تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري – الباب الخامس

هذا الفصل هو جزء من كتاب: تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

[pt_view id=”aa2d703e20″ tag=”تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري” field=name]

الموعظة على الجبل

  • التطويبات
  • أنتم ملح الأرض – أنتم نور العالم
  • وصايا الكمال لشريعة العهد الجديد
  • الصدقة والعطاء والصلاة
  • صلاة أبانا الذى فى السماوات
  • الصوم – لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض
  • سراج الجسد هو العين…
  • لا يقدر أحد أن يخدم سيدين..
  • عناية الله بنا والاتكال عليه
  • لا تدينوا لكى لا تدانوا..
  • لا تعطوا القدس للكلاب..
  • اسألوا تعطوا –  محبة القريب
  • الباب الضيق – الباب الواسع
  • الاحتراس من الأنبياء الكذبة
  • ختام الموعظة على الجبل

كتب معلمنا متى الإنجيلى عن تعاليم السيد المسيح فى الموعظة على الجبل وقال: “ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدّم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلّمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات” (مت5: 1-3).

اختار السيد المسيح أن يصعد إلى الجبل لكى يعلّم تلاميذه والجموع بأقوال روحانية سامية جداً.. صعد إلى الجبل، لكى يرتفع بأنظارهم وعقولهم نحو  السماء بعيداً عن الأرضيات، واهتمامات العالم الباطلة.

وكما أعطى الرب شريعته لموسى قديماً على جبل حوريب فى برية سيناء.. هكذا أعطى السيد المسيح شريعة العهد الجديد على جبال أورشليم.

وفى حديثه عن الشريعة كان يقارن بين القديم والجديد.. “سمعتم أنه قيل للقدماء.. أما أنا فأقول لكم..” (مت5: 21، 22، 27، 28، 33، 34).

الجبل وحياة الصلاة

الجبل فى مفهوم الكتاب المقدس يعطينا فكرة عن سمو الله وعظمته وعدم تغيره، ويعطينا إحساساً بالخشوع أمام رهبة الجبل المرتفع الكبير.

وقد استخدم السيد المسيح الجبال فى صومه وتجربته على الجبل وفى موعظته، وفى تجلّيه أما أعين تلاميذه بعد أن أخذهم على انفراد إلى الجبل ليصلّى، وفى صلبه على جبل الجلجثة، وفى صعوده بعد القيامة.

لهذا يقول المزمور “أساساته فى الجبال المقدسة، يُحب الرب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب” (مز86: 1).

على جبل التجلى ظهر مع السيد المسيح موسى وإيليا محاطين بمجد الابن الوحيد.. والثلاثة؛ أى موسى وإيليا والسيد المسيح هم جميعاً من رجال الجبل، والبرية، والصوم الأربعينى على الجبل والصلاة.

الجبل يشير إلى حياة الصلاة.. ومن أراد أن يفهم وصايا الله المقدسة، ينبغى أن يصلّى ويرفع نفسه وعقله إلى الله مردداً مع المرنم “رفعت عينى إلى الجبال من حيث يأتى عونى. معونتى من عند الرب” (مز120: 1، 2).

ينبغى أن يطلب الإنسان معرفة شرائع الله وأحكامه ووصاياه، ويفهمها ويحفظها مثل قول المرنم: “اكشف عن عينى، فأتأمل عجائب من ناموسك، غريب أنا فى الأرض، فلا تخف عنى وصاياك. اشتاقت نفسى إلى اشتهاء أحكامك فى كل حين” (مز118: ق. 3). وقوله أيضاً “ضع لى يا رب ناموساً فى طريق حقوقك، فأتبعه كل حين. فهمنى فأبحث عن ناموسك، وأحفظه بكل قلبى. اهدنى فى سبيل وصاياك فإنى إياها هويت. أمل قلبى إلى شهاداتك، لا إلى الظلم” (مز118: ق. 5).

إن الإنسان يصلى لكى يكشف له الرب وصاياه، ويصلى أيضاً مردداً وصاياه مثل قول المزمور: “ولهجت بوصاياك التى أحببتها جداً، ورفعت يدى إلى وصاياك التى وددتها جداً، وتأملت فرائضك” (مز118: ق. 6).

وقوله: “حقوقك كانت لى مزامير فى موضع مسكنى” (مز118: ق. 7). وكذلك قوله: “فى نصف الليل نهضت لأشكرك على أحكام عدلك” (مز118: ق. 8).

وإذ يدرك الإنسان صلاح الله وخيريته يدعوه أن يتفضل ويعلّمه وصاياه بهذه الخيرية وهذا الصلاح فيقول: “صالح أنت يا رب، فبصلاحك علمنى حقوقك” (مز118: ق. 9).

وإذ يتأمل فى قدرة الله كخالق، فى خلقته العجيبة للإنسان العاقل يتوسّل بقوله: “يداك صنعتانى وجبلتانى، فهّمنى فأتعلّم وصاياك” (مز118 : ق. 10). إن كنت يا رب قد صنعتنى كخالق فليس عسيراً عليك أن تقود ذهنى وروحى إلى فهم وصاياك فى عمقها وروعتها وجلالها.

إن الوصية الإلهية لا حدود لمعانيها وأبعادها. لهذا يحتاج الإنسان إلى عمل الله لكى يفهمها.. وعن اتساع الوصية الإلهية يقول المرنم: “لكل تمام رأيت منتهى، أما وصاياك فواسعة جداً” (مز118 : ق. 12).

وفى حروبه الروحية مع الشياطين يشعر أن الوصية تحميه ويقول: “كثُر علىَّ ظُلم المتكبرين، وأنا بكل قلبى أبحث عن وصاياك” (مز118: ق. 9). ويقول أيضاً: “وليخز المتكبرون، لأنهم خالفوا الشرع علىّ ظلماً. وأنا كنت مثابراً على وصاياك” (مز118 : ق. 10).

وفى مواعيد الله وكلامه يجد رجاء للخلاص فيتضرع بقوله “تاقت نفسى إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت. كلّت عيناى من انتظار أقوالك قائلتين متى تعزينى؟.. كم هى أيام عبدك؟ متى تجرى لى حكماً على الذين يضطهدوننى؟.. حسب رحمتك أحينى، فأحفظ شهادات فمك” (مز118 : ق.11).

من الأمور الجميلة والنافعة جداً أن يمزج الإنسان كلام الله بصلاته، وأن يصلّى لكى يعمل كلام الله فيه.. إنها مدرسة الصلاة التى نتعلمها من هذا المزمور الكبير..

فلما جلس

“ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه. ففتح فاه وعلمهم قائلاً..” (مت5: 1، 2).

يقول سفر نشيد الأناشيد “مادام الملك فى مجلسه أفاح ناردينى رائحته” (نش1: 12). حينما جلس السيد المسيح فاحت رائحة الطيب من تعاليمه السامية.. إنها رائحة المسيح الذكية.. لأنه عمل وعلّم كما سجل معلمنا لوقا البشير فى سفر أعمال الرسل: “جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلّم به” (أع1: 1).

كذلك قيل عن السيد المسيح فى المزمور “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك” (مز44: 6).

حينما جلس السيد المسيح  فإنه جلس على كرسى التعليم الربانى.. وكرسيه ثابت إلى أبد الدهور.

قال السيد المسيح عن تعليم موسى النبى: “على كرسى موسى جلس الكتبة والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا” (مت23: 2، 3).

والأسقف فى الكنيسة يجلس على كرسيه ومن أبرز مهام الأسقف: التعليم، لهذا قيل “يجب أن يكون الأسقف بلا لوم.. صالحاً للتعليم” (1تى3: 2). قيل أيضاً “يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل الله. ملازماً للكلمة الصادقة التى بحسب التعليم لكى يكون قادراً أن يعظ بالتعليم الصحيح ويوبخ المناقضين” (تى1: 7، 9).

ولأن تعليم السيد المسيح هو الحق والاستقامة لهذا قيل عنه: “العدل والحق قاعدة كرسيه” (مز97: 2). وقيل أيضاً له “قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك” (مز44: 6).

لما جلس السيد المسيح على الجبل تقدم إليه تلاميذه ليستمعوا إلى أقواله الإلهية الممتلئة نعمة وحياة.. كانوا مثل الأرض المتعطشة إلى مياة الأمطار.. وكانوا كالخراف التى يوردها الرب إلى مياه الراحة فتتقدم لتشرب وترتوى كقول السيد المسيح: “إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب” (يو7: 37).

على جبل سيناء تراءى مجد الرب “وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن” (خر20: 18). ولم يحتمل الشعب سماع صوته إذ ارتعبوا، وقالوا لموسى: “تكلم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت” (خر20: 19). ولكن حينما جاء السيد المسيح متجسداً، وقد أخلى نفسه، وأخفى مجده، وظهر فى الهيئة كإنسان.. تقدّم إليه التلاميذ فى ألفة ومحبة وطمأنينة. وهكذا استطاع الإنسان أن يقترب إلى الله بدون خوف ولا رعب، ولكن فى مودة ومهابة وخشوع مع طمأنينة فى أحضان الله المحب.

ففتح فاه وعلمهم

حينما فتح السيد المسيح فاه، انفتحت ينابيع الحكمة والحياة إلى أسماع البشر. وقيل عنه فى المزمور “انسكبت النعمة على شفتيك” (مز44: 2). كان السيد المسيح بالنسبة لتلاميذه مثل شجرة التفاح المثمرة. وقالت عنه عروس النشيد: “كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبى بين البنين. تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقى” (نش2: 3).

“تقدّم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلّمهم”.. حقاً لقد تذوق التلاميذ حلاوة تعاليم السيد المسيح. تعاليماً لم يجسر أحد أن ينطق بها من قبل.. لأنها تعاليم شريعة الكمال التى لا يستطيع أن يقبلها إلا المدعوون إلى نعمة الخلاص والتجديد، بالإيمان بذبيحة الابن الوحيد وشركة الموت والقيامة مع المسيح.

ونظراً لأن الكنيسة باعتبارها عروس المسيح تنطق نفس كلامه وشريعته وتعاليمه السامية، قال الرب لها فى سفر النشيد: “شفتاكِ يا عروس تقطران شهداً. تحت لسانك عسل ولبن” (نش4: 11). أى أن كلام الكنيسة حلو مثل كلام السيد المسيح.

فكما قيل للعريس: “انسكبت النعمة على شفتيك”، هكذا قيل للعروس “شفتاك يا عروس تقطران شهداً”. إن الكنيسة لا يمكنها أن تُعلِّم تعليماً آخر بخلاف تعليم السيد المسيح.

وقد وعد السيد المسيح أن يرسل مواهب الروح القدس إلى الكنيسة لكى يأتى تعليمها موافقاً للحق الإلهى. وذلك لأن الروح القدس هو روح الحق الذى من عند الآب ينبثق. وعن هذا الوعد الذى تحقق فى يوم الخمسين قالت العروس: “استيقظى يا ريح الشمال وتعالى يا ريح الجنوب هبى على جنتى فتقطر أطيابها. ليأتِ حبيبى إلى جنته ويأكل ثمره النفيس” (نش4: 16).

1- التطوبيات

بدأ السيد المسيح تعليمه المقدس بمجموعة رائعة من التطويبات يغبط فيها الذين يسلكون بحسب قيادة الروح القدس ويتمتعون بعطاياه الغنية. وشرح السيد المسيح فى هذه التطويبات كيف يسلك الإنسان فى طريق الله حتى يصل إلى سعادة الملكوت بالرغم مما قد يعترض طريقه من صعوبات وآلام وأحزان.

كان جميلاً أن يبدأ السيد المسيح تعاليمه وتقديم شرائع الكمال التى للعهد الجديد بتطويب أولئك الذين سوف يقبلون شرائعه بفرح ومسرة ويسلكون فيها بشغف وطاعة ومحبة.

لم يذكر السيد المسيح فى بداية حديثه الويلات واللعنات التى تصيب الأشرار والخطاة إنما بدأه بالتطويبات. لأن الأصل فى علاقة الإنسان بالله هو أن الإنسان قد خلق على صورة الله ومثاله.. خلقه الرب ليحيا ويتمتع بحلاوة الشركة معه.. خلقه سعيداً طوباوياً ليحيا فى الفردوس ويتنعم بخيراته ويحيا فى عشرة مقدسة مع الخالق العظيم.

طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات

وكما يبدأ المزمور الكبير الذى يتحدث كله عن وصايا الرب وأحكامه بالتطويب بعبارة “طوباهم الذين بلا عيب فى الطريق.. طوباهم الذين يفحصون عن شهاداته ومن كل قلوبهم يطلبونه” (مز118: 1، 2)، هكذا أيضاً بدأ السيد المسيح وصاياه بالتطويبات وقال: “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات” (مت5: 3). وكأن الموعظة على الجبل هى السجل العملى لما سبق أن أنبأ عنه المزمور الكبير بقوله “طوباهم الذين يفحصون عن شهاداته ومن كل قلوبهم يطلبونه”.

وقد اختار السيد المسيح أن يبدأ تطويباته الإلهية بتطويب المساكين بالروح.. لأن أساس كل فضيلة مقبولة عند الله هو الاتضاع والمسكنة بالروح. أو بمعنى آخر إن أى فضيلة تخلو من الاتضاع؛ لا تحسب فضيلة على الإطلاق.

أراد السيد المسيح أن يحارب الكبرياء التى كانت سبباً فى سقوط الإنسان ومعصيته، لهذا طوّب المسكنة بالروح قبل أن يطوّب باقى الفضائل مثل فضيلة الصبر على الأحزان أو فضيلة الشوق إلى البر أو فضيلة الرحمة .. إلخ.

المسكنة بالروح

المسكنة بالروح؛ مقصود بها الاتضاع الحقيقى النابع من الروح. أى ليس الاتضاع الظاهرى فى الجسد. لأن هناك من يتواضعون بأجسادهم -مثل أن يلبسوا الثياب الرثة أو المهلهلة- ولكنهم يستكبرون فى قلوبهم. الاتضاع الحقيقى هو الذى ينبع من القلب حيث ينسحق الإنسان أمام الله شاعراً بضعفه واحتياجه.

السيد المسيح ينطوى كلامه على تحذير من المسكنة التى ليست بالروح لأنها تضر أكثر مما تفيد. أى أن المسكنة تبدأ بالروح، ثم تؤثر على سلوك الإنسان فيتواضع أيضاً جسده مع روحه. وبهذا يزهد فى الأمور العالمية والمظاهر الخارجية بطريقة نابعة من القلب وليست تظاهراً أو تمثيلاً أو طلباً لمديح الناس.

المسكنة بالروح معناها أن يشعر الإنسان بفقره الشديد واحتياجه إلى الله. يشعر بالبؤس والعوز مثل أى مسكين يطلب صدقة. وهو بهذا يطلب إحساناً إلى روحه من قِبل الله القادر أن يعطى بسخاء ولا يعيّر.

لو عاش الإنسان كمسكين طوال حياته، فسيشعر بالاحتياج ولا يستغنى عن إنعامات الله وإحساناته.

وقد حذّر الرب فى سفر الرؤيا من الإحساس بالاكتفاء والاستغناء فقال لملاك كنيسة اللاودكيين: “هكذا لأنك فاتر ولست بارداً ولا حاراً، أنا مزمع أن أتقيأك من فمى. لأنك تقول إنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شئ، ولست تعلم أنك أنت الشقى والبَئِس وفقير وأعمى وعريان” (رؤ3: 16، 17).

من يشعر أنه بائس يكون غنياً بالنعمة فى نظر الله، ومن يشعر أنه غنى هو بائس فى نظر الله.

إن الله يقاوم المستكبرين ويرفع المتضعين كقول السيدة العذراء فى تسبحتها: “أنزل الأعزاء عن الكراسى ورفع المتضعين، أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين” (لو1: 52، 53).

ليتنا نسلك فى طريق المسكنة بالروح، لأنه هو الطريق الآمن المؤدى إلى ملكوت السماوات.

طوبى للحزانى لأنهم يتعزون

“طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض..” (مت5: 4، 5) فى هذا التطويب كشف السيد المسيح بُعداً عميقاً من أبعاد الحياة المسيحية. وهو أن الصليب هو طريق المجد.

الحزن المقصود فى هذا التطويب هو نوع من التعبير عن المحبة نحو الله أو نحو الآخرين.

فمن يحزن على خطاياه مثلاً فقد بدأ طريق التوبة والرجوع إلى الله. لأن “الحزن الذى بحسب مشيئة الله ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة” (2كو7: 10).

ومن يحتمل الأحزان، يشارك السيد المسيح فى أحزانه بدلاً من أن يقول له الرب: “انتظرت من يحزن معى فلم أجد” (انظر مز69: 20).

ربما تقترن الأحزان بالآلام وعن هذا يقول معلمنا بولس الرسول “إن كنا نتألم معه لكى نتمجد معه أيضاً” (رو8: 17).

الحزن واحتمال الآلام من أجل الرب هى من الوسائل الفعّالة للامتلاء من الروح القدس.

لهذا يقول معلمنا بطرس الرسول: “إن عُيرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم” (1بط4: 14). والامتلاء بالروح القدس يمنح التعزية فى الحزن.

الحزن مع المسيح هو أحد وسائل الالتقاء بالمسيح، لهذا فهو يؤدى إلى تعزيات روحية جزيلة.

مع المسيح يكتشف الإنسان الكثير من أسرار الحياة الروحية والحياة الإلهية.. أى يعرف الله ومقاصده الإلهية بصورة أعمق بكثير.

لاشك أن إبراهيم أب الآباء قد عرف الكثير عن الله وتدابيره ومقاصده حينما وضع إسحق على المذبح ليذبحه كمحرقة للرب حسب أمر الله له. هناك فهم إبراهيم حب ومقاصد الله الآب فى بذل ابنه الوحيد الجنس من أجل خلاص البشرية.

لهذا قال السيد المسيح: “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى فرأى وفرح” (يو8: 56).

وكيف رأى إبراهيم يوم السيد المسيح إلا عندما شارك بمشاعره المقاصد الإلهية فى تقديم ذبيحة الابن الوحيد.

إن الحزن الذى طوّبه السيد المسيح هو حزن المحبة التى تبذل نفسها وبلا حدود. والتى لا تستطيع أن تتجاهل الآخر، لأن الصليب هو منهجها المؤدى إلى مجد القيامة.

الحزن الذى طوّبه السيد المسيح هو التخلى عن أفراح العالم الباطلة والزائلة لكى يفرح الإنسان بالرب. لهذا قال الكتاب إن “الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة” (جا7: 2).

والحزن الذى طوّبه هو التعب من أجل ملكوت الله. مثل التعب فى الخدمة والتعب فى الجهاد الروحى واحتمال كل أنواع المعاناة من أجل الرب.

ألم يقل الكتاب إن “الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج” (مز125: 5).

إن التعب هو علامة الجدية والالتزام وتقدير المسئولية سواء فى الزراعة أو فى الجهاد الروحى أو فى خدمة ملكوت الله.

لهذا وضع قداسة البابا شنودة الثالث منهجاً للرعاة فى الخدمة هو شعاره المشهور [ إذا تعبنا فى الخدمة يستريح الشعب، وإذا استرحنا نحن يتعب الشعب ].

الأحزان تفيد الإنسان

قال الآباء القديسون [ إن كنا خطاة فبالأحزان نؤدّب. وإن كنا قديسين فبالأحزان نُختبر].

لا ينبغى أن يتذمر الإنسان لسبب ما يصيبه من أحزان. بل ينبغى أن يشكر الرب عليها لأنها لفائدته ومنفعته.

إن الحزن هو الطريق إلى التعزية ولهذا فمن يرفض الحزن يرفض ما تجلبه الأحزان من تعزيات [والذى يهرب من الضيقة يهرب من الله] كما قال الآباء.

التعزية التى يجلبها الحزن هى راحة حقيقية ومتعة غير زائلة كقول المرنم للرب فى المزمور “عند كثرة همومى فى داخلى؛ تعزياتك تلذذ نفسى” (مز94: 19).

إن الإنسان الحزين هو موضع اهتمام الرب وانشغاله “كإنسان تعزّيه أمه” (إش66: 13).

هكذا يعمل الرب فى تعزية كل إنسان حزين متكل على الله وملتصق بالرب المصلوب.

حزنكم يتحول إلى فرح

ليست المسيحية دعوة إلى الكآبة ولكنها دعوة إلى الفرح الذى لا يستطيع العالم أن ينزعه.

وقد أكدّ السيد المسيح هذه الحقيقة بقوله للتلاميذ قبيل الصليب: “إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح، أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح” (يو16: 20).

وقال لهم أيضاً: “المرأة وهى تلِد تحزن لأن ساعتها قد جاءت، ولكنها متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح لأنه قد وُلد إنسان فى العالم” (يو16: 21).

وكان السيد المسيح بكلامه هذا يقصد ما سوف يصيبهم من أحزان بصفة عامة، وما سوف يحزنون به لسبب صلبه بصفة خاصة، ولهذا استطرد قائلاً: “أنتم كذلك عندكم الآن حزن. ولكنى سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو16: 22).

وكان يقصد أنهم بعد أحزان الصليب سوف يرون الرب بعد قيامته ويفرحون فرحاً لا يستطيع العالم أن ينزعه.

إن أفراح القيامة تعقب دائماً أحزان الصليب. ومن يحزن مع المسيح لابد أن يفرح ويتعزى، ويفرح فى الأبدية حيث لا حزن ولا دموع حيث “يمسح كل دمعة من عيونهم” (رؤ21: 4).

هناك أفراح من يد الرب ينالها الإنسان فى حياته على الأرض ويتعزى بها. وهناك أفراح أخرى مجيدة ينتظرها الإنسان فى الحياة الأبدية. ولهذا يقول الكتاب “فرحين فى الرجاء” (رو12: 12).

إن الروح القدس يمنح رجاءً للإنسان المؤمن، وهذا الرجاء يعزيه فى وسط أحزانه. لهذا يقول الكتاب “لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم” (1تس4: 13).

“أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة” (1كو13: 13).

طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض

كانت الوداعة من الصفات المميزة فى حياة السيد المسيح فى خدمته. وكان يدعو تلاميذه لاقتناء هذه الفضيلة. فقال لهم: “تعلموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت11: 29).

الوداعة وتواضع القلب لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، وذلك فى المفهوم السليم لحياة الفضيلة.. كل وديع حقيقى هو متواضع القلب، وكل متواضع قلب حقيقى هو وديع.

فهناك من يتصرف خارجياً بأسلوب وديع، ولكن قلبه فى الداخل غير متضع. وربما تمدحه أفكاره بصورة تقود إلى العظمة الداخلية.. ولهذا فوداعته ليست حقيقية.

وهناك من الجانب الآخر من يفتكر أن قلبه متضع، ولكنه لا يسلك بوداعة، فاتضاعه ليس حقيقياً.

فالوداعة الكاملة هى وداعة المتواضعين فى قلوبهم، كما أن الاتضاع القلبى الكامل هو الذى يتشح بالوداعة ويتحلى بها.

الإنسان الوديع يكون مريحاً فى معاملاته، محبوباً من الناس .. ومحبوباً من الله.

لهذا قال الآب عن السيد المسيح فى سفر إشعياء: “هوذا فتاى الذى اخترته، حبيبى الذى سُرت به نفسى  لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ” (مت12: 18-20 ، انظر إش42: 1-3).

ونفس الكلمات نطق بها الآب السماوى أثناء عماد السيد المسيح: “هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت” (مت3: 17). فكلمة “ابنى” التى وردت فى الإنجيل هى نفسها كلمة “فتاى” التى وردت فى سفر إشعياء.

وقد سر الآب به لأنه “لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته” وكلها علامات الوداعة.

وقد جاء السيد المسيح إلى العالم معلِّماً للوداعة، بعد أن فقدت البشرية الصورة الجميلة التى خلقهم عليها “على صورة الله.. ذكراً وأنثى خلقهم” (تك1: 27).

بدأ العنف يدخل إلى العالم بعد سقوط الإنسان. وقام قايين على أخيه الصديق هابيل وقتله. وبدأت الحروب والمخاصمات والكراهية تنتشر فى العالم. وفقد الإنسان صورته الهادئة الوديعة التى خلقه الله ليحياها.

وتفاقم العنف فى حياة الإنسان حتى أصبح أحياناً يتلذذ بتعذيب أخيه الإنسان.. وصار الأباطرة ومن حولهم يتمتعون برؤية المصارعة الدموية فى حلبات المصارعة. وأحياناً كان الإنسان يتغنى ويعزف الألحان على صوت أنين الآخرين وعذاباتهم.

كانت البشرية فى أشد الاحتياج لرؤية ذلك الوديع المتواضع القلب.. الذى بالرغم من قوته وقدرته الإلهية، لم يستخدم العنف فى رسالته على الأرض.

كان السيد المسيح ذا طلعة بهية مهابة، ولكنه كان وديعاً بصورة تفوق الوصف. وقد كُتِبَ عنه: “ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه” (إش53: 7).

حينما كُلل بالشوك، وحينما جردوه من ثيابه ومدوه للجلد بالسياط، وحينما سخروا منه ولطموه قائلين تنبأ من لطمك، وحينما وضعوا عليه خشبة الصليب وخرج وهو حامل صليبه، وحينما مدوه على الصليب وسمروا يديه ورجليه، وحينما استهزأوا به وهو معلّق على الصليب وفغروا عليه أفواههم.. فى كل هذا كان وديعاً مسالماً مثل الحمل فلم يفتح فاه، بل كان يشفع أمام الآب من أجل خلاص العالم، ومغفرة خطايا البشرية بما فى ذلك صالبيه، لكى يعلن أن الطريق إلى المغفرة بالتوبة مفتوح أمام الجميع بقوة الدم الزكى الذى سفك على الصليب.

فهو بحق قد صار كاهناً لأنه غفر خطايا كثيرين وشفع فى المذنبين، مدعواً من الله رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكى صادق.

كان مجيء السيد المسيح إلى العالم هو نقطة تحول من العنف إلى الوداعة، ومن الكراهية إلى المحبة، ومن العداوة إلى المصالحة والسلام.

ميراث الأرض

ما الذى قصده السيد المسيح بقوله إن الودعاء يرثون الأرض؟

إن الإنسان الوديع إذ يكتسب محبة الآخرين فإنه يملك قلوبهم وهذا هو ميراث للأرض.. بل إن ذكراه تبقى إلى الأبد. وتحيا فى قلوب الذين يسمعون بسيرته. مثل سير القديسين التى هى شهية وحلوة ومحبوبة من الناس، حتى إنهم يطلقون أسماءهم على الكنائس والأديرة ويتسمون بأسمائهم.

كذلك فإن كرازة الودعاء تستطيع أن تجتذب الكثيرين من الظلمة إلى النور ومن عدم الإيمان إلى الإيمان الحقيقى ليتمتعوا بخيرات الحياة الأبدية. وقد أوصى الرسول بالوداعة فى عمل الكرازة حينما قال: “مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذى فيكم بوداعة وخوف” (1بط3: 15). وحينما يخلص البعض بكرازة الودعاء فإن الودعاء يكونون قد ورثوا الأرض. ونفس هذه العبارة قالها الآب للسيد المسيح كمخلص للأمم: “اسألنى فأعطيك الأمم ميراثك” (مز2: 8).

والودعاء الذين يتشبهون بالسيد المسيح ويستحقون أن ينالوا قيامة الأبرار يرثون الأرض أيضاً.

فالإنسان حينما أخطأ قال له الرب: “لأنك تراب وإلى تراب تعود” (تك3: 19) بمعنى أن الأرض هى التى ترث الإنسان عند موته.

ولكن السيد المسيح إذ انتصر على الموت وصار باكورة الراقدين “فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضاً معه” (1تس4: 14)، وبهذا يعود الجسد الذى ابتلعته الأرض إلى الحياة مرة أخرى.. الروح تأخذ جسدها معها إلى حياة أبدية وبهذا يكون الإنسان البار الذى سلك بالروح، قد استطاع أن يأخذ جسده المأخوذ منها أو المدفون فيها.. أخذه معه إلى ملكوت السماوات.

أيضا يشير كلام السيد المسيح عن ميراث الأرض إلى الأرض الجديدة كقول الكتاب فى سفر الرؤيا “رأيت سماءً جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا” (رؤ21: 1). هذه الأرض الجديدة هى ميراث للأبرار للحياة الأبدية. وعن مثل هذه الأرض تكلّم السيد المسيح لأن الأرض الحالية سوف تزول.

طوبى للجياع والعطاش إلى البر، فإنهم يشبعون

بعد أن طوب السيد المسيح الودعاء قال: “طوبى للجياع والعطاش إلى البر، فإنهم يُشبعون” (مت5: 6).

ونريد أن نشرح معنى الجوع والعطش المقصود ومعنى البر الذى قصده السيد المسيح بكلامه.

الجوع والعطش

الإنسان الجسدانى، الذى يهتم باحتياجات جسده فقط، يشعر بالجوع والعطش الجسدانى ويسعى باستمرار لإشباع هذا الجسد بكل الوسائل. ولكنه لا يشعر بأن روحه هى أيضاً تحتاج إلى الغذاء والشراب الروحى. ولهذا فهو يترك روحه بلا غذاء ولا شراب، وتضعف الروح ويضعف تأثيرها على الجسد وتفقد قدرتها على قيادته.

فالسيد المسيح بقوله: “طوبى للجياع والعطاش إلى البر”، فإنه يمدح ويغبط ويطوّب أولئك الذين يشعرون بأهمية الجانب الروحى فى حياتهم، فلا ينشغلون باحتياجات الجسد عن احتياجات الروح. ولذلك فهم يمارسون الصوم مع الصلاة لكى تأخذ الروح فرصتها وغذاءها.

الروح تغتذى بكلام الله، وترتوى من مياه النعمة، أى من سكيب الروح القدس. وتشتاق دائماً أن تنال نصيبها لتحيا وتنمو فى معرفة الله وفى محبته. وهذا هو معنى الجوع والعطش إلى البر الذى فى المسيح.

معنى البر

البر المقصود فى كلام السيد المسيح، هو بر الله فى المسيح يسوع.. فليس هناك بر حقيقى بدون المسيح.

ويتضح ذلك من كلام القديس بولس الرسول “بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون” (رو3: 22)، “الفداء الذى بيسوع المسيح الذى قدمه الله كفارة.. ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع” (رو3: 24-26).

فلا يوجد بر إلا بالإيمان بالمسيح.. أما أى بر آخر فيه اتكال على الذات فهو يعطل البر الذى فى الإيمان. مثلما قيل على اليهود الذين إذ أرادوا أن يثبتوا بر أنفسهم لم يدركوا البر الحقيقى. وهذا شرحه أيضاً القديس بولس الرسول بقوله: “إن الأمم الذين لم يسعوا فى أثر ناموس البر أدركوا البر. البر الذى بالإيمان. ولكن إسرائيل وهو يسعى فى أثر ناموس البر، لم يدرك ناموس البر. لماذا؟ لأنه فعل ذلك ليس بالإيمان، بل كأنه بأعمال الناموس” (رو9: 30-32).

فالإنسان الذى يسعى لإثبات بر نفسه -بعيداً عن الإيمان بالمسيح- يفقد فرصة التمتع ببر المسيح.

وقد لقب السيد المسيح بلقب “البار”، مثلما قال بطرس الرسول عنه لليهود بعد معجزة شفاء الأعرج عند باب الهيكل: “أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل. ورئيس الحياة قتلتموه، الذى أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك” (أع3: 14، 15). وكذلك القديس اسطفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء قال نفس اللقب عن السيد المسيح أمام مجمع اليهود: “أى الأنبياء لم يضطهده أباؤكم وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذى أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه” (أع7: 52).

كذلك حنانيا أسقف دمشق الذى عمّد بولس الرسول قال له وقت عماده: “إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه” (أع22: 14)، وكان السيد المسيح قد ظهر لشاول الطرسوسى الذى هو بولس الرسول وتكلم معه وهو فى طريقه إلى دمشق.

وقد ورد هذا اللقب عن السيد المسيح أيضاً فى كتب العهد القديم وذلك فى نبوة أرميا النبى فى قوله: “ها أيام تأتى يقول الرب وأقيم لداود غصن بر فيملك ملك وينجج ويُجرى حقاً وعدلاً فى الأرض فى أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً. وهذا هو اسمه الذى يدعونه به الرب برنا” (أر23: 5، 6). ومن الواضح أن هذا اللقب هو من ألقاب الله “الرب برنا” وذلك لأن السيد المسيح هو الله الظاهر فى الجسد، أى الله الكلمة المتجسد.

فإذا كان السيد المسيح هو “الرب برنا”، فإن من يشتاق إلى البر – يشتاق إلى السيد المسيح.

فالإنسان الذى يجوع ويعطش إلى البر، هو يجوع ويعطش إلى المسيح “البار” وإلى النعمة التى يمنحها للمؤمنين باسمه القدوس.. ومن يجوع إلى المسيح هو من يسعى ليغتذى بجسده المقدس حسبما قال “أنا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء.. فمن يأكلنى فهو يحيا بى” (يو6: 51، 57).

من يجوع ويعطش إلى البر، هو من يسعى للامتلاء بالروح القدس من خلال وسائط النعمة التى رتبها السيد المسيح فى كنيسته المجيدة. فالامتلاء بالروح القدس هو ما قال عنه السيد المسيح: “من آمن بى كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حى. قال هذا عن الروح الذى كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو7: 38، 39).

فإنهم يشبعون

إن عطايا الله تنتظر من يريدها.. مثلما قال الآباء: [الفضيلة تريدك أن تريدها]. الجوع إلى البر يؤدى إلى الشبع.

والعطش إلى البر يؤدى إلى الارتواء كقول الرب للمرأة السامرية عن الماء المادى “من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً ولكن من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد” (يو4: 13، 14).

الله يمنح عطاياه لمن يرغب فيها.. لمن يشعر بقيمتها فيضحى للحصول عليها.. لمن يعرف أن كنوز العالم كله لا تساويها.. لأنها هى العطية الفائقة والعظمى..

طوبى للرحماء فإنهم يرحمون

بعد أن طوّب السيد المسيح الجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون قال “طوبى للرحماء فإنهم يرحمون” (مت5: 7).

الرحمة

الرحمة صفة من صفات الله الرحيم كما هو مكتوب عنه: “الرب الرب إله رحيم ورؤوف، بطئ الغضب وكثير الإحسان والوفاء” (خر34: 6).

“الرب رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة. لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر. لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا. لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب أبعد عنّا معاصينا. كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه” (مز103: 8-13).

“لأن الرب إلهك إله رحيم لا يتركك ولا يهملك ولا ينسى عهد أبائك الذى أقسم لهم عليه” (تث4: 31).

“وأنت أيها الرب الإله، أنت رؤوف ورحيم. أنت طويل الروح وكثير الرحمة وصادق. انظر إلىّ وارحمنى. اعط عزّة لعبدك، وخلِّص ابن أمتك” (مز85: 15، 16).

“الرب رحيمٌ وصدّيقٌ، وإلهنا يرحم. الذى يحفظ الأطفال هو الرب. اتضعت فخلصنى” (مز114: 5، 6).

“جلال وبهاء عمله، وعدله دائم إلى أبد الأبد. ذكر جميع عجائبه. رحيم هو الرب ورؤوف” (مز110: 3، 4).

“نور أشرق فى الظلمة للمستقمين. رحيمٌ الرب الله ورؤوف وبار” (مز111: 4).

“الرب حنان ورحيم طويل الروح وكثير الرحمة. الرب صالح للكل ومراحمه على كل أعماله” (مز145: 8، 9).

“من ثم كان ينبغى أن يشبه إخوته فى كل شئ لكى يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً فيما لله حتى يكفر خطايا الشعب” (عب2: 17).

والرحمة عند الله لا تتعارض مع عدله وحقه، لأن الله رحيم فى عدله وعادل فى رحمته. فصفات الله كلُّ لا يتجزأ. ونحن نتكلم عنها على سبيل التفاصيل وليس على سبيل الفصل، كما قال قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته.

لهذا كما أوردنا قول المزمور “عدله دائم إلى الأبد.. رحيم هو الرب ورؤوف” (مز110: 3، 4).

وقيل أيضاً عن الخلاص العجيب الذى صنعه الرب على الصليب، “لأن خلاصه قريب من جميع خائفيه. ليسكن المجد فى أرضنا. الرحمة والحق تلاقيا. والعدل والسلام تلاثما. الحق من الأرض أشرق، والعدل من السماء تطلع” (مز84: 9-11).

وعن تلازم الرحمة والحق قيل “لا تدع الرحمة والحق يتركانك. تقلدهما على عنقك. أكتبهما على لوح قلبك فتجد نعمة وفطنة صالحة فى أعين الله والناس” (أم3: 3، 4). وقيل أيضاً “أما يضل مخترعو الشر. أما الرحمة والحق فيهديان مخترعى الخير” (أم14: 22). وأيضاً “بالرحمة والحق يستر الإثم وفى مخافة الرب الحيدان عن الشر” (أم16: 6). وعن الملك قيل “الرحمة والحق يحفظان الملك وكرسيه يُسند بالرحمة” (أم20: 28)، وكذلك قيل عن تلازم العدل والرحمة “التابع العدل والرحمة يجد حياة حظاً وكرامة” (أم21: 21).

وهذه نصيحة ثمينة يقدّمها الكتاب: “قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك” (مي 6: 8).

فكما أن الرحمة هى صفة من صفات الله، ينبغى أيضاً أن يتصف بها أولاده كما قال السيد المسيح: “فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم” (لو6: 36).

الرحمة تقترن بالعطف والحنان والرأفة وطول الروح وتدل على المحبة وطيبة القلب.

ونحن فى صلواتنا الكنسية نطلب الرحمة باستمرار قائلين: [يا رب ارحم أو كيرياليسون]. كذلك عندما نتذكر الدينونة الأبدية نصرخ قائلين: [كرحمتك يا رب ولا كخطايانا].

الرحمة تطرد القساوة من القلب، وتجعل الإنسان مستحقاً لمراحم الرب الكثيرة والفائقة.

وينبغى أن يتدرب الإنسان على ممارسة أعمال الرحمة المتنوعة متذكراً تطويب الرب للرحماء. ولا يمكن أن ينتظر الإنسان أن يعامله الرب برحمة إن لم يرحم غيره ويرحم المساكين والضعفاء {فإنه ليس رحمة فى الدينونة لمن لم يستعمل الرحمة} (قطع نصف الليل-الخدمة الثالثة).

مثل السامرى الصالح

سأل رجل ناموسى السيد المسيح: “من هو قريبى؟” فحكى له السيد المسيح قصة السامرى الصالح الذى صادف رجلاً يهودياً “كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص فعرّوه وجرّحوه، ومضوا وتركوه بين حىٍّ وميت.. ولكن سامرياً مسافراً جاء إليه ولما رآه تحنن. فتقدم وضمد جراحاته وصب عليها زيتاً وخمراً وأركبه على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى به”.. وسأل السيد المسيح الرجل الناموسى عمن صادفوا الرجل المجروح “أى هؤلاء.. ترى صار قريباً للذى وقع بين اللصوص؟ فقال (الناموسى): الذى صنع معه الرحمة. فقال له يسوع: اذهب أنت أيضاً واصنع هكذا”  (انظر لو10: 29-37).

وقد أشار الكتاب إلى أهمية الرحمة بالمساكين لكى ينال الإنسان رحمة وغفراناً عن خطاياه لسبب ممارسته للرحمة ودخوله فى مراحم الرب.

فقيل فى سفر دانيال للملك بلطشاصر “لذلك أيها الملك فلتكن مشورتى مقبولة لديك وفارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمساكين لعله يطال اطمئنانك” (دا4: 27). وبالطبع من المفهوم أن غفران الخطايا يلزمه توبة ولكن التوبة لا تصير مقبولة إذا كان القلب قاسياً وغير رحيم، لأن الرب يستخدم الرحمة مع القلوب الرحيمة.

الرحمة بالمساكين

فى الصوم الكبير المقدس تبدأ قراءات الكنيسة فى أحد الرفاع بفصل من الإنجيل عن الصلاة والصدقة والصوم، يبرز فيه أهمية اقتران الصوم بالصلاة وبالرحمة بالمحتاجين والمتضايقين.

ولذلك ترتل الكنيسة فى ألحان الصوم الكبير طوال الصوم الكلمات التالية:

طوبى للرحماء على المساكــين                  فإن الرحـمة تحل عليهم

والمسيح يرحمهم فى يوم الدين                   ويحل بروح قدسه فيهم

هناك أناساً يصومون أصواماً عنيفة ولا يتذكّرون أن الصوم هو فرصة لمشاركة المساكين وللتحنن عليهم. الصوم يقترن بالمسكنة والاتضاع والتوبة والصلاة والرحمة لهذا قال الرب فى سفر إشعياء: “أليس هذا صوماً أختاره؟.. أليس أن تكسر للجائع خبزك. وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك” (إش58: 6، 7).

من الواضح أن الصوم المقبول من الله هو الذى يقترن بالرحمة على الضعفاء والمساكين. وقد وردت إنذارات فى الكتاب المقدس للأغنياء الذين لا يستعملون الرحمة مع المحتاجين مثل قول يعقوب الرسول: “هلّم الآن أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة. غناكم قد تهرأ وثيابكم قد أكلها العث. ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما يكون شهادة عليكم. ويأكل لحومكم كنار. قد كنزتم فى الأيام الأخيرة. هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحصادين قد دخل إلى أذنى رب الجنود. قد ترفهتم على الأرض وتنعمتم، وربيتم قلوبكم كما فى يوم الذبح” (يع5: 1-5).

ما أصدق قول داود النبى فى كلام النشيد الذى قال للرب: “مع الرحيم تكون رحيماً. مع الرجل الكامل تكون كاملاً. مع الطاهر تكون طاهراً، ومع الأعوج تكون ملتوياً. وتخلص الشعب البائس وعيناك على المترفعين فتضعهم” (2صم22: 26-28).

طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله

بعد أن طوّب السيد المسيح الرحماء قال: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت5: 8).

نقاوة القلب

النقاوة هى عطية من الله يمنحها لمن يطلبها بلجاجة، يجاهد من أجل الحصول عليها. ففى صلاة المزمور الخمسين يتضرع المرنم “قلباً نقياً اخلق فىّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد فى أحشائى” (مز50: 10).

والكتاب يقول: “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17)، الله يخلق للإنسان قلباً جديداً بالولادة الجديدة فى المعمودية، ويلزم أن يجاهد الإنسان ليحفظ لهذا القلب نقاءه بعدما استنار بالنعمة وصار أهلاً لفهم الأسرار والمقاصد الإلهية.

نقاوة القلب هى خلوه من الشر، ومن نوازع الشر، ومن محبة الخطية، ومن الميل إليها. ولن يصل القلب إلى هذه الحالة إلا إذا امتلأ من محبة الله، ومحبة البر.. أى إذا امتلأ من الروح القدس.

فليست نقاوة القلب هى فقط خلوه من محبة الخطية والميل إليها، بل من الناحية الإيجابية ينبغى أن يمتلئ القلب من محبة الله وبالتالى من محبة البر.

كان القديس الأنبا أبرآم أسقف الفيوم يظل طوال الليل يردد هذه العبارة فى صلاته: “قلباً نقياً اخلق فىّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد فى أحشائى” إدراكاً منه لأهمية نقاوة القلب فى السعى نحو ملكوت السماوات.

وقد مدح الكتاب أيضاً نقاوة القلب فى المزمور بقوله: “من يصعد إلى جبل الرب، أو من يقوم فى موضع قدسه. الطاهر اليدين، النقى القلب” (مز23: 3، 4).

وحينما أوصى الرب قائلاً: “فوق كل تحفظّ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة” (أم4: 23)، كان يقصد أن يحفظ الإنسان قلبه نقياً وطاهراً، لأن منه مخارج الحياة.

