الفصل الثالث الإيمان بالله ومعرفتنا له

الفصل الثالث

الإيمان بالله ومعرفتنا له

1 - هل من ضرورة للإيمان بالله؟

يُعلن القديس ماريوحنا أن "الله محبة" (1يو4: 8). ويريد الله أن يكون قريباً جداً من البشر ليجعلنا واحداً معه، يسكن في نفوسنا مانحاً إيانا القدرة على شركة مجده، بمعنى آخر يعلن الله عن ذاته للبشرية، لا للانشغال بمجادلات نظرية فلسفية، ولا لكي يُفرض سلطانه عليهم، وإنما لكي يجتذبهم إليه، كما يجتذب الأب البشري أولاده، إننا نجد فى أبينا السماوي نبع الحياة والخلود والمسرة الأبدية والمجد. في رسائله الفصيحة كتب القديس أثناسيوس: [التأمل في الله وكلمته (اللوغوس) الصادر عنه فيه إشباع للذين يسمعونه، فبالنسبة لهم يقوم مقام كل طعام. فالملائكة لا يقتاتون إلا برؤية وجه الآب والمخلص فى السماء[57].].

2 - هل يلغي الإيمان عطية العقل؟

"سرّ" في المسيحية لا يعني أن يتقبل المؤمن عقائد غامضة دون فهمٍ، أو أن هذه العقائد غير مقبولة عقلياً؛ فعندما نتحدث عن الأسرار الإلهية الخاصة بجوهر الله وطبيعته وأعماله، إنما نعنىي أن الله يعلن لنا عن هذه الأمور بكوننا كائنات عاقلة، واهباً إيانا الاستنارة الإلهية التى تكشف لنا عن المعرفة الإلهية التي هي بحق فائقة السمو. تبقى عقولنا عاجزة عن استيعاب هذه الأسرار طبيعياً دون تدخل نعمة الله وإعلانه. فالسرّ لا يضاد العقل الإنساني، لكنه بدون معونة الله يبقى فائقاً بعيد الإدراك.

خلقنا الله كائنات عاقلة لا كائنات بهيمية. وهو يعلن لنا عن ذاته وعن أعماله لا ليلغي عقولنا، ولكن ليسمو بها، فتقبله طبيعتنا البشرية وتتعرف على أسراره.

"أُعطيَ لكم أن تعرفوا سرّ ملكوت الله" (مر4: 11). "إذ عرفنا بسرّ مشيئته حسب مسرته التي قصدها فى نفسه" (أف1: 9).

الله الذي يحب البشر ككائنات عاقلة، تحدث مع موسى "كما يكلم الرجل صاحبه" (خر33: 11) وهو يشتاق أن يدخل في حوارٍ مع كل مؤمنٍ.

اقتبس هنا بعض عبارات القديس إكليمنضس السكندري التي تعلن أن المسيحية تسمو بعقل الإنسان ولا تلغيه بالإيمان وبإعلان الله له، إنما تزيده حكمة.

[ترتفع النفس إلى الله، فتتدرب على الفلسفة الحقيقية وتسرع إلى قريبها فى الأعالي، متخلية عن شهوات الجسد كما تترك التعب والخوف[58].].

[الإنسان الخالد هو تسبحة رائعة لله، يتأسس في البرّ، حيث تّنقش فيه أحكام الحق. لأنه أين يمكن أن يّكتب الحق إلا في نفس حكيمة؟ [59].].

ويوضح القديس إكليمنضس أن المعرفة البشرية لازمة لفهم الأسفار المقدسة لكن ليس بدون معرفة الله[60].

3 - لماذا يُدعى الله ثيؤس؟

يقول ج. ل بريستيج[61] Pristige إن بعض آباء الكنيسة الأولى أمثال إكليمنضس وديونسيوس الإسكندريين قد تتبعوا هيرودوت[62] في ربطة بين ثيؤس "الله" وتثيمي "التدبير". يقول القديس إكليمنضس: [دُعي الله ثيؤس لأنه وضع أساس التأسيس والتنصيب كمدبر[63].].

يقول أرسطو، إن الله هو المحرك الأول، الذي حرك العالم وتركه. مقابل هذا نحن نؤمن بأن الله هو الحب اللانهائي، حركة محبته نابعة من داخله خلال علاقة الثالوث القدوس الأزلية فيما بينهم. وقد استعلن حب الله بخلقته العالم، ولا تزال هذه المحبة فعَّاله، لن تبطل قط حتى مجيء المسيح الثاني.

