الفصل الثامن النعمة الإلهية

الفصل الثامن

النعمة الإلهية[264]

1 - كيف نميز بين النعمة الإلهية والعناية الإلهية والتدبير الإلهى كضابط الكل؟

من يلتصق بالله ويدخل فى علاقة شخصية معه، يشعر أن كل ما يشغل الله هو محبوبه الإنسان، سواء على مستوى الكنيسة الجامعة الممتدة من آدم وحواء حتى مجيئه الأخير أو على مستوى كل عضوٍ فيها. يتلامس الإنسان مع الله، فيشعر بما قاله القديس أغسطينوس بأنه يشعر كأنه لا يوجد سوى الله ومحبوبه أغسطينوس.

تبرز فى حياة المؤمنين شعورهم بأعمال الله معهم وفيهم ولحسابهم، هذه الأعمال الإلهية هى.

أ - النعمة الإلهية.

ب - العناية الإلهية.

ج - التدبير الإلهى كضابط الكل Pantocrator.

يصعب أن نفصل هذه الأعمال الثلاثة عن بعضهم البعض. لكن يمكننا أن نميز إلى حدٍ ما بين هذه الأعمال الإلهية هكذا:

أ. النعمة الإلهية: أشار إليها الإنجيلى يوحنا: "ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة، لأن الناموس بموسى أعطيَ، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صار" (يو1: 16 - 17). فى حرفية قاتلة وضيق أفقٍ يظن البعض فى النعمة الإلهية مجرد القدرة على سلوك أخلاقى مجرد. أما الذين يتمتعون بالنعمة فيدركون أنها عطية من عند الآب تُعطى لنا بالمسيح يسوع ملخصنا فى الروح القدس الذى يقودنا فنتمتع بتجديدٍ مستمرٍ وتقدُمٍ بلا توقف، وانطلاقٍ من مجدٍ إلى مجدٍ، وتذوق عربون السماويات.

ب. العناية الإلهية: باتحادنا مع الابن الوحيد الجنس ننال فى المعمودية البنوة لله الآب، وعضويتنا فى جسد المسيح، وإدراكنا أننا هيكل الله القدوس وروح الله يسكن فينا (1كو3: 16). يشعر المؤمن أنه محمول على الأذرع الأبدية، لا تستطيع كل قوات الظلمة أن تقترب إلى قلبه. بهذا ندرك ما قاله الإنجيلى يوحنا: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنين باسمه" (يو1: 12).

أدرك الرسول بولس هذه العطية، أى "البنوة لله الآب"، عندما تحرر من حرفية الناموس وتمتع بحرية مجد أولاد الله (رو8: 21).

ج. التدبير بواسطة الله ضابط الكل: تعتز الكنيسة بهذا اللقب "البانتوكراتور"، أى الضابط الكل الذى يدبر كل أمور العالم، الكبيرة والصغيرة، ليس فى حب للسلطة، بل خلال محبته وحكمته وتدبيره العجيب الذى يفوق الفكر البشرى.

2 - ما هى النعمة الإلهية؟ [265]

يقدم لنا معلمنا يوحنا البشير خلال إنجيله شخص الكلمة الإلهى المتجسد كمصدر فيضٍ من النعم الإلهية بلا توقف، خاصة نعمة الخلق ونعمة البنوة لله مع فيضٍ من النعم. يقول الإنجيلى: "ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة، لأن الناموس بموسى أعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صار" (يو1: 16 - 17). يعلن يوحنا الإنجيلى أن يسوع المسيح هو هو سرّ الملء للكنيسة كلها، ينبوع نِعَم لا تنقطع، فيض حب يتفجر على الدوام. فمن كمال ملئه اللانهائى يفيض على كنيسته ليتمتع كل عضوٍ فيها بالشركة فى الطبيعة الإلهية، فهو مصدر كل النعم، يملأ مخازننا (أم8: 21). نتقبل منه النعم كما تتقبل مجارى المياه الماء من الينبوع مصدر الماء. العطايا الإلهية هى نِعَم grotius أى مجانية (رو12: 6)، فإذ يسرَّ الآب بابنه المحبوب الوحيد الجنس يُسر بنا نحن فيه (أف1: 6).

لم يهتم آباء الكنيسة الأولى فى الشرق بتقديم تعاريف للمصطلحات اللاهوتية سواء للنعمة أو غيرها، بالرغم من الحديث بفيضٍ عن عمل النعمة ودورها فى حياة المؤمن منذ خلقته إلى يوم لقائه مع الرب على السحاب. فما يشغل ذهن الكنيسة، خاصة كنيسة الإسكندرية، هو الخبرة الحية والاتحاد مع الله كعربون للتمتع بالحياة الأبدية. لهذا لا نعجب إن استخدم العلامة أوريجينوس اسم "المسيح" عوض عطاياه أو نعمه.

حاول بنيامين دريورى Benjamin Drewery أن يقدم تعريفاً للنعمة الإلهية خلال أعمال أورجينوس العديدة، فقال [يمكننا أن نقترح انه إذا سُئل أوريجينوس عن تقديم تعريف منهجى للنعمة يجيب بشيءٍ مثل هذا: "النعمة هى قوة الله المجانية، لكنها ليست غير مشروطة، توضع تحت تصرف الإنسان، بواسطتها يُترجم الخلاص إلى حياة جديدة تبلغ الذروة، مُعلَنة ومُقننة فى الأسفار المقدسة بواسطة يسوع المسيح المتجسد، وتصير به مملكته للعالم" [266].

أما القديس أغسطينوس، فيقول: [ماذا تعنى "نعمة فوق نعمة" (يو1: 16)؟ بالإيمان عاد الله مدافعاً لصالحنا، وإذ كنا غير أهلٍ لغفران خطايانا، ولأننا كنا غير مستحقين نلنا نفعاً عظيماً هكذا، فدُعي ذلك نعمة. ما هى النعمة؟ ما يُعطى مجاناً... وإذ تنال إحساناً من الله بالحياة بالإيمان تتقبل الخلود كمكافأة والحياة الأبدية، وهذه نعمة! [267]].

يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [يئن داود قائلاً: "بالآثام حُبل بى، وفى الخطايا ولدتنى أمى" (مز51: 5). أيضاً يعلن الرسول: "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذى بيسوع المسيح، الذى قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه" (رو3: 23 - 25). لهذا يمنح غفران الخطايا للذين يؤمنون، إذ قال الرب نفسه: "هذا هو دمى الذى للعهد الجديد الذى يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (مت26: 28) [268].].

3 - ما هو أول عمل للنعمة الإلهية؟

أول نعمة تمتع بها الإنسان هو "الخلق". أوجد الله الإنسان من العدم إلى الوجود، فيشعر أنه مدين له بكل حياته، كما وهبه أيضاً نعمة صورته. بهذا يتمكن من ممارسة الحياة الفردوسية، وإدارك أسرار معرفة الله، والاتصال بالخالق، فيتمثل به، يراه ويحيا معه خالداً إلى الأبد.

يشرح القديس أثناسيوس الرسولى عمل الكلمة (اللوغوس) الخالق كواهب نعمة التمتع بصورة الله، وإعادتها لنا بتجديد طبيعتنا بعد فسادها. فنركز بصيرتنا الداخلية على الله، وتصير لنا دالة لديه لا تخزى، وندرك أسراره، ونمتلئ فرحاً. إنه يقول: [إذ يستعيد (الإنسان) نعمة الله التى وُهبت له، وإذ يقتنى القدرة الخاصة التى من اللوغوس كلمة الآب، يتهلل فرحاً متحدثاً مع الله، فيحيا الحياة المباركة التى بلا ألم، والخالدة بالحقيقة (عديمة الموت). وإذ لا يعوقه عائق عن المعرفة الإلهية، يتأمل دوماً بطهارته[269]؟... صورة الآب، أى اللوغوس، الذى خلق الإنسان على صورته، ويتعجب إذ يدرك تدبير الله للكون بواسطة اللوغوس ويرى فيه الآب، أب اللوغوس، فيختبر الفرح الغامر عند هذه الرؤيا، ويتجدد باشتياقه إليه. يشبه هذا الأمر حالة الإنسان الأول المخلوق الذى دُعى آدم (باللغة العبرانية)، والذى يقول عنه الكتاب المقدس إنه كان فى البدء ذا ذهن مثبت على الله بدالة لا تخزى... فى تأمل الحقائق المعقولة التى اقتناها فى ذاك الموضوع، والذى يسميه القديس موسى بشكل تصويرى "الفردوس" (الجنة)، وكانت النفس الطاهرة بالحق قادرة أن ترى الله ذاته الذى ينعكس فيها كمرآة كما قال الرب نفسه: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" [270]. (مت5: 8)].

ويقول القديس مار يعقوب السروجى: [لماذا خلق الله دون أن يحتاج إلى (الخليقة) لو لم يكن بدافع النعمة التى تفوق وظائفها (عقول) الكائنات الناطقة؟ [271] كما يقول: [النعمة التى هى أسست العالم، هى نفسها التى تحمله وتحافظ عليه، كأنه مُعلق فى شيءٍ كبير. وقد كُتب أنه علق الأرض على لا شيءٍ (أى26: 7). فكر جلياً أن نعمته تحملها[272].].

4 - هل نعمة الآب والابن والروح القدس واحدة؟

تقديم النعمة الإلهية هو عمل إلهى واحد، عمل الثالوث القدوس محب البشر. فالآب يهب نعمته بفيض بالكلمة الإلهى، بكونه قوة الله وحكمته، ويقدمها لنا بروحه القدوس بكونه روح القوة والحكمة. يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [عندما يعطى الآب نعمة، من المستحيل ألا أن يعطيها بالابن، لأن الابن فى الآب، مثل الشعاع فى الضوء. وذلك ليس كأن الله معوز أو ضعيف، بل كأب "قد أسس الأرض بحكمته" (أم3: 19)، وصنع كل الأشياء بالكلمة المولود منه، ويختم على الحميم المقدس (المعمودية) بالابن. وأوجد كل الأشياء بواسطة كلمته، اللوغوس الذاتىي وأكمل الحميم المقدس فى الابن. وحيث يكون الآب فهناك يكون الابن أيضاً. كما أنه حيث يكون النور هناك يكون الشعاع أيضاً... النعمة هى واحدة، وهى معطاة من الآب بالابن، كما يكتب بولس فى كل رسائله، "نعمة لكم وسلام أبينا والرب يسوع المسيح" (رو1: 7، 1كو1: 3، أف1: 2) [273]].

يقول القديس أمبروسيوس: [إذ توجد نعمة واحدة، وسلام واحد، وحب واحد، وشركة واحدة من جانب الآب والابن والروح القدس، فبالتأكيد توجد عملية واحدة، وحيث توجد عملية واحدة فحتماً لا يمكن للقوة أن تنقسم، ولا للجوهر أن ينفصل[274].].

5 - هل توجد حدود لنمو عمل النعمة؟

من أجلنا قيل عن السيد المسيح: "وكان الصبى ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة، وكانت نعمة الله عليه" (لو2: 40)، وأيضاً: "واما يسوع فكان يتقدم فى الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو2: 52). وكما يقول العلامة أوريجينوس: [لقد أخلى ذاته وأخذ شكل العبد (فى2: 7)... وبالقدرة التى بها اخلى ذاته نما أيضاً.] هكذا يدخل بنا إلى طريق النمو الدائم فى النعمة بلا توقف. فالنعمة فينا هى عمل الله المستمر الديناميكى غير المتوقف.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [المقصود بالنمو إذن هو نمو الجسد، لأنه بنمو جسد المخلص يُستعلن الله أكثر فأكثر (من خلال بشرية المخلص) لمن يرونه. وإذا يُستعلن اللاهوت أكثر فأكثر، هكذا بالأحرى تزداد نعمة بشريتة بالأكثر كإنسان أمام جميع الناس. لأنه كطفلٍ حُمل إلى الهيكل، ولكن حينما صار صبياً بقي فى الهيكل وناقش الكهنة حول الناموس "حتى بهتوا من فهمه وأجابته" (لو2: 47) [275].].

يقول القديس غريغوريوس النيسي: [الإيمان الثابت بالرجاء فى النعمة يصير بهجة لنا، نحن الذين ننتظر فى صبرٍ[276].] وأيضاً: [الشخص الذى يرتفع لا يقف أبداً ساكناً. إنه يتحرك من إحدى البدايات إلى التى تليها، وبدايات النعمة الأعلى ليست محدودة. لذلك فرغبة النفس التى ترتفع تزداد فى المعرفة وفى الرغبة فى الارتفاع إلى مستويات أعلى، وتستمر فى النمو محققة التقدم إلى الغير محدود[277].].

6 - هل النعمة خاصة بجماعةٍ معينة؟

يقول العلامة أوريجينوس: [شكراً لله، فإنه وإن كانت نعمة النبوة قد اقتصرت على إسرائيل، صارت الآن نعمة أعظم من كل ما كان لهم، انسكبت على الأمم بيسوع المسيح[278].].

ويقول القديس إكليمنضس السكندرى: [صرت كل شئ لكل البشر، لكى اربح الكل "(1كو9: 22). تمطر النعمة الإلهية على الأبرار والأشرار (مت5: 45) [279].].

كما يقول القديس أمبروسيوس: [شرح الرسول بحق أن الله "الذى يريد أن الجميع يخلصون" (1تى2: 4)، هو صالح لكل الناس. أما نعمة صلاح الله الخاصة فهى مكفولة بالأكثر لجميع المؤمنين، الذين ينالون عوناً من إرادته الصالحة ونعمته[280].].

7 - لماذا لم يأتمن ربنا النعمة على خليقةٍ ما؟

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [بقدر ما نال الرب، وبقدر ما تستقر النعمة عليه، تبقى النعمة محفوظة لحسابنا، لأن حينما يأخذ الإنسان بمفرده، يوجد احتمال فقدان ما أخذه، وقد ظهرذلك فى حالة آدم، لأنه بعد أن نال خسر ما ناله. ولكى تصير تلك النعمة بلا استرداد، وتظل محفوظة للبشر أخذ المخلص العطية لنفسه وقال إنه قد أخذ سلطاناً كإنسانٍ، هذا السلطان الذى له على الدوام كإله[281].].

8 - هل ينال الجميع ذات القدر من النعمة الإلهية؟

يقول القديس جيروم: [هذا لا يعنى ان قياس المسيح يتغير، لكن قدر ما نستطيع أن نتقبل يسكب نعمته فينا[282].].

9 - هل نحتاج للنعمة الإلهية بعد توبتنا ونوالنا العماد؟

يحدثنا القديس أغسطينوس فى كتابه عن "النعمة والإرادة الحرة[283]" أن نتعلق بالنعمة الإلهية، قائلا: [يلزم للإنسان لا أن يتبرر بنعمة الله وهو شرير فحسب (أى قبل توبته أو عماده)، بل يلزمه حتى عندما يتبررّ بالأعمال أن ترافقه النعمة الطريق، وأن يحافظ عليها لئلا يسقط!].

10 - هل من ضرورة للنعمة بالنسبة للمجاهدين؟

يقول الأب بفنوتيوس: [من المفيد لنا أن نتأكد أنه بالرغم من أننا نجاهد فى الفضائل جهاداً غير باطل، لا نستطيع بلوغ الكمال بجهدنا وغيرتنا، فلا يكفى نشاط الإنسان وجهاده المجرد للبلوغ إلى عطية النعمة الغنية ما لم يصون جهاده التعاون مع الله وتوجيهات الله للقلب نحو الحق[284].] كما يقول: [يليق بنا أن نعرف أننا لا نستطيع أن نجاهد بدون معونة الله، ولا يصير لجهادنا أى نفع للحصول على عطية النقاوة العظمى ما لم توهب لنا بواسطة المعونة والرحمة الإلهية، لأن "الفرس مُعد ليوم الحرب، أما النصرة فمن الرب" (أم21: 31)، لأنه ليس بالقوة يغلب الإنسان (زك4: 6) [285].].

ويقول القديس أغسطينوس: [لم يعمل بولس لينال نعمة، وإنما نال النعمة لكى يجاهد[286].] كما يقول: [كيف إذن يمكن إتمام وصية الله ولو بصعوبة بدون عونه، حيث أنه ما لم يبنِ الرب البيت باطلاً يتعب البنّاء (مز127: 1) [287].].

11 - هل من ضرورة للجهاد؟

يقول الرسول: "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ونعمتة المعطاة لى لم تكن باطلة، بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم، ولكن لا أنا، بل نعمة الله التى معى" (1كو15: 10).

يقول العلامة أوريجينوس: [نتعلم من هذا (مز127: 1) أنه ليس لأن الله الذى يبنى يجلس الإنسان خاملاً فإن الله يبنى له البيت. وإنما لأنه يعمل ويهتم قدر إمكانياته البشرية، فإن الله يزيل كل العقبات ويتمم العمل. هكذا يُدعى الإنسان للعمل قدر ما يستطيع فى جدية، لكن الله هو الذى يكلل العمل بالنجاح. لهذا يليق بالإنسان بحقٍ وفى تقوى أن يترك إتمام عمله لله، وليس لإنسانٍ بشرى آخر. على هذا بولس غرس وأبولس سقى والله هو الذى كان ينمى، إذ ليس الغارس شيئاً ولا الساقى بل الله الذى ينمى (1كو3: 6 - 7). بنفس الطريقة يمكننا القول إن هذا يعتمد لا حسب مشيئة إنسان أو جهاده إنما على مراحم الله[288].] كما يقول: [يود بولس أن يذكرنا بأننا لا نخلص بمجرد استقبالنا لنعمة الله المجانية. إنما يلزمنا البرهنة على أننا نريد قبول هذه النعمة المجانية. فأبناء إسرائيل استلموها، لكنهم برهنوا على عدم استحقاقهم لها فلم يخلصوا[289].].

ويقول القديس أغسطينوس: [بعد قوله: "من ملئه أخذنا" أضاف "نعمة فوق نعمة" (يو1: 16). لأنه بالنعمة خلص اليهود. يقول الرب: "اخترتكم ليس لأجل كثرة عددكم، وإنما من أجل آبائكم" (تث7: 7 - 8). إن كانوا لم يُختاروا بواسطة الله من أجل أعمالهم الصالحة، فواضح أنه بالنعمة نالوا هذه الكرامة. ونحن أيضاً نخلص بالنعمة، لكن ليس بنفس الطريقة، ولا بذات الأهداف، بل بما هو أعظم وأسمى. إذن فالنعمة التى فينا ليست كالنعمة التى لهم. إذ لم يُعطَ لنا فقط غفران الخطايا (إذ نحن شركاء معهم لأن الكل أخطأ)، وإنما نلنا أيضاً البرّ والتقديس والبنوة وعطية الروح بصورة أكثر مجداً، وبفيضٍ[290].].

يشدّد القدّيس أمبروسيوس على الجهاد المستمر دون تهاونٍ، بقوله: [فقدان ساعة واحدة ليس بالأمر الهيّن، فالساعة هى جزء من حياتنا كلها[291].] كما يقول: [رقص بولس روحياً عندما امتد إلى قدام من أجلنا، ونسي ما هو وراء (فى3: 13)، واضعاً هدفه قدامه، مناشداً نوال مكافأة المسيح... هذا الرقص يصحبه الإيمان وترافقه النعمة[292].].

أيضاً غاية حديث القديس مار أفرآم السريانى عن المراتب التى فى الفردوس هو تأكيد عدم توقف المؤمن عن جهاده فى صلواته وعبادته وتنفيذ الوصية. فيردد: "إلى أن ننتهى جميعاً إلى وحدانية الإيمان فى معرفة ابن الله إلى إنسانٍ كاملٍ فى قياس قامة ملء المسيح" (أف4: 13). يقول: [عندما يصعد الأبرار فى درجاتهم المتعددة، لينالوا ميراثهم، يُرفع بعدلٍ كل واحدٍ إلى الدرجة التى تتناسب مع جهاده. يقيم كل واحدٍ فى المستوى الذى يستحقه. توجد مستويات كافية فى الفردوس لكل واحدٍ. الأجزاء السفلى للتائبين والوسطى للأبرار والعلوية للمنتصرين، أما القمة فمحفوظة للحضور الإلهى[293].].

12 - ما هو عمل النعمة الإلهية فى حياة الإنسان؟

الله الذى بنعمته خلقنا على صورته ومثاله، وهبنا الإرادة الحرة كسندٍ لنا فى تناغم إرادتنا مع إرادة الله ومعرفة الصلاح وممارسته، واعتبار الآخرين إخوة لنا. لكننا "أفسدنا هذه الحرية المقدسة. يقول القديس غريغوريوس النيسى: [أعطى الله الطبيعة العاقلة نعمة حرية الإرادة، وأنعم على الإنسان القدرة على إدراك ما يريده حتى يسكن الصلاح فى حياتنا، ليس قسراً وليس لإرادياً بل خلال الاختيار الحر. تمتعنا بحرية الإرادة هذا يؤدى بنا إلى اكتشاف حقائق جلية. وأما إذا أساء أحد استخدام هذه الإرادة الحرة فيصير هذا الشخص مبتدعاً شروراً كقول الرسول (رو1: 30) [294].].

ويقول العلامة أوريجينوس: [أنا والأنبياء الذين جاءوا قبلى وقبلوا نعمة إلهية نبوية كبرى وذلك من ملئه، فإن النعمة التى قبلناها منه تخص حرية الإرادة[295].].

13 - ما هو دور النعمة بعد سقوط الإنسان؟

إذ فقد الإنسان صورة الله صارت حياته جحيماً لا يُطاق، وتحول الفردوس إلى سجن، وأنبتت له الأرض شوكاً وحسكاً، لم تقف نعمة الله مكتوفة الأيدى مهما كلفها الأمر، حتى وإن كان الثمن تجسد الكلمة وإعلان حبه بقبوله الموت صلباً حتى يهبه بهجة القيامة ويتمتع ببرّ المسيح، ويرد روحه القدوس صورة الله فيه.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [إلى من يمكن اللجوء لاسعادة نوال مثل تلك النعمة، سوى إلى كلمة الله الذى خلق فى البدء كل الأشياء من العدم؟ فهو وحده يختص بأن يأتى بمن كان فى الفساد إلى عدم الفساد، ويحقق ما يليق بالآب فوق كل شيءٍ، إذ هو كلمة الله الآب الذى فوق الجميع لأنه وحده القادر أن يُعيد للجميع ما كان مفقوداً، وأن يتألم لأجل الجميع، وأن يكون شفيعاً لدى الآب لأجل الكل[296].].

ويقول مار يعقوب السروجى: [فى التجسد، تُمدح نعمة الله وحدها، لأجل مراحمه... ننسب التبرير إلى رب التبرير، إذ سكب نعمته على خلائقه دون مقياس[297].].

14 - ما هو دور الناموس؟ وما هو دور النعمة؟

يقول القديس أغسطينوس: [ذاك الذى أعطى الناموس أعطى النعمة أيضاً، لكنه أرسل الناموس مع عبيد، ونزل بنفسه ليعطى النعمة. وبأية وسيلة صار البشر تحت الناموس؟ بعدم تحقيقهم للناموس. لأن من يتمم الناموس لا يسقط تحت الناموس، بل يكون مع الناموس، أما الذى تحت الناموس فلا يقوم، بل يكون تحت ضغط الناموس. إذ صار كل الناس تحت الناموس صاروا بالناموس مذنبين، لذلك صار الناموس فوق رؤوسهم، يُظهر خطاياهم ولا ينزعها... الآن يعترف المرضى بالمرض، فليأتِ الطبيب، ليشفى المرضى. من هو الطبيب؟ ربنا يسوع المسيح[298].].

يقول الأب ثيوناس: [أى إنسان يسعى نحو الوصول إلى كمال التعليم الإنجيلى، هذا الذى يعيش تحت النعمة، لا يسقط تحت سلطان الخطية، لأن البقاء تحت النعمة معناه العمل بالأمور التى تأمر بها النعمة. أما الإنسان الذى لا يُخضع نفسه للمطالب الكاملة الخاصة بكمال الإنجيل، فيلزمه ألا يجهل أنه وإن كان قد اعتمد، وإن صار راهباً، بالرغم من هذا فهو ليس تحت النعمة، إنما هو مقيد بقيود الناموس ومُثقل بأثقال الخطية. لأن ذاك الذى وهب نعمة التبنى ويقبل الذين يقبلونه، يرغب فى أن يضيف إلى البناء لا أن يهدمه، إذ أراد أن يكمل الناموس لا أن يهدمه.

إذ لا يفهم البعض هذا الأمر، مهملين نصائح المسيح الرائعة ومواعظه، فيتخذون من الحرية فرصة للإهمال والتهور الزائد، حتى أنهم يعجزون عن تنفيذ أوامر المسيح كأنها صعبة جداً، محتقرين أيضاً وصايا الناموس الموسوي[299] كأمر عتيق، مع أن الناموس قدمها للمتبدئين والأطفال. بهذا ينادون بالحرية الخطيرة التى يلعنها الرسول، قائلاً: "أتخطئُ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة؟" (رو6: 15). هؤلاء ليسوا تحت النعمة، لأنهم لم يتسلقوا قط مرتفعات تعاليم الرب. ولا هم تحت الناموس، لأنهم لم يقبلوا حتى تلك الوصايا البسيطة التى للناموس. هؤلاء إذ هم ساقطون تحت سلطان الخطية المزدوج. يظنون أنهم قد قبلوا نعمة المسيح... ويسقطون فيما يحذرنا منه الرسول بطرس قائلاً: "كأحرارٍ وليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر" (1بط2: 16). ويقول الرسول بولس الطوباوى: "فإنكم إنما دُعِيتم للحريَّة أيها الإخوة. غير أنهُ لا تُصيّروا الحرَّية فرصةُ للجسد" (غلا5: 13)، أى دُعيتم للتحرر من سلطان الخطية، وليس معنى إبعاد أوامر الناموس بمثابة تصريح بعمل الخطية. يعلمنا الرسول بولس أن هذه الحرية لا توجد إلا حيث يوجد الرب، إذ يقول: "وأما الربُّ فهو الروح، وحيث روح الرب هناك حرّية" (2كو3: 17) [300].].

15 - ماذا قدمت لنا النعمة بعد سقوطه الإنسان؟

أولاً: النعمة الإلهية تهبنا فهم كلمة الله

خلق الله الإنسان ليتحدث الكلمة الإلهى معه وجهاً لوجه. وكان أبوانا الأولان يتمتعان بصوت الله ماشياً فى الجنة (تك3: 8). أما وقد أعطى الإنسان ظهره لمصدر النعم، لم يتركه الله بل وهبه الناموس ليرتفع به إلى غنى نعمته. وجاء الكتاب المقدس ليس للقراءة، بل للقاء الحيّ مع الكلمة الإلهى وراء الحروف. من ينال نعمة إدراك أسرار الكتاب المقدس يتمتع بالشركة مع الكلمة الإلهى، وتدخل نفسه الفردوس الروحى المُشبع.

يقول العلامة أوريجينوس: [لا يمكن نوال أمرٍ صالحٍ بعيداً عن الله، وأما فوق كل شيءٍ فهو فهم الأسفار المقدسة المُوحى بها[301].] كما يقول: [كثيرون يسعون لتفسير الكتب المقدسة... لكن ليس الكل ينجحون. فإنه نادراً ما يوجد من له هذه النعمة من الله[302].] [المعنى الروحى الذى يهبه الناموس لا يدركه الكل، وإنما الذين يُمنحون نعمة الروح القدس فى كلمة الحكمة والمعرفة[303].].

ثانياً: نعمة القيامة والغلبة على الموت

قد أنتن الإنسان تماماً بسبب الموت بالخطية، فجاء كلمة الله المتجسد، القائل: "أنا هو القيامة" (يو11: 25) يهبنا ذاته، فنتمتع بالشركة معه، ويحررنا من سلطان الموت، ولا يقدر الفساد ان يحلّ بنا. بروح القوة والنصرة ننشد مع الرسول بولس: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتكِ يا هاوية؟ أما شوكة الموت فهى الخطية... ولكن شكراً لله الذى يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1كو15: 55 - 57). هذه هى نعمة القيامة.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى [لكى يستعيد اللوغوس المتأنس عدم الفساد إلى البشر الذين انحدروا إلى الفساد، فيحيهم من حالة الموت، أخذ جسدهم لنفسه، حتى يبيد الموت ويلاشيه بواسطة نعمة القيامة كما تلتهم النار الهشيم[304].] كما يقول: [لقد مات الموت حقاً... فلم يعد مُزعجاً بعد، بل بالأحرى فإن المؤمنين بالمسيح يطأون الموت كأنه عدم، بل يفضلون الموت عن إنكار إيمانهم بالمسيح. كل هذا لأنهم يعلمون أنهم لا يفنون بالموت، بل يحيون بالقيامة ويصيرون عديمى الفساد[305].].

ثالثا: نعمة التبنى لله الآب

الكلمة الإلهى هو الابن بالطبيعة، مولود من الآب، نور من نور، فيه ننال التبنى لله الآب بالنعمة الإلهية. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [تعالوا لتنالوا الختم السري حتى يعرفكم السيد بسهولة، وتكونون محصيين بين قطيع المسيح المقدس الروحانى، ويكون مكانكم عن يمينه، فترثوا الحياة المعدة لكم، أما هؤلاء اللابسون ثوب خطاياهم الدنس فيبقون عن يساره، إذ لم يأتوا بالمسيح إلى نعمة الله فى الميلاد الجديد بالمعمودية[306]].

ويقول القديس أثناسيوس الرسولى: [أمرنا الله أن نعتمد ليس باسم "الخالق والمخلوق"، بل باسم الآب والابن والروح القدس "(مت28: 19)، لأننا إذ نحن من بين المخلوقات، نصير هكذا (بالمعمودية) مكتملين، وبهذا نصير أبناء[307].].

رابعاً: نعمة شركة الطبيعة الإلهية (2بط1: 4)

إخلاء كلمة الله ذاته ليحمل هيئتنا (في 2: 8) وهبنا إمكانية المجد الداخلى الفائق، هذا موضوع سرور الله، إذ يرى ملكوته قائماً فينا، وموضوع سرور السمائيين، إذ يمجدون الله على غنى هذه النعمة الفائقة. يتجلى هذا المجد فى أروع صورة يوم لقائنا مع العريس السماوى على السحاب، فنحمل صورته، ونُزف كعروس سماوية، ملكة تجلس عن يمين الملوك. هذه هى نعمة شركة الطبيعة الإلهية العاملة فى أعماقنا.

يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [يا للسر العجيب! الرب تنازل، والإنسان ارتفع. يقول الرسول: "إلا تعلمون أنكم هيكل الله" (1كو3: 16). فالغنوصى (المؤمن صاحب المعرفة الروحية الحقيقية) بالتبعية إلهي، وقد صار بالفعل مقدساً، حاملاً الله، ومحمولا بالله[308].].

ويقول القديس أمبروسيوس: [من يتغير من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلاً. لهذا فإن من تلطخ قبلاً بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوعه أكثر بياضاً من الثلج[309].].

كما يقول القديس غريغوريوس النيسي: [للطبيعة الإلهية أجنحة، لذلك الإنسان الأول الذى خُلق على صورة الله، شبيهاً له فى كل شيءٍ (تك1: 26) خُلق بأجنحة حتى يكون شبيهاً بالطبيعة الإلهية. ويتضح أن كلمة "أجنحة" يمكن ان ترمز إلى الله. فهى قوة الله ونعمته وعدم فساده وكل شيءٍ آخر. نال الإنسان جميع هذه الصفات طالما كان على شبه الله فى كل شيءٍ، ولكن ميلنا إلى الشر سلب منا الأجنحة. (فحرمنا من حماية أجنحة الله، بل نُزعت منا أجنحتنا الخاصة). لذلك ظهرت لنا نعمة وبركة الله، وأنارت عقولنا حتى تنمو لنا أجنحة من خلال الطهارة والبرّ بعد أن ننبذ الشهوات الدنيوية ونتجه إلى الله بكل قلوبنا[310].].

خامساً: نعمة اقتناء حياة المسيح ورائحته الذكية وسماته

أثمن ما يقدمه الرب لنا كنعمةٍ إلهية أنه قَدَمَ لن حياته. يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [يا لسخاء ذاك الذى يعطينا أعظم كل العطايا، حياته ذاتها[311].] ويقول القديس غريغوريوس النيسي: [تشبَّه بولس العروس بالعريس فى فضائله، وصوِّر بعطره الجمال الذى لا يُدنى منه. من ثمار الروح: الحب، الفرح، السلام وما شابه ذلك. صنع عطره، واستحق أن يصير "رائحة المسيح الذكية" (2كو2: 15). لقد استنشق القديس بولس هذه النعمة الغير مدركة التى تجاوزت كل نعمةٍ، وأعطى نفسه لآخرين كرائحة ذكية ليأخذوا منها على قدر طاقتهم، حسب تدبير كل إنسانٍ. صار بولس الرسول عطراً، إما لحياةٍ أو لموتٍ، فإننا إذا ما وضعنا العطر ذاته أمام (حشرة وطائر) خنفس وحمامة، فلن يكون له تأثير مماثل على الاثنين. فبينما تصير الحمامة أكثر قوة حين تستنشقه إذا بالخنفس يموت حينذاك. هكذا الحال بالنسبة للرائحة المقدسة، مع بولس الرسول العظيم الذى شابه الحمامة[312].].

يقول الأب دورثيؤس من غزة: [ليعطنا الرب الإله نعمة التواضع التى تقتلع الإنسان من أمراض كثيرة وتحفظه من تجارب كثيرة[313].] ويقول الأب بامبو: [بنعمة الله، منذ تركت العالم لم أنطق بكلمة واحدة ندمت عليها فيما بعد[314].] كما يقول العلامة أوريجينوس: [ليس شيء من هبات الله للبشرية قُدم على سبيل إيفاء دين بل الكل هو من خلال النعمة[315].].

يقول القديس إكليمنضس السكندرى عن النعمة: [أنظروا قدرة التسبحة الجديدة! لقد خلقت من الحجارة أناساً، ومن الوحوش بشراً! الذين كانوا أمواتاً، ليس لهم شركة فى الحياة الحقيقية قد عادوا إلى الحياة مرة أخرى ببساطةٍ إنصاتهم إلى هذه التسبحة! [316]].

سادساً: نعمة ميراث ملكوت السماوات

غاية خلقتنا هى تمتعنا بالخلود مع الله أبينا، فيكون لنا نصيب فى أحضانه الإلهية. هذا ما يشغل ربنا يسوع المسيح، محتملاً عار الصليب عوضاً عنا لننعم بنعمة الملكوت أبدياً. ولا يزال مسيحنا فى السماء مشغول بميراثنا الأبدى.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [فى الدينونة، عندما ينال كل واحدٍ بحسب عمله، يقول: "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المُعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت25: 34). كيف إذاً، أو بواسطة من أعد الملكوت قبل أن يخلقنا؟ إن لم يكن بواسطة الرب الذى به تأسيس قبل الدهور[317].].

ويقول القديس مرقس الناسك: [إذ أراد (الرب) أن يُظهر أنه بالرغم من التزامنا بكل وصيةٍ، لكنه يهب البنوة للبشر باستحقاق دمه، لذلك قال: "متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما نعمل ما كان يجب علينا" (لو17: 10). هكذا فإن ملكوت السماوات هو هبة يعطيها الرب للعبيد المؤمنين، وليس جزاءً لأعمالنا.] كما يقول: [كل عملٍ صالحٍ نصنعه حسب قوتنا الطبيعية ينزعنا بالأحرى من (الأعمال الشريرة) المضادة، لكنه يعجز عن أن يجعلنا قديسين بدون النعمة.].

يرى القديس مار أفرآم أن النعمة تهب المجاهدين فرحاً وهم منطلقون إلى الفردوس. فإن كانت الحياة الفردوسية تظهر كجبلٍ شامخ أعلى من كل قمم الجبال، مع هذا فإن التعب خلال الصعود إلى الفردوس مُبهج، يسكب بهاءً، ويهب للمؤمن رائحة المسيح الذكية (2كو2: 15). هذا الصعود فى حقيقته هو تحرك مستمر للنفس نهاراً وليلاً بالنعمة الإلهية. يبدو للبعض أن صعوده شاق، لأن وصاياه تبدو كأنها مستحيلة، لكنها تسمع صوته: "نيري هين (حلو)، وحملي خفيف" (مت11: 30)، فتنطلق النفس محمولة على الأذرع الأبدية. يسكب مسيحنا بهاءه عليها، ويعطّر عروسه برائحته الذكية، ويتهلل السمائيون بها، لأنها أيقونة المسيح القدوس. يقول القديس مارأفرآم: [الصعود إلى الفردوس ليس شاقاً بالرغم من ارتفاعه، لأن الذين يرثونه لا يعانون من تعبٍ فيه. جماله مُبهج يغرى الصاعدين. إنه فاتن وسط الأشعة، ومتألق. كله طيب الرائحة، عليه سحب مجيدة، ومظالة منصوبة لمن يستحقونه[318].].

يقول القدّيس كيرلس الكبير: لا تقلق وتيأس إذا أحسست بثقل وطأة خطاياك السابقة، فإن رحمة المسيح واسعة المدى. لتكن خطيتك عظيمة إلاَّ أن رحمة المسيح أعظم، فبنعمته يتبرَّر الخاطئ، ويُطلق سراح الأسير. ولكن إعلم أن الإيمان بالمسيح هو الذى يؤهِّلنا لهذه البركات الخلاصية، لأن الإيمان هو طريق الحياة والنعمة. وفيه نسير إلى المخادع السماوية، حيث نرث ملكوت القدّيسين الأبرار، ونصبح أعضاء فى مملكة المسيح[319].].

جاء حديث القديس يوحنا الذهبى الفم عن الموعظة على الجبل يكشف عن غاية الوصية الإلهية. فالسيد المسيح يفتتح موعظته بالتطويبات (مت5) ليتمتع المؤمنون بملكوت السماوات، ويبرز أبوته للبشرية، ويعلن عن ملكوته المُعد للمؤمنين، بينما عندما أشار إلى جهنم، قال عنها: "المعدة لإبليس وملائكته" (مت25: 41). فالوصية بالنسبة للمؤمن تغرس بالنعمة الإلهية الفردوس فى أعماق قلب الإنسان.

سابعاً: نعمة التمتع بمعرفة الحق الإلهى

خلق الله فى الإنسان حنيناً نحو التعرف على الحق غير المتغير، فقدم السيد المسيح نفسه بكونه "الحق". من يقتنيه يتمتع بمعرفة الحق كنعمةٍ إلهيةٍ مجانية.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [صرنا أبناء فى الابن بالتبنى والنعمة، لأننا نشارك فى روحه، إذ أن "كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنون باسمه" (يو1: 12). ولهذا أيضاً فالابن هو الحق، إذ يقول: "أنا هو الحق" (يو14: 6). وفى حديثه إلى الآب يقول: "قدسهم فى حقك، كلامك هو حق" (يو17: 17)، ونحن بالمحاكاة نصير خيرين وأبناء[320].] كما يقول: [حينما صار إنساناً لم يكف عن أن يكون هو الله، ولم يستنكف من أمور الإنسان بكونه هو الله، بئس هذا الفكر... لأنه كما سأل أسئلة هكذا أيضاً أقام الميت، وأظهر للكل أن الذى يحيى الميت ويستدعي روحه، يعرف بالأكثر أسرار الجميع. إنه يعرف حقاً أين يرقد لعازر، ومع هذا يسأل (أين يرقد؟ يو11: 34)، لأن لوغوس الله الكُلى القداسة، الذى احتمل كل شيءٍ لأجلنا، إنما قد فعل ذلك، حتى بأخذه جهلنا، يهبنا نعمة المعرفة، معرفة أبيه الحقيقى وحده، ومعرفته أنه هو الابن المُرسل لأجل خلاصنا جميعاً. فأية نعمةٍ أعظم من هذه النعمة؟ [321]].

ثامناً: نعمة الثبوت فى الآب والابن

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [ "بهذا نعرف أننا نثبت فى الله وهو فينا أنه قد أعطانا من ورحه" (1يو4: 13)، بنعمة الروح القدس التى أعطيت لنا، نصبح نحن فى الله وهو فينا، حيث أن المقصود هنا هو روح الله الذى من خلال مجيئه ليصير فينا، نُعتبر نحن أيضاً فى الله والله فينا إذ لنا الروح... الابن كائن فى الآب بصفته كلمته الذاتى وإشعاعه، بينما نحن بدون الروح القدس غرباء عن الله، بعيدون عنه. وبشركتنا فى الروح نتحد بالله. لهذا نصير فى الآب ليس من أنفسنا، بل من الروح القدس الذى فينا، والذى نحفظه ثابتاً فينا من خلال الاعتراف، كما يقول يوحنا أيضاً: "من اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو فى الله" (1يو4: 15) [322].].

تاسعاً: نعمة الشبع والفرح

يقول القديس أمبروسيوس: [توجد دموع بمثابة خبز، تقَّوى وتسند قلب الإنسان (راجع مز104: 15)، ومقولة الجامعة المأثورة تناسب المقامَ هنا أيضاً "القِ خبزك على وجه المياه" (جا11: 1LXX)، لأن خبزَ السماء هناك، حيث مياه النعمة. حقاً أن أولئك الذين تتدفق من بطونهم أنهار ماء حىَّ (راجع يو 7: 28)، سوف ينالون عون الكلمة (الإلهي) وتعضيده، وقوتاً من نوعٍ سّري (باطنى) [323].].

عاشراً: نعمة النور

يقول القديس غريغوريوس النيسى: [تعبر النفس من الخطأ إلى الحق، وتتبدل صورة حياتها المظلمة إلى نعمة فائقة[324].] كما يقول: [عندما أضاءت نعمة الله وحكمته، وأرسل النور الحقيقى أشعته إلى من كانوا فى الظلمة وظلال الموت، أغمضت إسرائيل عيونها للنور، ورفضت أية المشاركة فى الخير. لكن الأثيوبيين (ملكة سبا) أسرعوا إلى الإيمان من بين الأمم (1مل10: 1 - 3)، الذين كانوا بعيدين اقتربوا بعدما غسلوا أنفسهم من الظلمة بالمياه المقدسة. لقد اقتادهم الروح القدس إلى الله وقدموا هدايا للملك: بخور النسك والعبادة وذهب معرفة الله الملك وأحجاراً كريمة للوصايا وعمل الفضيلة[325].].

ويقول القديس مار يعقوب السروجى: [لتكن نعمتك يارب الروح الحي، وضارب القيثارة الذى يلعب بأوتارى لتُخرج لحناً لأجل تعليمك[326].].

الحادى عشر: النعمة والتمتع بغنى الفضائل

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [أمسى عمانوئيل معنا بتنازله. أتى إلهنا وصار منا جسدياً، وجعلنا منه روحيين بالنعمة، وأعطانا حياته، لأنه أتى وصار منا[327].].

ويقول القدّيس أمبروسيوس: [شتَان بين روح العالم وروح النعمة، فالأولى تبدأ بالميلاد وتنتهى بالموت، أما الثانية فلا يحدّها الزمن ولا السنين، ولا يطفئ الموت شعلتها... إن من يقتني روح النعمة لا يعود يفتقر إلى شيءٍ، ومن نال الروح القدس بلغ قمة الفضائل.] كما يقول: [أعطاهم كل شيءٍ، لكن لا نلمس فى هذه العطايا قوة إنسان بل نعمة الله هى العاملة[328].].

كما يقول القديس يوحنا كاسيان: [فى كل فيضلة إذ نشعر بتقدم فيها ننطق بكلمات الرسول: "ولكن بنعمة الله أنا ما انا" (1كو15: 10)، "الله هو العامل فينا (فيكم) أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (فى2: 13). إذ يقول مقدم خلاصنا نفسه: "الذى يثبت فىّ وأنا فيه هذا يأتى بثمر كثير، لأنكم بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (يو15: 5). كما قيل: "إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلاً يتعب الحراس" (مز126: 1 - 2) [329].].

يقول الأب موسى: [لا توجد فضيلة واحدة يمكننا أن نحصل عليها بمجهودنا البشرى ما لم تعيننا النعمة الإلهية. ونحن نرى فى الكتاب المقدس أن التمييز حُسب ضمن مواهب الروح، إذ يقول الرسول: "فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد... ولآخر تمييز الأرواح" (1كو12: 8 - 10)... لقد رأيتم إذن كيف أن موهبة التمييز ليست موهبة أرضية، ولا هى بالأمر الهيّن، إنما هى عطية عُظمى تهبها النعمة الإلهية. إن لم يسعَ الإنسان[330] بكل حماس نحو التمييز... حتماً يخطئ ويصير كمن هو فى ظلمة الليل وحلكة الظلام، ولا يسقط فقط فى الأشراك والأهواء، بل ويخطئ حتى فى الأمور السهلة... يُعلم التمييز أن يسير الإنسان فى الطريق الملوكى، من غير أن يسمح له بالتطرف اليمينى فى الفضيلة، أى المغالاة وتجاوز حدود الاعتدال فى جسارةٍ ووقاحةٍ، كما لا يسمح له بالكسل... فلا يستطيع أحد أن يشك فى أنه متى كان "الحكم فى الأمور" فى القلب خاطئاً، أى كان القلب مملوء جهلاً، تكون أفكارنا وأعمالنا، التى هى ثمرة التمييز والتأمل، فى ظلام الخطية العظمى[331].].

ويقول القديس يوحنا كاسيان: [هكذا إذ يعلم الرسول بولس أن كل كنوز غنى السماء توجد فى المسيح بحقٍ يكتب إلى الكنائس: "نعمة ربنا يسوع المسيح تكون معكم" [332].].

ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [يرى البعض أن منازلهم التى يقيمون فيها هى مملكتهم، وبالرغم من علمهم أن الموت محتم، وأنه يوماً ما سيجبرهم على تركها، ففى قلوبهم يشعرون أنهم يمكثون إلى الأبد... أما نحن فعلى النقيض، نعلم أننا ضيوف نعيش مؤقتاً على الأرض. ندرك أن المنازل التى نقطنها هى بمثابة فنادق على الطريق إلى الأبدية. لا ننشد سلاماً أو أمناً من الحوائط المادية من حولنا أو الأسقف فوق رؤوسنا. بل بالحري نريد أن نحيط بأنفسنا بحوائط النعمة الإلهية. ونتطلع إلى السماء عالياً كسقفٍ لنا. أما الأثاث فى حياتنا فيجب أن تكون أعمالاً صالحة، نعملها بروح الحب.].

الثانى عشر: التمتع بأمومة النعمة

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [النعمة التى تبني العالم هى أم رحوم، تهتم به، كالوالدة بطفلها، ولا تقدر أن تتركه. المرأة لا تترك جنينها، والطفل بدروه يظن أنه لا توجد امرأة أخرى فى العالم إلا تلك التى تُرضعه[333].] كما يقول: [أصبحت النعمة أما للأرض... فتضرعت إلى الرب قائلة: كفى الأرض هذا الجنون! انزل ونجها من الضلال. دخل طلب النعمة أمام العزة الإلهية التى أرسلت الطبيب الرحيم إلى المرضى[334].] وأيضاً: [شيدت النعمة – أم المراحم – العالم، وهى تحمله، لو تركته سيسقط. تبسط الدجاجة جناحيها على صغارها لتجمعهم وتحميهم وتحافظ عليهم. إنها ترسم مثالاً للاهوت الذى بسط مراحمه على الخلائق مثل جناحيها[335].].

الثالث عشر: النعمة دواء الخطاة

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [اختار الله سليمان الملك واعطاه التاج والمجد ووهبه الحكمة... ولأنه بإرادته سقط على أيدى الناس وحاد قلبه. لم يمنعه الرب من ان يحيد. ابتعدت عنه النعمة التى كانت ساكنة فيه عندما سقط. لكن حفظت النعمة تاجه عندما حاد فسقط هو، أما تاجه فقد حُفظ من السقوط. قدم الذبائح إلى الآلهة (الوثنية) كما أراد، ولم يمنعه الرب من تقديمها، لأنه حرّ. لو منعه لكانت حريته تُقهر. ولو أجبره قسراً لكان بلا استحقاق. إن الله يحفظ المجد للبشر ويهتم بهم كثيراً بدافع مراحمه، لكى يتمكنوا من وجود ذواتهم. لو حفظ سليمان الملك من السقوط، ماذا كان يستفيد لأنه جَّنبه من أن يسقط قسراً؟ وعندما سقط لم يأخذ منه المُلك ولا العظمة ولا الغنى ولا الرئاسة. هكذا تصرف (الله) من جانبه، أما أن يحيدَ أو لا يحيد فهذا كان من شأن (سليمان)... بشخص سليمان أرهب الحكماء، وبيهوذا افزع التلاميذ... وبسقوط شمشون النذير أفزع الجبابرة... هذه هى الأسباب التى جعلت المختارين يستطيعون. ومن يخف من السقوط، يلزمه أن يبغض هذه الأسباب[336].].

ويقول القديس أمبروسيوس: [يا لى من إنسان شقى ما لم أطلب الدواء... لنا طبيب، فلنطلب الدواء. دواؤنا هو نعمة الله، وجسد الموت هو جسدنا... فإننا حتى وإن كنا فى الجسد لكننا ليتنا لا نتبع أمور الجسد... إنما نطلب عطايا النعمة: "أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً، ولكن أن أبقى فى الجسد ألزم من أجلكم". (فى1: 23 - 24) [337]].

يقول القدّيس البابا أثناسيوس الرسولى: [هذه هى نعمة الله، وهذه هى طرق الله فى إصلاح بني البشر، فإنه تألم ليحرّر الذين يتألمون فيه، نزل لكى يرفعنا، قَبِلَ أن يُولد حتى نحب ذلك الذى هو ليس (بإنسان مولود عادى)، نزل إلى حيث (الموت) ليهبنا عدم الموت، صار ضعيفاً لأجلنا حتى ننال قوة... أخيراً صار إنساناً حتى نقوم مرة أخرى نحن الذين نموت كبشر، ولا يعود يملك الموت علينا، إذ تعلن الكلمات الرسولية قائلة: "لا يسود علينا الموت بعد" (رو6: 9، 14) [338].].

الرابع عشر: بالنعمة نتحدى الملائكة الأشرار

يقول القديس أغسطينوس: [ليس شئ ينقذ الإنسان من قوة الملائكة الأشرار هذه سوى نعمة الله التى يتحدث عنها الرسول: "الذى أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته". قصة إسرائيل توضح هذه الصورة، عندما أُنقذوا من قوة المصريين ونقلوا إلى ملكوت أرض الموعد التى تفيض لبنا وعسلاً إشارة إلى عذوبة النعمة[339].].

الخامس عشر: النعمة والتمتع بعطية الروح القدس

كثيراً ما شغل منظر عماد السيد المسيح قلب القديس كيرلس الكبير، فرأى الكنيسة فى المسيح الرأس بكونها جسده، فمع أن الروح القدس هو روحه الذى لا ينفصل عنه، لأنه واحد معه فى الجوهر، لكنه حلّ عليه فى العماد، من أجل تمتع الكنيسة به. قدم لنا نعمة الروح القدس الذى يبكتنا على الخطية، ويدين عدو الخير الذى يود هلاكنا، ويهبنا برّ المسيح. يقدم لنا الحق، أى السيد المسيح، ويجدد طبيعتنا، ويقودنا فى الطريق، الذى هو المسيح (يو14: 6)، ويوَّحدنا فى استحقاقات دم المسيح مع الآب، ويهبنا شركة مع السيد المسيح ومع السمائيين ومع بعضنا البعض.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [هكذا أيضاً توضح عبارة داود فى مز44: 7 - 8 أنه ما كان لنا أن نصير شركاء الروح القدس ولا أن نتقدس لو لم يكن اللوغوس المتجسد واهب الروح قد مسح نفسه بالروح لأجلنا... وإذ قيل عنه كإنسان، إن جسده قد نال هذا (الروح)، فلأجل هذا ننال نحن نعمة الروح آخذين إياها "من ملئه" [340].].

كما يقول القديس أمبروسيوس: [يسكب (الروح) حسبما يكفينا، وما يسكبه لا ينفصل ولا ينقسم، اما ما هو له فهو وحده الكمال الذى به ينير بصيرة قلوبنا حسب قدرتنا على الاحتمال. أخيراً نحن نتقبل حسب ما يطلبه ذهننا. من أجل كمال نعمة الروح غير المنظور، ولكنه يساهم فينا حسب إمكانية طبيعتنا[341].].

يقول القديس أغسطينوس: [عندما تسمع القول "فإن الخطية لن تسودكم" (رو6: 14) لا تثق فى نفسك أنها لا تسود عليك، بل ثق فى الله الذى يتوسل إليه قديس قائلاً: "ثبت خطواتى فى كلمتك ولا يتسلط عليّ إثم". (مز119: 133)، ولئلا عند سماعنا: "الخطية لا تسودكم" ننتفخ، وننسب ذلك إلى قوتنا الذاتية، أردف الرسول، قائلاً: "لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رو6: 14). فالنعمة هى التى تنزع تسلط الخطية عنا. فلا تثق فى ذاتك لئلا تتسلط عليك بصورة أشد. وعندما نسمع القول: "إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو8: 13) لا ننسب هذا العمل إلى أرواحنا نحن كأنها قادرة على ذلك. ولكيلا نقبل هذا الإحساس الجسدى فتميت الروح عوض أن تميت هى أعمال الجسد، أضاف للحال: "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رو8: 14). فلكى نميت أعمال الجسد بروحنا، يلزمنا أن ننقاد بروح الله واهب العفة، التى بها نقمع الشهوة ونغلبها ونروضها[342].].

يقول القديس غريغوريوس النزينزى: [مبارك هو من يزرع بجانب المياه، فإن هذه النفس تُحرث وتٌسقى ويطأها الثور والحمار وبعدما كانت جافة بلا مطر (إش32: 20)، وذليلة بلا سبب. مبارك هو ذلك الذى كان "وادى السنط" (يوئيل 3: 18). يٌسقى من بيت الرب فيصير بكراً وينتج طعاماً للإنسان عوض الجفاف وعدم الإثمار... لهذا يليق بنا أن نحرص ألا نفقد النعمة[343].].

السادس عشر: النعمة والتمتع بالسلام

يقول القديس جيروم: [ما دمنا فى حالة نعمة تكون نفوسنا فى سلام، لكن ما أن نبدأ نلهو مع الخطية حتى تسقط نفوسنا فى ارتباك، لتصير كقارب تخبطه الأمواج[344].] كما يقول القديس مرقس الناسك: [عندما يصنع إنسان خيراً لآخر، بكلمة أو عمل، فليعلم أن ذلك يتم بنعمة الله.].

السابع عشر: الفردوس ومياه النعمة

يتطلع مار أفرآم إلى مياه النعمة الإلهية التى تُعلن بالأكثر فى الفردوس، حيث نتمتع بالفكر السماوى. إنه القدير المحب الذى بإرادته حصر المياه على الأرض كبحارٍ وأنهارٍ وقنوات، كما حصرها فى السحب بقدرته. كم بالأكثر يهبنا حياة النعمة بفيضٍ، غير إننا بانحصارها فى الأرضيات نحصر عمل النعمة العجيب. إنه يقول: [بالحقيقة إرادة ذاك الذى لا يستحيل عليه شئ، ألجمت ينابيع الفردوس الغزيرة، حصرتها فى الأرض كقنوات المياه. أمرها أن تفيض تجاهنا... (أم30: 4). فى حضن سُحُبه حُصرت المياه، وانتشرت فى الفضاء بقدرة مشيئته[345].].


[264] Fr. T. Malaty: The Divine Grace, 1992.

[265] راجع من تفسير وتأملات الآباء الأولين، إنجيل يوحنا ملحق الأصحاح الأولى.

[266] Brewery, Origen and the Doctrine of Grace, London 1960, p. 48.

[267] St. Aygustine: On the Gospel of St. John, tractate 9: 3.

[268] Concerning Baptism, Book 1 chapter 2.

[269] يقصد طهارة خلقته الأولى التى جُبل الإنسان عليها. (راجع دكتور وهيب قزمان: النعمة عند القديس أثناسيوس – مركز دراسات الآباء بالقاهرة، 1993).

[270] الرسالة إلى الوثنيين القس مرقس داود فصل 2: 2 - 4.

[271] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص114.

[272] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص115.

[273] الرسالة ضد الآريوسيين 2: 41: 1 - 42.

[274] The Holy Spirit 12: 1: 13.

[275] الرسالة ضد الآريوسيين 3: 52: 1.

[276] نشيد الآناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوُار، عظة1.

[277] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوار، عظة 8.

[278] Comm. Matt. 22: 10.

[279] Stromata 3: 5.

[280] Prayer of David, Book 3.

[281] الرسالة ضد الآريوسيين 3: 38: 1.

[282] Against Jovinainus 23: 2.

[283] فصل 12 - 13.

[284] المرجع السابق ص 95.

[285] Cassian. Conf. 15: 3.

[286] Proceeding of Pelagius, 36: 14.

[287] Letter from Alypius and Augustine to Paulinius, 186.

[288] Commentary on Rom 16: 9.

[289] Comm. On 1 Cor. 45: 4: 2 - 5.

[290] In Jonn hom, 2: 14.

[291] Ep 97: 63.

[292] Concerning Repentance, 43: 2.

[293] للمؤلف: اقتباسات من مقال الفردوس للقديس مار أفرآم السريانى، 2017، أنشودة 2: 11.

[294] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة2.

[295] Commentary on John, Book 35: 6.

[296] تجسد الكلمة 7: 4، 5.

[297] راجع الدكتور الأب بهنام سونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص115.

[298] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 2: 3 - 3.

[299] يقصد الوصايا وليس الذبائح اليهودية الرمزية، لأن هذه لا يجوز العودة إليها بعدما جاء الرمز (السيد المسيح).

[300] Cassian: Conferences, 32: 21.

[301] Sel Ps. 2: 1.

[302] Sel. Ps 85: 119.

[303] De Principiis, Perf. 8.

[304] تجسد الكلمة 8: 4.

[305] تجسد الكلمة 27: 2.

[306] مقال 2: 1.

[307] الرسالة ضد الآريوسيين 1: 42: 1.

[308] Protr. 3: 11, Stromata 13: 7, Protr. 11.

[309] Prayer of David, Book 9: 4: 35.

[310] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 15.

[311] Paedageogus 9: 1.

[312] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 2.

[313] تعريب الأرشيمندريت افرام كرياكوس: القديس دوروثاؤس: التعاليم الروحية، مقال 2.

[314] Bendicta Ward, p. 197.

[315] Comm. Rom. 22 on 4: 4 f.

[316] St. Clement of Alexandria: Exhortation to the Heathen, 1.

[317] الرسالة ضد الآريوسيين 2: 67: 1.

[318] للمؤلف: اقتباسات من مقال الفردوس للقديس مار أفرآم السريانى، 2017، أنشودة 1: 5.

[319] عظة 40.

[320] الرسالة ضد الآريوسيين 3: 19: 1.

[321] الرسالة ضد الآريوسيين 3: 38: 1.

[322] الرسالة ضد الآريوسيين 3: 24: 1.

[323] Prayer of David, Book 2: 4: 7.

[324] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصصن تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 2.

[325] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 7.

[326] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص116.

[327] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص116.

[328] Conc. Repent. 8: 1.

[329] Instit 9: 12.

[330] الحديث فى المناظرات عن الرهبان وقد استبدلت كلمة "راهب" ب "إنسان".

[331] Cassian: Conferences, 1: 1 - 2.

[332] The Seven Books of John Cassian, 5: 2.

[333] راجع الرسالة الأربعين.

[334] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السورجى الملفان، 1995، ص119 - 120.

[335] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص120.

[336] راجع الدكتور بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص135 - 137.

[337] On Belief in Resurrection, 41.

[338] Paschal Ep, 8: 10.

[339] On the Psalms, 30: 77.

[340] الرسالة ضد الآريوسيين 1: 50: 1.

[341] Of the Holy Spirit 8: 1: 93.

[342] العفة للقديس أغسطينوس، 12.

[343] On the Holy Baptism, 27.

[344] On Ps. Hom 20.

[345] للمؤلف اقتباسات من مقال الفردوس للقديس مار أفرآم السريانى، 2017، أنشودة 2: 9.

No items found

التاسع سقوط الإنسان

الفصل السابع العناية الإلهية

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات

المحتويات