والحواس هى أبواب القلب. فلكى يحفظ الإنسان قلبه الداخلى، ينبغى أن يحفظ حواسه الخارجية. لهذا قال السيد المسيح: “سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً، فإن كان النور الذى فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون؟” (مت6: 22، 23). والعين هى إحدى الحواس الخمس فى الإنسان.

ويلزم لاقتناء نقاوة القلب أن يقتنى الإنسان نقاوة الحواس. وأن يحفظ حواسه الجسدية من العثرات والشرور.. وأن يمتلئ بالروح القدس وتتقوى حواسه الروحية وتنمو، وتصير قادرة على التطلع  نحو السماويات.

يعاينون الله

الأنقياء القلب يعاينون الله، يعاينونه بأعين قلوبهم.. لأن حواسهم الروحية قد استنارت بالنعمة.

يعاينونه بالإيمان وقد وعد السيد المسيح قائلاً: “الذى عنده وصاياى ويحفظها، فهو الذى يحبنى. والذى يحبنى يحبه أبى وأنا أحبه وأظهر له ذاتى” (يو14: 21).

الذين يولدون من الماء والروح بالميلاد الفوقانى، قال عنهم السيد المسيح إنهم هم الذين يدخلون ملكوت السماوات ويعاينونه (انظر يو3: 5).

فالميلاد الفوقانى هو الذى يجدد طبيعة الإنسان، ويمنحه نقاوة القلب حتى يؤهل لمعاينة مجد الله وملكوته السماوى.. يؤهل لمعاينة السيد المسيح فى مجده.

أنقياء القلب يعاينون الله، لأنهم سوف يعاينون السيد المسيح فى مجده، ويتمتعون برؤيته إلى أبد الدهور.

القلب النقى لا يشتهى شراً، بل يشتهى معرفة الله. ولا يحمل ضغينة أو كراهية، بل يمتلئ بالحب. شهوته دائماً هى الخير مثل قول الكتاب “شهوة الأبرار خير فقط” (أم11: 23).

إن تطويب السيد المسيح لأنقياء القلب، يدعونا للسعى نحو النقاوة التى تؤهلنا أن نراه بالإيمان. وأن نراه فى مجده..

 طوبى لصانعى السلام

بعد أن طوّب السيد المسيح أنقياء القلب قال التطويب السابع: “طوبى لصانعى السلام، لأنهم أبناء الله يدعون” (مت5: 9).

دُعى السيد المسيح “رئيس السلام” (إش9: 6)، و”ملك السلام” (عب7: 2). وقيل عنه: “لنمو رياسته وللسلام لا نهاية” (إش9: 7).

وسبب هذه التسمية أن السيد المسيح قد صالحنا مع الله أبيه بدم صليبه مثلما كتب معلمنا بولس الرسول للأمم “أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين، صرتم قريبين بدم المسيح. لأنه هو سلامنا الذى جعل الاثنين واحداً، ونقض حائط السياج المتوسط أى العداوة. مبطلاً بجسده ناموس الوصايا فى فرائض. لكى يخلق الاثنين فى نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً. ويصالح الاثنين فى جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به” (أف2: 13-16).

فكما صالح السيد المسيح الإنسان مع الله، صالح الإنسان مع أخيه الإنسان. وأعطى تلاميذه من الرسل القديسين خدمة المصالحة بحسب قصد الآب السماوى وتدبيره. وقد أشار القديس بولس الرسول إلى ذلك فقال: “ولكن الكل من الله الذى صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة. أى أن الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعاً فينا كلمة المصالحة. إذاً نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله” (2كو5: 18-20).

فبعدما قدّم السيد المسيح ذبيحة الفداء على الصليب، وقام من الأموات وظهر للأحد عشر وهم مجتمعون فى عشية يوم أحد القيامة قال لهم: “سلام لكم. ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه. ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب. فقال لهم يسوع أيضاً سلام لكم. كما أرسلنى الآب أرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يو20: 19-23). لقد بشرهم بالسلام، وأعطاهم السلطان أن ينشروه لكل من يرغب.

وبهذا حقق السيد المسيح وعده لتلاميذه بأن يمنحهم عطية السلام الفائقة للطبيعة إذ قال: “سلاماً أترك لكم. سلامى أعطيكم”

عطية السلام

عطية السلام التى منحها “رئيس السلام” لتلاميذه هى عطية فائقة للعقل.. لهذا قال معلمنا بولس الرسول لأهل فيليبى: “وسلام الله الذى يفوق كل عقل، يحفظ قلوبكم وأفكاركم فى المسيح يسوع” (فى4: 7).

إن عطية السلام هى عطية إلهية يمنحها الآب السماوى باستحقاقات دم ابنه الوحيد بواسطة الروح القدس.

لهذا فإن السلام هو من ثمار الروح القدس فى حياة المؤمنين كقول الكتاب: “وأما ثمر الروح، فهو محبة فرح سلام ..” (غل5: 22).

من يمتلئ من الروح القدس يمتلئ من السلام، ويستطيع أن يصنع السلام ويستحق أن يُدعى ضمن أبناء الله، ويستحق التطويب.

كانت إرسالية السيد المسيح إلى العالم هى إرسالية صلح وسلام، ومن أراد أن يتشبه بابن الله ينبغى أن يكون من صنّاع السلام.. السلام المبنى على الحق كقول المزمور “العدل والسلام تلاثما” (مز84: 10).

وقد أوصى بولس الرسول باتباع السلام فقال: “اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التى بدونها لن يرى أحد الرب” (عب12: 14).

كما أوضح يعقوب الرسول أهمية السلام كعلامة للحكمة الممنوحة من الله “أما الحكمة التى من فوق فهى أولاً طاهرة، ثم مسالمة، مترفقة، مذعنة، مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة، عديمة الريب والرياء. وثمر البر يزرع فى السلام من الذين يفعلون السلام” (يع3: 17، 18).

الذى يزرع الخصومات بين الإخوة المتحابين يصير مكروهاً من الله. كقول الكتاب “هذه الستة يبغضها الرب. وسبعة هى مكرهة نفسه. عيون متعالية، لسان كاذب، أيدٍ سافكة دماً بريئاً، قلب ينشئ أفكارًا رديئة، أرجل سريعة الجريان إلى السوء، شاهد زور يفوه بالأكاذيب، وزارع خصومات بين إخوة” (أم6: 16-19).

ولكى يتحاشى الإنسان تهييج الخصام يحتاج إلى اقتناء الاتضاع والبعد عن الغضب لأن الكتاب يقول “المنتفخ النفس يهيج الخصام” (أم28: 25) وأيضا “الغضوب يهيج الخصام” (أم29: 22).

كان الرسل صانعى سلام وكانوا دائماً يطلبون السلام للتلاميذ “لتكثر لكم النعمة والسلام” (1بط1: 2،  2بط1: 2). لقد نشروا سلام المسيح على الأرض..

طوبى للمطرودين من أجل البر

فى التطويب الثامن قال السيد المسيح: “طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السماوات” (مت5: 10). وردت كلمة “المطرودين من أجل البر” بمعنى “المضطهدين من أجل البر”. فالطرد هو مظهر من مظاهر الاضطهاد. والمطاردة أيضاً مظهر مشابه من مظاهر الاضطهاد.

المولود أعمى الذى شفاه السيد المسيح طرده اليهود خارج المجمع لأنه دافع عن الذى شفاه وشهد للحق. وقد تعرض للشتم ثم طردوه خارجاً. فوجده يسوع وأعطاه المزيد من النعمة والبركة بأن أعلن له أنه هو ابن الله. فآمن الرجل بالمسيح وسجد له.

لقد كافأه السيد المسيح على ما تعرض له من تحقيقات وتعييرات انتهت بطرده من الجماعة، فمنحه أعظم عطية فى الوجود وهى: معرفة ابن الله الوحيد والإيمان به.. هذا هو الطريق المؤدى إلى الحياة الأبدية.

وعندما قُتل إسطفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء خارج مدينة أورشليم، حدث اضطهاد على الكنيسة فى أورشليم فالذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة. وبدأت الكنيسة تنتشر خارج أورشليم (انظر سفر أعمال الرسل الأصحاح الثامن).

إن احتمال الآلام والاضطهادات من أجل السيد المسيح هو شرف يناله الإنسان. لذلك فإن الآباء الرسل حينما ألقى كهنة اليهود القبض عليهم ووضعوهم فى الحبس العام وفتح لهم ملاك الرب أبواب السجن ليلاً وأخرجهم وقال لهم امضوا وقفوا فى الهيكل وكلموا الشعب بجميع كلمات تلك الحياة. فدخلوا الهيكل نحو الفجر وطفقوا يعلمون، فقبضوا عليهم مرة أخرى وانتهروهم وتشاوروا على قتلهم. ولما ردهم غمالائيل عن ذلك دعوهم “وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنـهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه. وكانوا لا يزالون كل يوم فى الهيكل وفى البيوت معلمين ومبشرين بيسوع المسيح” (أع5: 40-42).

لقد اعتبر الرسل الإهانة والجلد من أجل اسم السيد المسيح هو شرف لا يستحقونه وفرحوا أنهم حسبوا مستحقين لذلك .. هذه هى النظرة المسيحية الأصيلة لاحتمال الاضطهادات من أجل المسيح.

المحبة تختبر بالآلام

إن المحبة تختبر بالألم. فالمحبة الحقيقية هى التى تتألم من أجل من تحب.

السيد المسيح أظهر محبته لنا حينما تألم عنا .. حينما احتمل الجلد عوضاً عن الخطاة. وقال عن ذلك القديس بطرس الرسول: “الذى بجلدته شفيتم” (1بط2: 24).

وليس هناك حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه من أجل أحبائه.. هكذا وضع السيد المسيح نفسه عن خرافه، حسب قوله المبارك : “وأنا أضع نفسى عن الخراف” (يو10: 15).

القديسون يعتبرون الألم فرصة ثمينة تتاح لهم ليعبروا عن محبتهم لفاديهم المسيح وعِرفانهم بفضله وجـميله فى موته بعدما تألم ليخلّصهم من الهلاك الأبدى.

إن الكنيسة تبادل عريسها المسيح محبته وتفرح بأن تتألم من أجله. وتقهر الشيطان بشركتها مع المسيح؛ كقول بولس الرسول: “لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته” (فى3: 10)، وقوله : “من أجلك نُمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح.. يعظم انتصارنا بالذى أحبنا” (رو8: 36، 37). وقيل عن الشهداء “وهم غلبوه ( أى الشيطان ) بدم الخروف وبكلمة شهادتـهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت” (رؤ12: 11).

إن الشيطان يتذكر هزيمته بالصليب حينما يرى المسيحيين وهم يحتملون الآلام فى شركة المحبة الحقيقية مع المصلوب. أولئك الذين آمنوا بقوة الدم الإلهى فى هزيمة الشيطان وتحطيم سلطته، يغلبون الشيطان وهم متحدون بالدم المقدس فى سر الإفخارستيا، ومؤمنون بفاعليته، ويشهدون للمسيح بكلمة الشهادة .. بكلمة الحق .. ببشرى الخلاص بالصليب والقيامة.

إن إيمان الشهداء بالقيامة إيماناً حقيقياً – جعلهم يستخفون بالموت.. وإيمانهم بالحياة الأبدية وما فيها من سعادة لا تقاس بآلام هذا الزمان الحاضر- جعلهم يستعذبون الآلام إعلاناً عن محبتهم للملك المسيح.

كانت دماؤهم هى التى روت بذار الإيمان فى حياة الكثيرين. لأن حبة الحنطة التى وقعت فى الأرض وماتت لا يمكن أن تذهب إلى لا شئ ولكنها تأتى بالثمر الكثير.

لقد انتشرت المسيحية بدماء الشهداء الذين قبلوا الآلام والموت بكل فرح فى محبتهم للسيد المسيح.

لهذا كله قال القديس يعقوب الرسول: “احسبوه كل فرح يا إخوتى حينما تقعون فى تجارب متنوعة. عالمين أن إمتحان إيمانكم ينشئ صبراً” (يع1: 2، 3).

إن امتحان الإيمان هو امتحان لمدى اقتران الإيمان بالمحبة. فالإيمان الذى يخلو من المحبة لا يعتبر إيماناً بل هو ميت.

المحبة تمتحن بالآلام وتظهر فى الصبر.. المحبة التى “تحتمل كل شئ.. وتصبر على كل شئ” (1كو13: 7). وقد حذّر السيد المسيح تلاميذه ليستعدوا للصعاب التى ستواجههم. فقال لهم فى ليلة آلامه: “إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضنى قبلكم.. اذكروا الكلام الذى قلته لكم ليس عبد أعظم من سيده. إن كانوا قد اضطهدونى فسيضطهدونكم، وإن كانوا قد حفظوا كلامى فسيحفظون كلامكم. لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمى لأنهم لا يعرفون الذى أرسلنى” (يو15: 18، 20، 21).

كذلك الآباء الرسل حذّروا المؤمنين من التعجب مما يصيبهم من آلام، مثل قول الرسول بطرس: “أيها الأحباء لا تستغربوا البلوى المحرقة التى بينكم حادثة.. كأنه قد أصابكم أمر غريب. بل كما اشتركتم فى آلام المسيح افرحوا، لكى تفرحوا فى استعلان مجده أيضاً مبتهجين. إن عيرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم” (1بط4: 12-14).

والرسول هنا يشير إلى حقيقتين :

الأولى: إن من يشترك مع المسيح فى الآلام سيتمتع بمجده.

والثانية: إن احتمال الآلام والتعييرات من أجل اسم المسيح يؤدى إلى الامتلاء من الروح القدس “روح المجد والله يحل عليكم”.

 طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم

الأقاويل الكاذبَة

فى التطويب التاسع قال السيد المسيح: “طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلى كاذبين، افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم فى السماوات، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم” (مت5: 11، 12).

قد يفرح الإنسان باحتمال الآلام والطرد من أجل السيد المسيح كما شرحنا. ولكن الأمر الأكثر صعوبة هو أن يفرح بأن تُقال عليه كل كلمة شريرة من أجل السيد المسيح كذباً وافتراءً.

ربما يقلق الإنسان الروحى إذا قيل عليه كلام افتراء خشية أن يسبب ذلك عثرة للآخرين. خاصة إذا كان هذا الإنسان خادماً للمسيح، مطالباً بأن يعتنى بأمور حسنة قدام جميع الناس، وأن يكون هو نفسه قدوة فى الأعمال الصالحة لمنفعة الذين يخدمهم.

هنا تكمن الصعوبة فى أن يفرح بأن تقال عليه أقاويل شريرة قد تسئ إلى سمعته وتشوه صورته، وتهدم ما بناه فى الخدمة من أجل السيد المسيح.

والعجيب هنا أن السيد المسيح هو نفسه الذى يمنح التطويب لمن يتعرض لهذا الحال المثير للحيرة والاضطراب.

ما هى أسباب الفرح

نحتاج هنا إلى مناقشة أسباب الفرح فى مثل هذه الظروف :

أولاً: السيد المسيح قال: “افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم فى السماوات”. من أسباب الفرح أن لهذا

الأمر أجراً عظيماً فى ملكوت السماوات.

ثانياً : اختبار شركة الآلام والأمجاد مع المسيح:

إن السيد المسيح قد احتمل التعييرات على الصليب، ونسبت إليه اتهامات باطلة كثيرة، واختار له اليهود الموت صلباً. “لأن المعلق (على الخشبة) ملعون من الله” (تث21: 23) حسب الشريعة اليهودية. وبهذا يُثبتون عليه أنه ملعون من الله، وبالتالى لا يستحق التقدير كمرسل من الآب إلى العالم كما كان يقول عن نفسه.

احتمل السيد المسيح كل سخرية اليهود، واستهزائهم، وكذلك هزء وسخرية الجند الرومان الذين كانوا يسخرون منه حينما سمعوا أن المؤمنين قد لقبوه “ملك اليهود”.

وقد سبق دواد النبى فتنبأ فى المزمور عن سخرية اليهود من السيد المسيح فقال: “أنا.. عار عند البشر ومحتقر الشعب. كل الذين يروننى يستهزئون بى. يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه. لينقذه لأنه سُرّ به” (مز22: 6-8).

ولكن داود عاد وتنبأ فى نفس المزمور عن قيامة السيد المسيح فقال: “أخبر باسمك إخوتى فى وسط الجماعة أسبحك.. لأن للرب المُلك وهو المتسلط على الأمم” (مز 22: 22، 28).

وقد سجل معلمنا متى الإنجيلى تعييرات اليهود للسيد المسيح فقال: “وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: “يا ناقض الهيكل وبانيه فى ثلاثة أيام، خلّص نفسك. إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلّص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده. لأنه قال أنا ابن الله” (مت27: 39-43).

ولما قام السيد المسيح وصار الرسل يبشرون بقيامته شعر اليهود أن قيامة السيد المسيح قد بددت كل مؤامراتهم. وظهر بر المسيح، لأن الآب أقامه من الأموات، ناقضاً أوجاع الموت. لهذا طلب رؤساء اليهود بإلحاح من الآباء الرسل أن لا يكرزوا بقيامة السيد المسيح وقالوا لهم: “تريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان” (أع5: 28). بمعنى أن القيامة حينما تتأكد حقيقتها فإنها تظهر أن الرب يسوع قد حكم عليه بالموت ظلماً، وأن على اليهود دم برئ سوف يطالبهم الله به.

لذلك قال معلمنا بطرس الرسول: “يسوع الناصرى رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده فى وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدى أثمة صلبتموه وقتلتموه. الذى أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن ممكناً أن يمسك منه” (أع2: 22-24).

إذن فجميع الادعاءات الباطلة التى نطق بها اليهود ضد السيد المسيح، قد أزالتها القيامة المجيدة.

الإيمان بعمل الله وقدرته

إن من يؤمن بعمل الله وقدرته، يمكن أن يفرح إذا قيلت ضده افتراءات ومزاعم كاذبة.. لأن الله قادر أن يرد على هذه الافتراءات.

إن الرب له طريقة عجيبة فى الدفاع عن سُمعة قديسيه ومختاريه.. لذلك لا ينبغى أن يقلق أحد فى وسط أعاصير الاتهامات الباطلة.. لأن الرب سوف يقاتل عنه.. ولن يسمح بأن تصير هناك عثرة إن كان هو بريئاً من هذه الاتهامات.

حتى لو اضطرت الظروف الإنسان أن يصمت.. أو ألا يدافع عن نفسه.. فإن الرب سوف يدافع عنه، ويريه كيف يستطيع أن يتمجد سلاح البر ذات اليمين وذات اليسار.

2- أنتم ملح الأرض

بعد انتهاء التطوبيات قال السيد المسيح لتلاميذه: “أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملّح؟! لا يصلح بعد لشئ إلا لأن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس” (مت5: 13).

الملح هو الذى يعطى للطعام مذاقه.. كما أنه يستخدم فى حفظ الأطعمة من الفساد. وبعض أنواع الأملاح تستخدم لتسميد الأراضى الزراعية.

حينما يقول السيد المسيح: “أنتم ملح الأرض” يقصد أن المسيحى الحقيقى هو الذى يعطى لحياة البشر مذاقتها. فبالرغم من أن كميته تكون قليلة إلا أنه يملح طعاماً كثيراً. هكذا يستطيع تلميذ الرب بقدوته الصالحة أن يؤثر فى حياة الكثيرين ويجتذبهم إلى الحياة مع الله. كما أنه يمنع الفساد الروحى عن كثير من البشر، كقول الكتاب “من رد خاطئاً عن ضلال طريقه، يخلص نفساً من الموت ويستر كثرة من الخطايا” (يع5: 20).

ولعلنا نذكر قصة سدوم وعمورة حينما قال الله لإبراهيم أنه لو وُجد فى المدينة عشرة من الأبرار، لما أهلك من أجل العشرة (انظر تك18: 32).

إن مجرد وجود إنسان قديس فى وسط أناس كثيرين، يمنع بلايا ومصائب كثيرة، ويمنع غضب الله من أن يحل على المكان بسبب شرور بعض الموجودين فيه.

إن وُجد مثل هذا القديس يعطى أملاً أن ينصلح شأن ذلك المكان، وأن يعود الأشرار عن خطاياهم بالتوبة لسبب سيرة هذا القديس التى تهز مشاعرهم وتوبّخ خطاياهم.

ومن خصائص الملح الذى يوضع فى الطعام، أنه يذوب ويتلاشى ويختفى، ولكنه يؤثر تأثيراً قوياً فى هذا الطعام.

هكذا أولاد الله فى هذا العالم؛ يخفون ذواتهم ويبذلون أنفسهم من أجل مجد الله وخلاص الناس. ولكن بالرغم من إخفائهم لذواتهم إلا أن تأثيرهم يكون قوياً.. وبالرغم من بذل أنفسهم إلا أنهم لا يضيعون، بل على العكس كما قال السيد المسيح “من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها” (مت10: 39).

إن الذات هى أكبر معطل لعمل الله فى حياة الإنسان تعطّل خلاص الإنسان وتعطّل عمل الله فيه. بينما يتمجد الله كثيراً من خلال النفس المبذولة، كما تمجد من خلال ذبيحة ابنه الوحيد على الصليب الذى تألم من أجل خلاصنا، وبعدما قام من الأموات قال لتلاميذه: “كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده” (لو24: 26).

الإنسان المسيحى الحقيقى عليه مسئولية كبيرة تجاه خلاص الآخرين والمحافظة عليهم من الفساد الموجود فى العالم. لهذا قال السيد المسيح لتلاميذه: “أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح؟!” (مت5: 13).

فساد الملح

المفروض أن يكون الملح هو الحافظ للطعام من الفساد.

المفروض أن يكون الخدام هم الحافظين للمخدومين من الفساد.

المفروض أن يكون الوعّاظ هم أنفسهم قدوة للآخرين فى أفعالهم قبل أقوالهم.

المفروض فى الكهنة أن يمارسوا حياة التوبة والقداسة، وأن يقودوا غيرهم فى هذا الطريق.

المفروض فى الإنسان المسيحى عموماً أن يكون سبب بركة وخلاص وحفظ للعالم من الشرور والفساد.

فإذا فسد الملح فكيف يحفظ غيره من فساد الخطية؟

إن شجرة ردية لا تقدر أن تصنع أثمارًا طيبة كما قال السيد المسيح: “هل يجتنون من الشوك عنباً، أو من الحسك تيناً؟!” (مت7: 16).

قبل أن نسعى لخلاص الآخرين، علينا أن نعتنى بخلاص أنفسنا. وقبل أن ندعو الآخرين للتوبة، علينا أن نقود أنفسنا فى حياة التوبة، كقول معلمنا بولس الرسول: “أقمع جسدى وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسى مرفوضاً” (1كو9: 27).

يُطرح خارجاً ويُداس من الناس

“إن فسد الملح فبماذا يُملّح؟ لا يصلُح بعد لشئ إلا لأن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس” (مت5: 13).

إنه موقف خطير، وموقف مهين أن يفسد الملح الذى كان المفترض فيه أن يحفظ غيره من الفساد.

الذى يقول للناس لا تكذبوا، أيكذب؟!

والذى يقول للناس لا تسرقوا، أيسرق؟!

والذى يقول للناس عيشوا بالقداسة، أيدنّس هو المقدسات؟!.

إن من يتبع السيد المسيح فكما سلك ذاك، ينبغى أن يسلك هو أيضاً وإلا صار موضع هزء وسخرية وازدراء من الآخرين. لأنه فيما هو يدّعى أنه يخدم المسيح، فإن الاسم الحسن يجدف عليه بسببه. علينا أن نلاحظ أنفسنا باستمرار لكى نكون ملحاً جيداً فى هذه الأرض.

أنتم نور العالم

بعد أن قال السيد المسيح لتلاميذة “أنتم ملح الأرض.. ” أكمل قائلاً: “أنتم نور العالم. لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل. ولا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة، فيضئ لجميع الذين فى البيت. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكى يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذى فى السماوات” (مت5: 14-16).

العالم يحتاج إلى النور. وحينما كان السيد المسيح فى حياته على الأرض قال: “ما دمت فى العالم فأنا نور العالم” (يو9: 5).

ولأن السيد المسيح كان سوف يصعد إلى السماء من حيث أتى، قال لتلاميذه: “أنتم نور العالم” أى أنهم سوف يعكسون نور السيد المسيح بحياتهم المقدسة.

السيد المسيح هو النور الحقيقى كما كُتب فى الإنجيل “كان النور الحقيقى الذى ينير كل إنسان آتياً إلى العالم” (يو1: 9). أى أن الرب يسوع المسيح باعتباره الله الكلمة الظاهر فى الجسد يملك شخصياً هذا النور – إذ هو والآب بنفس الجوهر الإلهى الواحد- لذلك فهو النور الحقيقى.

كما قال قداسة البابا شنودة الثالث – أطال الرب حياته- إن الفرق بين السيد المسيح وبين تلاميذه من حيث أنه هو نور العالم، والتلاميذ هم نور العالم، أن التلاميذ يعكسون نور المسيح. أما المسيح فهو نور فى ذاته ولا يعكس نوراً خارجياً.. لهذا دعى بلقب “النور الحقيقى”. وقيل عن الله أنه نور “الله نور وليس فيه ظلمة” (1يو1: 5). فحينما يُقال عن السيد المسيح أنه هو النور الحقيقى فذلك لأنه هو الله الكلمة وهو الحق. وكتب معلمنا بولس الرسول عن السيد المسيح أنه هو “بهاء مجد الله الآب” (انظرعب1: 3).

كذلك قال القديس يوحنا فى إنجيله عن الرب يسوع المسيح: “رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً” (يو1: 14).

بين النور والظلمة

منذ بداية خلق العالم “فصل الله بين النور والظلمة. ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلاً” (تك1: 4، 5).

قبل خلق النور المادى “كانت الأرض خرِبة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه” (تك1: 2).

“وقال الله: ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة.” (تك1: 3، 4).

باستمرار الله يريد أن يفصل بين النور والظلمة، وبالأكثر فى الأمور الروحية . لهذا قال الرب بفم إشعياء النبى: “ويل للقائلين للشر خيراً، وللخير شراً. الجاعلين الظلام نوراً ، والنور ظلاماً. الجاعلين المر حلواً ، والحلو مراً” (إش5: 20).

وقال معلمنا بولس الرسول: “لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين.. لأنه أية شركة للنور مع الظلمة” (2كو6: 14).

النور يشير إلى معرفة الحق، والظلمة تشير إلى الجهل به.

لهذا قال السيد المسيح: “من يتبعنى فلا يمشى فى الظلمة، بل يكون له نور الحياة” (يو8: 12).

وقيل فى سفر الحكمة “أما الجاهل فيسلك فى الظلام” (جا2: 14).

النور يشير إلى الحياة، والظلمة تشير إلى الموت.

لهذا قيل عن السيد المسيح: “أبطل الموت وأنار الحياة” (2تى1: 10).

النور يشير إلى سلطان الله، والظلمة تشير إلى سلطان إبليس.

مثلما كلّم السيد المسيح شاول الطرسوسى (أى بولس الرسول) عندما ظهر له فى نور من السماء أفضل من لمعان الشمس قائلاً: “قم وقف على رجليك لأنى لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادماً وشاهداً بما رأيت وبما سأظهر لك به. منقذاً إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم. لتفتح عيونهم كى يرجعوا من ظلمات إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله. حتى ينالوا بالإيمان بى غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين” (أع26: 16-18).

النور يشير إلى ملكوت السماوات، والظلمة تشير إلى موضع الهلاك الأبدى.

مثلما قيل عن أورشليم السمائية: “والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها. لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها” (رؤ21: 23). وقيل عن الهلاك الأبدى: “والعبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” (مت25: 30).

النور يشير إلى حياة القداسة، والظلمة تشير إلى حياة الخطية. مثلما قال السيد المسيح: “وهذه هى الدينونه أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور، ولا يأتى إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق، فيُقبل إلى النور لكى تظهر أعماله أنها بالله معمولة” (يو3: 19-21).

النور يشير إلى الفرح والرجاء، والظلمة تشير إلى الخوف والحزن واليأس وقطع الرجاء.. لذلك يقول المرنم: “نور أشرق للصديقين، وفرح للمستقيمى القلوب. افرحوا أيها الصديقون بالرب” (مز96: 11، 12). فالنور والفرح متلازمان. أما عن الأشرار وطريقهم فيقول النبى: “لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعاً، بل فى بيتى وجدت شرهم يقول الرب. لذلك يكون طريقهم لهم كمزالق فى ظلام دامس، فيطردون ويسقطون فيها. لأنى أجلب عليهم شراً سنة عقابهم يقول الرب” (أر23: 11، 12).

لا يمكن إخفاء النور

العالم يحتاج إلى النور. وأولاد الله مطلوب منهم أن يكونوا نوراً للعالم، هذه هى رسالتهم التى طلبها منهم السيد المسيح. والنور يضئ فى الظلمة، كلما زادت الحاجة إلى النور. لذلك فكلما زادت خطايا البشر فى جيل من الأجيال، كلما ازدادت الحاجة إلى قديسين ينيرون فى وسط هذا الجيل. كقول القديس بولس الرسول: “لكى تكونوا بلا لوم وبسطاء، أولادًا لله بلا عيب، فى وسط جيل معوج وملتوٍ، تضيئون بينهم كأنوار فى العالم” (فى2: 15).

إن مصباحاً واحداً يستطيع أن يضئ حجرة بأكملها.. هكذا يستطيع قديس واحد أن ينير مدينة بأكملها

ومهما حاول القديس أن يخفى قداسته، فإنه لا يستطيع كقول المزمور عن عمل الرب أنه “يُخرج مثل النور برك” (مز37: 6).

لهذا قال السيد المسيح: “لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل. ولا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضئ لجميع الذين فى البيت. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس” (مت5: 14-16). إن النور إذا وضع داخل مصباح من الزجاج فإنه لا يحتجب، هكذا مهما حاول القديس إخفاء فضائله فإنها تنكشف بزيادة إذ يشتد نور المسيح فى حياته من خلال فضيلة الاتضاع، وتزداد شفافيته مثل الزجاج الشفاف، لسبب البساطة التى فى المسيح.

ما جئت لأنقض بل لأكمل

بعد أن عدّد السيد المسيح التطويبات الرائعة ودعوته لتلاميذه أن يكونوا ملحاً للأرض ونوراً للعالم، انتقل فى موعظته الخالدة إلى مجال آخر من التعليم: وهو شرح علاقة وصايا العهد الجديد بوصايا العهد القديم، وعلاقة ما كتبه الأنبياء فى العهد القديم بما سوف يُكتب فى الأناجيل المقدسة وباقى أسفار العهد الجديد فقال: “لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل” (مت5: 17).

الله هو هو نفسه الذى أعطى شريعة العهد القديم وشريعة العهد الجديد.. الذى تكلم مع موسى على جبل سيناء هو نفسه الذى تكلم مع التلاميذ فى الموعظة على الجبل.. الله لم يتغيّر على الإطلاق، ولكن حال الإنسان هو الذى تغيّر بمجيء المخلص. كقول إشعياء النبى “الشعب السالك فى الظلمة أبصر نوراً عظيماً” (إش9: 2).

لم يقصد السيد المسيح أن ينقض شريعة العهد القديم، بل احتفظ بكل جوهرها.. لهذا قال بفمه الإلهى: “ما جئت لأنقض بل لأكمّل” (مت5: 17).

ففى وصية “لا تزن” (خر20: 14، تث5: 18) التى قيلت للقدماء، لم يكتف السيد المسيح بعدم الزنى الفعلى بل قال: “كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه” (مت5: 28).

أى أن الإنسان ينبغى أن يتحرر من الخطية من الداخل، وليس من الخارج فقط. لأن السيد المسيح قد جاء ليحرر الإنسان من سبى الخطية، ومن عبودية الشيطان وتأثيراته. وقال للجميع: “إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا” (يو8: 36).

الحرية الكاملة من الخطية داخلياً وخارجياً يلزمها عطية النعمة التى منحها الله لأولاده فى العهد الجديد.

شريعة الكمال

وصايا العهد الجديد هى كمال الوصية، ولذلك تطلق الكنيسة على السيد المسيح {مشرع شريعة الكمال وواضع ناموس الأفضال}.

إن وصية عدم الزنى الفعلى؛ تطوّرت إلى عدم الزنا لا بالفعل ولا بالفكر.

ووصية عدم القتل؛ تطوّرت إلى وصية عدم الغضب وعدم الكراهية فى القلب.

ووصية عدم الحنث بالقسم؛ تطوّرت إلى وصية عدم القسم على الإطلاق.

ووصية محبة القريب وبغض العدو؛ تطوّرت إلى وصية محبة الأعداء، والإحسان إليهم، والصلاة من أجل خلاصهم من الهلاك الأبدى وعبودية الشيطان. واتسع مفهوم القريب إلى كل إنسان فى البشرية، وانحصر مفهوم بغضة العدو فى بغضة الشيطان والشر بصفة عامة.

ووصية من طلق امرأته (لأى سبب) فليعطها كتاب طلاق؛ تطوّرت إلى عدم السماح بالطلاق بين زوجين مسيحيين إلا لعلة الزنا.. ولا زواج للمطلقين لخطئهم.

لقد عاشت البشرية فى ظل شريعة الناموس وهى شريعة الجسد أو شريعة العبودية زمناً طويلاً حتى جاء السيد المسيح وأعطى شريعة البنوة التى هى شريعة الكمال. وإلا فما فائدة تجسد ابن الله الوحيد ومجيئه إلى العالم وصلبه وموته وقيامته وإرساله الروح القدس لتولد الكنيسة فى يوم الخمسين؟!

البعض ينتقدون شريعة العهد القديم. ولكن هذا النقد غير لائق. لأن الإنسان لم يكن يحتمل أن يحيا حسب شريعة الكمال بدون الفداء، والميلاد الفوقانى، ومعونة الروح القدس وعمله فى أسرار الكنيسة السبعة.

الوصية مقدسة؛ ولكن الإنسان لم يكن بإمكانه أن ينفذ أكثر مما ورد فى شريعة موسى قبل إتمام الفداء.

ربما توجد لمحات أو تجليات فى ظروف خاصة أشارت إلى حياة العهد الجديد مثل امتناع داود الملك الممسوح عن قتل شاول الملك المرفوض، الذى كان يطارده بغية قتله؛ لأنه قال: “حاشا لى من قِبل الرب أن أمد يدى إلى مسيح الرب” (1صم26: 11). ولكن داود النبى فى موقف آخر قتل قائداً مخلِصاً من قواده فى الجيش هو “أوريا الحثى” فى محاولة منه لإخفاء خطيته مع بتشبع زوجة أوريا (انظر 2صم 11).

لم يكن من الممكن أن يُطالب الله البشر من أبنائه بحياة الكمال وبوصايا الكمال إلا فى عهد النعمة والمصالحة والخلاص والتجديد.

كيف يطالب الله الإنسان بمحبة الأعداء، قبل أن يمنحه قلباً جديداً نقياً مؤيداً بقوة الروح القدس الذى يمنح الإنسان المتمتع بالخليقة الجديدة ثمرة المحبة. لأن “ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان” (غل5: 22).

إن ثمرة المحبة التى يمنحها الروح القدس للإنسان هى ثمرة فائقة للطبيعة بقدرات فائقة لا يقوى عليها البشر العاديون. ولكن ينالها المؤمنون الذين يقبلون الروح القدس بعد التجديد بحميم الميلاد الجديد.

تجديد الروح القدس

تكلّم معلمنا بولس الرسول عن حالة الإنسان فى العهد الجديد الذى يؤمن إيماناً حقيقياً بالمسيح وينال العماد المقدس بواسطة الكنيسة وينقاد بالروح القدس، متحرراً من الإنسان العتيق الذى ولد به بحسب الجسد من أبويه؛ فقال فى رسالته إلى تلميذه الأسقف تيطس: “ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال فى بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغُسْل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا” (تى3: 4-6).

هذا هو السر فى وصايا العهد الجديد: إن الإنسان بنيله البنوه لله والتجديد بالميلاد الفوقانى، وبثباته فى المسيح بوسائط النعمة، يستطيع أن يسلك فى شريعة الكمال المسيحى. ويتحقق فيه قول السيد المسيح: “كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السماوات هو كامل” (مت5 : 48). وكذلك قول معلمنا بطرس الرسول: “نظير القدوس الذى دعاكم كونوا أنتم أيضا قديسين فى كل سيرة” (1بط1: 15).

إن الرب لم يتغيّر بين العهد القديم والعهد الجديد. ولكن الإنسان هو الذى تغيّر وهكذا كان يلزم أن تأتى الوصية فى كمالها بعد حدوث التغيير لأن “المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح” (يو3: 6). فى العهد القديم كان الناموس والكهنوت اللاوى والذبائح الحيوانية، وفى العهد الجديد جاءت وصايا الكمال والكهنوت المسيحى والذبيحة الكاملة لابن الله الوحيد “فإن الناموس يقيم أناساً بهم ضعف رؤساء كهنة. وأما كلمة القسم التى بعد الناموس فتقيم ابناً مكملاً إلى الأبد”  (عب7: 28).

إله العهدين

البعض يتصورون أن إله العهد القديم يختلف عن إله العهد الجديد. ولكن الله لم يتغيّر، وهذا هو السبب فى الوصول بالإنسان إلى وصايا الكمال التى للعهد الجديد.

الفرق بين شريعة العهد القديم وشريعة العهد الجديد يجعلنا نشعر بقيمة الفداء والتجديد الذى أجراه السيد المسيح بموته المحيى، وبإرساله للروح القدس حسب وعد الآب لخلاص المؤمنين.

لم يكن من الممكن أن يطالب الله الإنسان بأكثر مما طلبه منه فى شريعة العهد القديم مثل وصية “تحب قريبك وتبغض عدوك” (مت5: 43). لأن محبة القريب فى حد ذاتها لم تكن سهلة على الإنسان الذى عاش فى العداوة مع الله ومع نفسه ومع أخيه الإنسان.

هذه العداوة القديمة التى سببتها الخطية قد هدمها السيد المسيح بصليبه المحيى مثل قول الكتاب “ويصالح الاثنين فى جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به” (أف2: 16).

لم يكن الإنسان أيضاً فى العهد القديم يملك سيف الروح الذى قال عنه السيد المسيح “أُعطيكم فماً وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها” (لو21: 15) وقال أيضاً: “لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم” (مت10: 20). ولذلك كان أسلوب الإنسان المتعبد لله فى مقاومته لحروب الوثنيين يختلف فى العهد القديم عنه فى العهد الجديد.

الله لم يتغيّر، ولكن حال الإنسان هو الذى تغيّر بمصالحته مع الله وبتجديده “بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس” (تى3: 5).

الناموس والأنبياء

قال السيد المسيح لتلاميذه بعد الصلب والقيامة: “لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى فى ناموس موسى والأنبياء والمزامير” (لو24: 44)

وبهذا أوضح الرب أهمية أسفار العهد القديم، وأنها موحى بها من الله، وأنها كلام إلهى، كل ما فيه صدق ولابد أن يتحقق.

وعندما ظهر لتلاميذه بعد القيامة “حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب” (لو24: 45).

إن كتب العهد القديم فى شهادتها للسيد المسيح وكل ما يخص رسالته الخلاصية هى من أعظم الأدلة على صدق الديانة المسيحية.. لأن الله قد سبق فأنبأ بفم أنبيائه القديسين عن “الخلاص الذى فتش وبحث عنه أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة التى لأجلكم باحثين أى وقت أو ما الوقت الذى كان يدل عليه روح المسيح الذى فيهم إذ سبق فشهد بالآلام التى للمسيح والأمجاد التى بعدها. الذين أُعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التى أُخبرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشّروكم فى الروح القدس المرسل من السماء” (1بط1: 10-12).

لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة

بعد أن أوضح السيد المسيح أنه لم يأت لينقض الناموس أو الأنبياء، وأنه ما جاء لينقض بل ليكمل. أكد هذه الحقيقة بقوله:

“فإنى الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (مت5: 18).

ورد فى إنجيل القديس يوحنا قوله أن “الناموس بموسى أعطى وأما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” (يو1: 17).

استلم موسى النبى الوصايا العشر المكتوبة بأصبع الله على لوحين من حجارة.

وأعطاه الرب تعاليم أخرى كثيرة تظهر قداسة الله ومقاصده وتدابيره من نحو البشر. وكانت الوصايا والتعاليم المعبّرة عن المقاصد الإلهية هى بإلهام من الروح القدس. وهذا الإلهام هو أمر فائق للطبيعة يتجاوز قدرات الإنسان الطبيعية، ويتجاوز اعتبارات الزمان والمكان “لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بط1: 21).

وكانت الكلمات الموحى بها من الله تحمل فى طياتها مسائل غاية فى الدقة والإتقان. وبالرغم من أن كتبة الأسفار المقدسة قد استخدموا اللغة التى يفهمونها، والمعرفة التى تلقونها.. إلا أن الروح القدس قد أوحى بما سجلوه من كلمات فى اللغات الأصلية للكتب المقدسة لكى تعبر تعبيراً دقيقاً عن مقاصد الله.

لذلك فكل كلمة، وكل حرف، وكل نقطة لها مغزاها ومعناها الكبير. خاصة عند كتابة أسفار بلغة يتغير فيها المعنى بتغيير النقاط التى فوق أو تحت الحروف. وهذا معروف فى اللغة العبرية، كما هو معروف

فى اللغة العربية.

ومن أمثلة أهمية دقة التعبير فى الكتاب المقدس، ما أشار إليه القديس بولس الرسول فى قوله: “وأما المواعيد فقيلت فى إبراهيم وفى نسله. لا يقول وفى الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد. وفى نسلك الذى هو المسيح” (غل3: 16). هنا يشير معلمنا بولس الرسول إلى وعد الله لإبراهيم المدون فى سفر التكوين “ويتبارك فى نسلك جميع أمم الأرض” (تك22: 18). ومن الواضح أن الكلمة كما وردت فى النص الأصلى بصيغة المفرد “نسلك” وليس فى صيغة الجمع “الأنسال”. ويؤكد القديس بولس أن المقصود هو شخص السيد المسيح على وجه التحديد وليس كل نسل إبراهيم.

كذلك فى نبوة إشعياء النبى “ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل” (إش7: 14). وردت الكلمة فى النص العبرى لتعنى “عذراء” وليس مجرد “فتاة” أو “شابة”. والكلمة مقصودة لتشير إلى الحبل البتولى بدون زرع بشر للسيدة العذراء فى السيد المسيح كقول الملاك ليوسف خطيبها: “أن الذى حُبل به فيها هو من الروح القدس” (مت1: 20). وبالرغم من غرابة التعبير فى وقت كتابته فى زمن إشعياء النبى إلا أن الروح القدس قد قصد ذلك بصورة مؤكّدة.

لقد تحققت جميع أقوال الله فى الكتب المقدسة، وكان الناموس ضرورياً للتمهيد لمجيء السيد المسيح كقول القديس بولس: “إذاً قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكى نتبرر بالإيمان” (غل3: 24).

فعلاً لم تتحطم الأقوال التى أعلن بها الله مقاصده فى الناموس ولذلك قال السيد المسيح: “إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (مت5: 18).

أى سوف تتحقق كل أقوال الناموس ولن تزول حتى تتحقق. فعبارة “حتى يكون الكل” تُعنى حتى يتحقق كل ما قيل فى الناموس، وكل ما أشار إليه الناموس من رموز تشير إلى مجيء السيد المسيح وعمله فى خلاص البشرية حتى نهاية الدهر.

لم يكن عبثاً على الإطلاق ما دوّنه موسى فى أسفاره الخمسة وسوف تظل أقوال الله مصدراً للإلهام على مدى الأجيال.

وها نحن نقف فى إنبهار أمام كلمات داود النبى والملك “اكشف عن عينى فأرى عجائب من شريعتك.. طريق وصاياك فهمنى فأناجى بعجائبك.. دربنى فى سبيل وصاياك لأنى به سررت.. أتلذذ بوصاياك التى أحببت. وأرفع يدى إلى وصاياك التى وددت وأناجى بفرائضك.. شريعة فمك خير لى من ألوف ذهب وفضة.. لكل كمال رأيت حداً. أما وصيتك فواسعة جداً” (مز118).

من نقض إحدى هذه الوصايا

بعد أن تكلّم السيد المسيح عن شريعة الكمال المسيحية فى ضوء شريعة العهد القديم التى شهدت للمسيح ومهدت لمجيئه ولشريعته الكاملة قال: “فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا يُدعى أصغر فى ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلّم فهذا يُدعى عظيماً فى ملكوت السماوات. فإنى أقول لكم إنكم إن لم يزِد بركم على الكتبة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت5: 19، 20).

ما هو بر الكتبة والفريسيين؟

يقول معلمنا بولس الرسول عن مثل هؤلاء: “لأنهم إذ كان يجهلون بر الله، ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله لأن غاية الناموس هى المسيح للبر لكل من يؤمن” (رو10: 3، 4).

أى أن الكتبة والفريسيين قد أرادوا أن يثبتوا بر أنفسهم بممارسة بعض الأمور الشكلية فى الناموس ولم يبحثوا عن قصد الله الحقيقى من الوصية كقول بولس الرسول أيضاً: “وأما غاية الوصية فهى المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء، الأمور التى إذ زاغ قوم عنها انحرفوا إلى كلام باطل يريدون أن يكونوا معلمى الناموس وهم لا يفهمون ما يقولون ولا ما يقررونه” (1تى1: 5-7). باسم الناموس صلب الكتبة والفريسيون السيد المسيح لأنهم زاغوا عن الحق ولم يفهموا الوصية.

لذلك وبّخ بطرس الرسول اليهود على قساوة قلوبهم واندفاعهم وراء مشورة المرائين فقال: “ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل ورئيس الحياة قتلتموه الذى أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك” (أع3: 14، 15).

وقد وبّخ السيد المسيح الكتبة والفريسيين المرائين الذى يطيلون الصلوات للتباهى ويعشرون الشبث والنعنع.. وفى نفس الوقت يأكلون بيوت الأرامل وتركوا عنهم أثقل الناموس الرحمة والحق والإيمان (انظر مت23: 23).

كذلك وبَخ القديس بولس الرسول أمثال هؤلاء فقال: “هوذا أنت تسمى يهودياً وتتكل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميز الأمور المتخالفة متعلماً من الناموس، وتثق أنك قائد للعميان ونور للذين فى الظلمة، ومهذّب للأغبياء، ومعلّم للأطفال، ولك صورة العلم والحق فى الناموس. فأنت إذاً الذى تعلّم غيرك ألست تعلّم نفسك. الذى تكرز أن لا يُسرق، أتسرق؟ الذى تقول أن لا يُزنى، أتزنى؟ الذى تستكره الأوثان، أتسرق الهياكل؟ الذى تفتخر بالناموس، أبتعدى الناموس تُهين الله؟ لأن اسم الله يُجدّف عليه بسببكم بين الأمم كما هو مكتوب” (رو2: 17-24).

لهذا قال السيد المسيح لتلاميذه: “إن لم يزِد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت5: 20). أى أنه ينبغى أن يسلكوا الوصية الإلهية بحسب غايتها الحقيقية وهى المحبة لله وللقريب من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء. وحتماً، يكون هذا الإيمان هو فى المسيح الذى أعلن لنا محبة الله وقداسته وصالحنا مع الله أبيه لنسلك فى القداسة والوصية الإلهية بكل حرص وبلا لوم.

عن هذا المعنى قال معلمنا بولس الرسول: “وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس، مشهوداً له من الناموس والأنبياء. بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون” (رو3: 21، 22). لم يفرق الله بين اليهود والأمم فى دعوة الجميع إلى الخلاص بالإيمان والتوبة والمعمودية والثبات فى المسيح.

أما عن قول السيد المسيح : “من نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا” (مت5: 19). فهو يقصد أن الكتبة والفريسيين كما سبق أن شرحنا كانوا ينقضون الوصايا فى الخفاء أو العلن. وفى نفس الوقت يعلمون الناس حفظ الوصية. فمثل هؤلاء يسلكون فى الرياء ويكونون محتقرين وليس لهم موضع فى ملكوت السماوات. “وأما من عمل وعلّم فهذا يدعى عظيماً فى ملكوت السماوات” (مت5: 19).

3- وصايا الكمال لشريعة العهد الجديد

بعد أن تكلّم السيد المسيح عن أهمية الناموس والأنبياء فى التمهيد للعهد الجديد، بحيث يكمل كل شئ ورد فى العهد القديم بالعهد الجديد. وعن أهمية حفظ جميع الوصايا بالفعل والقول. وتخطى بر الكتبة والفريسيين بقبول بر الله فى المسيح يسوع .. بدأ -له المجد- ينطق بوصايا الكمال التى لشريعة العهد الجديد.

جاءت الموعظة على الجبل مثل خطاب العرش، من صاحب كرسى التعليم الأعظم المذخّر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة والعلم.

وجاءت الموعظة على الجبل لتشهد لروعة وسمو صاحب الرسالة وواضع شريعة الكمال. ولا يفوتنا أن نلاحظ قوله المتكرر “وأما أنا فأقول لكم”. لأنه هو صاحب الشريعة ومعطيها.

لا تقتل

قال السيد المسيح: “قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم. ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم” (مت5: 21، 22).

لم يعد القتل فى شريعة الكمال هو القتل المادى المحسوس فقط، بل امتد إلى القتل الأدبى والمعنوى. وكذلك القتل الجزئى. وقد شرح قداسة البابا شنودة الثالث –أطال الرب حياة قداسته- ذلك بالتفصيل حينما تكلم عن وصية لا تقتل فى تفسيره للوصايا العشر. وجاء شرح قداسة البابا بصورة عميقة جداً فى مفهوم الوصايا وأبعادها كقول المرنم: “لكل تمام رأيت منتهى أما وصاياك فواسعة جداً” (مز118: 96).

يقول الكتاب فى العهد الجديد “كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس” (1يو3: 15).

البغضة والكراهية لا تتفق مع نقاوة القلب “والقداسة التى بدونها لن يرى أحد الرب” (عب12: 14).

والبغضة تقود إلى الغضب، أما المحبة فتقود إلى الوئام. لذلك قال السيد المسيح: “من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم”

هناك غضب مقدس لازم وضرورى فى مواجهة الشرور داخل الكنيسة. له وقته ولا ينبغى أن يستخدم لغير ضرورة حقيقية وبالدرجة التى تتناسب مع ذنب المخطئ. لكى يشعر بخطئه إن لم ينفع معه النصح الهادئ.

وهذا النوع من الغضب قد يكون بالتوبيخ الممتزج بالمحبة، أو بالتأديب المباشر أو غير المباشر. وله أساليبه التى تتوشح بالحكمة والوداعة والتصرف الحسن.

ليس عن الغضب المقدس تكلّم السيد المسيح، بل عن الغضب الباطل أى الذى ليس من صاحب سلطان، أو ليس له ما يبرره، وليس بهدف وأسلوب صالح مقدس.

الغضب الباطل بأساليبه المتنوعة، هو نوع من القتل الجزئى أو الأدبى أو المعنوى.

ويزداد الأمر سوءًا إن اقترن هذا الغضب بالتجريح أو الشتيمة. لأن القتل الأدبى والمعنوى فى هذه الحالة يكون أشد تأثيراً فى نفسية المغضوب عليه.

قد يستغل الإنسان سلطته أو قدرته أو سطوته، ويهاجم الآخرين موجهاً إليهم الإهانات. وهو بهذا يكون مستوجباً للحكم أو المجمع أو قد يصل الأمر إلى نار جهنم التى يكون مستحقاً لها إذا قال لأخيه “يا أحمق”.

لم يسمح السيد المسيح بأن يهان الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. وارتفع بقيمة الإنسان جداً. وأوضح أن كل ما هو ضد المحبة فهو ضد الله لأن “الله محبة”، ولذلك فإن مجرد كلمة “رقا” التى تدل على عدم الاحترام ولم ترقَ إلى مستوى الشتيمة فقد نهى عنها السيد المسيح وقال: “من قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع” (مت5: 22).

العلاج من الجذور

جاء السيد المسيح ليعالج الخطية من جذورها. من الداخل. فالقتل هو النتيجة النهائية للغضب والسخط والمشاحنات والكراهية.

لذلك لا يكفى أن يمتنع الإنسان عن القتل المنظور، ولكن ينبغى أن يسلك فى المحبة، ويبتعد عن القتل غير المنظور.

لا يكفى حتى أن يبتعد عن العنف الخارجى، بل ينبغى أن يبتعد عن العنف الداخلى مثل الغيظ المكتوم والحقد والرغبة فى الانتقام أو التشفى.

إن الوصية الأولى والعظمى عند الله هى محبة الله من كل القلب، والوصية الثانية مثلها محبة القريب كالنفس. وقال السيد المسيح بهذا يكمل الناموس والأنبياء.

كانت وصايا اللوح الأول من لوحى الوصايا العشر هى وصايا محبة الله.

وكانت وصايا اللوح الثانى هى وصايا محبة القريب.

المجموعة الأولى عددها أربعة لأنها تشير إلى عرش الله يحمله الأربعة أحياء غير المتجسدين. وتشير إلى الصليب بأذرعه الأربعة باعتباره العرش.

والمجموعة الثانية عددها ستة لأنها تشير إلى كمال العمل، وإلى أن السيد المسيح قد صلب فى اليوم السادس وفى الساعة السادسة ليظهر لنا كيف تكون المحبة.

وحينما نسلك فى محبة الله الذى افتدانا، ونتشبه به ونحب القريب، بهذا تكمل المحبة.

فبإجماع الوصايا الأربع مع الوصايا الست يكمل العدد عشرة، أى نصل إلى الكمال العددى الذى يشير إلى كمال الوصية.

إن قدمت قربانك إلى المذبح

بعد أن تحدّث السيد المسيح عن لزوم البعد عن الغضب الباطل أو إهانة الآخرين، أكمل حديثه الخالد قائلاً: “فإن قدّمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكّرت أن لأخيك شيئاً عليك. فاترك هناك قربانك قدام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك. وحينئذ تعال وقدّم قربانك” (مت5: 23، 24).

قبل أن يصلّى الكاهن القداس الإلهى يبدأ أولاً بصلاة الصلح. ليذكّرنا بأن السلام الكامل والمحبة والقبلة الطاهرة الرسولية هى أساس هام فى تقديم ذبيحة الشكر لله والتمتع ببركات الخلاص.

والكنيسة تدعونا دائما إلى المصالحة. فخدمة الكنيسة هى خدمة المصالحة: المصالحة بين الإنسان والله، والمصالحة بين الإنسان وأخيه الإنسان. لكى تكمُل المحبة حسب الوصية المقدسة.

المحبة هى أساس الفضيلة

كما شرحنا سابقاً فإن محبة الله ومحبة القريب تكملان إحداهما الأخرى وبهذا يكمل الناموس والأنبياء.

وفى حديث السيد المسيح فى الموعظة على الجبل عن القربان المقبول أمام الله، يعود ليؤكّد أهمية أن تتكامل المحبة للقريب مع المحبة لله.

عن هذا تكلّم القديس يوحنا الرسول فقال: “إن قال أحد إنى أحب الله، وأبغض أخاه فهو كاذب. لأن من لا يحب أخاه الذى أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذى لم يبصره؟!” (1يو4: 20).

الله لا يحب العبادة التى يخدع الإنسان فيها نفسه، فيظن أنه يقدّم قرباناً لله، بينما هو يجرح وصية المحبة للقريب. إنها فى نظره عبادة شكلية أو عبادة غير مقبولة. فالله لا يقبل رشوة على حساب ظلم البشر المخلوقين على صورة الله ومثاله. لهذا دعانا السيد المسيح أن نصطلح مع إخوتنا ليصير قرباننا مقبولاً أمام الله.

وقد وبّخ الرب شعب إسرائيل توبيخاً شديداً على فم نبيه إشعياء لأنهم يقدّمون العبادة والقرابين لله بينما هو يرى المظالم والشرور التى يرتكبونها فى حق إخوتهم من البشر. وقد تبدو كلمات الرب كأنها قاسية، ولكنها فى الحقيقة لتوبيخهم لعلهم يرجعون عن شرورهم التى تزعج قلب الله المحب القدوس.

توبيخات الرب لشعب إسرائيل

“لماذا لى كثرة ذبائحكم يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمّنات. وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسر. حينما تأتون لتظهروا أمامى من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دورى؟! لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة. البخور هو مكرهة لى. رأس الشهر والسبت ونداء المحفل” (إش1: 11-13).

وقد أوضح الرب السبب فى أنه لم يسر بذبائحهم ومحرقاتهم. وكيف صار بخورهم مكرهة له وأصوامهم لم يعد يطيقها، وأبغض أعيادهم فقال: “لست أطيق الإثم والاعتكاف. رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسى. صارت علىّ ثقلاً، مللت حملها. فحين تبسطون أيديكم أستر عينى عنكم. وإن كثَّرتم الصلوة لا أسمع. أيديكم ملآنة دماً. اغتسلوا تنقّوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينى. كُفُّوا عن فعل

الشر. تعلّموا فعل الخير” (إش1: 13-17).

وشرح الرب أمثلة من المظالم التى كره تقدماتهم وعبادتهم بسببها داعياً إياهم إلى إصلاح مواقفهم بشأنها فقال: “اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة. هلمَّ نتحاجج يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودى تصير كالصوف. إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمرّدتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلّم” (إش1: 17-20).

ولكن شعب إسرائيل تمادى فى خطاياه حتى أنهم صلبوا البار القدوس الذى تجسّد من العذراء لأجل خلاص العالم. وجّهوا إليه سهام كراهيتهم لأنه وبّخهم على خطاياهم مثلما وبّخهم من قبل على فم إشعياء النبى.

وقد ذكر الرب مرثاة على مدينة أورشليم التى صار القتل فيها شيئاً عادياً، حتى انتهى الأمر إلى صلب السيد المسيح نفسه. فقال بفم إشعياء النبى: “كيف صارت القرية الأمينة زانية؟!! ملآنة حقاً، كان العدل يبيت فيها. وأما الآن فالقاتلون” (إش1: 21).

حقاً قال معلمنا بولس الرسول: “وأما غاية الوصية فهى المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء” (1تى1: 5).

العبادة المقبولة

قال الرب عن الصوم كجزء من العبادة: “أليس هذا صوماً أختاره: حَلّ قيود الشر. فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحرارًا وقطع كل نير. أليس أن تُكسر للجائع خبزك، وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك. حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك.. حينئذ تدعو فيُجيب الرب. تستغيث فيقول هأنذا” (إش 58: 6-9).

الصوم يصير مقبولاً حينما يقترن بأعمال الرحمة والمحبة والتوبة. وهكذا أيضاً كل ذبيحة وتقدمة وقربان يصير مقبولاً حينما تراعى وصية المحبة.

كن مراضياً لخصمك

بعدما أكدّ السيد المسيح أهمية الالتزام بوصية المحبة ليكون القربان مقبولاً أمام الله، قال: “كن مراضياً لخصمك سريعاً ما دمت معه فى الطريق. لئلا يسلمك الخصم إلى القاضى، ويسلمك القاضى إلى الشرطى فتلقى فى السجن. الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفى الفلس الأخير” (مت5: 25، 26).

من الممكن أن تفسرّ عبارة “كن مراضياً لخصمك” على أساس أن الإنسان يجب أن يذهب ويصطلح مع أخيه إن تذكر أن لأخيه شيئاً عليه، لأن قربانه وعلاقته مع الله بصفة عامة لا يمكن أن تكون مقبولة إلا إذا أصلح ما أخطأ به أولاً مثلما فعل زكا الذى كان رئيساً للعشارين، وحينما دخل السيد المسيح بيته وقلبه وحياته، وقف وقال: “ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحدٍ أرد أربعة أضعاف” (لو19: 8). وهنا قال السيد المسيح: “اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم” (لو19: 9). أى أن علاقة زكا بالسيد المسيح قد ارتبطت بإصلاحه لما أخطأ به فى حق الآخرين ورد ما لهم عنده فى صورة أربعة أضعاف ما ظلمهم فيه من قبل.

ولكن يمكننا أن نفسّر عبارة “كن مراضياً لخصمك” بصورة أوسع من مفهوم أن الخصم هو الأخ الذى نخطئ فى حقه، إلى مفهوم أن الخصم هو ضمير الإنسان المنقاد بروح الله أى الضمير الذى يقوم الروح القدس بتوجيهه فى الاتجاه السليم.

فالضمير يختصم الإنسان حينما يخطئ، ويشعر أن قلبه يضربه، وأفكاره تخاصمه، بمعنى أن ضميره يوبخه حينما يخطئ بأية صورة: سواء فى حق الله أو فى حق القريب.

عن هذا المعنى قال القديس يوحنا الرسول فى رسالته الأولى: “يا أولادى لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق. وبهذا نعرف أننا من الحق ونسكّن قلوبنا قدامه. لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شئ” (1يو3: 18، 19).

فالقديس يوحنا يقصد أننا إن لم ننفذ وصايا المحبة مثل الرحمة بإخوة الرب المحتاجين أو أى جانب من جوانب المحبة لله والقريب فإن قلوبنا سوف تلومنا. ولا نستطيع أن نشعر بسلام قلبى أمام الله. وحينما تلومنا قلوبنا أى ضمائرنا فإن الله يعلم ذلك وهو الفاحص القلوب والكلى ولا يختفى عنه شئ. وسوف يحاسب الله الإنسان عن كل عناد مع ضميره أو مع صوت الروح القدس فى داخله إن كان ضميره ليس قادراً أن يشعر وأن يفهم الحق أو الصواب.

وقد أوضح القديس بولس هذه الحقيقة بقوله: “الذين يظهرون عمل الناموس مكتوباً فى قلوبهم شاهداً أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة. فى اليوم الذى فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلى بيسوع المسيح” (رو2: 15، 16).

والإنسان حينما لا يلومه قلبه -إذ يسلك بإرشاد الروح القدس- تصير له دالة أمام الله. فيستجيب الله لطلباته وتُقبل قرابينه. كقول المرنم: “لتستقم صلاتى كالبخور قدامك. ليكن رفع يدى كذبيحة مسائية” (مز140: 2).

وقد أكد القديس يوحنا الرسول أهمية أن يشعر الإنسان بسلام قلبه إزاء تصرفاته فى ضوء مشورة الروح القدس الذى ينقى قلبه وضميره من الشوائب والتأثيرات الخارجية. وفى هذه الحالة تصير صلاته مقبولة أمام الله فقال: “أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه لأننا

نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه. وهذه هى وصيته أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح ونحب بعضنا بعضاً كما أعطانا وصية. ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذى أعطانا” (1يو3: 21-24).

إن الروح القدس يقودنا إلى الإيمان بالمسيح بقبول محبة الله المعلنة فى الصليب وإلى محبة القريب. أى إلى حفظ وصايا محبة الله ومحبة القريب التى بها يكمل الناموس والأنبياء.

ما بين الروح القدس والضمير

الضمير بالطبع ليس هو الروح القدس. بل كما شرح قداسة البابا شنودة الثالث- أطال الرب حياته- فإن الضمير هو المحكمة التى تحاكم الإنسان وتحاسبه على تصرفاته. وهو جزء من طبيعة الإنسان..  وضعه الله فى الإنسان ليراجع الإنسان ويحاسبه كما ذكرنا..

ولكن الضمير كمحكمة يستلم قواعد أو قوانين يسلك بمقتضاها. فإذا استلم قوانين غير سليمة، فإن أحكامه فى ضوء هذه القواعد والقوانين لا تكون سليمة بناءً على ذلك. ولهذا فإن الضمير من الممكن أن يخطئ فى أحكامه، كما أنه يتأثر بالعوامل التربوية والتأثيرات الخارجية.

أما الروح القدس فإنه يرشد إلى جميع الحق (انظر يو16: 13). والروح القدس لا يمكن أن يخطئ. وهو يمكنه أن يصحح للضمير ما استلمه من قواعد بعيدة عن الحق الإلهى. لهذا قال السيد المسيح لشاول الطرسوسى قبل أن يصير بولس الرسول: “شاول شاول لماذا تضطهدنى.. صعب عليك أن ترفس مناخس” (أع9: 4، 5).

كان شاول الطرسوسى يضطهد الكنيسة بجهل. ولهذا تدخل الله ليصحح له ولضميره ما كان يعتقد أنه صواب وهو خطأ وهو اضطهاد تلاميذ الرب يسوع المسيح. وقد استجاب بولس لنداء السيد المسيح ولم يرفس مناخس ضميره الذى استنار بالنعمة الإلهية.

من الجانب الآخر نرى بيلاطس البنطى وهو يحاكم السيد المسيح إذ لم يجد فيه علة واحدة للموت وعلم أن رؤساء اليهود قد أسلموه حسداً.. وأثناء المحاكمة أرسلت إليه امرأته تقول: “إياك وذلك البار لأنى تألمت اليوم كثيراً فى حلم من أجله” (مت27: 19). جاء إليه الإنذار أن يقتل البار وهو حاكم بإطلاقه، ولكنه خالف ضميره بعد الإنذار وحكم عليه بالموت صلباً إرضاءً لليهود، وخوفاً على منصبه ولن يجديه على الإطلاق أن أحضر ماءً وغسل يديه أمام الجميع قائلاً: “إنى برئ من دم هذا البار” (مت27: 25). كانت خطية اليهود أعظم من بيلاطس. ولكن بيلاطس لم يتبرر بغسل يديه لأنه لم يحكم بالحق والصواب. وإذ رفض الحق الأصغر لم يحدثه السيد المسيح عن الحق الأعظم حينما تساءل قائلاً: “ما هو الحق” (يو18: 38). كان الحق ماثلاً أمامه فى شخص السيد المسيح ولكنه لم يتمكن من قبوله لأن قلبه كان مائلاً بعيداً عن الحق. لهذا قال السيد المسيح “كل من هو من الحق يسمع صوتى” (يو18: 37).

القاضى والشرطى والسجن

القاضى هو الله ديان الجميع، والشرطى هو أحد الملائكة أجناد العلى، والسجن هو موضع الدينونة للأشرار.

وطالما أن الإنسان لم يصطلح مع الله قبل الدينونة بالتوبة فلن يستطيع أن يوفى الدين الذى عليه. وسيقع فى دينونة أبدية كما قال السيد المسيح عن الذين عن اليسار “اذهبوا عنى يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.. فيمضى هؤلاء  إلى عذاب أبدى، والأبرار إلى حياة أبدية” (مت25: 41، 46).

إن دم المسيح هو الذى يفى ديون الإنسان الروحية. وبدون التوبة والاغتسال بدم المسيح فإنه لن يوفى الفلس الأخير، بل يقع فى دينونة أبدية، كقول السيد المسيح: “إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لو13: 3).

قيل للقدماء لا تزن، وأما أنا أقول لكم…

أوضح السيد المسيح أنه جاء ليصل بالوصية إلى كمالها فقال: “قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن، وأما أنا أقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه” (مت5: 27، 28).

التحرر من الخطية

عالج السيد المسيح الخطية من جذورها. لأن خطية الزنا لا تبدأ بممارسة فعل الزنا، بل تبدأ بنظرة الاشتهاء أو بقبول أى حاسة من حواس الإنسان لما يثير الشهوة مثل حاسة اللمس أو الشم أو السمع.. وهكذا.

لذلك قال القديس يعقوب الرسول: “كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتاً” (يع1: 14، 15).

فالمرحلة الأولى هى انجذاب الإنسان نحو الشهوة، والمرحلة الثانية هى استقرار الشهوة ونموها فى فكر وقلب الإنسان، والمرحلة الثالثة هى ممارسة الخطية بالفعل بكل ما يمكن أن ينتج عنها من نتائج مدمرة قد يصعب إصلاحها.

اعتبر السيد المسيح أن قبول الشهوة الجنسية فى داخل القلب هو نوع من أنواع الزنا وكسر للوصية..

فالإنسان لكى يصل إلى حياة القداسة، لا يكفيه أن يمتنع عن فعل الخطية، بل ينبغى أن يكره الخطية من عمق قلبه لسبب محبته القوية لله، وشدة التصاقه به.

وقال السيد المسيح: “سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً” (مت6: 22، 23). الحواس هى الأبواب التى تدخل منها الشهوات إلى القلب. لذلك حذّر السيد المسيح من عدم الاحتراس فى حفظ الحواس طاهرة ونقية. كما أن القلب من الداخل ينبغى أن يقاوم كل تأثير قادم من خارج الحواس، مما قد يؤثر فى كيان الإنسان إن تجاوب مع هذا التأثير.

خطورة خطية الزنا

حذّر الكتاب المقدس من خطية الزنا فى مواضع كثيرة موضحاً أنها تدخل إلى الكيان الجسدى للإنسان وتدمّره.

فقال معلمنا بولس الرسول: “اهربوا من الزنا.كل خطية يفعلها الإنسان هى خارجة عن الجسد، لكن الذى يزنى يخطئ إلى جسده. أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذى فيكم الذى لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم” (1كو6: 18، 19).

والقديس بولس بهذا يضع كل الخطايا فى جانب، وخطية الزنا فى جانب آخر باعتبار أن الخطايا الأخرى التى يفعلها الإنسان هى خارجة عن الجسد. أما الذى يزنى يخطئ إلى جسده، ويهين الأعضاء التى تقدست بدم المسيح وصارت ملكاً له. ولهذا قال: “ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء المسيح. أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية. حاشا. أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد. لأنه يقول يكون الاثنان جسداً واحداً. وأما من التصق بالرب فهو روح واحد”(1كو6: 15-17).

ولعل كلام معلمنا بولس الرسول يوضح الفرق بين الزنا فى الفكر والزنا بالفعل. فلا ينبغى أن يقول شاب أننى طالما نظرت بشهوة نحو امرأة فيمكننى أن أفعل الشر معها لأن الخطية واحدة فى كلتا الحالتين!!.. ولكن ليس الأمر هكذا.

الشهوة فى القلب نحو امرأة هى خطية زنا كما قال السيد المسيح. أما الذى يمارس الفعل فيقع فى متاعب كثيرة وقد يصعب عليه الخروج منها. فخطية الفعل لها نتائجها الخطيرة داخل كيان الإنسان. وتحتاج إلى جهادات كثيرة للتخلص من آثارها. كذلك قد تنتج عنها أمور أخرى تؤثر على سمعة الإنسان وأوضاعه الاجتماعية. مثل الطلاق بالنسبة للمتزوجين واحتمالات الإنجاب لغير المتزوجين.. وهكذا. هذا إلى جوار ما يمكن أن يصيب جسد الإنسان من أمراض فتاكة أو قاتلة.. فيالها من خطية مدمِّرة لحياة الإنسان.

ومقاومة هذه الخطية يحتاج إلى سهر واتضاع وانسحاق قلب. فالكتاب يقول عن هذه الخطية المريعة أنها “طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء. طرق الهاوية بيتها، هابطة إلى خدور الموت” (أم7: 26، 27).

لهذا يحذّر قداسة البابا شنودة الثالث كل إنسان لكى يتضع فى قلبه ويحترس من هذه الخطية بأن يردد فى قلبه هذه العبارة قائلاً لنفسه [ أنا لست أقوى من شمشون، ولا أطهر من داود، ولا أحكم من سليمان ] فكل هؤلاء أسقطتهم خطية الزنا أو أغوتهم الشهوة نحو النساء بالرغم من قوة شمشون وطهارة داود وحكمة سليمان.

وقد ورد فى سفر الأمثال تحذيرات قوية من خطية الزنا نورد منها ما يلى:

“يا ابنى اصغ إلى حكمتى. أمل أذنك إلى فهمى. لحفظ التدابير ولتحفظ شفتاك معرفة. لأن شفتى المرأة الأجنبية تقطران عسلاً وحنكها أنعم من الزيت. لكن عاقبتها مُرة كالأسفنتين. حادة كسيف ذى حدين. قدماها تنحدران إلى الموت، خطواتها تتمسك بالهاوية. لئلا تتأمل طريق الحياة. تمايلت خطواتها ولا تشعر” (أم5: 1-6).

“رأيت بين الجهال لاحظت بين البنين غلاماً عديم الفهم. عابراً فى الشارع عند زاويتها وصاعداً فى طريق بيتها.. وإذا بامرأة استقبلته فى زى زانية وخبيثة القلب.. فأمسكته وقبلته. أوقحت وجهها وقالت له.. بالديباج فرشت سريرى.. عطرت فراشى بمر وعود وقرفة. هلم نرتو وداً إلى الصباح، نتلذذ بالحب.. أغوته بكثرة فنونها بملث شفتيها طوحته. ذهب وراءها لوقته كثور يذهب إلى الذبح أو كالغبى إلى قيد القصاص. حتى يشق سهم كبده. كطير يسرع إلى الفخ ولا يدرى أنه لنفسه” (أم7: 7-23).

الهروب من الخطية

كما هرب يوسف الصديق من امرأة سيده فوطيفار. هكذا قال معلمنا بولس الرسول: “اهربوا من الزنا” (1كو6: 18). وقال لتلميذه تيموثاوس: “أما الشهوات الشبابية فاهرب منها” (2تى2: 22).

هذه الخطية أفضل وسيلة لمحاربتها هو الهروب منها بدءًا من إغلاق جفون العين بسرعة عن أى منظر يقود إلى الشهوة. مع صلاة القلب السرية {يا ربى يسوع المسيح خلّصنى} التى يرددها الإنسان فيجد النجاة..

سمو وصايا العهد الجديد

ليست القداسة فقط هى فى الامتناع عن ممارسة الشر بصورة يراها الناس أو يلمسونها.. بل هى الامتناع عن اشتهاء الشر أو التفكير فيه. بمعنى أن النقاوة الحقيقية تنبع من قلب الإنسان وتنعكس على أفعاله المنظورة.

كما أن القداسة تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد الامتناع عن ممارسة الخطية بالفعل أو بالفكر.. لأن القداسة تستدعى كراهية الخطية بالانطلاق إلى الجانب الإيجابى فى التمتع بمحبة البر، أى بمحبة الله التى تطرد من القلب محبة الخطية.

فالإنسان سيعيش فى صراع مستمر مع رغبة الخطية وجاذبيتها، طالما هو لم يمتلئ من محبة الله التى تطهر القلب، وتصل به إلى النقاوة الحقيقية فى كره الخطية والتحرر من سلطانها، والتمتع بحرية الحياة الحقيقية  فى المسيح.

وبما أن الإنسان قد امتلأ قلبه من محبة الله، فإنه يستطيع أن يضبط الجسد بمؤازرة النعمة، وأن يحتقر الشهوات الدنسة، وأن يضحى فى سبيل ذلك بكل ما يتعارض مع الحياة الطاهرة النقية.

اقلعها وألقها عنك

بعد أن نبّه السيد المسيح إلى أهمية طهارة العين وبعدها عن الاشتهاء الذى يدنس القلب وكل كيان الإنسان، بدأ يضع فاصلاً بين النور والظلمة فقال: “فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله فى جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله فى جهنم” (مت5: 29، 30) .

كلام السيد المسيح يدل على أنه لا تساهل مع الخطية.. فالذى يحب الله لا يتساهل مع الخطأ مهما كانت التضحيات المطلوبة.

هناك من الشهداء من فضّلوا الموت على أن يفقدوا عفتهم، ومن القديسين والقديسات من فقدوا أعضاءً من جسدهم ليحفظوا طهارته.

إحدى القديسات كانت جميلة العينين جداً، فولع أحد الشباب بمحبتها وصار يحوم حولها. فسألته: ما الذى أولع قلبك هكذا؟ فقال لها: عيناك سحرتانى. وكانت جالسة تعمل بمغزل. فأخذته لتوها وأخرجت إحدى عينيها وطرحتها أمام ذلك الشاب المفتون بجمالها وقالت له: هذه عيناى التى سحرتك فخذها إن كنت تريد. فأصيب الشاب بصدمة عارمة وصار يبكى نادماً مانعاً إياها من أن تقلع عينها الأخرى بسببه. وخرج منه شيطان الزنا ولم يعد يفكر فى هذه القديسة بالشر مرة أخرى.. هذه القديسة تعطينا مثلاً عن قوة تنفيذ الوصية وتأثيرها على قهر حروب الشياطين.

إن كان الإنسان يجد عثرة فى إحدى المجلات الخليعة فبدلاً من أن يقلع عينه أليس من الأفضل أن يمزق هذه المجلة ويلقيها عنه؟!

إن كان الشاب يجد عثرة فى صداقته مع زميل أو زميلة فى الدراسة، فبدلاً من أن يقلع عينه أو يقطع يده أليس من الأفضل أن يقطع علاقته بهذا الزميل أو هذه الزميلة؟!

إن كان الإنس ان يجد عثرة فى ذهابه إلى أحد الأماكن. فبدلاً من أن يقطع رجله ويلقيها عنه، أليس من الأفضل أن يقطع رجله عن الذهاب إلى هذا المكان المعثر.. أى أن يمنع نفسه قطعياً من الذهاب إلى هناك!

إن الوصية تتطلب من الإنسان حزماً فى تطبيقها لأن الرسول بولس يقول: “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية” (عب12: 4). فبما أن الإنسان مطالب بالجهاد حتى الدم ليحفظ طهارته، أليس الأجدر به أن يمتنع عن كل ما يمكن أن يعثره بدلاً من تقطيع الأعضاء منعاً للعثرات.

إن الوصية فى قوتها وحزمها تعلن أنه لا حلول وسط بين النور والظلمة، وأنه لا توجد شركة للبر مع الإثم.. وأن القداسة هى الاختيار الوحيد لطريق الملكوت. فلا يتعلل الإنسان بعلل فى الخطايا مع الناس فاعلى الإثم، بل يسلك فى طريق الاستقامة ناظراً إلى رئيس الإيمان ومكمله. لأنه ليس أحد وهو يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله.

لا تفاوض ولا مهادنة مع الخطية، بل الموقف حازم وشجاع، مع تضحيات تستخف بالجسد ورغباته، وبالعالم الحاضر وضغوطه وتأثيراته. وأمامنا قصة يوسف الصديق الذى أحكمت الخطية حلقاتها حوله من كل جانب، وكان الجو مهيأ والظروف ضاغطة من قِبل امرأة سيده فوطيفار. ولكنه ترك لها ثوبه الذى أمسكت به، وهرب بكل إصرار قائلاً: “كيف أصنع هذه الشر العظيم وأخطئ إلى الله” (تك39: 9).

كتاب الطلاق

بعد الحديث عن العفة فى نظرة الرجل نحو المرأة، والبعد عن الشهوة التى تدنس الحواس، بدأ السيد المسيح يتكلم عن شريعة الزواج فى المسيحية “وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزنى، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزنى” (مت5: 31، 32).

يبدو أن شريعة العهد القديم قد أوصت الرجل أن يمنح زوجته كتاب طلاق إذا أراد أن يطلقها، لكى يثبت بدليل قاطع أنه قد طلقها، وأصبح من حقها أن تتزوج بغيره بعد مدة مناسبة.

وذلك لئلا يعود فيدعى أنه لم يطلقها ويتهمها بالزنى مع رجلها الجديد ويضعها تحت حكم الشريعة الموسوية التى تعاقب بالقتل من كانت متزوجة وأخطأت بالزنى مع رجل آخر.

كذلك فإن كتاب الطلاق كان يمنع حدوث مشاكل بشأن نسب الأطفال الذين يولدون منها عندما يصعب إثبات موعد انفصال زوجته عنه. ولكن كتاب الطلاق يحدد التاريخ.

ومن جهة أخرى فإن الكتابة تستغرق جهداً ووقتاً أكثر من الكلام، كما يحتاج إلى شهود يوقعون عليه. وكل ذلك يعطى للزوج فرصة لمراجعة نفسه قبل أن يدخل الطلاق فى حيز التنفيذ.

كان من حق الرجل أن يعيد امرأته بعد تطليقها بعقد زواج جديد طالما أنها لم تتزوج برجل آخر. وقد منعت الشريعة الموسوية بحزم أن يستعيد الرجل زوجته إذا تزوجت برجل آخر ثم طلقها هذا الزوج الجديد أو مات، وقال الرب فى ذلك: “إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة فى عينيه لأنه وجد فيها عيب شئ وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته. ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر. فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها، وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذى اتخذها له زوجة. لا يقدر زوجها الأول الذى طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست. لأن ذلك رجس لدى الرب. فلا تجلب خطية على الأرض التى يعطيك الرب إلهك نصيباً” (تث24: 1-4).

كان قصد الرب فى ذلك أنه لا يجوز أن يعطى الرجل زوجته لرجل آخر عن طريق تطليقها، ثم يعود ويأخذها مرة أخرى لتصير له زوجة. إما أن يحفظ زوجته لنفسه قبل أن يطلقها أو قبل أن يأخذها رجل آخر لنفسه، وإما أن يفقدها إلى الأبد كزوجة، لأنه لم يكن أميناً عليها فى حفظها من الارتباط بأزواج آخرين ولم تعد تحل له.

الرب فى علاقته بالبشر قيل عنه: “إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لن يقدر أن ينكر نفسه” (2تى2: 13). إنه “يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تى2: 4). وقال: “من يقبل إلىّ لا أُخرجه خارجاً” (يو6: 37)  و”الذين أعطيتنى حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب” (يو17: 12). أى أن الرب لا يفرط فى شعبه طالما أن شعبه متمسك به.

من أجل قساوة قلوبكم

سألوا السيد المسيح “لماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلق”؟! (مت19: 7). فأجابهم قائلاً: “إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم. ولكن من البدء لم يكن هكذا. وأقول لكم إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزنى. والذى يتزوج بمطلقة يزنى” (مت19: 8، 9).

حينما شرح السيد المسيح سبب منع الطلاق إلا لعلة الزنى فى شريعة العهد الجديد تكلم عن قصد الله فى تكوين الأسرة فى بداية الخليقة. وقال عن الطلاق الذى سمح به موسى “من البدء لم يكن هكذا” بل شرح باستفاضة أكثر حينما سأله الفريسيون: “هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذى خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى؟ وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً. إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذى جمعه الله لا يفرقه إنسان” (مت19: 3-6).

لقد تزايدت القساوة فى قلب الإنسان حتى أن الرب سمح للرجل أن يطلق امرأته خوفاً عليها من شدة قسوة الرجل الذى ربما يصل به الأمر أن يقتلها إذا كرهها كراهية شديدة.. أو ربما تقتل هى نفسها تخلصاً من قساوة رجلها.. أو قد تتعرض للغواية من رجل آخر يمنحها الحب والحنان فى مقابل القسوة التى يعاملها بها زوجها.

كل ذلك فى إطار الحياة تحت الناموس الموسوى فى العهد القديم. وبدون النعمة الفائقة التى ينالها المؤمنون بالمسيح فى العهد الجديد، والتى تجعل الإنسان قادراً على التحمل حتى إلى الاستشهاد من أجل محبته للفادى الذى اشتراه بدمه ومنحه سلطاناً لحياة البنوة، ومعونة من الروح القدس الساكن فيه.

سمات العهد القديم

بدأت العداوة فى العهد القديم بين الإنسان وأخيه الإنسان بمجرد السقوط فى الخطية – حين فسدت الطبيعة البشرية فى آدم وحواء.

نرى الله يبحث عن الإنسان -والإنسان يهرب خائفاً من وجه الرب الذى أحبه- والسبب فى ذلك هو العداوة التى نشأت بين الإنسان الذى سقط والله القدوس الرافض للشر والخطية..

“وسمعا صوت الرب الإله ماشياً فى الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله فى وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟. فقال: سمعت صوتك فى الجنة فخشيت لأنى عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التى أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التى جعلتها معى هى أعطتنى من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذى فعلتِ؟ فقالت المرأة: الحية غرّتنى فأكلت” (تك3: 8-13).

هنا نرى بداية التباعد بين الرجل وزوجته.. إنه يضع اللوم عليها محاولاً أن يتهرب من مسئوليته كزوج وكقائد للأسرة.

أين المحبة الزوجية التى تبذل وتعطى؟. أين صورة المسيح -آدم الجديد- الذى حمل خطايا الكنيسة ودفع ثمنها واضعاً نفسه عنها؟ “أنا أضع نفسى عن الخراف” (يو10: 15).

من هنا نرى التباين بين الصورة فى الحياة العائلية بين آدم الأول وآدم الثانى. وتزايدت العدواة بين الإنسان وأخيه الإنسان وقام قايين على أخيه البار هابيل وقتله، ولماذا قتله؟ لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه كانت بارة.

وحتى مع عدم وجود القتل الواضح. وُجدت الكراهية أو وُجدت الأنانية ومحبة الذات فى حياة البشر. وانتشرت المنازعات والخصومات والمظالم. ودخلت هذه الأمور داخل البيوت. فلم يعد هناك سلاماً دائماً بين الإنسان وأخيه الإنسان. لم يكن من الممكن أن يلزم الله الناس بشريعة العهد الجديد ويطالبهم بمحبة الأعداء وبالتنازل عن الحق الشخصى إرضاءً للغير وكسباً لمحبتهم.. وهى الوصايا التى تميز بها العهد الجديد عن العهد القديم.

وهو يسود عليك

قال الرب لحواء بعد أن أغوت رجلها للأكل من الشجرة: “إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك” (تك3: 16).

اتسم العهد القديم بسيادة الرجل على المرأة بصورة جعلت المساواة بينهما ضرباً من الخيال. فهو الذى يخطب المرأة وهو الذى يطلّقها. ويمكن أن يتزوج بنساء أخريات عليها. أى لا تكون هى وحدها زوجة. كان ذلك كله رمزاً وإشارة لحالة البشرية التى سقطت تحت حكم الدينونة لسبب الخطية، وأصبحت تحت القصاص، وتحت لعنة الناموس.

وحينما كانت الأمة اليهودية تتزايد فى خطاياها، كان الرب يقول للشعب: “حاكموا أمكم” (هو2: 2)، “أين كتاب طلاق أمكم التى طلقتها” (إش50: 1).

لم يكن العهد القديم عهداً ثابتاً، لأن العهد كان يُنقض باستمرار من جانب البشر. لذلك قال الله على فم نبيه أرميا: “ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً. ليس كالعهد الذى قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذى أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب. أجعل شريعتى فى داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً” (أر31: 31-33).

كانت طبيعة العهد القديم هى عهد يحدث فيه طلاق بين الرجل والمرأة، كما بين الله والجماعة. ولكن العهد الجديد قال عنه الرب: “عهداً جديداً؛ ليس كالعهد الذى قطعته مع آبائهم.. حين نقضوا عهدى فرفضتهم”. هذا العهد الجديد هو عهد لا يُنقض.

سمات العهد الجديد

فى العهد الجديد أظهر الله حبه للبشرية بالفداء العجيب الذى صنعه بذبيحة الابن الوحيد على الصليب. وزالت العداوة القديمة التى سببتها الخطية. صارت الكنيسة عروساً للمسيح وقد اشتراها بدمه الغالى الثمين.

لم تعد علاقة الشعب بالله علاقة العبيد بسيدهم، بل علاقة الأبناء بأبيهم السماوى. وزالت العداوة بين الله والإنسان وبين الإنسان وأخيه الإنسان. وملك الرب بمحبته على قلوب الذين آمنوا بخلاصه ومحبته.

ولهذا صارت صورة المسيح والكنيسة هى المثال الذى تُبنى عليه الأسرة المسيحية. وقال معلمنا بولس الرسول: “أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب. لأن الرجل هو رأس المرأة، كما أن المسيح أيضاً رأس الكنيسة وهو مخلص الجسد، ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن فى كل شئ. أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها. لكى يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة.. كذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم.. من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً. هذا السر عظيم، ولكننى أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة، وأما أنتم الأفراد فليحب كل واحد امرأته هكذا كنفسه، وأما المرأة فلتهَب رجلها” (أف5: 22-33).

أصبح الرجل مطالباً بأن يحب زوجته على مثال محبة المسيح للكنيسة، والزوجة تخضع لرجلها مثل خضوع الكنيسة للمسيح.

لم تعد هناك قساوة ولا محبة الذات. بل بمعونة الروح القدس الذى يعمل فى المؤمنين ويعمل أيضاً فى سر الزيجة الكنسى المقدس، أصبح من الممكن أن يضحى الزوج بنفسه من أجل محبته لزوجته على مثال السيد المسيح.. ويضحى براحته.. ويضحى برغباته الشخصية.. ويضحى بمصالحه الذاتية.. كل ذلك حباً فى زوجته وسعياً لإرضائها وإسعادها ولكن ليس على حساب المبادئ المسيحية والوصايا الإلهية.

أما خضوع المرأة لرجلها فليس لأنه يرغب فى إذلالها، بل لأن الله يقود الأسرة من خلاله. مثل قيادة الكنيسة مثلاً بواسطة الأب الأسقف فى إيبارشيته. أو قيادة حياة الإنسان الروحية بواسطة أب اعترافه. إنها قيادة بتكليف من الله من أجل خير الأسرة وسلامتها وليس لإرضاء نوازع الزوج فى حب السيادة والسيطرة.

ونظراً لأن العهد الجديد هو عهد أبدى بين الله والكنيسة. هكذا صار الزواج المسيحى الكنسى عهداً لا ينفصم مدى الحياة: “فالذى جمعه الله لا يفرقه إنسان” (مت19: 6، مر10: 9).

صار من حق المرأة أن تُكرَّم من الرجل وأن تتمتع بكامل حقوقها. ولم يعد من حق الرجل أن يطلقها إلا فى حالة الخيانة الزوجية. وللمرأة نفس الحق فى أن تطلق رجلها لنفس السبب. وصار من حق المرأة أن يكون لها رجلها الخاص، فليس للرجل أن يتخذ أكثر من زوجة بدليل قول السيد المسيح: “من طلق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوج بأخرى يزنى” (مت19: 9).

فزنى الرجل هنا سببه أنه تزوج بغير امرأته التى مازالت مرتبطة به طالما لم تخونه مع آخر (انظر كتاب شريعة الزوجة الواحدة فى المسيحية لصاحب القداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياته).

 لا تحلفو البتة

انتقل السيد المسيح من شريعة عدم الطلاق إلا لعلة الزنى فى العهد الجديد إلى شريعة عدم القسم فى العهد الجديد فقال: “أيضاً سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تحنث، بل أوف للرب أقسامك.وأما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة لا بالسماء لأنها كرسى الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأروشليم لأنها مدينة الملك العظيم. ولا تحلف برأسك، لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء، بل ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير” (مت5: 33-37).

شرح السيد المسيح سبب منع القسم فى شريعة العهد الجديد. وهو أن الذى يقسم بشئ ينبغى أن يملك ما يقسم به. مثل أن يقسم إنسان قائلاً: [وحياة عينى] أى أنه يضع عينيه بقسم فى مقابل تنفيذ ما قد وعد به أو تأكيد صحة ما يحكيه. وتكون النتيجة أنه لو أراد تنفيذ القسم عليه أن يقلع عينيه إذا لم يفِ بوعده أو إذا ظهر كذبه فيما حكاه.

لا أحد يملك عينيه كقول الرسول: “إنكم لستم لأنفسكم، لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله” (1كو6: 19، 20). لقد اشترانا السيد المسيح بدمه وصارت أجسادنا وأرواحنا ملكاً له، كمفتداه بثمن كريم.. ليس من حق الإنسان أن يقسم برأسه ولا بعينيه ولا بشعرة واحدة من رأسه، ولا أن يقسم برحمة والده أو والدته التى لا يملكها، ولا بالسماء التى هى كرسى الله ولا بالأرض التى هى موطئ قدميه.

الله وحده هو الذى يملك ذاته بالكامل، يملك جوهره ويملك طبيعته، ويملك وجوده إذ لم يوجده أحد مثل المخلوقات التى خلقها الله وقيل عنها “للرب الأرض وملؤها، المسكونة وجميع الساكنين فيها” (مز23: 1).

لهذا فعندما أوشك إبراهيم على تقديم ابنه إسحق ذبيحة خاطبه الرب وقال: “بذاتى أقسمت يقول الرب.. إنى أباركك مباركةً وأكثر نسلك تكثيراً” (تك22: 16، 17).

عن هذه الواقعة الهائلة قال معلمنا بولس الرسول إن الرب “إذ لم يكن له أعظم يقسم به أقسم بنفسه” (عب6: 13). أعظم شئ فى الوجود هو الله نفسه -لذلك أقسم الرب بنفسه أن يبارك إبراهيم هو ونسله لكى يتأكد الوعد بالخلاص بقسم. وبالفعل أوفى الرب وعده وبذل الرب يسوع المسيح نفسه عن الخراف كقوله المبارك  “أنا أضع نفسى عن الخراف” (يو10: 15). وقوله أيضاً: “ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت20: 28). حتى الناسوت الذى أخذه السيد المسيح من السيدة العذراء بفعل الروح القدس جاعلاً إياه واحداً مع لاهوته، هو ملك للسيد المسيح كقول القديس كيرلس الكبير عن الله الكلمة أنه:

أخذ طبيعتنا جاعلاً إياها خاصة به

“He took our nature and made it His Own”

كان من حق السيد الرب يسوع المسيح أن يبذل نفسه فدية عن كثيرين وقال عن نفسه أن له سلطان عليها وقال: “لأنى أضع نفسى لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى، بل أضعها أنا من ذاتى. لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبِلتها من أبى” (يو10: 17، 18).

لقد سمح الرب بالقسم فى العهد القديم لشعبه ليقسموا باسمه هو وليس باسم الآلهة الأخرى الوثنية. وأوصاهم أن لا ينطقوا باسم الرب إلههم باطلاً. وأن لا يحنثوا فى أقسامهم بل يوفوا للرب الأقسام.

وكم من أقسام لم يتمكن الإنسان من الوفاء بها ونتج عنها مشاكل كبيرة فى علاقته مع الله وفى علاقته مع الناس. وكم من أقسام تسرع أصحابها فى القسم بها وندموا عليها ووقعوا فى ورطة مثلما أقسم شاول الملك أن يقتل الجندى فى جيشه الذى يذوق شيئاً من الطعام قبل المساء حتى يكون قد انتصر على أعدائه. ولم يسمع ابنه يوناثان بهذا القسم وكان الجنود فى إعياء شديد. واستطاع يوناثان أن يصنع خلاصاً عظيماً فى ذلك اليوم بمعونة من الرب، وبعدما ارتشف كمية من العسل الأبيض البرى. وأراد شاول أن يقتل يوناثان ابنه فافتداه الشعب وطلبوا أن تُقدم ذبائح للرب لأن يوناثان ابنه لم يكن يعلم بقسم والده. وقَبِل الرب الذبيحة ونجا يوناثان من الموت.

إن القسم يضع الإنسان فى تورط شديد ولا حاجة إليه على الإطلاق. وحتى القانون المصرى فى المادة 128 من قانون المرافعات يسمح للإنسان أن يعتذر فى المحكمة عن أداء القسم حسبما تكون شريعة دينه. يمكنه فقط أن يعطى وعداً للقاضى أن يقول الحق. وبهذا ينفذ قول السيد المسيح: “لا تحلفوا البتة”.

لا تقاوموا الشر

بعد أن منع السيد المسيح القَسَم (الحلف) فى العهد الجديد إذ كانت الوصية فى القديم “لا تحنث بل أوف للرب أقسامك”.. قال لتلاميذه: “سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً. من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين” (مت5: 38-41).

أراد السيد المسيح أن يمنع تلاميذه من استخدام العنف. فالذى يزرع الشر والعنف هو إبليس. وكان منهج السيد المسيح أن يقاوم العنف بالمحبة والوداعة. أى أنه انتصر على أعدائه بالوداعة وليس بالعنف.

عن تصرف السيد المسيح شخصياً قال معلمنا بطرس الرسول: “إن المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكى تتبعوا خطواته. الذى لم يفعل خطية ولا وُجد فى فمه مكر. الذى إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلّم لمن يقضى بعدل. الذى حمل هو نفسه خطايانا فى جسده على الخشبة لكى نموت عن الخطايا فنحيا للبر. الذى بجلدته شفيتم” (1بط2: 21-24).

ليس من الصواب أن نقول أن السيد المسيح كان ينبغى أن يحتمل الآلام والظلم لأنه هو المخلّص ونحن ليس علينا أن نتمثل به. بل بالعكس قال القديس بطرس الرسول: “تاركاً لنا مثالاً لكى تتبعوا خطواته”. فإلى جوار أن السيد المسيح قد حمل هو نفسه خطايانا فى جسده على الخشبة لكى يوفى دين الخطية ويقودنا إلى التوبة والموت عن الخطايا فى المعمودية، فإنه من الجانب الآخر يعطينا مثالاً فى كيفية احتمال الظلم والعنف الواقع علينا من الآخرين.

وقال بطرس الرسول: “لأنه أى مجد هو إن كنتم تُلطمون مخطئين فتصبرون. بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله. لأنكم لهذا دعيتم” (1بط2: 20، 21).

وقال أيضاً: “لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزاناً متألماً بالظلم” (2بط2: 19).

وفى تسليم أمر الإنسان لله، فإن الله لا ينسى له احتماله وصبره كما قيل عن السيد المسيح “كان يسلّم

لمن يقضى بعدل” (1بط2: 23). ومعنى ذلك أن الله الآب قد قَبِل ذبيحة الخلاص التى أكملها ابنه الوحيد الذى تجسد، إلى جوار أنه قد أظهر عدله فى القضاء حينما أقامه من الأموات ناقضاً أوجاع الموت. فإن كان المسيح -له المجد- قد مات من أجل خطايا آخرين -البار من أجل الأثمة – إلا أنه أقيم فى مجد عظيم من أجل بره الشخصى ومن أجل طاعته الكاملة لله أبيه. وكنائب عن البشرية أرضى قلب الآب السماوى بطاعته الفريدة.

كانت القيامة هى أبلغ رد على الظلم الذى وقع على السيد المسيح. هذه القيامة أربكت أعداءه وبددت مؤامراتهم وفضحت افتراءاتهم عليه. “لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (فى2: 9-11).

حينما يطالبنا السيد المسيح أن لا نقاوم الشر فليس معنى ذلك أن الشر هو الذى ينتصر فى النهاية، بل لابد أن ينتصر الخير مهما بدا للشر أنه قد انتصر. ولكن المسألة هى أن لا يجرفنا تيار الشر إلى العنف المتبادل فنقع فى العنف ونفقد المحبة نحو الآخرين. لهذا قال الكتاب: “لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير، فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه” (رو12: 21، 20).

 حول له الآخر أيضاً

يقف كثير من الناس متحيرين أو مبهورين أمام هذه الوصية “من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً” (مت5: 39)!! إنها إحدى وصايا الكمال التى علّم بها السيد المسيح.

أحد الرهبان القديسين طلبه رجل ليشترى منه زنابيل وعندما قرع الراهب الباب فتحت له ابنة الرجل وكان بها روح نجس والراهب لا يعلم. وعندما أبصرته لطمته على خده، فحول الخد الآخر وللوقت صرعها الروح النجس وخرج منها وهو يولول صارخاً: [آه هزمتنى باتضاعك وتنفيذ وصية إلهك].. لقد خرج  الروح النجس من الفتاة دون أن يعلم الراهب أن بها روحاً نجساً، ودون أن يصلى عليها لإخراج الشيطان..!!

هذه هى قوة الوصية الخالدة.. وهكذا هزم السيد المسيح الشيطان حينما أراد أن يعبر بطبيعتنا البشرية من الموت إلى الحياة.

تحويل الخد الآخر ليس هو نوع من الضعف أو الخنوع، ولكنه هو دواء الكراهية والعنف. هو قوة الاحتمال وهو روعة الوصية التى تألقت معانيها على الصليب حينما صلى السيد المسيح من أجل صالبيه.

تحويل الخد الآخر فى القلب من الداخل أهم من تحويله فى المظهر الخارجى أى أن الغفران القلبى هو الخد الآخر الخفى الذى ينبغى أن يسبق الخد الآخر الظاهر لئلا نحول الخد الآخر وقلبنا يمتلئ بالغضب أو عدم الغفران..!!

أيتها الوصية الخالدة ما أروع معانيك؟! ليتنا نسبر أغوارك..!

أحبوا أعدائكم

قال السيد المسيح فى تعاليمه الإلهية: “سمعتم أنه قيل (للقدماء) تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطرودكم” (مت5: 43، 44).

لم يكن من الممكن إعطاء هذه الوصية فى العهد القديم. لأن الإنسان المولود حسب الجسد لا يمكنه أن يسلك بحسب الروح بأسلوب يفوق طاقة الطبيعة البشرية التى ورثها عن أبيه آدم بعد السقوط.

محبة العدو هى مسألة فائقة للطبيعة البشرية التى سقطت ولم يعد بإمكانها أن تأكل من شجرة الحياة التى فى وسط فردوس الله. شجرة الحياة هى شجرة الحب.. الحب الفائق الممنوح من الله ليحيا به الإنسان فى شركة المحبة مع الله كلى المحبة.

لهذا وضع القديس يوحنا الرسول محبة الإخوة كعلامة للولادة والانتقال من الموت إلى الحياة بالولادة من الله فقال: “نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة” (1يو3: 14). قال بولس الرسول: “لأن محبة الله قد انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5: 5).

كذلك قال عن ثمار الروح القدس فى حياة الإنسان المولود من الله: “أما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام..” (غل5: 22).

تحب قريبك

أقصى شئ كان من الممكن أن يطالَب به الإنسان فى العهد القديم هو محبة القريب وليس العدو.

ومع هذا لم يتمكن الكثيرون من تطبيق وصية محبة القريب، وحدثت خصومات ومنازعات بين كثيرين من الإخوة والأقرباء فى العهد القديم. بل كثرت المظالم بين الأقرباء حتى كان الرب يوبخ شعبه كثيراً على انتشار الظلم بينهم. (انظر إش1).

من هو القريب عند السيد المسيح ؟

وحينما جاء السيد المسيح أعطانا شريعة الكمال التى تتناسب مع الطبيعة الجديدة التى ينالها الإنسان بولادته من الله فى المعمودية بعد الإيمان بالمسيح كقول الكتاب “أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله -أى المؤمنون باسمه- الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا مشيئة رجل بل من الله” (يو1: 12، 13).

فى مَثل السامرى أوضح السيد المسيح أن القريب هو كل إنسان مهما كانت هويته. وأن المحبة مطلوبة للجميع. وأن صنع الخير هو للجميع.

وفى الموعظة على الجبل أوضح السيد المسيح أن المحبة ينبغى أن تقدّم ليس للقريب فقط، بل وللعدو أيضاً.

ليس أن نحب محبة نظرية للعدو، بل محبة عملية. إذ قال: “أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطرودكم” (مت5: 44).

وهنا نرى فى تعليم السيد المسيح أن محبة العدو لا تتوقف عند احتمال إساءاته وعدم الإساءة إليه بالمثل، بل تتخطى ذلك كثيراً:

1- باركوا لاعنيكم: فى مقابل اللعنة ينبغى أن نبارك من يلعننا. وبهذا نقهر الشيطان الذى يريد أن ينشر اللعنة. أما أولاد الله فينشرون البركة والحب.

2- أحسنوا إلى مبغضيكم: فى مقابل البغضة والإساءة ينبغى أن نقدم عمل المحبة والإحسان، نمنح مبغضينا الطعام إن جاعوا، والشراب إن عطشوا، والدواء إن مرضوا، والعلاج إن تعرضت حياتهم للخطر فى المستشفيات مثلاً.. نقدّم أيضاً لهم النصائح لفائدتهم إذا احتاجوا إلى نصيحة وسنحت الفرصة لنصحهم.. وهكذا.

3- وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطرودكم: الأعداء يحتاجون إلى صلوات القديسين لعل الله ينير قلوبهم بمعرفة الحق. إن المحبة هى الدواء الذى يشفى من تملأ الكراهية قلبه. والصلاة بدافع الحب لها قوة عظيمة فى طرد شياطين الكراهية من قلوب المبغضين.

كثير من القساة لانت قلوبهم حينما علموا بصلوات القديسين الذين تعذبوا منهم. مثل والى أنصنا الذى آمن وصار راهباً حينما علم بصلوات القديس أسقف أنصنا من أجله بعد انقضاء زمان الاضطهاد. مع أن هذا الأسقف قد نالته شدائد كثيرة على يد هذا الوالى. كذلك أريانوس والى أنصنا السابق له، آمن بالمسيح وصار شهيداً لسبب محبة أحد الشهداء له أثناء تعذيبه حينما أصاب نشاب عين الوالى وأبرأها له هذا القديس. ونالا كلاهما إكليل الشهادة فيما بعد.

هذه هى روعة وصية السيد المسيح التى تحوّل العدو إلى صديق محب. فبالرغم من صعوبتها البادية لأول وهلة، إلا أنها مملوءة بالفرح والنصرة.

وهذا يذكرنا بالنصيحة التى يرددها قداسة البابا شنودة الثالث-أطال الله حياته- عن قول القديس يوحنا ذهبى الفم: [إن أفضل طريقة يتخلص بها الإنسان من عدوه، هو أن يحول هذا العدو إلى صديق].

ويعجبنى أيضاً قول الشاعر المستوحى من وصية السيد المسيح بمحبة الأعداء:

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً      تُلقى بحجر فتُعطى أطيب الثمر

ترك الرداء

قال السيد المسيح: “من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين” (مت5: 40، 41).

تكلمنا عن الخد الآخر، وكيف ينبغى أن تقترن إدارة الخد الآخر لمن يلطمنا بالغفران القلبى الداخلى.. بل أن الخد الآخر فى الداخل أهم من التظاهر بإدارة الخد الآخر مع وجود حقد وغيظ داخلى.

هكذا أيضاً، فإن قول السيد المسيح إن من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فأعطه الرداء أيضاً، معناه أن يتسامح الإنسان مع من اغتصب حقوقه.. فلا ينبغى أن يحقد عليه، أو ينتقم منه. أن يوجد لديه الاستعداد الداخلى للتخلى والترك والبعد عن العنف والعداوة. إن من يترك الثوب راضياً، يمكنه أن يترك الرداء أيضاً.

فالإيمان بالحياة الأبدية والجزاء الأخروى يجعل من السهل على الإنسان أن يتنازل عن حقوقه ومكاسبه وممتلكاته الأرضية، عن طيب خاطر من أجل السيد المسيح. فالأمور الأرضية وقتية وزائلة، أما الأمور الأبدية فلن تزول كقول الرسول: “غير ناظرين إلى الأشياء التى تُرى، بل إلى التى لا ترى. لأن التى تُرى وقتية وأما التى لا تُرى فأبدية” (2كو4: 18).

كذلك فإن الإيمان يغمر الإنسان بفيض من الإحساس بعناية الرب به، وأنه سيعوض أضعافاً عن كل ما يتخلى عنه تنفيذاً لوصية المسيح. أليس الرب نفسه هو الذى قال: “ليس أحد ترك.. لأجلى.. إلا ويأخذ مئه ضعف الآن فى هذا الزمان.. وفى الدهر الآتى الحياة الأبدية” (مر10: 29، 30، انظر (مت19: 29، لو18: 30).

تعويض المئة ضعف الذى تكلّم الرب عنه لا يوجد صك مادى لضمانه.. ولكن الإيمان بصدق وعود السيد المسيح هو أقوى صك يستند إليه المؤمن فى اتكاله على الرب وعلى عنايته.

غير المؤمن فى نظره الدينار الذى فى حوزته هو المضمون، أما المؤمن ففى نظره أن المئة دينار التى وعد بها الرب هى المضمونة.. فالمشكلة الحقيقية هى أن الإنسان أحياناً يجد صعوبة فى الثقة بأمور لا تُحس ولا تُرى.

لهذا قيل فى تعريف الإيمان “أما الإيمان، فهو الثقة بما يُرجى، والإيقان بأمور لا تُرى” (عب11: 1).

إن تنفيذ الوصية هو فرصة لمعايشة عمل الله الإعجازى بقوة الإيمان. أما الذى يهرب من تنفيذ الوصية فإنه يخسر هذا الاختبار الفائق العظيم الذى يختبره أهل الإيمان. لهذا قال الله: “أما البار فبالإيمان يحيا وإن ارتد لا تسر به نفسى” (عب10: 38). كذلك قال الرسول: “يجب أن الذى يأتى إلى الله يؤمن بأنه موجود وأنه يجازى الذين يطلبونه” (عب11: 6).

 الميل الثانى

عادة يشعر الناس بالاستياء إذا حاول أحد تسخيرهم فى خدمة أو عمل ما. ولكن السيد المسيح ينصح تلاميذه بأن يفرحوا بخدمة الآخرين بغير مقابل.. وهذا هو مغزى السخرة. أى أن يفعل الإنسان شيئاً، ولا ينال أجراً ممن سخره.

إن الإنسان الذى ينتظر المكافأة من الله، لا يعنيه فى شئ مكافأة الناس له. بل يعتبرها فرصة ثمينة أن يتعب من أجل راحة الآخرين، دون أن ينتظر منهم المقابل.. كقول الرسول: “لا بخدمة العين كمن يرضى الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب” (أف6: 6).

ولسبب الفرح الملازم للخدمة المجانية، فإن تلاميذ الرب مستعدون للتسخير فى الميل الثانى، ناظرين إلى الأجر الصالح السماوى. إنهم يدخرون لأنفسهم أجراً سمائياً غير ناظرين إلى الأرضيات بل إلى السماويات.

إن خدمة الميل الثانى هى برهان التحرر من محبة الذات.. وهى برهان الفرح بالخدمة دون مقابل، بل هى فرصة العطاء فى الخدمة، والمعطى المسرور يحبه الرب.

الميل الأول يكون بناء على طلب الآخرين.. أما الميل الثانى فهو بمبادرة اختيارية تجعل لخدمة الميل الثانى قيمة ومعنى حقيقياً.

الميل الثانى لا يكون فى الخدمة فقط، بل فى فضيلة الاحتمال بصفة عامة. والسيد المسيح يدعونا إلى طول الأناة والصبر فى التعامل مع الآخرين. لهذا قال بطرس الرسول: “قدموا فى إيمانكم فضيلة، وفى الفضيلة معرفة، وفى المعرفة تعففاً، وفى التعفف صبراً، وفى الصبر تقوى، وفى التقوى مودة أخوية، وفى المودة الأخوية محبة” (2بط1: 5-7) .

الفضيلة هى ما يفضل أو يزيد.. أى هى الميل الثانى فى كل معاملات الإنسان مع الله ومع الناس. وقد أوضح معلمنا بطرس ارتباط الفضيلة بالصبر والمحبة.. المحبة التى تحتمل كل شئ، وتصبر على كل شئ، وترجو كل شئ.

الميل الثانى فى العلاقة مع الله هو عدم الاكتفاء بتقديم العشور فقط، لأن الإنسان بكامله هو لله.

والميل الثانى فى العلاقة مع الله هو عدم الاكتفاء بالامتناع عن الخطية فقط، بل الحرص على محبة البر وممارسة الفضيلة.

الميل الثانى فى العلاقة مع الله هو عدم الاكتفاء باهتمام الإنسان بخلاص نفسه فقط، بل الإهتمام بخلاص الآخرين، على الأقل عن طريق الصلاة من أجلهم بحرارة.

من سألك فأعطه

قال السيد المسيح فى تعليمه: “من سألك فأعطه ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده” (مت5: 42) .

حينما سقط الإنسان بدأ التحول فى إحساسه بقيمة الوجود مع الله وحياة الشركة معه، إلى الرغبة فى امتلاك الأمور العالمية المنظورة. كان الإنسان فى الفردوس لا يشعر بالرغبة فى الامتلاك لأن الرب كان هو نصيبه وفى عطاياه الكفاية والشبع.

لم يشعر أنه سوف يحتاج، وبالتالى لم يفكر فى اكتناز الأموال أو المقتنيات بل كانت الحياة تسرى بصورتها الطبيعية.. فكل شئ فى الطبيعة المحيطة به خاضع له، وفى خدمته. وكان يشعر بالاكتفاء، وكوكيل على الخليقة المنظورة كان يعمل فى الجنة ليحافظ على جمال الطبيعة ورونقها.

لم يكن هناك صراع بين الإنسان وأخيه الإنسان، لا على المال ولا على الأرض ولا على خيراتها.. ففى الأرض متسع للجميع، والخير هو للجميع كل حسب احتياجه.. هكذا كان ينبغى أن يعيش الإنسان فى ظل حب الله ورعايته.

وقد أراد السيد المسيح أن يعالج هذه الحالة المأساوية فى حياة الإنسان، بتجريده من حب الاقتناء إلى الإتجاه بالحب نحو الآخرين، والرغبة فى سد احتياجهم.

جاء كلمة الله متجسداً لكى يحرر الإنسان من محبة العالم ولكى يرفع بصيرته نحو السمائيات ولكى يعيد الإنسان إلى الصورة التى خلق عليها .

ولهذا قال: “من سألك فأعطه”.. لأن ما يملكه الإنسان على الأرض هو ملك للرب، وهو وسيلة لتنمية علاقات الحب بين البشر.

الله يسمح أحياناً للبعض بالاحتياج، ويسمح للبعض الآخر بالغنى وهنا تكمن القوة الدافعة لممارسة الحب بالعطاء.

الله قادر أن يغنى الفقراء من عنده مباشرة. ولكنه يريد أن يرى تصرف الأغنياء كوكلاء على نعمة الله المتنوعة.

هناك إنسان غنى فى الأموال، وإنسان آخر غنى فى الإيمان، وآخر غنى فى المواهب.. وكل إنسان عليه أن يعطى مما أنعم به الرب عليه من العطايا والمواهب المتنوعة.

الكل يشكلون معاً جسداً واحداً فى المسيح.. وفى الجسد الواحد يتكامل الأعضاء معاً.

إن الفم هو الذى يمنح الطعام لباقى أعضاء الجسد. ولكن باقى الأعضاء ضرورية للفم لاستمرار حياته وقدرته على أداء واجبه. لو احتفظ الفم بالطعام داخله فلن يصل الغذاء إلى الدم وإلى القلب وإلى الأعصاب والعضلات والمخ وبالتالى فلن يمكن للفم أن يعمل ولا أن يعيش.

لهذا قال الرب فى سفر الأمثال: “محتكر الحنطة يلعنه الشعب” (أم 11: 26). وقال أيضاً: “النفس السخية تسمن والمُروى هو أيضاً يُروى” (أم11: 25).

كلما أعطى الإنسان، كلما إزداد الخير بين يديه. وكلما أعطى بسرور كلما زادت غبطة الرب به لأن “المعطى المسرور يحبه الله” (2كو9: 7).

إن إحساس البنوة لله يجعل الإنسان يتصرف كابن فى بيت أبيه.. يتصرف بالخير نحو إخوته، عالماً أن أبيه سوف يغبطه إن أحسن معاملة إخوته واعتنى بهم.

إن حالة التشرذم والتمزق بين البشر التى أنشأتها الخطية؛ قد جاء السيد المسيح ليزيلها ويعالجها بحيث يكون الجميع واحد، تربطهم مشاعر المحبة الصادقة على مثال المحبة بين أقانيم الثالوث القدوس.

عبارة “من سألك فأعطه” لا تعنى أن يعطى الإنسان لغير المحتاج الذى يحاول استغلال هذه الوصية بطريقة خاطئة، بل ينبغى أن يكون العطاء بحكمة ولمن هو محتاج بالحقيقة. ومن الممكن مساعدة من لا نعرف حقيقة أمره مساعدة مؤقتة إلى أن يتم فحص احتياجه بالكامل.

كذلك فإن عبارة “من سألك فأعطه” لا تعنى أن يعطى الإنسان لغيره ما يؤذى به نفسه. مثل من يأخذ نقوداً ليتعاطى مواد مُسكِرة أو مواد مخدرة أو يسلك فى طريق الخلاعة أو ما يشبه ذلك. فى هذه الحالة العطاء يكون على صورة نصيحة للإنسان الراغب فى الانحراف ليتراجع عن شره، أو مجهودات لعلاجه من الإدمان أو السلوك فى طريق الشر أو الخطية.

 من أراد أن يقترض منك فلا ترده

الإنسان حينما يطلب قرضاً من المال فإنه يكون فى أزمة مالية عارضة. ربما هو ليس فقيراً بالمعنى المطلق للكلمة. ولكنه يحتاج إلى مساعدة مؤقتة حتى يعبر من مأزق يتعرض له. مثل صاحب محل مهدد بالإفلاس إن لم يسدد بعض الضرائب الطارئة عليه، أو مثل إنسان أراد أن يزوج ابنته فى موعد قريب، وليس معه ما يكفى فى الوقت الحاضر ولكن يمكنه تقسيط المبلغ أو تجميعه فى فسحة من الوقت. أو مثل من لديه مشروع تجارى ويحتاج إلى رأس مال لتشغيل المشروع كأن يوجد لديه محل فارغ من البضاعة ويحتاج إلى بضائع تملأ المحل ويبدأ فى الحصول على دخل يسدد به القرض الذى أخذه.

كثير من الناس لا يقبلون المساعدة على هيئة صدقة، بل يرغبون فى الاقتراض على أن يسددوا فيما بعد. لا ينبغى جرح كرامتهم برفض إقراضهم ما يحتاجون إليه إن كان ضرورياً لحياتهم.

تنطبق هذه القاعدة أحياناً على بعض الأشخاص الذين يحتاجون إلى علاج طبى مكلف فوق طاقتهم الحاضرة ولكنهم على استعداد لسداد ما يقترضونه لهذا السبب.

لهذا أوصى السيد المسيح بعدم رد من أراد أن يقترض ممن هو قادر على الإقراض.

قد يذهب القرض ولا يعود لوفاة المقترض المريض، أو لفشل فى مشروع بطريقة خارجة عن إرادته. فى هذه الحالة فالرب يعوض من أقرضه لأن من يقرض المحتاج يُقرض الرب، ولا داعى للخوف فى مثل هذه الحالات لأن الرب صادق فى مواعيده أن من يترك لأجله ولأجل الإنجيل فسوف يعوضه الرب مئة ضعف فى هذا الزمان، وفى الدهر الآتى الحياة الأبدية.

 أبناء أبيكم الذى فى السماوات

بعد أن تكلم السيد المسيح عن محبة الأعداء والإحسان إلى المبغضين والصلاة من أجل المسيئين قال: “لكى تكونوا أبناء أبيكم الذى فى السماوات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأى أجر لكم، أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأى فضل تصنعون أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا. فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السماوات هو كامل” (مت5: 45-48).

يقول معلمنا يوحنا الرسول : “انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله”(1يو3: 1).

إنه شرف عظيم إذ ارتضى الله أن ندعى أولاداً له:

أولاً: لأننا كنا ساقطين فى الخطية وفى قبضة الموت والهلاك الأبدى، وقد افتدانا بنعمته.

وثانياً: لأننا نحن خليقة الله، والبنوة هنا ليست بالجوهر والطبيعة، بل بالتبنى. فما أعظم الفارق بين الخالق والمخلوق .. ولولا أن الله فى خيريته وصلاحه قد أعطانا نعمة الوجود، لما كنا موجودين على الإطلاق.

هذه البنوة التى أنعم الله بها علينا هى تعبير عن محبته الفائقة الوصف والمعرفة. ومن واجبنا أن نقدّرها حق قدرها.

هذه البنوة الفائقة التى لا يمكن وصفها تستدعى من جانبنا سلوكاً يتناسب مع كرامتها لئلا نحسب غير مستحقين لها لسبب تقصيرنا وإهمالنا وعدم مبالاتنا.

العبارة التى نطق بها السيد المسيح هى دعوة لنا لننتبه إلى قيمة البنوة لله “لكى تكونوا أبناء أبيكم الذى فى السماوات” (مت5: 16).

وقد سبق أن كرر السيد المسيح هذا المعنى فى موعظته على الجبل حينما قال: “فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكى يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذى فى السماوات” (مت5: 16).

وقد عبر القديس بولس الرسول عن هذه الحقائق فى أنشودة جميلة فى فاتحة رسالته إلى أهل أفسس فقال: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة. إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته. لمدح مجد نعمته التى أنعم بها علينا فى المحبوب” (أف1: 3-6).

لقد اختارنا الله الآب فى المسيح قبل تأسيس العالم، وسبق فعيننا للتبنى، لمدح مجد نعمته.

فمن الواضح فى كلام القديس بولس الرسول أن الاختيار الإلهى والتعيين للتبنى بسابق علم الله قبل تأسيس العالم هو: أولاً: فى المسيح. وثانياً: لمدح مجد نعمته.

فالهدف من الاختيار السابق والتعيين للتبنى هو لمجد الله.

وعاد القديس بولس يؤكد هذه الحقيقة فى نفس الرسالة بقوله: “لأننا نحن عمله مخلوقين فى المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدّها لكى نسلك فيها” (أف2: 10).

عبارة “لكى تكونوا أبناء أبيكم الذى فى السماوات” معناها أننا إن أردنا أن نثبت فى نعمة البنوة، ينبغى علينا أن نحفظ هذه الوصايا السامية فى محبة الأعداء، والإحسان إلى المبغضين، والصلاة من أجل المسيئين. هذه الوصايا كما ذكرنا قبلاً هى أمور فائقة للطبيعة العادية لسائر البشر العاديين، ولكنها ممكنة جداً بل ولازمة وضرورية بالنسبة لأولاد الله، وهى السمة التى تميزهم وبدونها لا يكونوا قد حققوا قصد الله من وجودهم لتمجيده ولمدح مجد نعمته.

يشرق شمسه على الأشرار والصالحين

تلاميذ المسيح لا يعرفون الكراهية ولا التعصب. لذلك يقدمون الخير للجميع متشبهين بأبيهم السماوى. وقد أراد السيد المسيح أن يوضح أن الآب السماوى لا يقدّم الخير للناس بحسب قداستهم، ولكن بحسب خيريته ورغبته فى إعلان أبوته للجميع.

الكل يتمتعون بخيرات الله، حتى الذين يجدفون عليه، والذين ينكرون وجوده.. وهو يفعل هذا بطول أناته العجيب لعله يقتادهم إلى التوبة وإلى معرفته والرجوع إليه لأنه “يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تى2: 4).

إن الله لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع وتحيا نفسه، كما قال الرب: “هل مسرة أسر بموت الشرير يقول السيد الرب. ألا برجوعه عن طرقه فيحيا”(حز18: 23). ولهذا يمنح الخيرات للأشرار لعله يخجلهم بصلاحه ومحبته فيتوبون. ولكن إن لم يرجعوا ويتوبوا فإن الخير الذى منحه لهم الله سوف

يكون سبب دينونته لهم فيما بعد.

وقد دعانا السيد المسيح أن نتمثل بالآب فى منح الخير والعطايا للجميع.. حتى الأشرار ولكن طبعاً هذا لا يتضمن الأمور المقدسة الخاصة بالحياة الأبدية مثل التناول من جسد الرب ودمه، فهذا لا يجوز إلا للتائبين إذ هو عربون الأبدية. أما باقى الأمور الخاصة بالحياة  الدنيوية فلا ينبغى أن نفرق فيها بين إنسان وآخر.

السلام على الآخرين

فى مسألة التعامل مع الآخرين قال السيد المسيح أيضاً: “وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأى فضل تصنعون أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا” (مت5: 47).

الأمر يتعلق بعدم قصر السلام على المقربين أو المسيحيين فقط، بل يمتد إلى الجميع. ولكن هناك استثناء أشار إليه بولس الرسول بالنسبة لمن يسلكون فى الكنيسة بلا ترتيب فقال: “إن كان أحد لا يطيع كلامنا بالرسالة فسِموا هذا ولا تخالطوه لكى يخجل. ولكن لا تحسبوه كعدو بل أنذروه كأخ” (2تس3: 14، 15). والقديس بولس الرسول يقصد فى هذا الإخوة فى الكنيسة الذين لا يطيعون النظام الكنسى أو الوصية الإلهية.

فكونوا أنتم كاملين

السيد المسيح يدعونا إلى الكمال متشبهين بالآب السماوى. ولكن هذا الكمال هو نسبى وليس كمال مطلق مثل كمالات الله.

قال السيد المسيح: “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السماوات هو كامل” (مت5: 48). والمزمور يقول: “طوباهم الكاملين طريقاً” (مز118: 1). وبطرس الرسول يقول: “نظير القدوس الذى دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين فى كل سيرة” (1بط1: 15).

إن الدعوة إلى الكمال هى دعوة مفتوحة لكى ينطلق الإنسان بلا حدود من كمال إلى كمال، ومن درجة فى الفضيلة إلى درجة أعلى منها. ولكن عليه دائماً أن يتذكر شعار بولس الرسول: “أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام.. ليس أنى قد نلت أو صرت كاملاً، ولكنى أسعى لعلى أدرك الذى لأجله أدركنى أيضاً المسيح” (فى3: 13، 12).

إن من يريد أن يعيش حياة الكمال عليه أن يشعر باستمرار إلى احتياجه إلى الكمال، وبعدم الرضا عما هو فيه. وإنه محتاج دائماً إلى عطية النعمة التى تسعى به إلى طريق الكاملين.

الصدقة والعطاء

قال السيد المسيح: “احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكى ينظروكم. وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذى فى السماوات. فمتى صنعت صدقة فلا تصوّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون فى المجامع وفى الأزقة لكى يمجدوا من الناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك. لكى تكون صدقتك فى الخفاء. فأبوك الذى يرى فى الخفاء هو يجازيك علانية” (مت6: 1-4).

سلامة الهدف

أوضح السيد المسيح أن الفضيلة لا تكون صحيحة إلا إذا كان هدفها صحيحاً. وكما قال قداسة البابا شنودة الثالث؛ أطال الرب حياته: [إن كل فضيلة إن لم تمتزج بالحب والاتضاع لا تحسب فضيلة على الإطلاق].

ففى ممارسة فضيلة الصدقة والعطاء ينبغى أن يكون الهدف هو محبة الله والقريب المحتاج، كما ينبغى أن تمارس هذه الفضيلة بروح التواضع وإنكار الذات، لأن “الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة” (يع4: 6).

لذلك حذّر السيد المسيح من أن يفقد الإنسان أجره، إذا مارس العطاء بدافع حب الظهور أمام الناس لكى يمدحوه.. إنه بهذا يكون قد استوفى أجره من مديح الناس. ولكنه يكون قد أضاع المكافأة السمائية وهى الأهم بكثير. ولو استمر الحال هكذا فما الذى ينتفع به الإنسان إن أضاع كل عمل الخير الذى عمله بسبب بحثه عن مديح الناس؟.

هل مديح الناس سوف يدخله إلى ملكوت السماوات؟! بالطبع لا.. بل بالعكس ربما يعطله عن ذلك. فإلى جوار إنه قد أضاع أجره، يكون معرضاً للسقوط فى الغرور والكبرياء. ومعروف أن الكتاب قد قال “قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح” (أم16: 18).

لا تعرّف شمالك ما تفعل يمينك

شدد السيد المسيح على أهمية الخفاء فى ممارسة فضيلة العطاء فقال: “وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرّف شمالك ما تفعل يمينك” (مت6: 3) وقد قصد السيد المسيح بهذا القول أن يبذل الإنسان قصارى جهده فى إخفاء العطاء الذى يمنحه للمحتاجين.. أن يكون العطاء فى الخفاء إلى أقصى درجة، فلا يعرف به أقرب المقربين إليه.. بل لا تعرّف قلبك ما تفعله يدك.. وذلك لأن القلب يقع فى الناحية اليسرى (الشمال) من صدر الإنسان. ومعنى ذلك أن يفعل الإنسان الخير ولا تمدحه أفكاره فيصير قلبه راضياً عن نفسه.. بل المفروض أن ينسى الخير الذى فعله ويتطلع نحو الخير الذى لم يفعله.. وما أكثره!!

أحياناً يتبرع بعض الناس من أموالهم بدون حساب. أى أن المعطى هو نفسه لا يعرف قيمة المبلغ الذى أعطاه. مثل أن يأخذ كمية من النقود بالبركة ويمنحها لشخص محتاج أو أن تأتيه بركة مالية من الرب فلا يعدها (أى لا يحصيها)، ثم يقوم بتوزيعها على من هو محتاج دون أن يعرف مقدارها.

وأمثال هؤلاء الناس، لا تعرف شمالهم ما تفعل يمينهم.

كان القديس الأنبا ابرآم أسقف الفيوم، يقبل التبرعات تحت الوسادة، ثم إذا أتاه محتاج يطلب مساعدة يقول له أن يأخذ ما يحتاجه من تحت الوسادة. أو يأخذ كل ما تحت الوسادة معتبراً أن البركة الموجودة قد أرسلها الرب لهذا الإنسان.

كان القديس الأنبا ابرآم رحيماً جداً بالفقراء دون أن تمدحه أفكاره، أو يمدحه قلبه لهذا السبب، بل كان يتزايد فى عمل الخير باستمرار. وكان الرب يرسل له البركات بغزارة حسب قول الكتاب “النفس السخية هى تسمّن، والمروى هو أيضاً يُروى” (أم11: 25).

كذلك كان القديس الأنبا صرابامون أسقف المنوفية الملقب بأبى طرحة يضع شالاً على وجهه لإخفاء معالمه، ثم يذهب ليلاً إلى منازل المحتاجين ويضع أمام الباب ما يحتاجون إليه ويقرع على الباب ويسرع بالانصراف قبل أن يراه أحد أو يتعرف عليه أحد. ولسبب ذلك أسموه “أبو طرحة” أى من يضع على وجهه ثوباً لإخفائه أثناء مساعدته للمحتاجين.

كان هؤلاء القديسون فى منتهى الحكمة لأنهم لم يطلبوا مجداً من الناس. بل كان الله هو شهوة قلوبهم والعمل على مرضاته هو مسرتهم، ومحبة الآخرين هى دافعهم إلى صنع الخير.

لم يطلبوا من الناس تعويضاً عن عطاياهم سواء بالمديح أو بالمعونة ولكن الرب كان يحرك قلوب الكثيرين ليقدموا لهم العطايا لمزيد من صنع الخير والتوزيع “لأنه بذبائح مثل هذه يُسر الله” (عب13: 16).

لم يهتم هؤلاء القديسون كثيراً بإقامة الأبنية الفخمة، ولكنهم تركوا سيرة عطرة ومنحهم الرب مواهب الشفاء وصنع المعجزات حسب قوله المبارك: “إن كان أحد يخدمنى فليتبعنى. وحيث أكون أنا  هناك أيضاً يكون خادمى. وإن كان أحد يخدمنى يكرمه الآب” (يو12: 26).

من أراد أن يخدم السيد المسيح يتبعه فى طريق الصليب والجلجثة وإنكار الذات. وفى هذا الطريق وبهذه الخدمة الباذلة يمنح الآب الكرامة الحقيقية لخدام ابن محبته المتضعين الذين يطلبون مرضاته ولا هدف لهم إلا خدمة الرب فى تواضع ومحبة حقيقيين.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found