ويؤكد الآباء الإسكندريون بقوة ان الله وهوغير مُدرَك يعتني بالإنسان خلال محبته الفريدة، لأن ملكوت محبته السماوي يتأسس في أعماق نفس الإنسان (لو17: 21). قدرة الله هي تلك المحبة الدائمة الحركة. يقول البابا أثناسيوس: [الله فى وجوده الذاتي يحتضن كل شيء، ولا يحويه شيء، في صلاحه وقوته فهو في الكل لكنه خارج الكل من جهة طبيعتة الإلهيه[64].].

4 - ما هي سمات الله الواحد؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [إنه الله (الاب)، واحد وحيد غير مولود، بلا بداية ولا تغيير، ليس فيه تنوع، ليس مولوداً من آخر، ولا يعقبه آخر، لم يبدأ في زمن للحياة ولا ينتهي قط.

إنه صالح وعادل في نفس الوقت، فإن سمعت من شخصٍ هرطوقي ينادي بوجود إله عادل وآخر صالح[65] تذكر في الحال سهام الهراطقة المسمومة. إذ يتجاسر البعض في كفرٍ أن يقسموا الله الواحد. وقال البعض إن واحد خالق للنفس وآخر إله الجسد[66]. وهذا التعليم غامض وشرير. لأنه كيف يمكن لإنسان أن يصير خادماً للسيدين، بينما يقول ربنا في الإنجيل: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين؟!" (مت6: 24؛ لو6: 13).

يوجد الله، واحد وحيد، خالق للنفوس، والأجساد، واحد هو خالق السماء والأرض، صانع الملائكة ورؤساء الملائكة. هو خالق لكثيرين، لكنه أب لواحدٍ وحيدٍ قبل كل الدهور، الابن الواحد الوحيد ربنا يسوع المسيح، الذي به خلق كل شيء، ما يُرى وما لا يُرى (يو1: 3؛ كو1: 16) [67].].

5 - هل تجاهل الكتاب المقدس الحديث عن سمات جوهر الله؟

لقد تحدث عنه أنه روح: "الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو4: 24).

سرمدي (أزلي، أبدي): "من قبل أن تُولد الجبال أو بدأت الأرض والمسكونة منذ الأزل إلى الأبد أنت الله" (مز90: 2؛ راجع رؤ4: 8؛ رو16: 26).

صالح: ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله (مت19: 17). "الرب حنّان ورحيم، طويل الروح وكثير الرحمة. الرب صالح للكل، ومراحمه على كل أعماله" (مز145: 8، 9).

العالِم بكل شيء: الله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء "(1يو3: 20)." يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه، ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء "(رو11: 33).

عدل الله: "لأن الرب عادل، ويحب العدل، المستقيم يبصر وجهه" (مز11: 7) "ليس عند الله محاباة" (رو2: 11).

القدير: "لأنه ليس شيء غير ممكنٍ لدى الله" (لو1: 37).

حاضر في كل مكانٍ: "أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشت في الهاوية فها أنت" (مز139: 7 - 8).

6 - إن كان الله روح، فلماذا يصف الكتاب المقدس لله أعضاء جسدية مثل قلب الله وعينا الرب وأذناه ويداه؟

يستخدم الكتاب المقدس اللغة التي يستخدمها البشر لتصل إليهم الرسالة مفهومة لديهم، فقلب الله يعني حنوّه ومحبته، وعينا الله وأذناه تشير إلى معرفته لكل شيء، ويداه تشيران إلى قدرته.

7 - مادام الله حاضر في كل مكانٍ، فلماذا يُقال عنه إنه يسكن في السماء أو في الكنيسة أو في المؤمن؟

سكناه في السماء يشير إلى مجده الأبدي، وفي الكنيسة يشير إلى قبوله العبادة المقدسة، وفي المؤمن يشير إلى عمله في حياة المؤمن الداخلية. وحضوره متى اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه (مت18: 20) يشير إلى اعتزازه بحياة الشركة بين المؤمنين في الرب.

8 - هل يمكن للإنسان أن يعرف جوهر الله؟

الإنسان هو المخلوق الوحيد في السماء وعلى الأرض قيل عنه إنه خُلق على صورة الله كشبهه (تك1: 26 - 27). لأجله خلق الله العالم، كما غرس له جنة في عدن (تك2: 8). لذلك وهبه إمكانية التعرّف عليه، لكن يبقى جوهر الله غير موصوف ولا يمكن إدراكه.

إن كان الإنسان يعجز عن رؤية روحه او نفسه، مع تأكده من وجودها، فكيف يستطيع رؤية الله خالقه، ويُدرك جوهره الإلهي؟!

قال أحد الفلاسفة للقديس أثناسيوس: "أرني إلهك فأؤمن بوجوده". أجابه القديس: أرني نفسك وأنا أريك إلهي!.

9 - ماذا يقول الكتاب المقدس عن عجز الإنسان في معرفة جوهر الله؟

يقول الرسول: "الذي وحده له عدم الموت، ساكناً في نورٍ لا يُدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية. آمين" (1تى6: 16).

10 - هل يشهد الكتاب المقدس بإمكانية الإنسان أن يعرف الله؟

أولاً: خلال الخليقة المُبهرة. يقول الرسول بولس: "إذ معرفة الله ظاهرة فيهم، لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظروة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى انهم بلا عذرٍ" (رو1: 19 - 20).

ثانياً: وهب الله الإنسان ناموساً بالفطرة. "الذين يُظهرون عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم، شاهداً أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة" (رو2: 15).

ثالثاً: إذ يتطلع الإنسان إلى معاملات الله معه ومع إخوته في البشرية في الماضي، يدرك أن الله لا يترك الإنسان وحيداً، بل يهتم به فى الوقت المناسب. هذا يحثه ان يتسلح بالله كأبٍ قديرٍ ومحبٍ وحكيمٍ.

رابعاً: من جانبٍ آخر، إذ يتأمل المؤمنون فى معاملات الله معهم يدركون أن الله وضع خطة في حياتهم، فيترنمون: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً؟!" (رؤ11: 33 - 34).

خامساً: تمتع أناس الله الأبرار باللقاء معه ورأوه في مجده، ونظروه جالساً على العرش. وحاولوا التعبير عن سمات الله، فدعوه الديّان والقدير والطويل الأناة والحق والرحوم الخ. وإذ تجتمع كل هذه الأسماء معاً يقول القديس إكليمنضس الإسكندري إن الله فوق كل إسمٍ! عبّر الرسول بولس عن ذلك، فإنه إذ اختطف إلى السماء الثالثة (2كو12: 2) قال: كما هو مكتوب ما لم تر عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسانٍ ما أعدّه الله للذين يحبونه (1كو2: 9)، فكم بالأكثر يكون ذاك الذي أعدّ هذا المجد؟!

يُدعى الله: النور والحق والحياة والقدير وكلّي الكمال الخ. هذه الألقاب لا تكشف عن جوهر الله غير المّدرك، إنما اُعطيت لنا كي نتعرف عليه قدر ما نستطيع بسبب ضعفنا كبشرٍ، أو كخليقةٍ عاجزة عن معرفة جوهر الخالق.

سادساً: الإعلان الإلهى أو الوحى الإلهي: يعلن الله أسراره الإلهية وخطّته نحو الإنسان محبوبه لأنبيائه خلال الرؤى أو الأحلام المقدسة، تارة خلال الرموز وأخرى علانية. وذلك حسبما فيه بنيان وخلاص للبشرية. سنترك الحديث عن الإعلان الإلهي فى بندٍ خاص به.

11 - ما معنى "لا يرانى أحد ويعيش"؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [يستحيل علينا أن نتطلع إلى الله بعينٍ بشرية، لأن غير الجسدي لا يقع تحت الأعين الجسدية. وقد شهد الابن الوحيد– ابن الله نفسه – قائلاً: "الله لم يره أحد في أى زمان" (يو1: 18). فإن فهم أحد مما ورد في حزقيال (حز1: 28) إنه رأى الله، فإنه ماذا يقول الكتاب المقدس؟ إنه رأى "شبه مجد الله"، وليس الرب ذاته كما هو في حقيقته، بل شبه مجده. وبمجرد رؤيته شبه مجد الله، وليس المجد ذاته، سقط على الأرض مرتعداً. فإن كانت رؤية شبه المجد تملأ الأنبياء رعدة، فبالتأكيد إن حاول أحد رؤية الله ذاته يموت، وذلك كالقول: "الإنسان لا يرى وجهي ويعيش" (خر33: 20).

من أجل هذا فإن الله بحنو رحمته بسط السماوات أمام لاهوته لكيلا نموت. لست أقول هذا من عندي بل هو قول النبى: "ليتك تشق السماوات وتنزل من حضرتك، تتزلزل الجبال (وتذوب) (إش64: 1).

نراه خلال اعماله لماذا تتعجب من سقوط دانيال عند رؤيته شبه المجد، إن كان دانيال عند رؤيته جبرائيل – الذي هو ليس إلا مجرد خادم الله – ارتعب للحال وسقط على وجهه ولم يجسر النبي أن يجيبه بالرغم من أن الملاك نفسه، جاء على شبه ابن بشر؟! (راجع دا10: 9، 16، 18) إن كان ظهور جبرائيل أرعب الأنبياء، فهل يرى الإنسان الله كما هو ولا يموت؟! [68]].

12 - لماذا دعا الله نفسه "يهوه" (خر3: 14 - 15)، عندما سأله موسى النبي عن اسمه؟

لأنه هو الكائن في السماء وعلى الأرض وفي كل المسكونة، وهو كائن في وسط شعبه ولا يُمكن مقارنته بكائنٍ آخر!

13 - لماذا يؤكد الكتاب المقدس وحدانية الله، ليس إله غيره (2صم7: 22)؟

لو وُجد أكثرمن إله لا نفتح المجال للمقارنة بينهم، وبالتالي لما كان الله مطلق في كماله. وأيضاً لو وجد أكثرمن إله، لما كان الله غير مُدرك ويستحيل التعبير عن جوهره.

يؤكد القديس إكليمنضس السكندري: [الله واحد، وهو وراء الواحد، فوق الواحد ذاته! أي لا يخضع لرقم واحدٍ[69].].

يرى القديس أثناسيوس السكندري أن وحدانية الله يشهد لها نظام المسكونة وانسجامها معاً. لو وجدت آلهة كثيرة لما كانت المسكونة في انسجام.

إذ يظن بعض الفلاسفة أنه يوجد آلهة كثيرة، اعتقدوا فى قيام حروب بين الآلهة، ووُجد مجد باطل لهذه الآلهة الكاذبة، وهذا لا يليق بالله الكلى الكمال.

14 - ما هى سمات الله؟

قدم لنا الكتاب المقدس اسماء لله من الجانب الإيجابي لنتمتع بسماته عاملة فينا، كما قدم أسماء ضد الجانب السلبي حتى نحذر من السقوط في السلبيات الهدّامة.

من الجانب الإجابي، يُدعى: الصالح، والقدوس، والنور، والحياة الخ.

ومن الجانب السلبى يُدعى: الذي لا يموت، غير المحدود، غير المُقترب منه. مع هذا سنراه وجهاً لوجه ليس كما هو في جوهره، إنما قدر ما يحتمل ضعفنا نحن المحدودون الخ وحسب نعمته العاملة فى خائفي الرب. حتى نستطيع أن نعرفه ونتهلل به إلى الأبد. ندرك أنه عظيم لكننا لا ندرك قياس عظمته. نراه حاضر على الدوام دون أن نعرف كيف ذلك؟

15 - كيف يحمل كل هذه السمات وما يماثلها، ومع هذا ندعوه بسيطاً؟

مع إدراكنا هذه السمات التي تلهب نفوسنا بحبه الفائق، لا يمكننا القول إن جوهره يتكون من عناصر كثيرة، أو يوجد عناصر خارجية ترتبط بجوهره البسيط.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيرافيم والكاروبيم الحاملين العرش لا يحدّون جوهره، انما يتعرفون عليه خلال مجده وأعماله الإلهية قدر ما يستطيعون.

16 - لماذا يستخدم الكتاب المقدس تعبيرات بشرية عن الله؟

يعلن الله عن نفسه لنا نحن البشر باللغة التي يمكننا أن ندركها، حتى ندخل فى علاقات حب معه، ولأجل بنياننا، فعندما يُقال عنه انه ندم على الشر الذي كان يهدد به، لا يعني وجود شر فيه، ولا تغيير فى قدراته. إنما يريد أن نصير أيقونة حيّة له، فالغضب الإلهي لا يحمل انفعالاً كالبشر، إنما للضغط علينا كي نتحرك نحن بنعمته، فنتمتع بحبه ورعايته، وننطلق من الخوف من العدل الإلهي إلى التأمل فى الرحمة الإلهية، دون أن يتغير.

إذ نطلب نعمته ننالها، فنتحرك لنتعرف على طبيعته الأزلية، وهى الحب والرحمة والحنان مع العدل الإلهي. الأمر الذي أعلنه لنا كلمة الله المتجسد، فندرك أن الحب في الله قائم منذ الأزل بين الثالوث القدوس، فى الجوهر الواحد. ويعمل الروح القدس فينا ندركه عملياً فى حياتنا على الأرض. وتبقى معرفتنا هذه جزئية تنمو فينا، فنحسب أنفسنا أطفالاً فى حضن الله، ننعم بحبه الذي لا يُعبّر عنه ولا يُوصف ولا يُقاس. عبّر الرسول بولس عن هذا في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (13: 9).

17 - ما علاقة السمات الإلهية الخاصة بوجوده الإلهي؟

يمكننا أن نميز السمات الإلهية التي تخص الوجود الإلهي دون العلاقة بالخليقة. فالله كائن قائم بذاته، كلي الكمال، لا يخضع للمكان والزمان، غير منظور، لا يستمد وجوده من آخر، بلا بداية ولا نهاية. هو هو أمس واليوم وغداً بلا تغيير، إنه كامل في كل سماته، لا يحتاج إلى الخليقة للكشف عن سماته.

18 - ماذا يعني أن الله فيه كل الكفاية؟

الله فيه كل الكفاية في داخله، لا يحتاج إلى من يخدمه أو يتعبد له أو يمجده. إنما نحن نحتاج أن نخدمه ونعبده ونمجده، إذ ندخل في علاقة معه بواسطة عمل نعمته فينا، فتفيض علينا بالحياة المقدسة والفرح الداخلي والشبع. "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع17: 28).

19 - ماذا يعنى أنه بلا بداية ولا نهاية؟

إنه لم يُخلق بواسطة كائن آخر، ولم يبدأ في وقتٍ معين. وليس له نهاية، ولا يوجد من يخلفه. كل زمن العالم فى نظره شطرة من الثانية متى قورنت بأبديته. بالنسبة له لا يوجد ماضىي وحاضر ومستقبل بل الكل حاضر على الدوام. يقول الرسول: "إن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحدٍ" (2بط3: 8؛ مز90: 4).

بدأ الزمن عندما خلق الله العالم المنظور. لهذا ما يشغل الله بالنسبة للبشرية هو تمتعها بالحياة الأبدية خلال عمل الخلاص.

20 - ماذا تعنى سمة الله غير المتغيرة؟

الله المطلق فى سماته لن يزيد ولن ينقص، بل يبقى كما هو بلا تغيير. يقول في ملاخي النبي: "لأني أنا الربّ لا أتغير" (مل3: 6). أحبنا الله أولاً "(1يو4: 19)، ولم يبدأ حبه بعد صلب المسيح من أجلنا. يقول الرسول:" ولكن الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح من أجلنا "(رو5: 8).

21 - ماذا يعني حضور الله الدائم؟

حضور الله الدائم لم يبدأ بالخلقة ولا بوجود العالم المحدود. حضوره لا يُحصر بأماكن محدودة أو مادية، فهو فوق كل مكان. حضور الله الدائم لا يحمل معنى امتزاج وجوده الإلهي بالعالم المادي. حضوره في العالم لا يعني أن جزءاً من لاهوته في موضعٍ ما وجزء آخر في موضع آخر. إنه حاضر بالكمال في كل المسكونة ولا يُمكن لموضعٍ معين أن يحده. حضوره الدائم بكماله في كل موضع يكشف عن معرفته الكاملة، وقدرته الكلية، وجوهره الذي لا يُمكن أن يُوصف أو يُحد.

22 - ماذا يعني أنه غير المنظور وغير المدرك؟

ليس لله جسد يُمكن أن يُنظر ويُلمس. لم يستطيع الأنبياء أن يروا الله إلا في حدود ما سمح لهم به، خلال القليل جداً من بهاء مجده الإلهي. إنه لا يُرى كما هو عليه، بل حسب ما يريد أن يعلن لكل شخص لبنيانه. "ليس أحد يعرف الابن إلا الآب... ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت11: 27).

23 - ما هو سبق معرفة الله؟

يعرف الله كل شيءٍ يحدث خارجاً عنه، ليس فقط ما يخص الكائنات العاقلة أي الطغمات السمائية والبشر، بل كل ما يحدث فى العالم المنظور وغير المنظور. يعرف ما سيحدث في المستقبل بكل تفصيلٍ وذلك قبل أن يخلق الزمن، ليس خلال تقدم في المعرفة، وإنما خلال جوهره البسيط. كما يرى الماضى والمستقبل كأنهما حاضر أمامه.

معرفته لا تُلزم البشر والملائكة أن يفعلوا ما يعرفه، فهو يقدس حرية إرادة الكائنات العاقلة. إنه ليس مسئولاً عن ما يفعلونه كأنه هو السبب في ممارستهم هذه الأشياء.

كل الأمور معروضة أمامه بكل دقةٍ وفي وضوحٍ.

24 - ما هي سمة "الكلي الحكمة" عند الله؟

الله الكلي الصلاح وكلي الحكمة. يحدثنا القديس إكليمنضس السكندري عن صلاح الله، ليس أنه صالح فحسب يقدم الخيرات، ولكنه يحوّل الشرور إلى صلاح. هذا ما أدركه يوسف وكشف عنه لإخوته، قائلآ لهم: "لا تخافوا، لأنه هل أنا مكان الله؟! أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم، ليُحيي شعباً كثيراً" (تك50: 19 - 20). حوَّل الله كل الشرور الموجهة ضد ابنه القدوس لتقدم للبشرية طريق الخلاص خلال آلام السيد المسيح وصلبه وموته ودفنه.

25 - ما هي سمة القدرة الإلهية؟

الله كلي القدرة، يُعلن بقدرته أبوته للبشرية، وحكمته فى قيادتنا، ومسرته فى خلاصنا.

يكشف عن قدرته العجيبة أنه يهبنا كمال الحرية لنسأل ونطلب ونقرع باب مراحمه، مؤكداً لنا: "كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له" (مت7: 8).

26 - ما هي سمة القداسة الإلهية؟

الله في قداسته لم يعرف الخطية (2كو5: 21)، يحب البرّ والصلاح، ويحتقر الخطية. تعمل قدرته الفائقة لتقديس سائليه. الله بطبيعته الكاملة قدوس، ومصدر القداسة لكل من يطلبه.

في قداسته وحده قادر أن يدين، لأنه فاحص القلوب والكلى، سيدين كل الأمم والشعوب بغير محاباة. فى يوم الربّ العظيم سيدين الأحياء والأموات.

27 - ما هي سمة الحب الإلهي والحنو؟

الله محبة (1يو4: 8)، طويل الأناة يعطي فرصة للتوبة حتى في اللحظات الأخيرة من حياة الخطاة كما فتح أبواب الفردوس لديماس اللص اليمين. إذ سقط الإنسان الأول عوض التوبة لام الله الذي خلق حواء وهي قدمت له الثمرة الممنوعة، قابل الرب هذا التصرف بتقديم حياته ذبيحة عن آدم وبنيه! بمحبته يبقى أميناً في وعوده لنا بالرغم من عدم أمانتنا (رو3: 3).

28 - ماذا طلب موسى من الله في أول لقاء معه خاص بالخدمة؟

طلب موسى من الله أن يتعرف على اسمه. فقد كان موسى أول قائد لشعب الله في العهد القديم، وكنائب عنهم أعلن له الله عن اسمه أنه "يهوه" أي "الذي يكون". وماذا يعني تعبير: "الذي يكون"؟ يعني أنه موجود، يعمل لحساب شعبه المختار وذلك على خلاف الديانات اليونانية التي غالباً ما كانت تتطلع إلى الله بكونه الكائن المتعالي جداً عن شئون العالم.

29 - هل ترى الملائكة الله قدر احتمالها؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [رب قائل يعترض: ماذا إذن، ألم يُكتب: "إن ملائكة الصغار كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات؟" (أنظر مت18: 10). نعم لكن الملائكة ترى الله ليس كما هو، بل قدر ما تحتمل. إذ يقول يسوع المسيح: "ليس أن أحداً رأى الآب إلاّ الذي من الله، هذا قد رأى الآب" (يو6: 46) [70].].

30 - ماذا يُقصد بكماله مطلق؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [إنه ليس عظيماً في حبه المترفق وقليلاً في الحكمة، بل له قوة متساوية في الحكمة والحب المترفق. لا يُرى من ناحية معينة فيه دون أخرى، بل كله عين وكله إذن وكله ذهن[71]. إنه ليس مثلنا يُدرك من جانب دون آخر. فإن مثل هذا تجديف لا يليق بجوهر الله الذي يعرف الأمور قبل كونها. قدوس وقدير، يفوق الكل في الصلاح والعظمة والحكمة. لا يمكننا أن نخبر عن بداية له أو شكل أو مظهر، إذ يقول الكتاب: "لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته" (يو5: 37). وكما قال موسى: "احتفظوا جداً لأنفسكم، فإنكم لم تروا صورة ما (يوم كلمتكم)". فإذ يستحيل تماماً رؤية شكله كما تفكر في الاقتراب من جوهره (خر33: 20)؟! [72]].

يحدثنا القديس أغسطينوس في هذا الشأن قائلاً: [لا تستسلموا للتفكير بأنكم ترون لله وجهاً جسدياً، لئلا تفكيركم هذا تهيئون أعينكم الجسدية لرؤيته فتبحثون عن وجه مادي لله... تنبهوا من هو هذا الذي نقول له بإخلاص: "لك قال قلبي... وجهك يارب أطلب" (1كو3: 17)... لتبحثوا عنه بقلوبكم. يتحدث الكتاب المقدس عن وجه الله وذراعه ويديه وقدميه وكرسيه وموطئ قدميه... لكن لا تحسبوا أنه يقصد بها أعضاء بشرية. فإن أردتم أن تكونوا هيكل الله، فلتكسروا تمثال البهتان هذا.].

31 - من يستطيع أن يُعبر عن الحب الإلهى؟

عندما سٌئل القديس يوحنا سابا عن سبب عدم كتابته عن الأسرار المخفية، قال إنَّه يشبه صبياً صغيراً، إذا ما دخل إلى بيت أبيه، يقدّم له أبوه كل ما هو ثمين. وأمّا عندما يخرج إلى أصدقائه الأطفال، فلا يعطيهم إلاَّ بعض الأمور البسيطة ليقدّمها لهم.

تجاسرت لأتكلَّم عن "الحب الإلهي"، فإذا بي أتكلَّم عن "الله"، لأن "الله محبَّة" (1يو4: 8). هكذا وجدت نفسى أتجاسر لأكتب عن أمور لا يسوغ لضعفي أن ينطق بها، ولا يقدر لسان بشري أو حتى ملائكي أن يعبِّر عنها، لأنَّه من يقدر أن يفحص أعماق الله إلاَّ روح الله (1كو2: 1 - 11)!

يقول الرسول بولس: "وأنتم متأصلون ومتأسّسون فى المحبَّة (فى الله)، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع القدِّيسين ما هو العرض والطول والعمق والعلوّ، وتعرفوا محبَّة المسيح الفائقة المعرفة، حتى تمتلئوا إلى كل ملء الله" (أف3: 18 - 19).

يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [ماذا أفعل؟! إنَّني إنسان، وأنطق بلغة بشريَّة، لساني من الأرض، لذلك آلتمس العفو من ربّى، فإنِّي لا أستخدم تلك التعبيرات الخاصة بالروح من قبيل الاستهتار، بل لفقر مصادري الناجم عن ضعفي وطبيعة لساني البشري. تراءف عليَّ يا رب، فإنَّني لا أنطق بهذه الكلمات من قبيل الوقاحة، بل لأنَّه ليس لديّ إمكانيّات غير هذه. ومع ذلك فإنَّني لست بقانعٍ تمامّاً بمعاني كلماتي، إنّما أحلّق متسامياً بأجنحة فهمي.].

يقول الشيخ الروحاني (القدّيس يوحنا سابا): [من شاء أن يتكلّم عن محبَّة الله، فهو يبرهن على جهله، لأن الحديث عن هذه المحبَّة الإلهيَّة غير ممكن البتّة.].

[عجيبة هى أيضّاً المحبَّة! هي لغة الملائكة، ويصعب على اللفظ ترجمتها! المحبَّة اسم الله الكريم، من يستطيع أن يفحصها أو يحدّها؟!] [ليس من يقدر أن يخبربمحبَّتك كما هي يا أبانا الصالح، أولئك الذين أشرقْت فيهم وهم لا يعرفون!].

[ليس لنا ياربّي أن نتكلّم من الذي لنا عن الذي لك، لكن أنت تتكلَّم فينا عنك، وعن كل ما هو لك، كما يحسن لك. أشرق فيهم يارب نور معرفتك، لينظر ويعلم أولئك الذين هم في حضنك أنَّهم مستورون.] [أرني (يا الله) بلد الحب لأتكلَّم عنه كما يستطيع ضعفي! أسكب فيّ يارب نعمتك برحمتك لأتكلَّم عنها! ألهب قلوب محبِّيك، فيخرجوا فى طلبها!].

يقول القدِّيس أغسطينوس: [إلهي، تُرى أين أجد لساناً يقدرأن يعبِّر عن المجد اللائق بك من أجل نعمتك المجّانيّة؟! خلقتني إذ لم أكن؛ وأوجدتني بإرادتك؛ ومن قبل أن أوجد، كان لك المجد اللائق بعظمتك... أنت هو المجد الحقيقي، فليس لي إذن أن أدعو خليقتك لتخبر بعظائمك.

يصغُر القلب عن أن يحوي عظائمك، ويعجز النطق عن أن يحدّها، ولا يقدر السمع أن يدركها... هذه كلّها تفنى، أمّا عظائمك فباقية إلى الأبد... الفكر له بدايته ونهايته، والصوت لا يلبث أن يتبدّد صداه، تسمعه الأذن ثم لا يلبث أن ينتهي، أما عظمتك فباقية إلى الأبد.

تُرى من يقدر أن يسبِّحك ويمجّدك كما يليق بعظمتك؟! لذلك أعود فأكرِّر أن مجدك دائم لا يتغيّر. أيها المجد الأبدي، يا الله إلهي، ينبوع كل مجدٍ راسخٍ، بدونك أعجز عن أن أمجِّدك، لأن خارجاً عنك ليس إلاَّ المجد الباطل. إذن، أسرعْ إليّ فأمجّدك! حقيقة من أنا حتى أرفع اسمك؟! أنا لست إلاَّ تراباً ورماداً، كلباً ميتاً ونتناً، دودة حقيرة، جثّة هامدة قابلة للفساد...

نعم، من أنا حتى أمجّدك، أيّها السيّد الفائق، الملك الأبدي، الله، الذي نسمة فمه أفضل آلاف المرّات من الكائنات الأرضيّة. فهل للظلمة أن تمجّد النور، أم الموت يُسبّح الحياة؟!... يا الله إلهي، تمجَّد أنت بحسب قدرتك ولانهائيّة حكمتك، واتساع حنانك.

تمجَّد في رحمتك الحقيقيّة، وعطفك اللانهائي وكمالك الأبدي، وعظمة لاهوتك.

تمجَّد في جلال قدرتك الفائق، ومحبَّتك المترفّقة التي دفعتك لخلقتنا يا إلهي، يا حياة قلبي.].


[57] St. Athanasius: Pascal letters 6: 1.

[58] Strom 3: 4.

[59] Protrop. 10.

[60] Strom. 9: 1.

[61] G. L. Prestige: God in Patristic Thought.

[62] Herodotus: Hist. Book2, Ch. 52.

[63] St. Clement: Stromata, Book1, Ch, 29.

[64] St. Athanasius: De Decretis, Ch. 3.

[65] ذكر القديس ايريناؤس (ضد الهرطقات 1: 27) أن Cerdo نادى بأن إله الناموس والأنبياء ليس هو أباً ربنا يسوع المسيح، بل هو واحد عادل والآخر صالح. كذلك جاء فى (ضد الهرطقات 25: 3: 3) أن مرقيون قسم الله إلى اثنين الواحد يدعى صالحاً، والآخر عادلاً، وبهذا وضع حداً للاهوت. راجع أيضاً العلامة ترتليان ضد مرقيون 1: 2، 6. والعلامة أوريجينوس ضد مكسيموس 4: 54.

[66] من هؤلاء أتباع مانى.

[67] مقال 4: 4.

[68] مقال9: 1.

[69] Paidagogos 8: 1: 71.

[70] مقال 6: 6.

[71] راجع القديس إيريناؤس 35: 3، 4، 7: 2.

[72] مقال 6: 7.

No items found

الفصل الرابع الثالوث القدوس

الفصل الثاني (أ) قانون الإيمان وبدء القوانين الكنسية 2 )ب( حول قانون الإيمان القبطي الأرثوذكسي 2 (ج) تفسير قانون الإيمان

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات