الفصل الثاني عشر الروح القدس والخلاص الإلهي

الفصل الثاني عشر

الروح القدس والخلاص الإلهي[492]

"محبة الله الآب،.

ونعمة الابن الوحيد، ربنا وإلهنا يسوع المسيح،.

وشركة وموهبة الروح القدس، تكون مع جميعكم ".

القداس الغريغوري.

1 - ما هو دور الروح القدس في تمتعنا بالخلاص الإلهى؟

ظهر رئيس الملائكة جبرائيل لفتاة الناصرة العذراء الفقيرة وبشرها: "ها انتِ ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع" (لو1: 31). فى دهشةٍ سألته: "كيف يكون هذا، وأنا لست أعرف رجلاً. للحال كشف لها عن دور الثالوث القدوس فى هذا العمل الإلهى الذى ترقبته الأجيال منذ سقوط آدم حتى تلك اللحظة، إذ قال" الروح القدس يحلّ عليكِ، وقوة العليّ تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله "(لو1: 35).

وُلد كلمة الله المتجسد، يسوع المسيح، ولم يكف عن توجيه أنظار سامعيه نحو الآب، مؤكداً "أنا والآب واحد" (يو10: 30). وفى حديثه الوداعي لتلاميذه وجَّه أنظارهم إلى المعزي الآخر الذى يمكث معهم إلى الأبد (يو14: 16): "أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم" (يو16: 6). لقد ربط بين عمله الخلاصي وبين المعزي الآخر، قائلاً: "يأخذ مما لي ويخبركم" (يو16: 14). كما أكّد: "هو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو16: 13).

يمكننا القول إن الآب قدم لنا أبوته وحبه ورعايته الفائقة للبشر. وجاء الابن يقول: "كل ماهو للآب هو لي" (يو16: 15). كأنه يقول كل حب الآب الفائق لكم أحمله أنا، مترجماً إيّاه عمليّاً على الصليب. "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16). أيضاً خلال الصليب انطلق الروح القدس يقود الكنيسة لينطلق بها نحو السماويات.

رحلة الروح القدس الرعوية للإنسان ظهرت عملياً حين كان يرفّ على وجه المياه (تك1: 2) حيث كانت الأرض خربة وخاوية، وانطلق عبر الأجيال يمسح أنبياء وكهنة وملوكاً لشعب الله، ويعد الطريق لتجسد كلمة الله. كما شهد مع الآب للسيد المسيح الذى اعتمد فى نهر الأردن، ليقيم من المؤمنين بالمسيح أولاداً لله. رحلته لا تزال مستمرة تعمل فى كنيسة المسيح كما فى كل عضوٍ فيها. والآن ماذا قدم ولا يزال يقدم وسيقدم إلى أن يعبر بنا إلى أورشليم العليا؟

يحثنا القديس إيرينيؤس عن دور الثالوث القدوس فى الكنيسة، فيقول: [يصف الكهنة تلاميذ الرسل مسيرة الذين يخلصون وخطوات صعودهم، فيصعدون بالروح إلى الابن، وبالابن إلى الآب، وأخيراً يرد الابن عمله للآب كقول الرسول (1كو15: 24) [493].] كما يقول: [الآب يخطط ويعطي أوامر، والابن يحقق ويخلق، بينما الروح ينعش وينمي، وعلى درجات يصعد الإنسان نحو الكامل[494].].

2 - ما هي أهداف السيد المسيح من حديثه في اليوم الأخير من عيد المظال عن حلول الروح القدس؟

اعتاد اليهود أن يتركوا بيوتهم فى عيد المظال ويقيموا فى مظال مؤقتة لمدة أسبوع ليتذكروا أنهم غرباء ونزلاء فى هذا العالم. خلال السبعة أيام الأولى للعيد كانوا يحضرون ماء من بركة سلوام فى إناءٍ ذهبىٍ ويسكبه رئيس الكهنة امام الشعب، ليعلن أن من كان عطشاناً فليقترب ويشرب. كان ذلك إشارة إلى الصخرة التى كانت تفيض ماءً على الشعب فى البرية. وفى اليوم الثامن لا يحضروا ماءً من البركة إشارة إلى أن الشعب يشرب من ينابيع كنعان وليس من مياه البرية. فى هذا اليوم وقف السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم وأسقف نفوسنا ليقدم نفسه ينبوع مياه يفيض بالمياه الحية فى أعماق نفوس المؤمنين، سائلاً إياهم أن يشربوا بفرحٍ من آبار الخلاص (إش12: 3؛ زك14: 8؛ يوئيل2: 28 - 32).

قيل: "في اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى، قائلاً: إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه انهار ماء حيّ". (يو7: 37 - 38).

هذا الوعد الإلهى بحلول الروح القدس يكشف لنا عن المفاهيم التالية:

أولاً: الذين التصقوا بموسى النبي شربوا ماءً من الصخرة فى البرية حيث كانت الصخرة تتبعهم وتفيض عليهم بما يرويهم، وكانت تشير إلى السيد المسيح (1كو10: 4). أما من يؤمن بالسيد المسيح فيحمل الصخرة فى داخله، وينطلق الفيض لا من الخارج بل من بطنه، أى من إنسانه الداخلى حيث يُقام ملكوت الله.

ثانياً: يدعو اليهود الماء الجاري ماءً حياً، لأنه دائم الحركة، لن يتوقف عن الحركة. هكذا إذ يوجد السيد المسيح فى قلب المؤمن يعمل الروح القدس فيه على الدوام، فيتمتع بنعمة فوق نعمة، تفيض هذه النعم على من هم حوله (أم10: 11). فلا يكفينا أن نشرب من المجرى الذى فى داخلنا، لنستريح بالنعمة الإلهية المعطاة لنا بلا انقطاع، وإنما يلزم أن يفيض هذا المجرى الداخلى ليروي الكثيرين. الأرض الجافة المقفرة ليس فقط تتحول إلى فردوسٍ، وإنما تفيض بمياهها على نفوس جافة كثيرة لتشاركها الطبيعة الفردوسية المثمرة الجديدة.

ثالثاً: فى اليوم الأخير من العيد وقف السيد المسيح يقدم دعوة للشعب العائد إلى بيوتهم، قدمها علانية منادياً بصوت عالٍ. فى الأيام الأولى للعيد يقدمون ذبائح من أجل الدولة التى فى العالم، أما اليوم الأخير فمخصص لإسرائيل وحده. لهذا كان اليوم الثامن يُحسب "العظيم"، له تقديره الخاص.

رابعاً: يربط القديس أمبروسيوس بين هذا الينبوع الحي الذى أشار إليه السيد المسيح وما ورد فى سفر الرؤيا، إذ يقول: [إنه ليس بالأمر التافه أننا نقرأ أن نهراً ينبع من عرش الله، إذ تقرأون كلمات الإنجيلي يوحنا فى هذا الأمر: "وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلّورٍ خارجاً من عرش الله والخروف. فى وسط سوقها، وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتيّ عشر ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها، وورق الشجرة لشفاء الأمم" (رؤ22: 1 - 2). هذا بالتأكيد النهر الصادر عن عرش الله، أى الروح القدس الذى يشرب منه من يؤمن بالمسيح كما قال المسيح نفسه (يو7: 37 - 38) [495].].

3 - ما هو تعليق الإنجيلي يوحنا على هذا الوعد الإلهي؟

"قال هذا عن الروح الذى كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد". (يو7: 39).

الله لا يبخل بروحه القدوس على البشرية، فقد خلق الإنسان ليعمل روح الله فيه، ويستقر فيه. لكن الإنسان بإرادته أعطى ظهره له ولم يقبله، فصار الروح أشبه بضيفٍ يعمل فى رجال الله وفى الأنبياء، بل وأحياناً حتى فى غير المؤمنين كى يجتذبهم للإيمان. أما وقد تمجد الرب على الصليب ودُفع الثمن لغفران خطايانا وتمجيدنا فيه، وُهب الروح بفيض كما سبق فوعد فى (يوئيل2: 8).

الروح القدس هو العطية العظمى، بل واهب العطايا الذى نلناها بحلوله على الكنيسة وسكناه فى قلوب المؤمنين، وتوزيع مواهب وعطايا حسبما شاء، لمجد الله وبنيان الكنيسة وخلاص النفوس.

4 - لماذا حلّ الروح القدس على الكنيسة بعد أن تمَجد السيد بآلامه وصلبه وموته ودفنه وقيامته وصعوده إلى السماء؟

يقول الإنجيلى: [لأنه لم يكن قد تمجّد بعد "، ماذا يعني هنا بالمجد الذى لم يكن قد تحقق بعد؟ إنه لم يكن بعد أقتيد إلى المحاكمة بإهانة وسخرية، ولم يكن بعد قد جُلد وصُلب ومات بالجسد، وبالتالى لم يكن قد دُفن فى القبر، ثم قام وصعد إلى السماوات". إنه يحسب كل ما فعله السيد المسيح أو ما حلّ به هو مجد، لأن هذا كله لم يكن ثمرة خطية ارتكبها، إنما من أجل حبه ورغبته فى خلاص الخطاة. يقول القديس كيرلس الكبير أنه ما فعله السيد المسيح هو لحسابنا.

أما دور الروح القدس فهو ان يأخذ مما للمسيح يخبرنا، أى يجعله لحسابنا. فمن أجلنا أقتيد للمحاكمة وأُتّهم ظلماً، ونحن إذ نُحاكم ظلماً نُحسب شركاء المسيح المتألم. وكما حسبه المسيح مجداً له لأنه قبله بفرح لحسابنا نحسبه نحن أيضاً مجداً لنا أن نشاركه آلام المحبة خاصة إن كانت ظلماً.

من أجلنا جُلد وصُلب لنترنّم بالروح القدس مع الرسول: "مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل2: 20). ومن أجلنا دُفن وعبرت نفسه إلى الهاوية لتحمل نفوس الراقدين على رجاء ويقدمها غنيمة يُسر بها الآب، إذ صارت تحمل برّ المسيح.

وما نقوله عن الصلب نقوله عن القيامة والصعود، فصارت السماوات بيتنا الأبدي.

5 - ما هي خبرات آباؤنا الأولين في الشرب من هذا الينبوع الذي أعلن عنه السيد المسيح حاسباً نفسه الينبوع الذي يروي العطاش؟

أولاً: يشار إلى الرب أنه نهر يفيض بنعمته ليروي ظمأ بني البشر، إذ يقول المرتل: يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمك تسقيهم. لأن عندك ينبوع الحياة بنورك نرى نوراً "(مز36: 8 - 9) يفيض على الأمم بالسلام والمجد (إش66: 12LXX). من يؤمن بى ويقبلنى بكونى المسيا الذى تنبأت عنه الأسفار المقدسة، فإنه يسكن فى قلبه أو فى أحشائه الروح القدس الذى يفيض حياة. يصير ينبوعاً يفيض بثمار الروح من حب وفرح وسلام وحرية واستنارة. وقد أعتاد اليهود ان يشبهوا عمل الروح القدس بالمطر المبكر والمتأخر والينابيع والآبار والأنهار الخ (مز36: 8 - 9؛ إش44: 3 - 4؛ يوئيل2: 23). بقوله" إن عطش "يعني من يشعر بفقره إلى البرّ أو احتياجه إلى البركات الروحية أو بالفراغ الداخلى." فليقبل إليّ ويشرب "، لا يقف بعد عند رئيس الكهنة ويُعجب بالإناء الذهبى الذى يسكب منه قليلاً من ماء بركة سلوام، ولا يذهب إلى الفلسفات الوثنية الكثيرة والمتضاربة التى لها جاذبية تخدع الإنسان، بل ليأتى إلى السيد المسيح كما قدمه لنا الكتاب المقدس بعهديه. يقول القديس كيرلس الكبير: [مجازاة الإيمان عظيمة وبلا نهاية، يقول من يؤمن ينعم بأغنى نعم الله، لأنه سيمتلئ بعطايا الروح، فلا يسمن ذهنه فقط، بل يصبح قادراً على أن يفيض على قلوب الآخرين، كتيار النهر المتدفق الذى يفيض بالخير المُعطى من الله على جاره أيضاً.] ويقول القديس أغطسينوس: [ما هو الينبوع، وما هو النهر الذى يفيض من بطن الإنسان الداخلى؟ الميل إلى عمل الخير، الذى به يراعي الإنسان الاهتمام بأخيه. فإن تصوّر أن ما يشربه يلزم أن يكون لشبعه هو وحده لن يكون فيض من المياه الحيّة من بطنه، لكنه إن أسرع إلى الاهتمام بصالح قريبه لا يكون جافاً بل كون فيه فيض[496].].

فى بيت الرب، الكنيسة، ينتعش المؤمنون الحقيقيون بخمر الحب الإلهي؛ يمتلئون فرحاً وبهجة، ويرتوون، فلا يعطشون بعد إلى ينابيع الشهوات الأرضية والملذات الزمنية ومباهج الحياة. يجدون فى المخلص سرّ فرحهم الحقيقى وبهجتهم وارتوائهم!

يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [الذين يشربون من غنى بيت الله ومجرى مسرته يرتوون، كما يخبرنا النبي (مز36: 8). بهذه الوسيلة سكر داود ولم يدر بنفسه؛ وإذ كان فى دهش عاين ذلك الجمال الإلهي الذى لا يقدر مائت على معاينته[497].].

ثانياً: يدعونا القديس جيروم أن نكون جادين فى الشرب من هذا الينبوع، إذ يقول: [إنه لا يقول: "يجب أن تشربوا... بل من كان راغباً وقادراً على الجري والشرب، فسيغلب ويرتوي[498].] ويقول الأب قيصريوس أسقف آرل: [ما هو هذا الينبوع إلا ربنا يسوع المسيح...؟! إنه الينبوع الصالح الذى يعطينا بروده بعد نيران هذه الحياة وحرارتها، وبفيضه يلطف جفاف قلوبنا[499].].

ثالثاً: يدعونا القديس أغسطينوس أن نتحرك نحو الينبوع بحبٍ: [إن كنا عطشى فلنأتي، لا بأقدامنا بل بعواطفنا. نأتى لا بالتحرك من موضعنا بل بالحب[500].].

رابعاً: يدعونا القديس كيرلس الكبير أن نشرب منه بفرحٍ: [على المرء أن يأخذ كل شيءٍ من داخل النهر أو الوادي وهو متهلل بذلك. يُقارن ربنا يسوع المسيح بنهرٍ، فيه نجد كل مسرة وتمتع فى الرجاء، وفيه نفرح فرحاً روحياً إلهياً.].

خامساً: يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن نفس المؤمن أو روحه تشتهي أن تشرب من ينبوع عريسها السماوي أى من كلمات فمه بمسرةٍ وبلا توقفٍ، إذ يقول: [إن الروح بالرغم من اتحادها مع الله فهى لا تشعر بملء السعادة بطريقة مطلقة، بل كلما تمتعت بجماله يزداد اشتياقها إليه. إن كلمات العريس روح وحياة (يو5: 24)، وكل من التصق بالروح يصير روحاً. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب. وهكذا تشتاق الروح البكر دائماً للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذى تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. إنه يملأ الفم الذى يقترب منه مثل داود النبى الذى اجتذب روحاً خلال فمه (مز118: 131). لما كان لزاماً على الشخص الذى يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (يو7: 37)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهي إن تضع فمها على الفم الذى ينبع بالحياة، ويقول: "ليقبلنى بقبلات فمه" (نش1: 2). من يهب الجميع الحياة ويريد إن الجميع يخلصون يشتهى أن يتمتع كل واحدٍ بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطَّهر من كل دنس[501].].

كما يقول: [يلزمنا أن نفكر بعمقٍ فى الكلمات المقدسة بالنشيد: "هلمي معي من لبنان، هلمي معي من لبنان انظري من رأس أمانة، من رأس شنير وحرمون، من خدور الأسود من جبال النمور" (نش4: 8). ماذا نفهم إذن من هذه الكلمات؟ يجذب ينبوع النعمة إليه كل العطشى. وكما يقول الينبوع فى الإنجيل: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (يو7: 37). لا يضع المسيح لهذه الكلمات حدوداً لعطشنا ولا لتحركنا نحوه، ولارتوائنا من الشرب، ولكن يمتد أمره إلى مدى الزمن، ويحثنا أن نعطش وأن نذهب إليه. وإلى هؤلاء الذين ذاقوا وتعلموا بالتجربة أن الله عظيم وحلو (مز34: 8)، فإن حاسة التذوق عندهم تُصبح حافزاً لزيادة التقدم. لذلك فالشخص الذى يسير باستمرار نحو الله لا ينقصه هذا الحافز نحو التقدم[502].].

ويقول أيضاً: [إذا أردنا أن نسوق شاهداً أعظم من الكتاب المقدس نسجل ما قاله السيد المسيح إلى هؤلاء الذين آمنوا به: أنهار ماء حيّ ستفيض من كل من يؤمن به "من آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو7: 38). وتٌضيف أن القلب النقى يُشار إليه بالتعبير "بطن". ويصبح لوح للشريعة المقدسة (رو2: 15) كما يقول الرسول. يوضح تأثير الشريعة المكتوبة فى القلب ليس بحبرٍ (2كو3: 3)، ولكن بروح الله الحيّ الذى يرسم هذه الحروف فى النفس، وليس على ألواح حجرية كما يقول الرسول، ولكن على لوح القلب النقى، الخفيف والمضئ. يلزم أن تُنقش الكلمات المقدسة الموجودة فى الذاكرة النقية الصافية، على القدرة القائدة للنفس، بحروف بارزة واضحة. تُشير الزفير فى الحقيقة إلى تمجيد بطن العريس فقط باللوح الذى يشع نوراً بلون السماء. ترشدنا هذه الصورة لكى نكون متنبهين للأشياء السماوية، مكان كنزنا (مت6: 21). فإذا ثبتنا فى حفظ وصايا الله تتكون لدينا آمال مقدسة تنعش عيون نفوسنا[503].].

أيضاً يقول: [بعد ذلك يرفع النشيد العروس إلى أعلى قمة للمجد، مُضفياً عليها اسم ينبوع المياه الحيّة المتدفقة من لبنان. لقد تعلمنا من الكتاب المقدس عن طبيعة الله المعطية الحياة كنبوة من شخص الله تقول: "تركونى أنا ينبوع المياه الحيّة" (إر2: 13). ثم يقول السيد المسيح للمرأة السامرية: "لو كنتِ تعلمين عطية الله، ومن هو الذى يقول لكِ أعطينى لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماء حياً" (يو4: 10). ثم قال: "إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو7: 37 - 39). تقول كل من هذه الفقرات أن الماء الحى هو الطبيعة المقدسة، لذلك جاز للنشيد أن يسمى العروس بصدق بئر ماء حي يفيض من لبنان. هذا فى الحقيقة يتعارض مع ما هو معروف، فجميع الآبار تحتوى على مياه راكدة، والعروس وحدها عندها مياه جارية فى بئر عميق، ومياهها تفيض باستمرار. من يستحق أن يفهم العجائب الممنوحة للعروس؟ يتضح أنها قد وصلت إلى أقصى ما تتمناه، فقد قورنت بالجمال الأبدى الذى منه نشأ كل جمال. وفى نبعها تشبه نبع عريسها تماماً، وحياتها بحياته، وماؤها بمائه. إن كلمته حية، وبها تحيا كل نفسٍ وتستقبله. هذه المياه تفيض من الله كما يقول ينبوع المياه الحيّة: "لأنى خرجت من قبل الله وأتيت" (يو8: 42). تحفظ العروس فيض مائه الحي فى بئر نفسها، وتصبح بيتاً يكنز هذه المياه الحيّة التى تفيض من لبنان، أى التى تكوّن سيولاً من لبنان. لقد أصبحنا فى شركة مع الله باقتنائنا هذه البئر، حتى نحقق وصية الحكمة (أمثال5: 17، 18)، ونشرب مياها من بئرنا، وليست من بئرٍ آخر. نتمتع بهذا فى المسيح ربنا له المجد والعظمة إلى الأبد، آمين[504].].

6 - ماذا يعني: من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي (يو7: 38)؟

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [هنا يقول: "كما قال الكتاب، تجرى من بطنه أنهار"، ملمحاً نحو عظمة النعمة وفيضها... وقد دعاها فى موضع آخر "حياة أبدية" أما هنا فيدعوها "أنهار ماء"... فإن نعمة الروح إذ تدخل الذهن وتقيم، تفيض أكثر من أى ينبوع. إنها لن تتوقف ولن تفرغ... فلكى يعني إنها تقدم عوناً لا ينضب، وفى نفس الوقت طاقة لا تخيب، دعاها "بئراً" وأنهاراً، ليست نهراً واحداً، بل هى أنهار لا تُحصى. يمكن للشخص أن يدرك بوضوح ما تعنيه إن وضع فى اعتباره حكمة اسطفانوس ولسان بطرس وغيرة بولس[505].].

كما يقول القديس أمبروسيوس: [هكذا يؤمر النبى (إيليا) من الرب أن يعبر إلى النهر (1مل17: 2) لكى يشرب من العهد الجديد ليس فقط بنهر بل "تجري من بطنه انهار ماء حيّ" (يو7: 38)، أنهار فهم، وأنهار تأمل، وأنهار روحية، هذه التى تجف فى زمن عدم الإيمان لئلا يشرب مدنسو المقدسات وغير المؤمنين. فى ذلك الموضع عرف الغربان ما لم يعرفه اليهود. أطعم (إيليا) الغربان، ذاك الذى اضطهده الجنس الملوكي الشريف[506].].

7 - لماذا لا ينال المؤمن النطق بكل لغات الأمم عند عماده وتمتعه بالروح القدس؟

يرى القديس أغسطينوس أن الروح القدس قد حلّ على كثيرين قبل أن يتمجد يسوع بقيامته، مثل سمعان الشيخ وحنّة النبيّة والقديسة مريم عند التجسد الإلهى، لكن حلول الروح القدس بعد القيامة جاء حلولاً عاماً على الكنيسة فى عيد العنصرة حيث نطقت بكل لغات الأمم. أما لماذا لا ينال المؤمن النطق بكل لغات الأمم عند عماده الآن ونواله الروح القدس؟ فيجيب القديس أغسطينوس بأنه إذ انتشرت الكنيسة فى العالم صار المسيحيون ينطقون بكل لغات العالم، فكل مسيحى كعضوٍ فى الكنيسة الجامعة يحسب نفسه كمن يتكلم بكل لغات الأمم، لأن ما ينطق به إخوته كأنما ينطق به هو كعضوٍ فى الجسد الواحد[507].

مرة أخرى يقول القديس أغسطينوس أن السيد المسيح بعد قيامته وهبنا الروح القدس الذى به نحب الكنيسة ونتمتع بوحدتها وحبها، وبهذا ننعم بالقيامة معه، حيث نهاجر بقلوبنا العالم لنحيا معه فى السماء. [يكون لنا الروح القدس إن كنا نحب الكنيسة، لكننا نحب الكنيسة إن ثبتنا فى وحدتها وحبها... نحن هنا نولد ونموت، ليتنا لا نحب هذا العالم، بل نهجره بالحب، بالحب نسكن فى الأعالي، بذات الحب الذى به نحب الله. فى هذه الرحلة لحياتنا ليتنا لا نفكر فى شيء غير أننا لن ندوم هنا، وأنه بالحياة الصالحة نعد لأنفسنا موضعاً حيث لا نهجره قط[508].].

يقول القديس أمبروسيوس: [الروح القدس هو النهر الذى يفيض من المسيح إلى الأراضي. وقد قبلنا هذا كما تنبأنا فم إشعياء (إش66: 12). هذا النهر العظيم الذى يفيض على الدوام ولن يتوقف، ليس فقط نهراً بل هو أيضاً أحد المجاري الغزيرة التى تفيض عظمة، كما قال داود: "مجرى النهر يفرح مدينة الله" (مز46: 4). فإنه لا ترتوي تلك المدينة، أورشليم السماوية بقناة، أى بنهرٍ أرضىٍ، بل بالروح القدس المنبثق من مصدر الحياة. المجرى الذى يصدر عن ذاك الذى يشبعنا، يبدو أنه يفيض بوفرة بين العروش السماوية والسيادات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، جارياً فى أكمل نصيب لفضائل الروح السبع[509].].

8 - هل كان السيد المسيح محتاجاً لحلول الروح القدس عليه أثناء عماده في نهر الأردن؟

يجيب القديس إيرينيؤس على هذا السؤال قائلاً: [وعد الرب بالأنبياء أن يسكب روحه على خدامه وخادماته فى نهاية الأزمنة. هذا هو سبب نزوله على ابن الله الذى صار ابن الإنسان، إذ صار معتاداً به أن يسكن فى الجنس البشري ويستقر على البشريين، وأن يحيا فى خليقة الله، يجددهم من العتق إلى جدة المسيح... لهذا السبب وعد الرب أيضاً أن يرسل الباراكليت الذى يهيئنا لله[510].

ويقول القديس كيرلس الكبير: [بدأ الله الآب يعطى الروح من جديد، وكان المسيح أول من قبل الروح كباكورة الطبيعة المتجددة، لأن يوحنا شهد قائلاً: "إنى قد رأيت الروح نازلاً من السماء فاستقر عليه" (يو1: 32)... لم يقبل المسيح الروح لأجل نفسه، بل بالأحرى لأجلنا نحن فيه، لأن كل الصالحات تفيض أيضاً فينا بواسطته. لأنه إذ حاد جدنا آدم بالخديعة سقط فى العصيان والخطية ولم يحفظ نعمة الروح. وهكذا فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها الخير المُعطى لها من الله، لهذا يلزم أن الله الكلمة غير المتغير يصير إنساناً حتى إذا ما نال كإنسانٍ يمكنه أن يحفظ الصلاح فى طبيعتنا على الدوام. ودليلنا فى تفسير هذه الأسرار هو المرتل الإلهي نفسه، إذ يقول للابن: "أحببت البرّ وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز45: 7).].

كما قال: [فى الأنبياء القديسين بريق غنى خاص، يستمدونه من مصدر الاستنارة من الروح القدس، القادر أن يقودهم إلى إدراك أمورٍ عتيدة ومعرفة أنباء مخيفة. لكننا نثق أن الذين يؤمنون بالمسيح لا يكون لهم مجرد استنارة من الروح القدس، بل الروح نفسه يسكن ويجعل إقامته فيهم... لنفهم أنه يعني سكنى الروح القدس فى البشر كاملة وبالتمام.].

ويقول القديس أمبروسيوس: [هذا بالتأكيد النهر الصادر عن عرش الله، أى الروح القدس الذى يشرب منه من يؤمن بالمسيح كما قال المسيح نفسه[511].].

ويقول القديس أغسطينوس إنه بعد قيامته وهبنا الروح القدس الذى به نحب الكنيسة ونتمتع بوحدتها وحبها، وبهذا ننعم بالقيامة معه، حيث نهاجر بقلوبنا العالم لنحيا معه فى السماء. [يكون لنا الروح القدس إن كنا نحب الكنيسة، لكننا نحب الكنيسة إن ثبتنا فى وحدتها وحبها... نحن هنا نولد ونموت، ليتنا لا نحب هذا العالم، بل نهجره بالحب، بالحب نسكن فى الأعالى، بذات الحب الذى به نحب الله، فى هذه الرحلة لحياتنا ليتنا لا نفكر فى شيءٍ غير اننا لن ندوم هنا، وأنه بالحياة الصالحة نعد لأنفسنا موضعاً حيث لا نهجره قط[512].].

9 - ما هي علاقة الروح القدس بالسيد المسيح كمخلص؟

فتح ميلاد السيد المسيح حسب الجسد الطريق لنا لحلول الروح القدس فينا، فقد جاءت حياة السيد المسيح تشهد لعمل الروح القدس، الذى هو روحه واحد معه فى اللاهوت. جاء يوحنا السابق الملاك الذى أعد الطريق للسيد المسيح مملوءً من الروح وهو بعد فى الرحم (لو1: 15). ذات الروح حلّ على القديسة العذراء مريم وظللها مثل الشكينة التى حلت فى جبل سيناء، حتى يهيئها لكى يكون المولود منها القدوس المدعو ابن الله (لو1: 35). وعند زيارة القديسة مريم لأليصابات امتلأت الأخيرة من الروح القدس وارتكض الجنين فى بطنها بابتهاج (لو1: 41 - 42). وسبحت مريم وزكريا بوحي الروح (لو1: 46، 68). وبالروح القدس استقبل سمعان الشيخ الطفل يسوع فى الهيكل (لو2: 25 - 32). وقاد الروح القدس ربنا يسوع إلى البرية ليُجرَّب (مر1: 12).

يقدم لنا السيد المسيح الروح القدس ليحل فينا، فنحمل المسيح فى داخلنا، ويصير هو نفسه صلاتنا وعبادتنا "بالروح" إذ تصرخ أعماقنا نحو الآب: "يا آبا، الآب" (رو8: 15؛ غلا4: 6).

يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [المسيح وُلد (تجسد)، والروح هو السابق له. المسيح اعتمد والروح حمل شهادة له. المسيح جُرَب، وهو الذي عاد به (إلى الجبل). المسيح صنع عجائب، والروح رافقه. المسيح صعد، والروح خلفه[513].] كما يقول: [أعمال المسيح الجسمانية انتهت، وأعمال الروح تبدأ[514].].

عمل الروح القدس اللائق به هو تحقيق وحدتنا مع المسيح. كما يقول القديس كيرلس الكبير:

[إنه الروح الذى يوحدنا، نقول إنه يجعلنا نتجانس مع الله، استقباله يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية، ونحن نتسلم هذا من الابن، وبالابن من الآب[515].].

[(الابن نفسه) يشَّكلنا حسب مجده، ويوسمنا بخاتم شكله[516].].

[واهب الروح الإلهي المعطي الحياة ومعطيه هو الابن المولود من الله[517].].

[الملء المُعطى لنا بالآب والابن يتحقق... بالروح القدس الذى يملأنا بالمواهب الإلهية به ويجعلنا شركاء فى الطبيعة التى لا يُنطق بها[518].].

[هكذا حيث يعيش الابن فينا بطريقةٍ لا توصف وذلك بروحه (غلا4: 6)، نقول إننا مدعّوون لروح البنوة[519].].

[شكراً للاتحاد مع الابن الذى يتحقق بوساطة الروح فى الذين يقبلونه حتى أننا نتشكل للبنوة[520].].

[إن كانت الصورة الحقيقية التى تعبر بكمال عن التشبه بالابن نفسه، بلا خطأ، فالشبه الطبيعى للابن هو الروح الذى نتوافق معه بدورنا خلال التقديس، والذى يشكلنا إلى شكل (الآب) نفسه[521].].

[نحن نتشكل حسب المسيح، ومنه نتقبل الصورة (غلا4: 9)، وشكل الروح حسناً جداً، كمنْ مِنْ أحد شبيه له بالطبيعة[522].].

[بسبب قوته وطبيعته يمكن للروح بالتأكيد أن يُصلحنا إلى الصورة الفائقة[523].].

10 - ما هو دور الروح القدس في العهدين، القديم والجديد؟

فى العهد القديم كان روح الله يحلّ على الإنسان لمهمةٍ معينة، وإذ يتممها يفارقه؛ فلا يقطن فيه كهيكل إلهي. أما فى العهد الجديد، فكما يقول الرسول بولس: "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟!" (1كو3: 16).

كثيراً ما أشار العهد القديم إلى الروح القدس أو روح الرب العامل فى أناس الله. كمثالٍ حين طلب يشوع من موسى النبي أن يردع اليداد وميداد لأنهما تنبأ، "قال له موسى: هل تغار أنت لي؟! ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء، إذ جعل روحه عليهم" (عد11: 29).

أما العهد الجديد فقد أبرز عمل الروح القدس كواهبٍ لعطايا تفوق الطبيعة. فقيل عن يوحنا المعمدان: "ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" (لو1: 15). كما قيل عن أليصابات: "وامتلأت أليصابات من الروح القدس" (لو1: 41). وعن زكريا الكاهن: "وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلاً..." (لو1: 67). وعن سمعان الشيخ قيل: "وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب" (لو2: 26).

وفى حديث للسيد المسيح مع المرأة السامرية، قال لها: "لو كنتِ تعلمين عطية الله ومن هو الذى يقول لك أعطينى لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماء حياً" (يو4: 10). "وفى اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى، قائلاً: إن عطِش أحدّ فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماءٍ حيّ. قال هذا عن الروح القدس الذى كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه لم يكن أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد" (يو7: 37 - 39). لقد مُجّد يسوع على الصليب حيث بذل حياته من أجل خلاص العالم، ووُهب للمؤمنين به أن يصيروا هيكل الله وروح الله يسكن فيهم (1كو3: 16).

11 - هل يشهد الكتاب المقدس أن الروح تحدث بواسطة الأنبياء؟

يقول الرسول: "الذين أُعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التى أخبرتم بها، أنتم الآن بواسطة الذين بشروكم فى الروح القدس المُرسل من السماء" (1بط1: 12).

12 - إن كان الروح تكلم بواسطة الأنبياء وحلّ على التلاميذ في شكل ألسنة نارية، فهل يعمل أيضاً فى المؤمنين؟

يقول الرسول: "أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟!" (1كو3: 16).

13 - كيف نصير شركاء في الروح القدس؟

اولاً: خلال الصلوات الحارة: يقول رب المجد: "فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحريّ الآب الذى من السماء يُعطي الروح القدس للذين يسألونه" (لو11: 13). إن كنا نهتم أن نقدِّم خبزاً وسمكة وبيضة لأولادنا لكى يقدروا أن يعيشوا على الأرض، فإن الآب الذى من السماء يعطينا الروح القدس الذى وحده روح الشركة، فهو يثَبِتنا فى الابن الوحيد الجنس منطلقاً بنا إلى حضن الآب السماوى. عمله أن يهبنا "الحياة الجديدة" الحاملة للسِمة السماويَّة. لكى نعود إلى الحضن الأبوي من جديد. يقول القدِّيس إكليمنضس السكندرى: [إن كنَّا ونحن أشرار نعرف أن نعطي عطايا صالحة فكم بالحري طبيعة أب المراحم، أب كل تعزية، الصالح، يترفَّق بالأكثر وبرحمة واسعة يطيل أناته منتظراً الراجعين إليه؟ [524]].

ثانياً: بواسطة المعمودية وتجديد الروح القدس: "ولكن حين ظهر لطف مخلّصنا الله وإحسانه لا بأعمالٍ فى برٍّ عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس. الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح ملّخصنا" (تى3: 4 - 6). يعلق القديس أمبروسيوس على هذا القول قائلاً: [الروح القدس هو الذى يخلصنا من دنس الأمم! سامية هى هذه النعمة التى تغير غضب الوحوش إلى بساطة الروح[525].] كما يقول: [من هو هذا الذى يُولد من الروح ويصير روحاً (روحانياً) إلا الذى يتجدد بالروح فى ذهنه ". (أف4: 23)! هذا هو بالتأكيد ذاك الذى يولد بواسطة الماء والروح حيث ننال رجاء الحياة الأبدية خلال جرن الميلاد الذى للروح القدس[526].] ويعلق القديس أغسطينوس قائلاً: [فى المعمودية غُسلت كل الخطايا السابقة. وخلالها يكون عون الروح الذى به يشتهي ضد الجسد فلا ننهزم فى حربنا، (الروحية). وخلالها تكون للصلاة الربانية فاعليتها حين نقول" أغفر لنا ذنوبنا ". هكذا يُعطى لنا التجديد، ونُعان فى صراعنا، وتسكب الصلاة، ويكون قلبنا غير مشوب. وبهذا نكون بلا لوم[527].] كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [إن كان الروح لا يُعبد، فكيف يمكنه أن يؤلهني فى المعمودية؟... من الروح ننال ما يجددنا. هكذا أنتم ترون الروح يعمل بكونه الله واهب المِنح لنا، هكذا أنتم ترون ما نُحرم منه إن أنكرنا أن الروح هو الله. بالروح أعرف الله. هو نفسه الله، وفى الحياة الأخرى يؤلهنى[528].].

ثالثاُ: التمتع بغذاء النفس. حسن أن يجاهد الإنسان بكل وسائل النعمة سواء بقراءة الكتاب المقدس والصلاة والأصوام والمطانيات، لكن بدون نعمة الله واقتناء الروح القدس غذاء النفس، لن يقدر الإنسان أن يتمتع بالحياة الأبدية. هذا ما أبرزه القديس مقاريوس الكبير، بقوله:

[حينما خلق الله جسدنا هذا لم يمنحه أن تكون له حياة من طبيعة الله الخاصة، ولا أن يحيا الجسد بذاته، وإنما دبر له الطعام والشراب واللباس والأحذية[529]، وهكذا عيّن الله له أن يأخذ كل حاجات الحياة من الخارج، إذ صنع الجسد نفسه عرياناً. ولا يمكن للجسد أن يعيش بدون الأشياء الخارجة عنه، أى بدون الطعام والشراب واللباس. فإن حاول أن يعتمد على طبيعته وحدها دون أن يأخذ شيئاً من الخارج، يضمحل ويموت. وهذا هو نفس الحال بالنسبة للنفس أيضاً، فهى لا تملك النور الإلهى بالرغم من أنها مخلوقة على صورة الله، وهكذا نظم الله أحوالها وقد أراد بأن لا تحصل على الحياة الأبدية من طبيعتها الخاصة، ولكن من لاهوته، أى من روحه، ومن نوره، تنال طعاماً وشراباً روحانياً، ولباساً سماوياً وهذه هى حياة النفس، أى الحياة بالحقيقة.

إن الطبيعة الإلهية فيها خبز الحياة الذى قال: "أنا هو خبز الحياة" (يو6: 35)، "والماء الحي" (يو4: 10)، "والخمر التى تفرح قلب الإنسان" (مز104: 15)، "وزيت الابتهاج" (مز45: 7)، وجميع أصناف طعام الروح السماوى ولباس النور، تلك التى تأتى من الله. وفى هذه الأشياء تكون حياة النفس الأبدية. ويل للجسد حينما يعتمد على طبيعته الخاصة، لأنه حينئذ يضمحل ويموت، وأيضاً ويل للنفس إن استندت على طبيعتها الخاصة، ولم تضع ثقتها فى شيءٍ سوى أعمالها الخاصة، ولم تنل شركة روح الله، فإنها تموت إذ لم تحصل على حياة اللاهوت الأبدية الممنوحة لها.

ففى حالة المرض بالجسد، بمجرد أن يفقد الجسد القدرة على تقبل الغذاء، لا يعود هناك أمل فى هؤلاء المرضى، ويبدأ أصدقاؤهم الحقيقيون وأقرباؤهم ومحبوهم فى البكاء وذرف الدموع. بنفس الطريقة، فإن الله والملائكة يبكون على النفوس التى لا تتغذى بطعام الروح السماوى[530].].

14 - ما هي أهم العطايا والمواهب التى يهبها الروح القدس؟

يمكن تقسيم مواهب الروح إلى مواهب خلاصية، ومواهب تقوية، ومواهب للكرازة والشهادة. أما فى الواقع العملي فيصعب الفصل بين هذه المواهب وبعضها البعض، فإن حياة المؤمن وحدة واحدة لا تتجزأ، وخلاصنا فى جوهره تمتع بالاتحاد مع الآب كأبناء له بالمسيح يسوع فى الروح القدس. حياتنا الكنيسة، وسلوكنا الشخصى وشهادتنا لإنجيل المسيح وحبنا للبشرية كلها وخدمتنا لهم بكل وسيلة مقدسة لا تتجزأ. يصعب بل ويستحيل علينا أن نضع حداً فاصلاً بين المواهب الخلاصية والمواهب التقوية ومواهب الكرازة والشهادة. يقول القديس أغسطينوس: [بدون روح الإيمان لا يؤمن أحد بحقٍ، وبدون روح الصلاة لا يصلي أحد بطريقةٍ نافعةٍ. لا يعني هذا أنه يوجد أرواح كثيرة، بل فى كل الأشياء الروح الواحد بعينه يعمل، الذى يقدم لكل واحدٍ فردياً حسبما يشاء (1كو12: 9) [531].].

ويقول القديس أمبروسيوس: [كُتِبَ: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة" (عب1: 1). ويقول حكمة الله: "سوف أرسل لهم أنبياءً ورسلاً" (لو11: 49) وأيضاً "لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد. ولاخر مواهب شفاء بالروح الواحد، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة" (1كو12: 8 - 10). ومن يكون الروح القدس الذى يُعطِي النبوات حسب قول الرسول: ألم يعطِ الآب النبوات وكذلك الابن، فإذا كان الروح القدس يعطي النبوة مثل الآب والابن، فالعمل واحد، والنعمة واحدة والروح القدس الذى هو أيضاً مصدر النبوات ليس إلا الله[532].].

العطايا التى وردت فى سفر إشعياء 11: 2 "يحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب." إذ جاء السيد المسيح ممثلاً للبشرية حلّ عليه الروح القدس الذى ليس بغريب عنه، لأنه روحه. حلول الروح القدس على المسيح يختلف عن حلوله علينا؛ بالنسبة له حلول أقنومى، واحد معه فى ذات الجوهر مع الآب، حلول بلا حدود. أما بالنسبة لنا فهى نعمة تُمنح لنا فى المسيح يسوع قدر ما تحتمل طبيعتنا ليعمل على تجديدها المستمر.

فى عيد العنصرة تحدث القديس يوحنا الذهبى الفم عن "مواهب الروح القدس" قائلاً: [أية موهبة من بين المواهب التى نتمتع بها فى داخل خلاص نفوسنا لم ننلها خلال خدمة الروح (القدس)؟! فخلاله نتحرر من العبودية، وندعى إلى الحرية! خلاله صرنا أولاَّد الله، بتبنيه إيانا! وفوق هذا كله، إن أمكنني أن أقول، إننا قد تجددنا، خالعين عنا ثقل الخطايا الكريه! خلاله نرى قدامنا طغمات الكهنة! خلاله يساعدنا معلمينا! منه ننال مواهب الإعلانات، ومواهب الشفاء، وكل المواهب الأخرى التى بها يزين الروح القدس كنيسة الله. هذا ما يعلنه الرسول بولس قائلاً: "ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسماً لكل واحد بمفرده، كما يشاء" (1كو12: 11). يقول "كما يشاء" وليس "حسبما يؤمر". ويقول: "قاسماً" وليس "مقسمة"، مظهراً أنه هو صاحب هذه المواهب، وليس كمن يخضع لسلطان آخر، فالسلطان الذى يشهد عنه الرسول بأنه للآب هو نفسه ينسب للروح القدس. وكما قال عن الآب: "ولكن الله واحد الذى يعمل الكل فى الكل"، ويقول أيضاً عن الروح القدس: "ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء".

انظروا كمال السلطان، فإذ الطبيعة (الإلهية) واحدة، لذلك فإنه لا يوجد أدنى شك من جهة السلطان، وإذ توجد مساواة فى الكرامة فإن القوة والسلطان واحد.].

يتحدث القديس غريغوريوس النزينزي عن عمل الروح القدس فى حياتنا كينبوع صلاحنا، قائلاً:

[يُدعى روح الله وروح المسيح... وهو نفسه الرب. روح النبوة والحق والحرية، روح الحكمة والفهم والمشورة والقدرة والمعرفة والصلاح ومخافة الرب.

إنه صانع كل هذه الأمور، يملأ الكل بجوهره ويحوي كل الأشياء، يملأ العالم فى جوهره ومع هذا فلا يمكن للعالم ان يدرك قوته.

صالح ومستقيم، ملوكي بطبيعته وليس بالتبني. يُقدس ولا يتقدس، يقيس، ولا يُقاس، يهب شركة ولا يحتاج إلى شركة، يملأ ولا يُملأ، يحوي ولا يُحوى، يورث ويمجد... مع الآب والابن.

هو أصبع الله، نار كالله (الآب)... الروح الخالق الذى يخلق من جديد بالمعمودية والقيامة.

هو روح العالم بكل شيء، يهب حيث يشاء، يرشد ويتكلم ويرسل ويفرز ويحزن،.

يعلن وينير ويحييّ، أو بالحري هو ذات النور والحياة.

يخلق هياكل ويؤله (يعطي شركة مع الله).

يهب كمالاً حتى قبل العماد (كما فى حادث كرنيليوس أع10: 9)،.

تطلبه بعد العماد كعطية... يفعل فينا العمل الإلهي،.

ينقسم فى ألسنة ناريِّة مُقسِّماً المواهب، يقيم الرسل والأنبياء والإنجيليين والرعاة والمعلمين. يُفهم بطرق متعددة، واضح، وينخس القلوب[533].].

يقول القديس باسيليوس الكبير [لا يستطيع أحد ان يتقبل كل العطايا الروحية، إنما تُعطى نعمة الروح بما يتناسب وإيمان كل واحدٍ، وعندما يكون شخص ما يعيش فى جماعة مع آخرين، فإن النعمة التى تُوهَب بصفة خاصة لكل فردٍ تصير ملكاً عاماً للآخرين... من يقتني أية موهبة من تلك المواهب، لا يمتلكها لأجل نفسه، بل بالحري لأجل الآخرين[534].].

[نحن نعتقد أن الروح بالنسبة لتوزيع المواهب هو مثل الكل الحاضر فى الأجزاء، لأننا جميعاً أعضاء بعضنا البعض، ولكن لكل واحدٍ موهبته حسب النعمة المعطاة لنا "(رو12: 5 - 6). لذلك لا تقدر العين أن تقول لليد، ليس لى حاجة إليكِ، ولا الرأس للرجلين لا حاجة إليكما" (1كو12: 21) وإنما الكل يُكمِّل جسد المسيح في وحدة الروح، ويقدِّم كل عضو للآخر الخدمة الضرورية التى تأتي من المواهب. ووضع الله الأعضاء فى الجسد حسبما شاء (1كو12: 18) واعضاء وهبت الاهتمام بالأعضاء الأخرى حسب الشركة الروحية التى يقدم العطف المتبادل. لذلك إذا تألم عضو، تألمت معه باقى الأعضاء، وإذا أُكرم عضو فرحت معه بقية الأعضاء (1كو12: 25 - 26). وكما أن الأجزاء فى الكل، هكذا نحن كل فردٍ منا فى الروح، لأننا جميعاً "اعتمدنا إلى جسدٍ واحدٍ بروحٍ واحدٍ" (1كو12: 13) [535].].

كما يقول: [بالروح القدس استعادة سكنانا فى الفردوس، وصعودنا إلى ملكوت السماوات،.

عودتنا إلى البنوة الإلهية، ودالتنا لتسمية الله "أبانا"،.

اشتركنا فى نعمة المسيح، وتسميتنا أبناء النور، حقنا فى المجد الأبدي،.

وبكلمة واحدة حصولنا على ملء البركة فى هذا الدهر وفى الدهر الآتي[536].].

15 - ما هو الإيمان كأحد مواهب الروح القدس (1كو12: 9)؟

الإيمان من أثمن مواهب الروح، مُقدم للجميع، لكنه من المواهب النادرة يزدري به البعض فى عجرفة واعتداد العمل البشري. يتحدث الرسول عن الإيمان الذى يحرك السماء والأرض، به يمكن أن تنتقل الجبال (1كو13: 2)، ويرى البعض أن الإيمان هو العمل المعجزي فى سحب القلوب لقبول عمل المسيح الخلاصي. ويقول القديس كيرلس الأورشليمى: [الإيمان الذى يُعطى بواسطة الروح كنعمةٍ، ليس إيماناً خاصاً بالتعاليم المجردة، وإنما الإيمان الذى يحمل قوة وحيوية تتعدى الطبيعة البشرية، الإيمان الذى يحرك الجبال... فكما أن حبة الخردل صغيرة، لكنها تحمل طاقة متفجرة، فتأخذ الفرصة بزراعتها ثم تبعث فروعاً عظيمة حول الساق، حتى إذ تنمو تصير ملجأ للطيور، هكذا بنفس الطريقة، الإيمان يقدم فى النفس أموراً عظيمة[537].].

16 - من يتحدى رياح الخطية العنيفة وظلمة الشيطان؟

يدعونا القديس مقاريوس الكبير أن نلجأ إلى الروح القدس الذى برياحه المقدسة ينعش النفس، ويهبها الاستنارة بروح القوة التى تتحدى رياح الخطية المظلمة والقاسية. يقول القديس: [كما يحدث فى أحد الليالى المظلمة الكئيبة أن تهب ريح عاصفة وتحرك وتفتش كل الزروع والنباتات وتهزها، هكذا حينما يسقط الإنسان تحت سلطة ظلام ليل الشيطان، ويصير فى الليل والظلمة، فإنه يتكدر بواسطة ذلك الريح المرعب ريح الخطيئة الذى يهب (عليه)، فيهزه ويقلبه ويفتش أعماق طبيعته كلها: نفسه وأفكاره، وعقله، ويهز أيضاً كل أعضاء جسده، ولا ينجو عضو سواء من أعضاء النفس أو أعضاء الجسد، ويبقى مستكيناً للخطيئة الساكنة فينا. وبالمثل فهناك نهار النور والريح الإلهي، ريح الروح القدس، الذى يهب وينعش النفوس التى تكون فى نهار النور الإلهي[538].].

17 - لماذا قال السيد المسيح: "لكني أقول لكم الحق انه خير لكم أن انطلق، لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم" (يو16: 7)؟

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ماذا يحدث؟ هل الروح أعظم منك حتى أننا الآن لا نحتمل، لكن سنحتمل بعد ذلك؟ هل سيعمل الروح بأكثر قوة وأكثر كمالاً؟ لا، ليس كذلك، لأنه هو أيضاً ينطق بكلماتي[539].].

ويقول القديس أغسطينوس: [لم يكن التلاميذ فى ذلك الحين مستعدين أن يموتوا من أجل المسيح عندما قال لهم: "لا تقدر الآن أن تتبعني" (يو13: 36)... ومع ذلك نجد بعد هذا أعداداً بلا حصر من رجال ونساء وأولاد وبنات وشباب وشابات وشيوخ وصغار تُوجوا بالاستشهاد، ووُجد القطيع مستعداً لهذا الذى لم يكن الرعاة قادرين على احتماله عندما نطق الرب بهذه الكلمات... حسناً، ليتنا نقبل الأمر هكذا، إن كثيرين يستطيعون الآن أن يحتملوا هذه الأمور، إذ أرسل الروح القدس، هذا الذى لم يستطع التلاميذ أن يحتملوه قبل مجيئه[540].].

18 - من يقدم لنا تعزيات سماوية أثناء جهادنَّا ومعركتنا مع إبليس الشرس؟

فى حديثه الوداعى قبل القبض عليه أكد السيد المسيح لتلاميذه أنه سيرسل لهم الروح القدس المعزي، قائلاً لهم: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد" (يو14: 16). "وأما المعزي الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمى فهو يعلمكم كل شيءٍ، ويذكركم بكل ما قلته لكم (يو14: 26)." ومتى جاء المعزي الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق، الذى من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي (يو15: 26).

إذ يتمم السيد المسيح عمل الفداء على الصليب، يصعد إلى السماء، ويرسل الروح القدس، ليهب كنيسته عذوبة الشركة فى الصليب وخبرة قوة القيامة وعربون الحياة السماوية. هذا هو المعزي الآخر الذى يأخذ مما للسيد المسيح ويعطينا. يستمر عمل الروح القدس فى حياة الكنيسة حتى انقضاء الدهر، ليقدمها عروساً تحمل أيقونة عريسها السماوي.

كلمة "باراكليت" التى تترجم معزياً تعنى أيضاً محامياً أو مدافعاً Advocate، فهو الذى يقف مدافعاً عن كنيسة المسيح أمام العدالة الإلهية لحساب الخطاة المخطئين الذين بالإيمان الحي العامل بالمحبة حملوا برّ المسيح. يدعو السيد المسيح نفسه "معزيّاً"، إذ يلقب الروح القدس "المعزي الآخر". وقد دعا الترجوم Targum أيام المسيا بأيام التعزية. فالمسيح عزى تلاميذه حين كان معهم بالجسد، وإذ يفارقهم بالجسد يرسل لهم روحه القدوس معزياً آخر.

إذ يقدم السيد المسيح نفسه ذبيحة حب عن البشرية صار من حق مؤمنيه أن يحلّ الروح القدس ويستقر فيهم، هذا الذى لم يعد مستقراً فى الإنسان منذ لحظة سقوط آدم فى الخطية. هذه العطية التى هى بالحقيقة نوال واهب العطايا، عطية دائمة تلازم المؤمن حتى يعبر به من هذه الحياة. لن يفارقه الروح القدس مادام يقبله فيه ويتجاوب معه.

إذ سبق المخلص فقدم أساس المعرفة وهو الإيمان، ثم بنى على هذا الأساس أعمال المحبة التى هى حفظ وصاياه، يبعث إلينا روحه القدوس من عند الآب الذى وحده يقدر أن يحقق هذا كله.

هنا يكشف السيد المسيح عن دور الثالوث القدوس المتكامل معاً لتحقيق خطة تمجيدنا الأبدي. فالآب الذى أرسل ابنه معزياً يبذل نفسه خلاصاً للعالم، الآن يستقبله عند صعوده، فيستقبل الكنيسة الجامعة، من آدم إلى آخر الدهور فى شخصه بكونه رأسها. يستقبل المعزي الأول فيُسر به، إذ أكمل خلاص البشرية وأعلن عن حب الآب عملياً، وإذ يستقبله فى السماء، يبقى هذا المعزي متغرباً عن البشرية بالجسد، لكنه حاضر على الدوام فى وسط كنيسته المقدسة. ويطلب عنها أمام الآب ليرسل المعزي الآخر، الذى يحلّ فى الكنيسة وينيرها ويقدسها ويقودها دون أن يفارق الآب أو ينفصل عنه. هكذا تظهر علاقة الحب المتبادل بين الثالوث القدوس العامل لخلاص البشرية ومجدها الأبدي.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [فإن قلت: لِمّ قال السيد المسيح: "وأنا أطلب من الآب"؟ أجبتك: لأنه لو قال: "أنا أرسله" لما صدقوه، لذلك قال هنا: "وأنا أطلب من الآب" حتى يجعل كلامه عندهم مؤهلاً لتصديقه.].

19 - كيف نفسر إرسالية كبير بيت إبراهيم كرمز لارسالية الروح القدس؟

فى دراستنا لسفر التكوين الأصحاح 24 لاحظنا أن تتابع الأحداث الخاصة بإبراهيم وأسرته حملت صورة رمزية لأحداث الخلاص، فإن كان ذبح إسحق بكر سارة يشير إلى صليب المسيح وقيامته، فإن إرسال كبير بيت إبراهيم بعد موت سارة لإحضار رفقة زوجة لإسحق من مدينة ناحور بحاران يشير إلى عمل الروح القدس الذى اجتذب الأمم من أرضهم الشريرة – عبدة الأوثان – ليقيمها عروساً لإسحق الحقيقى ربنا يسوع المسيح عوض سارة. استدعى إبراهيم عبده كبير بيته مدبر كل أمواله وسأله ألا يأخذ زوجة لابنه من بنات الكنعانيين الذين يسكن فى وسطهم بل يذهب إلى عشيرته فى منطقة ما بين النهرين (المصيصة) ويأتى إليه بزوجة من عشيرته، حتى لا يرتبط بكنعانية تسحب قلبه عن محبة الله وتشوه أفكاره وتفسدها. فى إصرار رفض إبراهيم أن يذهب ابنه إلى هناك، مؤمناً بأن الله الذى دعاه هو يرسل لابنه الزوجة التى تعينه فى طريق الرب كما كانت سارة معينة له.

لم يهتم إبراهيم فى اختيار زوجة لابنه أن تكون غنية أو جميلة إنما كان هدفه الأول أن تكون مقدسة ومؤمنة تعين ابنه فى حياته الروحية ولا تكون عائقاً له فى الطريق... لذلك أعطى الرب إسحق رفقة، امرأة جميلة المنظر والروح، كانت سرّ تعزية وفرح له كل أيام غربته.

كان رئيس بيت إبراهيم يشير إلى الروح القدس الذى أرسله الابن الوحيد الجنس من عند الآب، فقد جاءنا إلى حياتنا كما إلى مدينة ناحور لينطلق بنا من أرضنا على جمال سيدنا إلى أرضه، أى يحملنا إلى سماواته لنوجد مع العريس السماوى إلى الأبد.

وكما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [إذ أقام المسيح معنا عقداً (زواجياً) عين لى مهراً، لا من المال بل بالدم، هذا المهر هو عربون الصالحات: "ما لم تره عين ولم تسمع به أُذن ولم يخطر على بال انسان" (1كو2: 9). عين لى الأمور التالية مهراً: الخلود، تسبيح الملائكة، الخلاص من الموت، التحرر من الخطية، ميراث الملكوت العظيم، البرّ، التقديس، الخلاص من الشرور الحاضرة، اكتشاف البركات المقبلة. عظيم هو مهري!... جاء وأخذني، وعين لى مهري، قائلاً: أعطيك غناي. هل فقدت الفردوس؟ أرده لك... ومع هذا لم يعطني المهر كله هنا. لماذا؟ لكى أعطيه لك عندما تدخل الوضع الملوكي. هل أنت أتيت إليَّ؟ لا، بل أنا الذى جئت إليك... لا لكى تمكث فى موضعك، إنما آخذك معى، وأرجع بك. فلا تطلب منى المهر وأنت هنا فى هذه الحياة، بل كن مملوءاً رجاءً وإيماناً! [541]].

يأتينا الروح القدس كما على عشرة جمال لكى يقدم للكنيسة من غنى الله ويسحبها على الدوام نحو السماء لتنعم بكمال المجد. والعجيب أن الرجل جاء إلى بئر الماء وقت المساء ليطلب لإسحق عروساً. ما هذا البئر إلاَّ مياه المعمودية التى فيها يلتقى السيد المسيح بكنيسة كعروس له. وكما يقول الآب فيصريوس أسقف Arles: [لو أن الكنيسة لم تأت إلى مياه المعمودية لما ارتبطت بالمسيح[542].] كما يقول: [انظروا أيها الإخوة خادم إسحق، فقد وجد رفقة عن البئر وبدورها وجدت رفقة إسحق عند البئر. فالمسيح لا يجد الكنيسة ولا الكنيسة تجد المسيح إلاَّ بسرّ المعمودية[543].].

ويرى العلامة أوريجينوس فى البئر إشارة إلى الكتاب المقدس الذى فيه تلتقى النفس بعريسها، إذ يقول: [كانت رفقة تذهب إلى البئر كل يوم لتستقي ماءً فالتقت مع خادم إبراهيم وتزوجت بإسحق... تعلموا أن تأتوا إلى بئر الكتاب كل يومٍ لتستقوا مياه الروح القدس بلا انقطاع[544].].

20 - ما هو دور الروح القدس فى حياة الكنيسة بعد صعود السيد المسيح إلى السماء؟

عيد البنطقستي (حلول الروح القدس على الكنيسة) يزيل الارتباك بين صعود المسيح إلى السماء وجلوسه على يمين الآب وبين وعده: "ها أنا معكم كل الأيام وإلى الانقضاء[545]" (مت28: 20). يقول القديس مقاريوس أنه عندما يحل المسيح والروح فينا نختبر ذلك بطرق متنوعة: فى فرح أو دموع، فى سكون أو نشوة طرب. توجد أشكال متعددة لحضور الله، أما ثمر الروح فهو دائماً حضور المسيح واهب الوحدة، الذى يعيش فى الكنيسة وفى قلب المؤمن[546].

ويقول القديس أغسطينوس إذ يحل الروح القدس على الكنيسة يحمل التلاميذ الذين رافقوا السيد المسيح منذ بداية خدمته إمكانية الشهادة له، الأمر الذى لم يكونوا قادرين عليه أثناء حديث السيد المسيح معهم، إذ لم يكن ملء الروح قد حلّ فيهم. متى حلّ الروح القدس يهبهم الإيمان العامل بالمحبة، والمحبة الكاملة تطرد الخوف خارجاً. فلا يعود بطرس الرسول ينكر المسيح كما حدث عند الصلب، بل يشهد له محتملاً الآلام الاضطهادات من أجل اسمه بفرحٍ. [إذ يشهد له الروح القدس، ويوحي بمثل هذه الشهادة بشجاعة لا تُقهر، يجرد أحباء المسيح من خوفهم، ويحولهم إلى حبهم لبغض أعدائهم لهم[547].] كما يقول: [فى الكلمات السابقة قوَّى الرب تلاميذه ليحتملوا كراهية أعدائهم، وأعدَّهم أيضاً بتقديم نفسه مثالاً لكى يزدادوا شجاعة فى الإقتداء به، مقدماً لهم الوعد بالروح القدس الذى يأتى ليشهد له، ولكى يصيروا هم شهوداً خلال عمل الروح القدس فى سامعيه. فإن هذا هو معنى: "وتشهدون أنتم أيضاً، لأنكم معى من الابتداء" [27]. بمعنى إذ يحمل شهادة تحملون أنتم أيضاً شهادة. إنه فى قلوبكم، وأنتم فى أصواتكم؛ هو بالوحي وأنتم بالنطق، حتى تتحقق الكلمات: "إلى أقصى الأرض بلغ صوتهم" (مز19: 4). فإنه إن لم يملأهم بروحه لا يحقق كثيراٌ تقديم نفسه مثلاً للهدف[548].].

كان التلاميذ والرسل وكل المؤمنين ينتظرون الروح القدس، روح عريسهم ليخطبهم عروساً له، وهو لم يرسل عبداً أو ملاكاً بل جاءنا روح الله ذاته. وكما أخذ الوكيل "عشرة جمال من جمال مولاه ومضى وجميع خيرات مولاه فى يده" (تك24: 10)، هكذا يكشف الروح القدس للبشرية غنى عريسها وعظمته. لا يقف عمله عند الكشف والدعوة للعريس، وإنما يقدم للعروس العربون مما لعريسنا، إذ "أخرج... آنية فضة وآنية ذهب وثياباً وأعطاها لرفقة"، ويحثنا على السير فى طريق العريس، قائلا: "لا تعوقوني"، ويرافقنا فى السير، ولا يتركنا فى الطريق وحدنا، حتى يتم لقاؤنا وجهاً لوجه مع عريس نفوسنا. هذا هو عمل الروح القدس فينا:

أ - يوم حلوله في يوم الخمسين، هو يوم ميلاد الكنيسة جسد المسيح، إذ صار لنا شركة مع المسيح الرأس، فهو رأسنا ونحن أعضاء جسده. صارت لنا فى الكنيسة خلال الروح القدس شركة مع الثالوث القدوس. فنتمتع فى الآب بالأبوة، إذ وهبنا روح البنوة له. ونتمتع بالمسيح رأساً وعريساً وأخاً بكراً.

ونتمتع بالروح القدس الساكن فينا، روح أبينا وعريسنا فى نفس الوقت، منبثق من الآب. عمله الرئيسى فى حياتنا هو التجديد المستمر، فمع كل صباح نحسب كأننا ننعم بعربون السماء كما لأول مرة. وننعم بالتقديس المستمر لنحمل أيقونة القدوس. كما ننال تعزيات سماوية وأفراح لا تنقطع. ونختبر حياة الحب والوحدة مع الله ومع الطغمات السماوية ومع البشرية.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [هذا تجديدنا، يجعلنا على صورة الله من جديد، وذلك بغسل التجديد والروح القدس الذى يجددنا، فنصير أبناء الله، نصير خليقة جديدة مرة أخرى بشركة الروح، ويخلصهما مما كان عتيقاً[549].].

ب - يقدم لنا الروح القدس مواهب، عملها تقديم الخلاص المجاني للبشرية، فتتمتع به وتحيا فيه، وتسلك فى طريق الخلاص نحو تلك الغاية، أن تصير أيقونة المسيح. وتبقى سالكة نامية بعمله فيها إلى يوم رحيلها، حيث تنعم بميراث المجد الأبدي.

ج - يقدم لنا الحق الإلهي والنمو فى المعرفة والتلامس مع الأسرار الإلهية.

21 - ما هو عمل الروح القدس في حياة المؤمن؟

إذ حلّ الفساد بالطبيعة الإنسانية فى آدم الأول خرجت البشرية كلها من الفردوس، وفارقها روح الرب، الذى هو سرّ حياتها وصلاحها بل وهو كنزها المخفي. فصارت الحاجة إلى آدم الجديد الذى وحده يقدر أن يبارك طبيعتنا فيه، كقول القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس[550]، هذا الذى وحده لن يفارقه روح الرب، لأنه روحه. بهذا قدم لطبيعتنا مجدها الأول بعودة الروح القدس إليها وثباته فيها. فلم يكن ممكناً تجديد طبيعتنا إلا فى المسيح يسوع، الذى حلّ وسطنا وتوَّجنا بمجد عدم الخطيئة، وأغنى طبيعتنا بروحه القدوس، مقدماً على الصليب ثمن هذا العمل الإلهى. وللقديس كيرلس السكندرى عبارات رائعة فى هذا الأمر، نقتطف منها الآتى: [بسبب تعدي آدم "ملكت الخطيئة على الكل" (رو5: 14)، وفارق الروح القدس الطبيعة البشرية التى صارت مريضة فى كل البشر. ولكى تعود الطبيعة البشرية من جديد إلى حالتها الأولى احتاجت إلى رحمة الله، لكى تحسب بموجب رحمة الله مستحقة للروح القدس. لذلك صار الابن الوحيد كلمة الله إنساناً، وظهر للذين على الأرض بجسد من الأرض لكنه خالٍ من الخطيئة، حتى فيه وحده تتوج الطبيعة البشرية بمجد عدم الخطيئة، وتغتنني بالروح القدس، وتتجدد بالعودة إلى الله بالقداسة[551].].

يدعونا القديس مقاريوس الكبير أن نتمتع بكنز الروح القدس المخفي، فيقول: [إذا كان إنسان غني فى هذا العالم وعنده كنز مخفي، فمن ذلك الكنز والغنى الذى له يمكنه أن يشترى أى شيء يشتهيه. وبسهولة يجمع كل الأشياء النادرة التى يشتهيها فى هذا العالم ويكدسها، معتمداً على كنزه... بنفس الطريقة فإن الذين يطلبون ويسعون إلى الله، وقد وجدوا الكنز السماوى، أى حصلوا على كنز الروح، الذى هو الرب نفسه، مضيئاً فى قلوبهم، فإنهم يتممون كل برّ الفضائل، وكل غنى الصلاح الذى أوصى به الرب، وذلك من كنز المسيح الذى فيهم.

وبواسطة ذلك الكنز يتممون كل فضائل البرّ، معتمدين على مجموع الغنى الروحى الكثير المتجمع فى داخلهم، ويعملون بسهولة كل وصايا الرب بواسطة غنى النعمة غير المنظور الذى فيهم. يقول الرسول: لنا هذا الكنز فى أوانٍ خزفيةٍ "(2كو4: 7). أى الكنز الذى أعطى لهم فى هذه الحياة ليقتنوه فى داخل نفوسهم،" الذى صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء "(1كو1: 30). فمن وجد واقتنى فى داخله كنز الروح السماوى هذا، يتمم به كل برّ الوصية وكل تتميم الفضائل بنقاوة وبلا لوم، بل بسهولة وبدون تعصب.

لذلك لنتضرع إلى الله، ونسأله ونطلب منه بشعور الاحتياج، أن ينعم علينا بكنز روحه، لكى ما نستطيع أن نسلك فى وصاياه كلها بطهارة وبلا لوم، ونتمم كل برّ الروح بنقاوةٍ وكمالٍ، بواسطة الكنز السماوى، الذى هو المسيح...

فليغصب كل واحد منا نفسه ليطلب من الرب أن يُحسب أهلاً أن ينال وأن يجد كنز الروح السماوى. لكى ما يستطيع أن يتهيأ بدون صعوبة، أن يعمل كل وصايا الرب بنقاوة وبلا لوم، تلك الوصايا التى لم ينجح قبل ذلك فى أن يعملها مهما غصب نفسه[552].].

22 - هل كان التلاميذ في حاجةٍ إلى معلمٍ آخر يعزيهم؟

أولاً: شجع السيد المسيح تلاميذه على قبول المعزى الآخر بكونه المعلم الذى لا ينافسه. بل يذَّكرهم بما قاله السيد، ويكشف لهم عن أسرار أخرى، لأنه روح الحكمة. إنه لا يأتي بإنجيل جديد، بل يذكرهم بإنجيل المسيح، ويعلن لهم ما لم يكونوا قادرين على قبوله قبلاً. إذ قال لهم: "وأما المعزي الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيءٍ، ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26). يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [يدعو الروح القدس معزياً بسبب الهموم التى استحوذت عليهم حينئذ. وهذه الأقوال قالها السيد المسيح لتلاميذه مكلفاً إياهم أن يحتملوا مفارقته بأوفر صبرٍ، إذ هى علة نعمٍ عظيمةٍ صالحةٍ لهم.].

وعدهم السيد المسيح أنهم يتمتعون بمجيء "روح الحق" الذى يرشدهم إلى كل الحق. فقد سبق فقدم السيد نفسه لهم قائلاً: "أنا هو الحق"، من يقتنيه يقتنى الحق. لكنهم كيف يقتنونه؟ بالروح القدس الذى هو روح الحق، يعمل فيهم، فيثبتهم فى المسيح الذى هو الحق الإلهى.

هل أخفي السيد المسيح الحق عن تلاميذه؟ لقد جاء إلى العالم ليقدم الحق. تحدث مع تلاميذه قدر ما يحتملون، ومع الجماهير حسب قدرتهم. لكنهم كانوا عاجزين عن قبول كل الحق، لذا بعث بروحه القدس لكى يقودهم ويدخل بهم إلى أعماق جديدة فى الحق. هذا وقد أكد السيد أن روح الحق لا يعلم بشئ يناقض ما يعلم به السيد المسيح، بل ما يسمعه من الآب والمتناغم من الابن، فينطق به لمجد الثالوث القدوس وخلاص البشر.

يقول القديس أمبروسيوس: [لقد أعلن أننا بدون الروح نعيش كأطفالٍ صغارٍ. لقد قال إن الروح سيأتى، هذا الذى يجعل من الأطفال الصغار رجالاً أقوياء بالنمو، أقصد فى العمر الروحى. وقد أبرز هذا، لا لكى يجعل قوة الروح فى المركز الأول، وإنما ليظهر أن كمال القوة هو فى معرفة الثالوث[553].] كما يقول: [يقول ابن الله بخصوص الروح القدس أنه لا يتكلم من نفسه، بمعنى ليس بدون الشركة مع الآب ومعى. لأن الروح لا ينقسم ولا ينفصل، بل ينطق بما يسمع... هذا يعنى أنه لا يتكلم بدونى، إذ ينطق بالحق، إنه يتنسم بالحكمة. لا ينطق بدون الآب، لأنه روح الله. إنه يسمع لا من ذاته، لأن كل الأشياء هى من الله. لذلك ما يقوله الروح هو قول الابن ولا ينطق الروح شيئاً من ذاته. لأن الثالوث لا يتكلم بشئ خارج عنه[554].] ويقول أيضاً: [هذا لا يعنى أى سماع لكلمات واقعية (ملموسة) بل وحدة الإرادة والقوة التى توجد فى الآب والابن والروح القدس. ما يقوله الروح يقوله الابن هنا (يو16: 13). لنتعلم أن ما يقوله الروح يقوله الابن أيضاً، وما يقوله الابن يقوله الآب أيضاً، إذ يوجد فكر واحد، وطابع واحد للعمل فى الثالوث[555].].

ثانياً: يقول القديس أغسطينوس: [لا يسكن الروح فى إنسانٍ بدون الآب والابن، ولا الابن أيضاً بدون الآب والروح القدس، ولا الآب بدونهما. سكناهم غير منفصل، لكن أحياناً يعلنون عن أنفسهم برموزٍ مقتبسة من الخليقة منفصلين، ليس فى جوهرهم[556].] كما يقول: [الثالوث القدوس كله يتكلم ويعلم (يو6: 45؛ مت23: 10؛ أع10: 20)... لكنهم غير منفصلين[557].].

ويقول القديس غريغوريوس النزينزي: [إذ أبداً فى التأمل فى الوحدة يغمرنى الثالوث بإشراقه. وما أن أبدأ فى التفكير فى الثالوث حيث تستولى عليّ الوحدة. حينما يظهر لى أحد الثالوث أظن أنه الكل، يملأ عينى بالكامل، يهرب الفيض منى. ولا يكون فى ذهني المحدود جداً فى إدراكه أقنوم واحد موضع لأكثر من ذلك. عندما اربط الثلاثة فى فكر واحد أرى لهيباً واحداً، فلا أستطيع أن اقسّم النور الواحد ولا أحلّله[558].].

ثالثاً: يقول مار اسحق أسقف نيصيبين: [عندما يؤسس الروح سكناه فى إنسان، لا يتوقف الأخير عن الصلاة، لأن الروح لا يتوقف عن الصلاة فيه.].

رابعاً: يرى القديس إيرينيؤس أنه حيث يوجد روح الله تكون الكنيسة وكل نعمة، وهو الذى يهب المؤمن ثمر الروح، إذ يقول: [إننا نحفظ بكل اهتمام الإيمان الذى نتسلمه من الكنيسة، فإنه خلال عمل روح الله، يكون وديعة ثمنها عظيم، مودعة فى إناءٍ صالحٍ، تتجدد بغير انقطاع، وتجعل الإناء الذى يحفظها متجدداً. تُمنح عطية الله (الروح القدس) للكنيسة كالنسمة التى قّدمت للإنسان فى خليقته، حتى يشترك كل الأعضاء فيها ويحيون بها. فى الكنيسة تودع الشركة مع المسيح أى الروح القدس، عربون عدم الفساد، ثبات إيماننا، سلم للصعود إلى الله... فإنه حيث توجد الكنيسة يكون أيضاً روح الله، وحيث يوجد روح الله تكون الكنيسة وكل نعمة[559].] كما يقول: [كما ان الأرض القفر لا تقدر أن تأتى بثمرٍ ما لم تستقبل ماءً، هكذا نحن الذين كنا قبلاً خشباً جافاً، ما كان يمكننا أن نحمل ثمر للحياة بدون المطر الفياض الذى من العلا. لأن أجسادنا تتقبل الاتحاد مع عدم الفساد خلال غسل المعمودية، وأما نفوسنا فخلال الروح. هذا هو السبب الذى لأجله أن هذا وذاك ضروريان، لأن هذا وذاك يساهمان فى الحياة الإلهية[560].].

خامساً: بدونه لا نتمتع بالاتحاد مع السيد المسيح، ونبلغ إلى الكمال. يقول القديس إيرينيؤس: [كما أن الدقيق الجاف لا يقدر بدون سائل أن يصير عجيناً أو خبزة واحدة، هكذا نحن الكثيرون لا نقدر أن نصير واحداً فى المسيح بدون الماء الذى من السماء. هذا الماء تقَّبله الرب كهبة من الآب، والذى هو يعطيه أيضاً للذين يشتركون معه، مرسلاً الروح القدس على كل الأرض[561].] ويقول العلامة أوريجينوس: [لا نزال نحتاج إلى آخر يكشف لنا، ويعلن عن كل شئ... ومع التوبة التى كرز بها الرب والمخلص، والتحول من الشر إلى الصلاح، ومع غفران خطايانا الذى يُوهب لكل الذين يؤمنون، مع هذا فإن كمال كل الصلاح ومجمله فى هذا: أنه بعد كل هذه الأمور يتأهل الإنسان أن يتقبل نعمة الروح القدس، وإلا فإنه لا يوجد شئ ما يُحسب كاملاً بالنسبة لمن ينقصه الروح القدس الذى به نبلغ سرّ الثالوث المطوّب[562].].

يقول القديس مقاريوس الكبير: [تحتاج النفس إلى السراج الإلهى، وهو الروح القدس، الذى ينير البيت المظلم، وإلى شمس البرّ الساطعة التى تضئ وتشرق فى القلب، وتحتاج إلى الأسلحة التى تغلب بها فى المعركة.].

سادساً: الروح القدس يعمل فى الكنيسة فيجتذب الأمم للإيمان. يقول القديس إيرينيؤس: [إذ ينشط التلاميذ بذات المشاعر يسبحون الله، فيجلب الروح القبائل البعيدة إلى الوحدة، ويقدمون للآب بكور الأمم. هذا أيضاً هو السبب الذى لأجله وعد الرب بإرساله الباراكليت إلينا هذا الذى يهيئنا لله[563].].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [حتى لا يقول التلاميذ للسيد المسيح: فماذا نعمل إن كانوا لم يحفظوا قولك، فلهذا السبب لا يحفظون قولنا، إن كانوا قد طردوك فإنهم سيطردوننا، إن كانوا قد أبصروا آيات لم يبصرها أحد، كائنة من غيرك، إن كانوا قد سمعوا أقوالاً لم يُسمع مثلها من غيرك ولم يستفيدوا، إن كانوا كرهوا أباك وكرهوك معاً، فلِم ألقيتنا فى معاندتهم؟ كيف نتأهل فيما بعد عندهم للتصديق؟ من يصغي إلينا من الذين قبيلتهم قبيلتنا؟ ولكى لا يفتكروا هذه الأفكار فيضطربوا، عزاهم فقال: "ومتى جاء المعزى، الذى سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذى من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لى" (يو15: 26). قول السيد المسيح لتلاميذه: "روح الحق"، وما يدعوه الروح القدس لكى يكون مؤهلاً لتصديقه.].

سابعاً: بالروح القدس الذى يسكن فى قلوبنا نتطلع إلى الآب فلا نتوقف عن الصراخ إلى الآب. يقول الرسول: "أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب" (غلا4: 6). إنه يملأ قلوبنا بالمحبة التى بدونها يكون صراخنا باطلاً، حيث يقول: "ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له" (رو8: 9).

ثامناً: الروح القدس يهبنا التعرف على الحب الإلهى. يقول العلامة أوريجينوس: [يليق بنا أن نتحقق كم من أشياءٍ كثيرة يجب أن تُقال عن (هذا) "الحب". وأيضاً، كم من أشياء عظيمة نحتاج لمعرفتها عن الله، حيث أنه بذاته هو "الحب". فكما أنه "ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت11: 27)، كذلك لا يعرف أحد الحب سوى الابن، وبنفس الطريقة لا يعرف أحد الابن، الذى هو الحب ذاته، إلا الآب. بالإضافة إلى ذلك، إذ يُدعى الحب، فالروح القدس المنبثق من الآب، هو وحده الذى يعرف ما بالله، كما "يعرف أمور الإنسان روح الإنسان الذى فيه" (1كو2: 11). هنا إذن الباراقليط الذى هو "روح الحق، الذى من الآب ينبثق" (يو15: 26)، يجول باحثاً عن أنفسٍ مستحقةٍ وقادرةٍ على تَقَبُل عِظَم محبته، أى محبة الله، التى يرغب فى إعلانها لهم[564].].

تاسعاً: الروح القدس ينير أذهاننا للتعرف على تجسد الكلمة. يقول القديس هيلارى أسقف بواتييه: [لأن أذهاننا الساقطة عاجزة عن إدراك الآب أو الابن، فإن إيماننا الذى وجد صعوبة فى تصديق تجسد الله يستنير بعطية الروح القدس، رباط الوحدة ومصدر النور[565].].

عاشراً: يرى القديس باسيليوس الكبير النفوس الحاملة للروح تستنير بالروح فتصير هى نفسها روحية وتبعث نعمة على الآخرين. إنه يقول: [الباراكليت مثل الشمس للعين النقية يُظهر لك فى نفسه الصورة (الابن) التى (للآب) غير المنظور. وبالتأمل الطوباوي للصورة سترى الجمال غير المنطوق به الذى للأصل. إنه هو الذى يشرف فى أولئك الذين يتطهرون من الدنس، ويجعلهم روحيين خلال الشركة معه. وكما أن الأجسام البهية الشفّافة متى سقطت عليها أشعة الشمس، تصير بهية تعكس منها بهاءً على الآخرين، هكذا النفوس الحاملة للروح إذ تستنير بالروح تصير هى نفسها روحية وتبعث نعمة على الآخرين[566].].

23 - من الذي أرسل الروح القدس الآب أم الابن؟

الروح القدس مُرسل من الآب بكونه مدبر الخلاص والتقديس، ومُرسل من الابن بكونه قد دفع الثمن على الصليب لكى يستقر الروح فى الإنسان ويجد فيه برّ المسيح.

يقول القديس أمبروسيوس: [أرسل كل من الآب والابن الروح القدس. أرسل الآب الروح القدس، إذ كُتب: "وأما المعزّى الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمي" (يو14: 16). وأرسله الابن إذ قال: ومتى جاء المعزّي الذى سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق "(يو15: 26). إذن إن كان الابن والروح القدس يرسلان بعضهما البعض، كما يرسل الآب، فلا يوجد منزلة أقل بالخضوع بل شركة فى السلطة[567].] ويقول القديس أمبروسيوس: [نفس المعزي يرسله أيضاً الآب كما سبق فعلمنا قائلاً:" وأما المعزي الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمى "(14: 26). انظروا وحدتهما، فإن من يرسله الآب يرسله الابن أيضاً[568].].

24 - هل يتمتع الكل بالروح القدس بذات القدر؟

يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير: [هذا الروح النارى العظيم الذى قبلته أنا اقبلوه أنتم أيضاً، وإذا أردتم أن تنالوه ويسكن فيكم، فقدموا أولاً أتعاب الجسد وتواضع القلب، وارفعوا أفكاركم إلى السماء ليلاً ونهاراً، واطلبوا بكل قلوبكم هذا الروح الناري القدوس، وحينئذ يُعطى لكم. لأنه هكذا حصل عليه إيليا التشبِّي وإليشع وجميع الأنبياء والآخرين. ولا تفكروا فى قلوبكم وتكونوا ذوي قلبين وتقولوا: "من يستطيع أن يقبل هذا؟" لا تدعوا هذه الأفكار تدخل إلى عقولكم، بل اطلبوا باستقامة قلب وأنتم تقبلوه.

وأنا أبوكم اجتهد معكم وأصلي لأجلكم لكى تقبلوه، لأنى أعلم أنكم قد جحدتم ذواتكم لكى تستطيعوا أن تقبلوه. لأن كل من يفلّح ذاته بهذه الفلاحة فى كل جيلٍ، ينال نفس الروح الذى يسكن فى مستقيمى القلوب. وأنا أشهد لكم، إنكم تطلبون الله بقلبٍ مستقيمٍ، فأديموا الطلبة باجتهادٍ من كل قلوبكم، فسيُعطى لكم[569].].

ويقول القديس مقاريوس الكبير: [حينما تأتى (النفس) إلى الرب، وتلتمس معونته، وتثبت أنظارها على رحمته، وترغب أن تنال منه نعمة الروح لأجل إنقاذها وخلاصها وتحررها من كل شرٍ ومن كل شهوةٍ، أفلا يمنحها بأكثر استعداد... حسب كلمته هو "أفلا ينصف الآب السماوى مختاريه، الصارخين إليه نهاراً وليلاً"؟ (لو18: 7) ويضيف قائلاً: "نعم أقول لكم إنه ينصفهم سريعاً" (لو18: 8). وفى موضع آخر يحثنا: "اسألوا تعطوا، لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له" (لو11: 9 - 10)، ويختم هذا الحديث بقوله: "كم بالحري أبوكم السماوى يعطى الروح القدس للذين يسألونه... الحق أقول لكم وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه، فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج" (لو11: 11 - 13) [570].].

ويقول القديس باسيليوس الكبير: [إنه يملأ الكل بقوته، لكنه يُشترك فيه بالنسبة للمتأهلين وحدهم... والذين لهم شركة الروح يتمتعون به قدر ما تسمح طبيعتهم، وليس قدر ما يستطيع هو أن يهب نفسه فى الشركة[571].].

25 - ماذا يعني الرسول بقوله: "لا تطفئوا الروح" (1تس5: 19)؟

الله الذى يهبنا روحه القدوس عطية مجانية ليعمل فينا بلا انقطاع يحذرنا على فم رسوله من أن نطفئ الروح، أى نوقف عمل استنارته فينا خلال مقاومتنا له. حقاً إن الروح لن يفارقنا قط مهما أخطأنا، لكنه يحزن علينا، وينطفئ عمله فينا خلال عدم تجاوبنا معه. يشبه القديس يوحنا الذهبى الفم عطية الروح القدس بمصباحٍ أو سراجٍ منير داخل البيت، فإن فتح إنسان بابين متقابلين دخل تيار الهواء بشدة وأطفأه. لهذا يقول [إن فتح إنسان باب فمه بكلمة إهانة ضدك فلا تفتح أنت بابك بإهانة مماثلة، فترد السب بالسب، لئلا يدخل فى نفسك تيار هواء الحقد ويطفئ لهيب الروح المشتعل فى داخلك! ليفتح الشرير بابه أمامك لكنك فى حكمة إذ تترك بابك مغلقاً تبقى عطية الروح ملتهبة فى الداخل[572].].

أما زيت هذا السراج فهو أعمال الحب، فإن الروح القدس النارى يبقى عمله ملتهباً فينا مادامت أحشاؤنا تتجاوب معه بالحب لله والناس، أما إذا أغلقنا أحشاءنا تجاه الله والناس فإننا نفقد زيت الحب الذى ينير فينا. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم أن اللصوص عند سلبهم بيتاً ما، فإنهم إذ يدخلونه يطفئون السراج الذى فيه حتى يقدروا أن يحققوا غايتهم، وهكذا فإن عمل الشيطان الرئيسى عند اقتحامه قلب مؤمن هو تحطيم عمل الروح فيه حتى يسلبه كل حياته.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [إنه لا يقطن فيهم (الخطاة)، لأنهم يرفضون بسهولة النعمة التى يتقبلونها[573].].

26 - ماذا يعني قول السيد المسيح عن الروح القدس: "ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى برّ وعلى دينونة" (يو16: 8)؟

"يبكت على خطية": بينما كان بطرس يكلم كرنيليوس ومن معه نخس الروح القدس قلوبهم و "حلّ الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة... حينئذ أجاب بطرس أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء حتى لا يعمد هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن. وأمر أن يتعمدوا باسم الرب" (أع10: 44 - 47). إن كان الروح ينخس القلوب قبل العماد، أفلا ينخس قلوبهم بعدما يسكن فيها بسرّ الميرون؟! إن عمله هو التبكيت على الخطية ليتوب الإنسان ويعترف، وفى سرّ التوبة والاعتراف يغفر للإنسان عن خطاياه بالروح القدس الذى يغفر باستحقاقات دم المسيح أيضاً: "اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تُغفر له.." (يو20: 22 - 23) فالروح القدس بالنسبة لمن لم يؤمنوا أو للمؤمنين لا يتستر على خطاياهم، بل بالعكس إذ هو نور يكشف ويفضح الخطية أمام عينى الإنسان الداخلية، ويكشف أثامنا ومرارتها قدام قلوبنا، وفى نفس الوقت يكشف عمل الصليب وقوة حب الله الجذابة.

يرى القديس أغسطينوس أن الخطية العظمى هى عدم الإيمان بالمسيح مخلصاً للعالم، فمن لا يؤمن لا يقدر أن يتمتع بغفران خطاياه. لهذا فإن التبكيت على خطية يحمل معنى حث الإنسان على التخلى عن عدم إيمانه بالمسيح، بهذا ينفتح أمامه باب المغفرة. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [هذا يعني انه سيقطع كل أعذارهم، ويُظهر أنهم عصوا عصياناً فاحشاً[574].].

يبكت العالم على خطية: يربط السيد المسيح بين سقوطهم فى الخطية ودعوتهم ب "العالم"، بقوله "أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي". (يو16: 9). يوضح السيد المسيح دور الروح القدس فى التبكيت على الخطية قائلاً: "لأنهم لا يؤمنون". إن كانت الخطية تملك على القلب، فليس من طريق الخلاص منها إلا بقدوم ملكٍ آخر قادر على إبادتها، وهو الإيمان بالمسيح الذى يملك على القلب. ملكت الخطية فصارت مصدر فساد ورجاسة، لذا صارت الضرورة ملحة للإيمان بالمخلص الذى ينزع الفساد والرجاسة، ويحتل عدم الفساد والقداسة الموضع. بالخطية كسر الإنسان الناموس وحلت اللعنة، وبالإيمان بالمسيح مكمل الناموس وحامل اللعنة عنا نتحرر من الحرف القاتل واللعنة لننعم بالروح المحيي والحياة المطوَّبة.

يقول القديس كيرلس الكبير: [انظروا كيف يبدأ أولاً بانتهار الخطية والتوبيخ... لكل إنسان يكون عنيداً ومقاوماً للباركليت]. إرسالية الروح القدس إلى الكنيسة تحقق اهتمام السيد المسيح بالبشرية، فإنه متى جاء يهبها حياة التوبة والرجوع إليه خلال قبولهم عمل الصليب فى القلب بروح التواضع. الروح القدس وحده يقدر أن يدخل القلب ويجعل الخطية مُرة ويفضحها أمامه، فيتمتع المؤمن بعذوبة الشركة مع الله. إنه قادر أن يقنع القلب والفكر وكل أعماق الإنسان أن سعادته وسلامه وفرحه وخلوده وعدم فساده يكمن فى الالتصاق بالمخلص لا بالخطية، وأن لذة العشرة مع الله لا تُقارن بأية لذة للخطية. ينخس الروح القدس القلوب قبل العماد، وأيضاً بعدما يسكن فيها بسرّي العماد والميرون! عمله هو التبكيت على الخطية ليتوب الإنسان ويعترف كما يلهب القلب بالحب والتمتع بالشركة مع الله. وفى سرّ التوبة والاعتراف يغفر الروح القدس للإنسان عن خطاياه باستحقاقات دم المسيح: "اقبلوا الروح القدس من غفرتم لهم خطاياهم غُفرت..." فالروح القدس بالنسبة لمن لم يؤمنوا بعد أو للمؤمنين لا يتستر على خطاياهم، بل بالعكس إذ هو نور يكشف ويفضح الخطية أمام عينى الإنسان الداخلية، ويكشف آثامه ومرارتها قدام قلبه، وفى نفس الوقت يكشف عن عمل الصليب وقوة حب الله الجذابة.

من هنا يتقدم الروح القدس باعترافاتنا، ويرفقها بالدم المسفوك مع دموع التوبة وصلوات الإيمان. وللحال يُحكم بالبراءة للإنسان عن خطاياه السابقة، سواء فى سرّ المعمودية أو سرّ التوبة والإعتراف[575].

27 - ماذا يعني قول السيد المسيح عن الروح القدس: "ومتى جاء ذاك يبكت العالم... على برّ" (يو16: 8)؟

تبكيت العالم على خطية يعني عمل الروح القدس فى الكشف عن حقيقة العالم أنه خاطئ. وأما على البرّ فهو الكشف عن حقيقة ما فعله العالم بالمسيح، أى الصلب، فإن آلام المسيح المخلصة وصلبه هي لأجل تبريرنا. فالروح الذى ينير العينين ليدرك الإنسان خطاياه، ينيرهما أيضاً ليدرك قوة موت المسيح واهب البرّ.

"وأما على برّ، فيقول السيد المسيح:" فلأنى ذاهب إلى أبي، ولا ترونني أيضاً "(يو16: 10). أى يبكتهم على عدم إدراكهم لبرّ المسيح وقداسته، فقيامته وصعوده إلى السماء هما الدليل على برّه. لذلك إذ يصعد السيد إلى السماء يرسل روحه ليحمل قلوب البشرية إلى حيث المسيح جالس، فيتلامسوا معه ويختبروا برّه فيهم، بل يصير المسيح لهم براً.

لم يعرف الكثيرون برّ المسيح إلا بعد صعوده إلى السماء. حلول الروح القدس فى يوم العنصرة حسب الوعد الإلهي هو برهان على مجد المسيح الجالس على يمين العظمة (أع2: 33)، وهذا دليل على برّه الإلهي.

يتساءل القديس أغسطينوس لماذا قال السيد المسيح إن الروح القدس يبكت على برّ لأنه ذاهب إلى أبيه. ويجيب بأن الكلمة عند تجسده ومجيئه من عند الآب أظهر رحمته علينا، وبصعوده إلى السماء وذهابه إلى الآب نقوم معه، ونطلب ما هو فوق حيث المسيح جالس. إنه جالس على يمين الآب، يجلس بكونه الرأس والجسد، وكأن الكنيسة وقد صارت جسداً تتمتع ببرْ المسيح، حيث صار لها حق الجلوس فى السماء عن يمين الله[576].

يقول القديس أغسطينوس: [لذلك يليق بنا ألا نحسب أنفسنا منفصلين عن ذاك البرْ الذى يشير إليه الرب نفسه، قائلاً: "عن البرْ، لأنى ماضٍ إلى الآب". فإننا نحن أيضاً نصعد مع المسيح، ونحن مع المسيح رأسنا، الآن بالإيمان والرجاء إلى حين، لكن رجاءنا يكمل فى القيامة الأخيرة من الأموات. لكن حين يكمل رجاؤنا يكمل أيضاً تبريرنا. والرب الذى كمل هذا أظهر لنا فى جسده (أى فى رأسنا) الذى فيه قام وصعد إلى الآب ما يلزمنا أن نترجاه. فقد كُتب: "أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا" (رو4: 25).

يقول القديس أغسطينوس: [عندما يُوبخ بار (معتد ببره)، فإنه يُوبخ على خطية وليس على برّ. لهذا يجب ملاحظة إن هذا النطق الإلهى: "لا تكن باراً بزيادة" (جا7: 16، 20)، لا يخص برّ الإنسان الحكيم، وإنما كبرياء الإنسان المتعجرف. فالإنسان الذى يصير "باراً بزيادة"، بهذا الزيادة عينها يصير غير بارٍ. فإنه يجعل نفسه باراً بزيادة بقوله إنه بلا خطية، وتصوره أنه صار باراً ليس بنعمة الله، وإنما بالاكتفاء بإرادته الذاتية. وهو ليس باراً بالحياة البارة بل بالأحرى باكتفائه بالتصور بما هو ليس عليه[577].].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ "على برّ، فلأني ذاهب إلى أبي، ولا ترونني أيضاً" (يو16: 10). بمعنى: "لقد أظهرت حياة بلا لوم، وهذا برهان إنى ذاهب إلى الآب". إذ كانوا على الدوام يحتجون ضده بأنه ليس من الله، ولذا دعوه خاطئاً وعاصياً، لذلك يقول إن الروح سينزع عنهم أيضاً هذا العذر. فإن كان يبدو عليّ إننى لست من الله اظهروا لى إنى عاصٍ؛ عندما يعلن الروح أننى ذاهب عنده، ليس إلى حين بل أسكن هناك، لأن القول "لا ترونني أيضاً" يعبر عن هذا؛ فماذا سوف يقولون إذن؟ لاحظوا كيف أنه بهذين الأمرين أزال شكهم الشرير، لأنه لا تُنسب المعجزات إلى شريرٍ، ولا البقاء مع الله يخص خاطئاً. لذلك لا تقدرون بعد أن تقولوا إن هذا الإنسان شرير، وأنه ليس من الله[578].].

28 - ماذا يعني قول السيد المسيح عن الروح القدس: "ومتى جاء ذاك يبكت العالم... على دينونة" (يو16: 8)؟

الروح القدس يبكت العالم على دينونة، إذ أعلن أنه سيقول للذين على اليسار: "اذهبوا عنى يا ملاعين إلى النار الأبدية المُعدة لإبليس وملائكته" (مت25: 41). وردت عبارات كثيرة فى الإنجيل تؤكد أن السيد المسيح يبكت على هذه الأمور. لماذا إذن ينسب هذه للروح القدس كما لو كان هذا امتيازاً خاصاً به؟ يجيب القديس أغسطينوس أن الروح القدس ينسكب على قلوب التلاميذ (رو5: 5)، فيهبهم المحبة التى تطرد الخوف خارجاً (1يو4: 18)، فيصير لهم حق التوبيخ والتبكيت. ويكمل القديس حديثه: [كثيراً ما اقول إن عمل الثالوث القدوس لا ينفصل، لكن كل أقنوم يقوم بدوره، ليس فقط بغير انفصالهم، بل وأيضاً دون خلط بينهم. فمن حقنا أن ندرك كلاً من وحدتهم وثالوثهم (تمايزهم) [579].].

يبكت الروح القدس على دينونة، "لأن رئيس هذا العالم قد دين" (يو16: 11). بينما ظن العالم أنه قد حكم على المسيح ودانه، إذا بالروح القدس يكشف للمؤمنين أنه بالصليب دين عدو الخير وشُهر به (1كو2: 15). انفضح إبليس كمخادعٍ ومدمرٍ للبشرية، وبدأ الأمم يرفضونه ويهجرون عبادته خلال الكرازة بصليب المسيح. عمل الروح القدس تأكيد ان المسيح أعظم وأقوى من إبليس، يهب سلطاناً لتلاميذه أن يدوسوا على قوات الظلمة. وهكذا يختبر المؤمن فى حياته اليومية عربون السلطان الذى ناله لكى يتمتع بكماله فى يوم الدينونة حيث يُدان إبليس ويتمتع الإنسان بكرامة فائقة. يحتل الإنسان الدرجة السماوية الفائقة التى سقط منها إبليس وكل جنوده. لهذا جاء فعل "دين" يحمل معنى الاستمرارية، فالغلبة على قوات الظلمة عمل يومى مستمر.

يقول القديس أغسطينوس: [أيضاً يُدان العالم "عن دينونة، لأن رئيس هذا العالم قد دين"، أى الشيطان، رئيس الأشرار. إذ يسكن فى قلب هذا "العالم" وحده، أى فى قلوب الذين يحبون "العالم"، كما أن مواطنتنا نحن فى السماء، إن كنا قد قمنا مع المسيح. هكذا كما أن المسيح ونحن جسده معه هم واحد، هكذا الشيطان مع كل اِلأشرار الذين رأسهم هو إبليس كما لو كانوا جسده، هو أيضاً واحد. لذلك كما أننا لا ننفصل عن البرّ الذى قال عنه الرب: "لأنى ماضٍ إلى الآب"، هكذا لا ينفصل الأشرار عن تلك الدينونة التى قال عنها: "لأن رئيس هذا العالم قد دين". [580]] كما يقول: [رئيس هذا العالم، أى رئيس الظلمة، أو غير المؤمنين، الذى يتحرر منه ذلك العالم الذى يقال له: "لأنكم كنتم قبلاً ظلمة، وأما الآن فنور فى الرب" (أف5: 8)؛ رئيس هذا العالم الذى يقول عنه فى موضع آخر: "الآن رئيس هذا العالم يُطرح" (يو12: 31)، هذا بالحقيقة يُدان قدر ما هو مُعيّنْ لحكم النار الأبدية نهائياً[581].].

هكذا يقدم لنا الروح القدس ثلاث حقائق هامة تمس حياتنا:

■ فساد طبيعتنا بالخطية.

■ إصلاحها وتمتعها ببرّ المسيح.

■ دينونة الشر أبدياً.

29 - ما هو مفهوم الحرية التى يهبها لنا الروح القدس؟

يقدم لنا القديس مقاريوس الكبير فى إيجاز دور الروح القدس فى تمتعنا بالحرية الحقيقية:

أ. الحرية عند القديس مقاريوس هى انطلاق المؤمن بقلبه وفكره وسلوكه نحو السماويات.

ب. لا يقف إبليس ساكناً أمام هذا الانطلاق بل يقاومه، أما المؤمن فيجاهد بالروح القدس الساكن فيه.

ج. علامة تمتعنا بالحرية هي التحرر من روح القلق والاضطراب تحت أية ظروفٍ.

د. نتذوق عذوبة الحرية الحقيقية حين ننطلق إلى الأعماق، ولا نتوقف عند المظاهر الخارجية الحرفية فى العبادة.

ه. لا يتمتع أهل العالم بهذه الحرية، لأنهم ينشغلون بمظاهر التديّن فى حرفية قاتلة، بينما يقيدون أنفسهم بمحبة الزمنيات.

و. يهبنا الروح القدس أن نتمتع ببرّ المسيح الذى يسترنا فلا نوجد عراة.

ز. سيكشف يوم الرب عن النفوس التى وهبها الروح القدس الغنى وهى تجاهد بروح الإيمان.

† قلب المسيحي وعقله وطريقة تفكيره هى دائماً فى المجال السماوى. فالمسيحيون الحقيقيون ينظرون الخيرات الأبدية كما فى مرآة، وذلك بسبب حصولهم على الروح القدس وشركته، لكونهم مولودين من الله من فوق، ولأنهم نالوا الامتياز أن يصيروا أولاد الله بالحق وبالفعل، إذ يصلون بعد حروب وأتعاب لفترة طويلة إلى حالة ثابتة مستقرة من الحرية والتحرر من الاضطراب، حالة الراحة، فلا يعودون يُغربلون ويموجون بالأفكار القلقة الباطلة...

العلامة المميزة للمسيحيين ليست هى فى الأساليب والأشكال الخارجية، فكثيرون يظنون أن الفرق الذى يميزهم عن العالم هو فى الشكل أو الأساليب الظاهرة. ويا للأسف فإنهم فى عقولهم وتفكيرهم هم مثل أهل العالم، إذ يضطربون بقلق الأفكار غير الثابتة، فى عدم الإيمان والحيرة والاختلاط والخوف مثل كل الناس الآخرين.

قد يختلفون عن العالم فى الشكل الخارجى والمظهر، ويختلفون عنه أيضاً فى نقطة قليلة من الممارسات الدينية، ولكن فى القلب والعقل هم مقيدون بالرباطات الأرضية، إذ لم يحصلوا أبداً على الراحة فى الله وسلام الروح السماوى فى قلبهم، لأنهم لم يطلبوها من الله، ولم يؤمنوا أنه سيمنح لهم هذه الأشياء[582].

† يقول الرسول: "وإن كنا لابسين، لا نوجد عراة" (2كو5: 3)، يعنى عراة من شركة الروح القدس والاندماج فيه، هذا الروح الذى فيه وحده تستطيع النفس المؤمنة أن تجد راحة...

فلنسعَ إذن بالإيمان والحياة الفاضلة أن نقتنى ذلك اللباس هنا، حتى حينما نخلع الجسد لا نُوجد عراة، إذ لا يكون هناك شئ فى ذلك اليوم يجعل جسدنا غير ممجد. لأن كل واحد بقدر ما يُحسب أهلاً، بواسطة الإيمان والاجتهاد ليصير شريكاً للروح القدس يتمجد جسده فى ذلك اليوم. فكل ما خزنته النفس فى داخلها فى هذه الحياة الحاضرة، سوف يعلن حينئذ وينكشف من الخارج ظاهراً فى الجسد[583].

القديس مقاريوس الكبير.

30 - ماذا يقدم الروح القدس للنفس خلال صحبته لها؟

أ. إذ يرافق الروح القدس نفس المؤمن يرفع الحجاب الذى على وجهها، فترى عريسها السماوى المصلوب. تُحدق فيه فينعكس بهاؤه ونوره عليها.

ب. يهبها الروح القدس الثقة فى عريسها المصلوب من أجلها، فتحبه وتشتهى أن تُصلب معه. تترقب دوماً أن تموت مع من مات لأجلها.

ج. يهبها الروح القدس وهو يرافقها رحلتها روح القوة، فتتحّدى إبليس وتهرب من ظلمة الشهوات، وتتحرر تماماً من الخطية.

د. مع كل صباحٍ تتجدد وتتقدس وتنمو فى الإيمان والمعرفة، فتتأهل للحياة الأبدية والجلوس كملكةٍ عن يمين الملك السماوى.

ه. فى الطريق إذ يصاحبها الروح القدس، يقيم منها هيكلاً مقدساً، ويسكن هو فيها (2كو3: 16).

† إذ يرتفع الحجاب عن وجه النفس، تحدق فى العريس السماوى وجهاً لوجه فى نور الروح الذى لا يُعبّر عنه. وتختلط به بملء الثقة، وتتشبه بموته، وترقب دائماً بشوقٍ عظيمٍ أن تموت لأجل المسيح، وهى تثق بيقينٍ شديدٍ أنها ستنال بقوة الروح تحرراً كاملاً من الخطية ومن ظلمة الشهوات. حتى إذا ما اغتسلت وتطهرت بالروح، وتقدست نفساً وجسداً، ويُسمح لها حينئذ أن تكون إناءً طاهراً معداً لاستقبال المسحة السماوية، وحلول المسيح الملك الحقيقى. حينئذ تؤهل للحياة الأبدية، إذ تكون صارت من تلك الساعة مسكناً طاهراً للروح القدس[584].

القديس مقاريوس الكبير.

31 - متى يحلّ ربيع القيامة، ويُعلن المجد الخفي؟

أ. يتطلع القديس مقاريوس إلى حياتنا فى الرب أشبه بالساكنين فى البلاد الشديدة البرودة. إنهم يرون الأشجار وقد فقدت كل جمالها وكل ثمارها فى فترة الشتاء، وتبدو الأشجار كأنها ميّتة. وإذ يحلّ الربيع للغاية تكتسى الأشجار بأوراقها وزهورها وأيضاً ثمارها فى فترة قصيرة. كانت حياتها مخفيّة فى الشتاء، وفى الربيع يظهر ما كان مخفيّاً. هكذا فى ربيع القيامة العامة يتجلّى عمل الروح القدس الذى كان مخفيّاً ونحن فى رحلتنا نحو السماء.

ب. تستنير حتى أجسادهم التى ماتت وانحلّت، وتتمتع بقوة الروح القدس الذى يصير لهم كساءً وطعاماً وشراباً وبهجةً وفرحاً وسلاماً. فما نالوه أثناء رحلتهم فى العالم فى داخلهم يُعلن عنه فى الحياة الأبدية.

كما سطح مجد الروح على وجه موسى، فلم يكن أحد يقدر أن يتفرّس فيه، هكذا ستكون أجسادنا فى يوم الرب العظيم.

ج. يليق بنا أن نجاهد هنا، طالبين من الروح القدس أن يقدسنا، فلا نظهر فى يوم الرب عراة، بل تلتحف أجسادنا بالمجد الإلهى وتمتلئ من مجد الروح.

د. يقول القديس مقاريوس أنه كما كانت النار المقدسة مدفونة فى حفرة فى أثناء السبى البابلى حتى رجع المسبيّون إلى أورشليم. هكذا تعمل النار السماوية كأنها مدفونة فى أجسادنا، وعندما نبلغ أورشليم العُليا يتحول الجسد المنحل إلى جسدٍ مُقام من الأموات، وتُعلن النار السماوية علانية.

يقول القديس مقاريوس الكبير: [كما أن الأشجار التى تجوز الشتاء، حينما تدفئها الحرارة غير المنظورة التى للشمس والرياح، ينشأ من باطنها كساء من الأوراق يغطيها، وكما تخرج فى ذلك الموسم زهور العشب من باطن الأرض، وتتغطى الأرض وتكتسي بها، ويكون العشب مثل تلك الزنابق التى قال عنها الرب "ولا سليمان فى كل مجده كان يلبس كواحدة منها" (مت6: 29)، لأن كل هذه أمثال ونماذج ورموز عن المسيحيين فى القيامة. كذلك كل النفوس التى تحب الله، أعنى المسيحيين الحقيقيين، يأتيهم أول الشهور الذى يسمى نيسان: الذى هو يوم القيامة. وبقوة شمس البرّ يخرج مجد الروح القدس من الداخل، فيكسو ويغطى أجساد القديسين، ذلك المجد الذى كان لهم سابقاً، ولكنه كان مخفياً فى داخل نفوسهم. فإن ما يكون للإنسان الآن، سوف يظهر بعينه خارجاً من الداخل وينكشف فى جسده...

يقول الرب: "هذا الشهر سيكون أول شهور السنة" (خر12: 2)، وهو يجلب الفرح للخليقة كلها، فإنه يكسو الأشجار العالية، ويفتح الأرض، وهو يبهج جميع الكائنات الحية، ويعطى المرح للكل. هذا بالنسبة للمسيحيين هو نيسان أول الشهور الذى هو موسم القيامة، الذى فيه ستتمجد أجسادهم بواسطة النور الفائق الوصف الذى هو فيهم منذ الآن، وأعنى به قوة الروح القدس، والذى سوف يصير لهم فيما بعد كساءً وطعاماً وشراباً وبهجة وفرحاً وسلاماً، ورداءً وحياة أبدية، لأن كل جمال البهاء والبريق السماوى سوف يصير لهم من روح اللاهوت ذلك الذى حُسبوا أهلاً لقبوله فى هذه الحياة الحاضرة...

كم ينبغى إذن لكل واحد منا أن يؤمن ويجتهد وأن يجد فى كل سيرة فاضلة، وبرجاءٍ كثيرٍ وصبرٍ نطلب أن نُحسب أهلاً ونحن فى هذا العالم، لنوال تلك القوة من السماء ومجد الروح القدس فى نفوسنا فى الداخل. حتى حينما تنحل أجسادنا يكون عندنا حينئذٍ ما سوف يكسونا ويحيينا. كما يقول الرسول: "وإن كنا لابسين لا نُوجد عراة" (2كو5: 3)، و "سيحيي أجسادنا المائتة أيضاً بروحه الساكن فينا" (رو8: 11).

لأن موسى النبى المبارك أرانا فى مثال. بواسطة مجد الروح الذى سطع على وجهه الذى لم يستطع أحد ان يتفرس فيه. كيف أنه فى قيامة الأبرار ستتمجد أجساد أولئك المستحقين، بمجدٍ تحصل عليه منذ الآن النفوس المقدسة الأمينة، إذ تُحسب أهلاً لاقتناء هذا المجد فى داخلها، فى الإنسان الباطن. لأن الرسول يقول: "ونحن ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف. أى فى الإنسان الباطن. كما فى مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ" (2كو3: 18). وكذلك كُتب عن موسى أنه لمدة أربعين يوماً وأربعين ليلة "لم يأكل خبزاً، ولم يشرب ماءً" (خر24: 78) ولم يكن ممكناً بطبيعة جسده أن يعيش طول هذه المدة بدون طعام إن لم يكن قد اشترك فى نوع آخر من الطعام الروحانى، هذا الطعام هو الذى تشترك فيه نفوس القديسين منذ الآن بموهبة الروح بطريقة غير منظورة[585].].

ويقول: [لذلك يجب على كل واحدٍ منا أن يجتهد ويسعى فى كل فضيلة، وأن يؤمن ويطلب من الرب لكى يجعل الإنسان الباطن شريكاً فى ذلك المجد هنا منذ الآن. وأن تصير للنفس شركة فى قداسة الروح، لكى ما نتطهر من أدناس الشر، ويكون لنا فى القيامة ما نكسو به عري أجسادنا عند قيامتها وما نغطى به عيوبها، وما يحييها وينعشها إلى الأبد فى ملكوت السماوات... حينئذ تلتحف أجساد هؤلاء بالمجد الإلهى من أعمالهم الصالحة، ويمتلئون من مجد الروح، وهكذا إذ نتمجد فى النور الإلهى، ونختطف إلى السماء لنلاقي الرب فى الهواء حسب المكتوب (انظر 1 تس4: 17). أما عن اللباس الذى يلبسه المسيحيون فواضح أن الروح نفسه هو الذى يكسوهم، باسم الآب والابن والروح القدس إلى الأبد. آمين[586].].

كما يقول: [النار السماوية، نار اللاهوت، التى ينالها المسيحيون فى قلوبهم، الآن وهم فى هذا العالم الحاضر، تعمل فى قلوبهم من الداخل، وسوف تصير ظاهرة من الخارج، حينما ينحل ويتحلل الجسد، ثم تجمع الأعضاء ثانية وتسبب (هذه النار) قيامة الأعضاء التى كانت قد انحلت واضمحلت... فكما أن النار التى كانت تتقد على المذبح فى أورشليم، ظلت مدفونة فى حفرة أثناء فترة السبى، وعندما حلّ السلام ورجع المسبيون إلى أورشليم، تجددت هذه النار نفسها، واشتعلت كما كانت سابقاً قبل السبى (أنظر 2مك1: 19 - 22)، هكذا الآن أيضاً، فإن النار السماوية تعمل فى هذا الجسد الذى ألفناه، هذا الجسد الذى فى انحلاله (بالموت) يتحول إلى نتانة وقذارة، يتجدد هذا الجسد وتقيمه بعد ان اضمحل وفسد... إن النار الداخلية التى تسكن الآن فى القلب سوف تُستعلن حينئذ من الخارج، وتتم قيامة الجسد[587].].

32 - ماذا تقدم لك كل من نار الروح القدس ونار العالم؟

يقول المرتل: "تلذذ بالرب، فيعطيك سؤل قلبك" (مز37: 4). يوضح القديس مقاريوس الكبير كيف يوجِّه النار المادية المنظورة، وأيضاً نار الروح القدس غير المنظورة، حسب سؤل قلوبنا:

أ. طُرح الثلاثة فتية الأبرار فى وسط أتون النار، وإذا بالنار الإلهية التى فى قلوبهم والعاملة فى أفكارهم تحوّل نار الأتون المنظورة إلى ندى. لم يستطع الأتون أن يحرقهم ويهلكهم، بل صار يمجدهم حيث رأى الملك شخصاً رابعاً شبيه بابن الآلهة يحتضنهم ويتمشى معهم (دا3: 25).

ب. إذ عبد بنو إسرائيل الأوثان الزموا هرون أن يجمع أوانيهم وحليِّهم الذهبية. قال هرون لموسى أنه لما طرح الحليّ الذهب فى النار خرج هذا العجل الذهبى. هكذا صوَّرت قصدهم، فخرج العجل الذهبى وعبدوه جهراً (خر32: 24).

ج. اشتهت قلوب الثلاثة فتية الفردوس، فتحولت نار الأتون لهم إلى شبه فردوس. واشتهى شعب إسرائيل عبادة عجل أبيس الذى فى مصر فسبكت لهم النيران العجل الذهبى ليعبدوه.

† بينما كان الثلاثة فتية الذين بسبب برّهم طرحوا فى الأتون فى وسط النار المنظورة، كانوا حاصلين فى قلوبهم على النار الإلهية السماوية عاملة فى داخل أفكارهم، وفاعلة بقوتها فيهم... هذه النار السماوية كشفت نفسها من الخارج أيضاً... فحجزت بينهم وبين النار المنظورة فى الأتون، وأوقفتها حتى لا تحرق الأبرار، ولا تؤذيهم بأى نوع من الأذى...

كذلك حينما مال عقل شعب إسرائيل وأفكارهم بعيداً عن الله الحى، وتحولوا إلى عبادة الأوثان، ألزموا هارون بأن يجمع أوانيهم وحليّهم الذهبية، وقال هارون لموسى إنه لما طرح الحلى الذهب فى النار خرج هذا العجل كما لو أن النار قد صورت ما فى نيتهم وكان هذا كأمرٍ غريبٍ... فإنهم فى نيتهم وأفكارهم زاغوا إلى عبادة الصنم، وبحسب رغبتهم وقصدهم شكلّت النار من حليّهم عجلاً مسبوكاً من صناعتهم، وعبدوه جهراً (خر32: 24)...

وكما كان للثلاثة فتية أفكار البرّ، فقبلوا نار الله فى داخلهم، وعبدوا الرب بالحق، كذلك الآن تنال النفوس المؤمنة النار الإلهية السماوية فى إنسانها الداخلى، وهى فى هذا العالم، تلك النار نفسها تطبع صورة سماوية فى طبيعتهم البشرية[588].

كما يقول: [كما صورت النار الأوانى الذهبية، فصارت صنماً (خر32: 24)، كذلك يحقق الرب ويتمم مقاصد النفوس المؤمنة الصالحة، ويطبع ويصوّر فى النفوس الآن الصورة السماوية الجديدة بحسب رغبتهم وشهوتهم. هذه الصورة ستظهر فى القيامة من الخارج، وتمجد أجسادهم من الداخل ومن الخارج... وكما أن الأجساد فى هذا الزمان تضمحل وتموت وتتحلل، هكذا تفسد الأفكار بعمل الشيطان، وتموت عن الحياة الحقيقية وتدفن فى الطين والتراب لأن نفوسهم تهلك... وكما أن الإسرائيليين طرحوا الأوانى الذهبية فى النار، فصارت صنماً، كذلك الإنسان متى سلم أفكاره النقية الصالحة للشر، فتندفن فى وحل الخطية وتصير صنماً... ما الذى يفعله الإنسان حتى يكتشفها ويعرفها ويميزها ويطرحها بعيداً عن ناره الخاصة؟... تحتاج النفوس إلى المصباح الإلهي، وهو الروح القدس، الذى ينير ويجدد البيت المظلم... تحتاج النفوس إلى شمس البرّ الساطعة، التى تضئ وتشرق على القلب، وهى السلاح الذى تكسب به المعركة[589].].

33 - هل تستقر نفوسنا فى الروح القدس ويسكن الروح القدس فينا؟

يقول القديس باسيليوس الكبير: [يوصف الروح عادةً بأنه مقر الذين تقدسوا. حقاً أنه مكان القديسين، وكل قديس مكان الروح القدس، لأنه يُقَدِّم ذاته ذبيحة وهيكلاً لسُكنى الله، لذلك قيل إنهم هيكل الله (1كو6: 19) [590].] ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [أعطانا الله عقلاً لكى نتعلم وننال عوناً فيه، وليس أن نكتفى بأنفسنا. العيون جميلة ونافعة، لكنها إن أرادت أن ترى بدون نور، يصير جمالها بلا نفع، بل وقد يصير ضاراً. هكذا إذ تختار نفسي أن ترى بدون الروح، تصير خطراً على نفسها[591].] كما يقول القديس فيلوكسينوس المنبجي: [الروح القدس هو معموديتنا الحقيقية، ولهذا السبب نبقى دوماً مُعمَّدين، إذ هو دوماً فينا، ولا يُمكن لشيءٍ ما أن يحرمنا من عمادنا سوى جحد الله وارتباطنا بالشياطين. فى مثل هذه الحالات بالحق يفارقنا الروح القدس، لأنه لا يمكن أن يقبل البقاء فى مكان يسكنه شيطان[592].].

34 - هل حُرم الإنسان من أجنحة للطيران؟

إن كانت الطيور تتمتع بأجنحة مادية للطيران فى الجو، فقد وُهب الإنسان الروح القدس لكى يطير كما إلى السماء. يقول القديس مقاريوس الكبير: [إذ خلق الله آدم لم يزوده بأجنحة جسدية مثل الطيور، لكن قصد له فى الأصل أن تكون له أجنحة الروح القدس، تلك الأجنحة التى قصد أن يعطيها له فى القيامة لترفعه وتختطفه إلى حيث يشاء الروح. هذه الأجنحة التى تنال النفوس المقدسة امتياز الحصول عليها منذ الآن، وتطير فى عقولها إلى المجال السماوى. فالمسيحيون لهم عالم مختلف خاص بهم، ومائدة أخرى وثوب آخر ونوع آخر من التمتع والتنعم، وشركة أخرى وطريقة أخرى للتفكير والعقل... إن لهم الامتياز أن ينالوا قوة هذه الأمور فى داخل نفوسهم منذ الآن بواسطة الروح القدس. لذلك فإن أجسادهم تُحسب أهلاً فى القيامة للاشتراك فى خيرات الروح الأبدية هذه، وسوف تختلط بذلك المجد الذى قد عرفته نفوسهم بالاختبار فى هذه الحياة[593].].

35 - هل كان (آدم وحواء) قبل السقوط لابسين مجد الله عوضاً عن ثوبٍ؟

يجيب القديس مقاريوس الكبير: [كما كان الروح يجرى عمله فى الأنبياء ويعلمهم وكان فى داخلهم، ويظهر لهم من الخارج، هكذا أيضاً كان الحال مع آدم. فالروح، حسبما يشاء، كان يحضر معه ويعلمه، ويشير عليه: "تكلم هكذا". وهكذا كان يسير ويتكلم، لأن الكلمة كان له كل شيءٍ، وطالما كان ثابتاً فى الوصية، فقد كان صديقاً لله. لكن لماذا نستغرب أنه بالرغم من كل هذه الأحوال التى كان فيها آدم، تعدى الوصية؟ فإن أولئك الذين يمتلئون الآن بالروح القدس، لا تزال تأتيهم أفكار من طبيعتهم، ولهم الإرادة أن يطيعوها، كذلك آدم رغم أنه كان حاضراً مع الله فى الفردوس، فقد تعدى الوصية بإرادته، وأطاع الجانب الشرير. ولكن بعد عصيانه لا تزال عنده معرفة[594].].

36 - هل تتمتع الطغمات السماوية بالروح القدس؟

يقول القديس أمبروسيوس: [يقول عنه داود: "أنهار الله، تفرح مدينة الله" (مز46: 4). لا ترتوي مدينة الله أورشليم السماوية من قناة مياه أو من نهر أرضي، وإنما من الروح القدس النابع من ينبوع الحياة الذى تكفي قطرة منه أن تفي احتياجاتنا، ولكنه يفيض أكثر على العروش السماوية، والسيادات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، متدفقاً بكل قوته بالمواهب الروحية السبعة للروح القدس. وإذا كان النهر يمتلئ ويفيض ويغمر شاطئيه، فكم بالحري الروح القدس الذى يفيض ويغمر كل الخليقة والأراضى الواطئة أى عقولنا، ويفرح الطبائع السماوية بتقديسه لهم بحيوية وخصوبة وافرة[595].].

37 - هل دعوة الروح القدس بالقوة الإلهية (أع1: 8) يتنافى مع كونه أقنوماً إلهياً؟

يقول القديس أمبروسيوس: [كتب عن الابن "هو قوة الله وحكمة الله" (1كو1: 24)، وعن الآب أيضاً نقرأ أنه القوة كما هو مكتوب: "ترون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله" (مت26: 64) [596].].

38 - ما هو دور الروح القدس فى تجديد الكنيسة؟

تجديد الكنيسة نقصد به النمو المستمر، فالكنيسة كائن حىيّ دائم النمو، وليس كائناً جامداً. إنها تحمل تيار الروح القدس العامل فيها كحياة نامية متدفقة. هذا التيار النارى يحرق وينشط، خلاله نحافظ على الماضى بغير جمود، كما نبني عليه حلولاً للمشاكل المعاصرة الجديدة. سرّ تجديدها سكنى السيد المسيح فينا، وحلول روحه القدوس فى أعماقنا الداخلية[597].

39 - ما هو دور الروح القدس في التقديس المستمر والثبوت فى القدوس؟

فى المعمودية اقتلعنا روح الله القدوس من الزيتونة البرية غير المثمرة وطعَّمنا فى المسيح يسوع الزيتونة الجيدة (رو11: 14، 17). فدخل بنا من الحياة العقيمة إلى الحياة المقدسة. لكن عمل الروح القدس لا يقف عند هذا الحد. بل يقوم بتثبيتنا فى الأصل (الابن القدوس)، لكى تنتقل فينا عصارة الحياة المقدسة من الأصل إلى الأغصان، فلا تبقى الأغصان على ما هى عليه، بل تنمو على الدوام فى الأصل وتأتي بثمر كثيرٍ. هذا هو سرّ التثبيت الذى فى حقيقته هو تمتع بعطية الروح القدس، الذى يتعهد نمونا الروحى، أو يتعهد نمو إنساننا الجديد فى الحياة المقدسة، لعلنا نبلغ إلى ملء قامة المسيح.

حدثنا السيد المسيح عن حاجتنا إلى الثبوت فيه بالروح القدس، بقوله: "كما ان الغصن لا يقدر أن يأتى بثمرٍ من ذاتهِ إن لم يثبت فى الكرمة كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا فيَّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذى يثبت فيَّ وأنا فيهِ يأتى بثمرٍ كثير. لأنكم بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً. إن كان أحد لا يثبت فيَّ يُطرَح خارجاً كالغصن، فيجفُ ويجمعونهُ ويطرحونهُ فى النار فيحترق" (يو15: 4 - 6).

لقد وجه الرسل أنظارنا إلى عمل الله الخاص بتبنينا فيه فى ابنه يسوع المسيح خلال مسحة الروح القدس، بقولهم: "ولكن الذى يثبّتنا معكم فى المسيح وقد مسحنا هو الله الذى ختمنا أيضاً، وأعطى عربون الروح فى قلوبنا" (2كو1: 21 - 22). "وأما أنتم فالمسحة التى أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يُعلّمكم أحد... كما عَلَّمتكُم تثبتون فيهِ" (1يو2: 27). "بهذا نعلم أنه يثبت فينا من الروح الذى أعطانا" (1يو3: 24).

فى هذا يقول القديس أمبروسيوس: [تذّكروا أنكم قد تقبلتم الختم الروحى: روح الحكمة والفهم، وروح المشورة والقدرة، روح المعرفة والصلاح، روح المخافة المقدسة. احفظوا ما قد تسلمتم. الله الآب وسمكم، والمسيح ثبتكم، ووهبكم عربون الروح فى قلوبكم، كما تعلمتم من الرسول. إذ يصير الناس أغنياء بهذا الختم، يقترب الذين اغتسلوا (بالمعمودية) إلى مذبح المسيح[598].].

40 - ما هو دور الروح القدس في تكريس القلب لله؟

فى القديم حوّلت النار المادية الأدوات الذهبية التى بين يدى شعب إسرائيل إلى العجل الذهبى الصنم، الذى كان قائما فى قلوبهم يتعبدون له خفية، فظهرت نيتهم الداخلية، وأعلن معبودهم الخفي (خر24: 32). وإذ دخل الثلاثة فتية القديسين أتون النار المنظور من اجل برّهم أُعلن إلههم الخفي الذى كان يعمل فى قلوبهم، إذ ظهر شبيه بابن الآلهة يتمشى معهم وسط الأتون، يحتضنهم ويحميهم من النار المنظورة، هكذا أرسل الله ناره الإلهية، روحه القدوس، الأقنوم الإلهي، لكى يعلن السيد المسيح المخفي فى قلوبنا.

إن عمل الروح القدس النارى فينا هو أنه يختمنا بالختم الملوكي فى أعماق النفس الداخلية، فنحمل صورة السيد المسيح فينا، وتصير النفس والجسد بكل إمكانياتها وتصرفاتهما ملكاً للرب. هذا هو مفهوم التكريس: أننا نحمل الختم الإلهى معلناً أن كل ما فينا هو له.

يحدثنا الرسول بولس عن هذا الختم الإلهى، قائلاً: "ولكن الذى يثبّتنا معكم فى المسيح وقد مسحنا هو الله الذى ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح فى قلوبنا". (2كو1: 21 - 22) "الذى فيه أيضاً إذ آمنتم خُتِمتم بروح الموعد القدّوس الذى هو عربون ميراثنا لفداءِ المُقتَني..." (أف1: 13 - 14) "ولا تُحزِنوا روح الله القدوس الذى به خُتِمتم ليوم الفداءِ" (أف4: 30) "ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت إذ لهُ هذا الختم..." (2تى2: 19).

وجاء فى أوامر الرسل: [أيها الأسقف أو القس قد رتبنا سابقاً والآن نقول إن تمسح أولاً بزيت ثم تعمد بماء وأخيراً تختم بالميرون].

يقول القديس كبريانوس: [كما أن الرسولين بطرس ويوحنا بعد صلاة واحدة حلّ الروح القدس على سكان السامرة بوضع الأيدى (أع8: 14 - 17) هكذا فى الكنيسة أيضاً منذ ذلك الحين ينال جميع المعمدين الروح القدس ويختمون بختمه عند دعاء الكهنة ووضع أياديهم.] وأيضاً يقول: [انظروا كيف صرتم مشاركي اسم المسيح كهنوتيّاً، وكيف أعطى لكم ختم شركة الروح القدس[599].].

ويقول القديس مار افرام السريانى: [لقد ختمت جميع قوى نفوسكم بختم الروح القدس... ووضع الملك رسالته عليكم، خاتماً إياها بختم النار (لو3: 16) لا يقرأها الغرباء ويحرفوها[600].].

عمل هذا الختم المقدس، ختم الروح القدس أنه يجعلنا مَقدسّاً للرب، بيت الله المدشّن له، إذ يقول الرسول: "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذى فيكم الذى لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم... فمجّدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله" (1كو6: 19 - 20). هذا الختم النارى يكرس النفس كما الجسد ليصير الإنسان بحقٍ عروسّاً روحية للسيد المسيح الملك السمائى. وكما يقول القديس مقاريوس الكبير: [حواس النفس الخمسة المُدركة إن نالت النعمة من فوق وتقديس الروح صارت حقاً الخمس عذارى اللواتى نلن حكمة النعمة من فوق.].


[492] للكاتب: الحب الإلهي، 2010، الكتاب السادس، ص970 - 988، تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح السابع من سلسلة من تأملات وتفسير الآباء الأولين.

[493] Adv. Haer. 36: 5: 2. PG 1223: 7 B.

[494] Adv. Haer. 38: 4: 3 PG 1108B.

[495] Of the Holy Spirit Book 20: 3: 153 - 154.

[496] St Augustine: On the Gospel of. John, tractate 4: 32.

[497] Comm. On Canticle, sermon 10.

[498] Against Jovinianus, 12: 1.

[499] Sermon 3: 170.

[500] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 2: 32.

[501] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، 1993، عظة 1.

[502] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نَوّار، عظة 8.

[503] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 14.

[504] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 9.

[505] Hom 51. PG 300: 59 - 301.

[506] Letter, 78: 63 - 79.

[507] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 7: 32.

[508] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 8: 32 - 9.

[509] Of the Holy Spirit 16: 1: 177 - 178.

[510] Adv. Haer. 17: 3: 1 - 2 PG 929: 7 - 30.

[511] Of the Holy Spirit Book 20: 3: 153 - 154.

[512] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 8: 32 - 9.

[513] Oratio 31, Theologica 31: 5,29 PG 159: 36 B.

[514] Oratio 41, Pentecosten 5. PG 436: 36 B.

[515] In Joannis evangelium 10: 11. PG 544: 74.

[516] De SS. Trinitate Dialogus,3. PG 837: 75A.

[517] De SS. Trinitate Dialogus,3. PG 964: 75 A.

[518] De SS. Trinitate Dialogus,3. PG 800: 75 C.

[519] De SS. Trinitate Dialogus,3. PG 833: 75.

[520] De SS. Trinitate Dialogus,3. PG 837: 75 A.

[521] De SS. Trinitate Dialogus7. PG 1089: 75 A.

[522] De SS. Trinitate Dialogus,7. PG 751089 B.

[523] De SS. Trinitate Dialogus,7. PG 1113: 75 A.

[524] Who is the Rich man.. 39?.

[525] St. Ambrose: On the Holy Spirit, 107: 2.

[526] St. Ambrose: On the Holy Spirit, 64: 3.

[527] St. Augustine: On the Psalms. Ps. 80: 10.

[528] Oratio 31. Theologica 28: 5 PG 105: 36 A.

[529] احتاج الجسد إلى اللباس والأحذية بعد أن حرم نفسه من برّ الله بعصيانه الوصية الإلهية واعتزاله الله القدوس.

[530] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء،.عظة 11 - 10: 1.

[531] Letter to Sixtus, 191.

[532] On the Holy Spirit, Book ll, chap. Xlll, 143.

[533] Oration 5 on the Holy Spirit, 29.

[534] The Long Rules, 7.. PG 323: 82.

[535] On the Spirit, chap. XXVI, 61.

[536] De Spir, Sanc. 35: 15.

[537] Catech. Lect. On Faith 11: 5.

[538] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآبا، عظة 2: 4.

[539] Homilies on St. John, 2: 78.

[540] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 2: 96.

[541] الكنيسة تحبك، 1986، ص61 - 66.

[542] Ser. 3: 85.

[543] Ibid 4: 85.

[544] In Gen. hom 2: 10.

[545] Boris Bobrinskoy: The Mystery of the Trinity, St. Vladimir 1999, p. 72.

[546] Boris Bobrinskoy: The Mystery of the Trinity, St. Vladimir 1999, p. 73.

[547] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 2: 92.

[548] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 1: 94.

[549] Ad. Eunom. 5.

[550] قداس الإلهى القبطى "باركت طبيعتى فيك".

[551] دكتور جورج بباوى: شرح تجسد الابن الوحيد للقديس كيرلس الإسكندرى، 1975، ص12، 11.

[552] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا انطونيوس لدراسات الآبا، عظة 18: 1 - 3.

[553] Of the Holy Spirit, Book 14: 3: 99.

[554] Of the Holy Spirit, 12: 2 (131, 133, 134).

[555] Of the Christian Faith, 11: 5 (133).

[556] Sermon on N. T. Lessons, 33: 21.

[557] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 2: 77.

[558] Gregory Nazianzus: Orati xL, iN Sanctum baptisma 41. PG 417: 36c.

[559] Adv. Haer. 24: 3: 1.

[560] Adv. Haer. 17: 3: 2 PG 903: 7 A.

[561] Adv. Haer. 17: 3: 2.

[562] In Librum Jesu nave, Homilia 2: 3 PG 838: 12A.

[563] Adv. Haer. 17: 3: 2 PG 930: 7.

[564] للقمص تادرس يعقوب ملطى، الروح القدس عند العلامة أوريجينوس، تعريب دكتور جورج بطرس.

[565] On the Trinity 33: 2.

[566] Liber de Spiritu Sancto. 23: 9. PG 109: 32.

[567] On the Holy Spirit, Book 1: 3: 8.

[568] Of the Christian Faith, 9: 2: 76.

[569] راجع رسائل القديس الأنبا أنطونيوس (ترجمة مؤسسة القديس أنطونيوس)، الرسالة الثامنة.

[570] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء عظة 4: 26.

[571] Liber de Spiritu Sancto. 22: 9 PG 108: 32 - 9.

[572] In 1. Thess. , hom 11.

[573] Leber de Spiritu Sancto, 61: 26 PG 180: 32 D.

[574] Homilies on St. John, 1: 78.

[575] للمؤلف: الله مقدسى، 1967، ص12 - 13.

[576] Sermon on N. T. Lessons, 3: 94 - 5.

[577] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractates, 3: 95.

[578] Homilies on St. John, 1: 78.

[579] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractates, 1: 95.

[580] Sermon on N. T. Lessons, 6: 94.

[581] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractates, 4: 95.

[582] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 5: 4.

[583] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 5: 7 - 8.

[584] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 10: 4.

[585] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 5: 8 - 10.

[586] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 6: 7.

[587] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 11: 1.

[588] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 11: 2.

[589] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 11: 3.

[590] On the Spirit, chap. XXV1,62.

[591] Homilies on Cor. 9: 7.

[592] On the Dwelling of the Holy Spirit.

[593] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 5: 11.

[594] راجع عظات القديس أنبا مقار الكبير، ترجمة مؤسسة القديس أنبا أنطونيوس لدراسات الآباء، عظة 12: 8.

[595] On the Holy Spirit, Book l, chap. XV1.

[596] On the Holy Spirit, Bookll, chap. 1,19.

[597] القمص تادرس يعقوب ملطي: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، الطبعة الثانية، 2003، ص9.

[598] De Mysterus 42: 7.

[599] رسالة 73 ضد الهراطقة، عظة 8: 33.

[600] تعليم الإيمان 5.

No items found

الفصل الحادي عشر ألقاب المخلص وأسماؤه تشهد لأعمال حبه!

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات