتبقى لك بعد ذلك أن تدرك غير المُدرك، وذلك بنعمته الإلهية، بواسطة الكلمة وحده الصادر عنه[50].].

النبد التاسع: نعم نؤمن بالروح القدس، الرب المحيى المنبثق من الآب. نسجد له ونمجده مع الآب والابن، الناطق فى الأنبياء.

35 - ما هو دور الروح القدس فى حياتنا؟

أحد ثمار دخول الخطية فى حياة البشر، أن البشرية الجاحدة اتحدت معاً على تحدّي الخالق، وظنّوا أنهم قادرون أن يسخروا بالله الذى جلب طوفانا فى أيام نوح. "وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لبناً ونشويه شيّاً... هلم نبنِ لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسماً لئلا نتبدد على وجه كل الأرض... وقال الرب:... هل ننزل ونبلبل لسانهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض" (تك11: 1 - 7). وإذ قدم كلمة الله المتجسد نفسه ذبيحة من أجل خلاص العالم، حلّ الروح القدس على التلاميذ وكل الحاضرين، ليُقيم مجتمعاً جديداً يجمع البشرية، لا باتحادهم معاً خلال العودة إلى لسانٍ واحدٍ، إنما بعمله فى حياتهم، فيتمتعوا بروح الحب والوحدة، ويتقدّسوا ليحملوا صورة الله. هذا هو عمل الروح فى الكنيسة الجامعة التى تضم كل الشعوب والألسنة، وبهذا تتحقق خطة الله نحو البشر.

هذا ما أدركه الرسول بولس، فقال: "لأننا جميعاً بروحٍ واحدٍ أيضاً اعتمدنا إلى جسدٍ واحدٍ، يهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وجميعنا سُقينا روحاً واحداً" (1كو12: 13). هكذا كما كان الروح القدس يرف على وجه المياه، فتحولت الأرض الخربة والخاوية (تك1: 2) إلى أرض مشرقة ومثمرة وعالمٍ حسن جداً فى عينيّ الله، هكذا صار روح الله يرف على وجه المياه بالمعمودية ليهب البشرية البنوة لله، ويصير المجتمع البشرى ورثة الله ووارثون مع المسيح (رو8: 17).

يقول القديس باسيليوس الكبير عن الروح القدس: [يشبه شعاع الشمس الذى يقدم نعمته لمن يتمتع به كما لو كان الروح حاضراً له وحده، ومع ذلك ينير الأرض والبحر ويمتزج بالهواء[51].].

ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [صعد يسوع إلى السماوات وتمم الوعد، إذ قال لهم: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر" (يو14: 16). لهذا كانوا جالسين متطلعين إلى مجيء الروح القدس، وإذ حلّ يوم البنطقستي أيضاً فى مدينة أورشليم هذه... نزل الروح القدس من السماء، الذى هو حارس الكنيسة ومقدسها، ومدبر الأرواح، ضابط العواصف الثائرة، الذى يرد الضالين إلى الحق ويحكم المقاتلين ويكلل المنتصرين.

نزل لكى يلبس الرسل القوة ويعمدهم، إذ يقول: "ستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بقليل". لم تكن هذه النعمة جزئية، بل هى قوته فى كمالها، لأنه كما أن الذى يغطس فى المياه ويعتمد تغمره المياه من كل جانب، هكذا هم اعتمدوا بالروح القدس بالكمال...

ولماذا تتعجب؟! خذ مثالاً واقعياً وإن كان فقيراً وعاماً، لكنه نافع للبسطاء. إن كانت النار تعبر من خلال قطعة حديد فتجعلها كلها ناراً، هكذا من كان بارداً صار محترقاً، ومن كان أسوداً صار لامعاً، فإن كانت النار التى هى جسم هكذا تخترق الحديد وتعمل فيه بغير عائق وهو جسم أيضاً، فلماذا تتعجب من الروح القدس أن يخترق أعماق النفس الداخلية؟ [52].].

36 - لماذا دُعى الروح القدس بالمحيى؟

يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [يُدعَى روحاً محيياً، لأنه يقول: "الذى أقام يسوع من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم" (رو8: 11). والرب هو الحياة نفسها، وهو "بادىء الحياة" كما قال بطرس (أع3: 15)، بل والرب نفسه قال: "الماء الذى يعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة ابدية... قال هذا عن الروح الذى كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو4: 14؛ 7: 39). ولكن المخلوقات كما قيل، تنال الحياة به. فذلك الذى لا يأخذ الحياة، بل هو نفسه الذى تؤخذ منه، ويحيي المخلوقات، فأية قرابة يمكن أن تكون بينه وبين الأشياء المخلوقة؟ كيف يمكن أن يكون من بين المخلوقات التى تنال الحياة به من الكلمة؟ [53]].

ويقول القديس أمبروسيوس: [عندما كان الروح يرف على وجه المياه (تك1: 2)، كانت الخليقة بلا نعمة، ولكن بعد أن خلق الكون خضع لعمل الروح القدس، فنال جمال تلك النعمة التى استنار بها العالم. ولكن النعمة التى نالتها الخليقة لا تدوم بدون الروح القدس. هذا ما أعلنه النبي بقوله: "تنزع روحك، فترتاع وتعود إلى التراب، ترسل روحك، فيخلقون وتجدد وجه الأرض" (مز104: 29 - 30). وهو لا يعلم فقط بأن أى مخلوق ليست لديه فرصة الحياة بدون الروح القدس، بل أيضاً الروح القدس هو خالق كل الخليقة. لكنني إذا تأخرت فى البرهنة على هذا الأمر، فالسبب سوف يظهر بعد قليل. فالبرهان الواضح هو انه لا يوجد شيء خلقه الروح القدس ويقدر على البقاء محتفظاً بكيانه بدون عمل أو فعله، ونحن نعني بذلك الملائكة ورؤساء الملائكة والعروش والرئاسات[54].].

البند العاشر: "وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة (كاثوليكية) رسولية".

37 - ما هو مفهوم جامعية الكنيسة؟

في مياه المعمودية ينزع الروح القدس روح الانقسام. فيليق بكنيسة المسيح، الرب الواحد، أن يكون لها الإيمان الواحد، والروح القدس الواحد، عاملاً فيها بالرغم من اختلاف اللغات والثقافات. لا تستطيع الحواجز الاجتماعية أن تحرم مؤمناً مستقيماً من عضويته في الكنيسة الجامعة. تعدد اللغات والثقافات لن ينزع جامعية الكنيسة.

هذه الجامعية يشعر بها المؤمن في أعماقه، فالروح القدس يقدس النفس والجسد والعقل والعاطفة وكل طاقات المؤمن ومواهبه. هذه السمة الكنسية لا يستطيع حتى الموت أن يحطمها، فالمؤمنون الذين رحلوا عنّا صاروا لنا سحابة شهود ليست بعيدة عنّا ولا غريبة عنّا. يقول الرسول بولس عنها: "لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا..." (عب11: 1).

إذ يقول الرسول: "أقامنا معه" (أف2: 6)، أي صارت لنا الحياة المقامة في المسيح يسوع، نجتمع معاً، الذين رحلوا مع المجاهدين، بل ومع القادمين في الأجيال المقبلة. إننا عائلة واحدة، العروس المقدسة للعريس السماوي.

يليق بنا متى أدركنا وجود انقسام فى المجتمع البشري أو العائلة البشرية نطلب بقلبٍ ملتهبٍ حباً من الروح القدس أن يعمل في القلوب وأن نحقق كلمات الرسول: "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام، جسد واحد، وروح واحد، كما دُعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد، رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم. ولكن لكل واحدٍ منّا أُعطيت النعمة حسب قياس هبة المسيح" (أف4: 4 - 7).

البند الحادي عشر: "ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا".

38 - ما هي غاية المعمودية؟

نردد في قانون الإيمان: "ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا".

إذ سقط بعض الكهنة والعلمانيين في إنكار الإيمان أثناء فترات الاستشهاد، أراد البعض بالتوبة أن يرجعوا إلى العضوية الكنسية، فتساءل البعض: "ما هو موقف المؤمن الذي قام بتعميده كاهن أنكر فيما بعد الإيمان؟ هل تُعتبر معموديته باطلة؟ وما موقف المؤمن الذي أنكر الإيمان وأراد الرجوع إلى الإيمان المسيحي، هل تُعاد معموديته؟

كثيراً ما ورد فى كتابات القديس أغسطينوس: "يلزمنا ألا نيأس مطلقاً من أي شخص كان[55]." وجاءت الإجابة فى قانون الإيمان "وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا"، أي لا يجوز إعادة المعمودية عند رجوع إنسانٍ إلى الإيمان. أضيفت هذه العبارة إلى قانون الإيمان فى عام 381م في المجمع المسكوني الثاني بالقسطنطينية.

يقول القديس مار اسحق السرياني: "كما تلقى حفنة رمل من اليد في بحر عظيم، هكذا خطايا كل جسدٍ إن قورنت بفكر الله. وكما أن المجرى الذي يفيض لا يعوقه قدر كف يدٍ من الطين، هكذا رحمة الخالق لا تفوقها خطايا خليقته[56].".

النبد الثاني عشر: "وننتظر قيامة الأموات".

39 - ما هو مصيرنا حين تزول الأرض؟

اهتم قانون الإيمان بإبراز أهمية حياتنا هنا على الأرض، فإن الله هو خالقنا ومخلصنا ومقدسنا كي نكون سفراء عنه في هذا العالم. أما غاية وخاتمة قانون الإيمان فهى: "" وننتظر قيامة الأموات ".

إن كان كلمة الله أخذ جسدنا ليرد له كرامته، ويقيم الروح القدس من جسدنا هيكلاً لله يسكن فيه، ففي يوم الرب العظيم تقوم أجسادنا من الموت وتشارك النفس مجدها. ما أكدته الأناجيل المقدسة هو قيامة السيد المسيح، وتأكيد أن القبر كان فارغاً، أما كيف تمت قيامته فلم تشرحها. وما أوضحه الرسول بولس أن السيد المسيح بكر الراقدين، وأن جسدنا يشبه بذرة تُدفن وتقوم شجرة مثمرة. لا يمكن لإنسانٍ أن يرى في البذرة التي تُدفن صورة للشجرة التي تنبت منها إلا الزارع. يقول أيضاً إن الجسد المائت يُزرع ويقوم غير مائت في المسيح يسوع. ودعا الرسول ذلك أنه "سرّ" (1كو15: 51). "كلنا نتغير فى لحظة، في طرفة عين عند البوق الأخير" (1كو15: 51، 52).

في يوم الرب العظيم سيقوم المؤمنون بكونهم أعضاء فى جسد المسيح الواحد ". هنا ندرك عمق محبة المسيح للبشرية بكونها عروسه السماوية وجسده.

البند الثالث عشر: "وحياة الدهر الآتى".

40 - ما هى حياة الدهر الآتى؟

إنها الحياة الأبدية التي لا تُوصف، تحدث عنها القديس يوحنا الإنجيلي: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو17: 3)، "فيه كانت الحياة" (يو1: 4). "أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد" (يو11: 25 - 26). أينما وُجد المؤمن يتمتع بحضور السيد المسيح في حياته، حتى في موته يجد المسيح يستقبله ويُرحب به. يرى فى الموت انطلاقه إلى المسيح مصدر الحياة.

البند الرابع عشر: "آمين".

41 - ماذا نعنى كلمة "آمين"؟

إنها توقيع المؤمن على هذا القانون، لا بيده بل بكل كيانه الداخلي. يقول الرسول بولس: "لأن كلامنا لكم لم يكن نعم ولا، لأن ابن الله يسوع المسيح الذي كُرز به بينكم بواسطتنا أنا وسلوانس وتيموثاوس لم يكن نعم ولا، بل قد كان فيه نعم. لأن مهما كانت مواعيد الله فهو فيه النعم وفيه الآمين لمجد الله بواسطتنا" (2كو1: 18 - 20).


[1] Anna Fremantle: A Treasury of Early Christianity, p. 275.

[2] The Early Christian Frs.

[3] Fr. Gregory Dox: The Shape of the Liturgy, p 485 ff. ; Shaft: History of the Christian Church, vol I, II;Clarke: Liturgy & Worship.

[4] Whitalker: Documents of the Baptismal Liturgy, p5.

[5] Coptic Encyclopedia, vol. 1. P. 21 - 2.

[6] مترجم عن Coptic Encyclopedia, vol. 1. P. 21 - 2.

[7] القديس كيرلس الكبير: رسالة 55.

[8] Apost. Const. 39: 7.

[9] Epist 20.

[10] Whitacker, Documents of the Baptismal Liturgy, 1970,p46.

[11] Cat. Hom 1: 13.

[12] رسالة 55: 11.

[13] Ep. ad. Magn 1: 8.

[14] Exposition on St. John PG 278: 73.

[15] St. Athanasius, on the Council of Nicaea, 24.

[16] Tertullian: Against Praxas, 10.

[17] الصلاة الربانية طبعة 68ص 9.

[18] رسالة 55: 12.

[19] مقال7: 5.

[20] رسالة 55: 13.

[21] Hexamaeron 11: 1.

[22] Catechetical Oration, 7.

[23] مقال 6: 5.

[24] كلمة Catechumens مأخوذة عن اليونانية Katichoumenos، تعنى "تحت التعليم" والفعل يعنى "يتعلم شفوياً". استخدمت كنسياً بمعنى طالبى العماد.

[25] Rev. Makary El – Souriany: Ancient and contemporary Christian Education in the Coptic Church, Princeton, 1955, P 78.

[26] . راجع القديس أغناطيوس: (سميرنا 6: 2؛ بوليكربس4: 3)، وهرماس (man10: 8).

[27] Apology 67: 1.

[28] Apology 5: 39 - 6.

[29] cf. Fouth Homily on Ecclesiastes, 11: 335.

[30] In Sanctum Pascha.

[31] مقال 10: 3.

[32] رسالة 55: 14.

[33] رسالة 55: 20 - 21.

[34] In 1 Cor. Hom. 20.

[35] On the Trinity, 6 (31).

[36] مقال6: 11.

[37] ضد الأريوسيين 25: 192 PG.

[38] Contra Celsus 4.

[39] Irenaeus: Aganst Heresier 22: 2: 2.

[40] St. Gregory of Nyssa: Catechetical Oration. 32.

[41] راجع مقال 14: 18، 19.

[42] مقال 4: 11.

[43] Homily on Saint Eustathius,4.

[44] On the Incarnation, 5: 29 - 6.

[45] مقال 4: 12.

[46] Cf. St. Isaac the Syrian, homily 28,.

[47] عن نسخة خطية لميامر مار أفرآم السرياني، دير السريان، ميامر رقم 2000، تاريخها 14 أمشير سنة 1207ش، أعدّها الراهب صموئيل السرياني، مقال21، ص. 130 - 131.

[48] Commentary on Matthew,8: 14.

[49] St. Clement: Exhortation to the Heathen, Ch. 9. “The Ante – Nicene Fathers. ”.

[50] St. Clement: Stromata, Book 5, Ch. 12.

[51] On the Holy Spirit, 22: 9.

[52] مقالات لطالبى العماد 17: 13 - 14.

[53] Athanas, Ad. Serap. 1. 22,23.

[54] On the Holy Spirit, Book ll, chap V. 32.

[55] Exposition of Psalms 2: 36: 11.

[56] Homily 51.

No items found

الفصل الثالث الإيمان بالله ومعرفتنا له

الفصل الأول: ماذا تعنى كلمة عقيدة Dogma؟ وما هى غايتها؟

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات