تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري – الباب السادس عشر

هذا الفصل هو جزء من كتاب: تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

[pt_view id=”aa2d703e20″ tag=”تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري” field=name]

المجئ الثانى للرب وما يسبق هذا المجئ من علامات

المجئ الثانى من منظور روحى

أحاديث السيد المسيح عن المجئ الثانى

الكنيسة و الاستعداد للمجئ الثانى

ما بين المجئ الأول والمجئ الثانى للسيد المسيح العلامات التى تسبق المجئ الثانى

مقار الآخرة

القيامة الأولى والموت الأول

القيامة الثانية والموت الثانى

قال السيد المسيح لتلاميذه ورسله قبل صعوده إلى السماء مباشرةً: “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التى جعلها الآب فى سلطانه” (أع1: 7) وكان ذلك إجابة على تساؤلاتهم بخصوص الأمور المختصة بالمنتهى.

وقد أكّد السيد المسيح على هذه الحقيقة فى تعاليمه. ولكننا للأسف نجد اليوم كثيراً من الناس يحددون السنة التى سينتهى فيها العالم وذلك بخلاف تعاليم الرب .

ليت الوعاظ يوجهون اهتمامهم إلى المناداة بالتوبة وحياة الاستعداد للموت، بدلاً من أن يشغلوا الناس بأمور لا تفيدهم عن نهاية العالم، وتكهنات تحتوى على كثير من المغالطات أو تجاهل حقائق أخرى مذكورة فى الكتب المقدسة. كما أنها تتخطى علامات سبق الرب وحددها لتسبق مجيئه الثانى ولم تتحقق حتى الآن.

إننا نعرض للمجيء الثانى من الناحية الروحية والكتابية؛ وذلك بعيداً عن تحديد الأزمنة. كما أننا نتكلم عن أجساد القيامة وطبيعتها وعن تكريم أجساد القديسين. وهى الأمور التى ينبغى أن نعرفها عن قيامة الأبرار وعن قيامة الأشرار عند مجيء الرب للدينونة فى اليوم الأخير. ثم نتكلم عن علامات المجيء الثانى التى تسبق مجيء المسيح، وعن مقار الآخرة، وعن الموت الأول والثانى، والقيامة الأولى والثانية.

ليت الرب يمنحنا أن نكون مستعدين لمجيئه المجيد، صانعين مرضاته كل حين بصلوات صاحب القداسة البابا شنودة الثالث أطال الرب حياة قداسته.

المجئ الثانى من منظور روحى

القيامة حقيقة حتمية

هناك أمور يجب على كل مؤمن أن يعرفها، وهى أسرار معلنة للمؤمنين لكى  يتعزّوا بها. فأولاً لابد أن نعرف أن القيامة حقيقة حتمية “إن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام وإن لم يكن المسيح قد قام  فباطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانكم” (1كو15: 13، 14). فلابد أن يقام الأموات عديمى فساد، وأن يلبس هذا الجسد الفاسد عدم فساد، وهذا المائت عدم موت.

فإنه لا يمكن أن يدخل هذا الجسد الذى يمرض ويتحلل ويتعفن  إلى ملكوت السماوات. إذ لابد أن تتغير طبيعته أولاً. وقوة هذا التغير تكمن فى تناول جسد الرب ودمه. وقد قال السيد المسيح فى ذلك: “من يأكل جسدى ويشرب دمى فله حياة أبدية وأنا أقيمه فى اليوم الأخير لأن جسدى مأكل حق ودمى مشرب حق. من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فىّ وأنا فيه” (يو6: 54-56). وكذلك نقول فى القداس الإلهى: {يعطى عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية لكل من يتناول منه} ففى القيامة يلبس الفاسد عدم فساد. ونحن عندما نموت يتم فينا حكم الموت، ولكن لابد أن تتم فينا طبيعة القيامة التى وهبها الرب لنا بخلاصه وفدائه العظيم.

المسيح لن يأتى ليملك على الأرض فى مجيئه الثانى

يقول معلمنا بولس الرسول: “لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير” (1كو15: 51). ففى مجيء السيد المسيح الثانى يقوم الأموات من القبور أولاً. ثم يتغير الأحياء، وبعد ذلك يختطف الجميع لملاقاة الرب فى الهواء.

هناك بعض الأشخاص يعتقدون أن السيد المسيح فى مجيئه الثانى سوف يأتى أولاً على الأرض ويملك ألف سنة. فهؤلاء الأشخاص يحبون الأرض ولا يريدون أن يتركوها، وذلك لأن الأرض مازالت مرتبطة بمشاعرهم، وذلك بالرغم من ادعائهم الإيمان بالسيد المسيح. أما شهادة الكتاب المقدس فهى: “لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات فى المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم فى السحب لملاقاة الرب فى الهواء. وهكذا نكون كل حين مع الرب” (1تس4: 16، 17).

فالسيد المسيح  فى مجيئه الثانى لن يأتى ليملك على الأرض. بل سوف يختطفنا جميعاً لملاقاته فى الهواء. والأموات فى المسيح سيقومون أولاً، لأنهم أكملوا جهادهم قبلنا. ولأنهم سبقونا فى حياة الروح والجهاد، ووصلوا قبلنا إلى فردوس النعيم.

ولئلا يخاف الناس من الموت ويطلبوا أن يظلوا أحياء  لكى يتغيروا وهم أحياء، فقد رسم الرب أن يقام الأموات أولاً عديمى فساد ثم يتغير الأحياء بعد ذلك. لكى يتشوق الإنسان أن ينطلق من هذا العالم، ويقول مع معلمنا بولس الرسول: “لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جداً” (فى1: 23).

ما هى الصورة التى يقُام بها الأموات ؟

هناك من يسأل ما هى الصورة التى يُقام بها الأموات؟ لأن الميت عندما يوضع فى التراب ويتحلل ويصبح تراباً وسماداً، وتُزرع زروع وتتغذى على السماد، ويطلع زرع، ويُؤكل ويذهب فى المصارف والترع، وعظامه تتحلل وينتهى، ولا يبقى له أثر. فهل من الممكن أن تتم إقامة هذا التراب بعد آلاف السنين، وبعد هذا التوزيع!!

وقد رد معلمنا بولس الرسول على هذه المشكلة وقال: “لكن يقول قائل كيف يقام الأموات وبأى جسم يأتون؟ يا غبى الذى تزرعه لا يحيا إن لم يمت” (1كو15: 35، 36). فعندما تتم زراعة شجرة، لا تُزرع الشجرة كاملة. ولكن تُزرع بذرة صغيرة، وهذه البذرة الصغيرة تحمل طبيعة الشجرة الكبيرة. هذه البذرة الصغيرة تصير شجرة، ويخرج منها أيضاً ثمر يحمل بذوراً مثل البذور التى تمت زراعتها أولاً.. فإن كانت هذه الشجرة شجرة تفاح مثلاً، فإن البذور تكون بذور تفاح أيضاً. لأن بها نفس صفات الشجرة الأصلية.

فإن كنا نستطيع أن نزرع بذرة صغيرة، لكى تخرج لنا شجرة كبيرة بقدرة الله، فمن الممكن أيضاً بقدرة الله أن أى رماد أو بقايا صغيرة من أثر هذا الجسم ينتج عنه الجسم الأصلى كله. وبصورة مشابهة لما يحدث عند زرع بذور النبات فى الأرض. فإن “الذى تزرعه لا يحيا إن لم يمت” (1كو15: 36). فتوضع البذرة فى الأرض وتشرب الماء ثم ينفجر غلافها الخارجى وتفقد خصائصها كبذرة، ثم تُخرج جذراً ثم ساقاً إلى أعلى. والبذرة نفسها تتضائل حتى تذبل وتنتهى، ولا يبقى غير الساق والجذر، وتبدأ تخرج شجرة جديدة، فالبذرة نفسها تكون قد اندثرت وتحولت إلى شئ آخر.

قال السيد المسيح: “الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت فهى تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير” (يو12: 24). وكذلك يقول معلمنا بولس الرسول: “والذى تزرعه لست تزرع الجسم الذى سوف يصير بل حبة مجردة ربما من حنطة أو أحد البواقى” (1كو15: 37). الحنطة هى البذرة، وأحد البواقى هى أنواع من الشجر التى يؤخذ منها جزء من الفرع ويزرع فى الأرض ليخرج شجرة أخرى. “ولكن الله يعطيها جسماً كما أراد.. هكذا أيضاً قيامة الأموات. يُزرع فى فساد ويُقام فى عدم فساد. يُزرع فى هوان ويُقام فى مجد. يُزرع فى ضعف ويُقام فى قوة. يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً.. هكذا مكتوب أيضاً.  صار آدم الإنسان الأول نفساً حية وآدم الأخير روحاً محيياً” (1كو15: 38-45).

القديسون لا يهتمون بأجسادهم بعد الموت

كان القديسون لا يهتمون بأجسادهم بعد الموت، وذلك لعلمهم أن الله قادر أن يقيمهم ويحيى من يشاء. فالقديس الأنبا أرسانيوس عندما جاء وقت نياحته قال لتلاميذه ألا يكفّنوا جسده أو يدفنوه وإنما يربطوه فى حبل ويجرّوه ويتركوه طعاماً للوحوش على الجبل. وذلك لكى يوضِّح  لهم مدى اهتمامه بالروح وليس بالجسد. كما أنه يؤمن أن الجسد الذى يموت فى هوان سوف يقام فى مجد كقول الكتاب.

لماذا نكرّم أجساد القديسين ؟

نحن نكرِّم أجسـاد القديسـين لأن طبيـعة القيـامة تكمـن فيهم. ولأنهم سوف يقومون فى اليوم الأخير كقديسين فى المسيح يسوع. فالبذرة تحمل طبيعة الشجرة، كما أن بقايا الجسد المائت تحمل قوة القيامة. وتوجد فيها طبيعة القداسة، ويكمن فيها نور السيد المسيح. فمع أنه جسم مات، لكنه مازال يحمل نفس الطبيعة والخصائص التى بها سوف يؤهل للقيامة بصورة جديدة ممجدة. لذلك نحن نكرِّم أجساد القديسين، ونحتفل بها، وندهنها بالأطياب.

الجسد ليس هدفاً يسعى القديسون لإرضائه

كان القديسون يضبطون أجسادهم، ولا يقيمون لرغبات الجسد المنحرفة أو الزائدة أى اعتبار. فقد كانوا لا ينظرون للجسد على أنه هدف يسعون لإرضائه أو إراحته أو إسعاده السعادة الوقتية الزائلة، إنما كان فرحهم وسعادتهم الحقيقية فى أفراح الروح.. وفى تقديس الحياة للرب. فقد كانوا يشكرون الله على عطاياه التى بها يقيتون أجسادهم. وكانوا يشكرون الله أيضاً على الهواء الذى يتنفسونه، والماء الذى يشربونه، وكذلك الأكل الذى يأكلونه. ويقول معلمنا بولس الرسول: “الذى يأكل فللرب يأكل لأنه يشكر الله. والذى لا يأكل فللرب لا يأكل ويشكر الله.. لأننا إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن” (رو14: 6-8).

فمن الممكن أن يقوت الإنسان جسده ويربيه. ولكن القديسين كانوا لا يسعون لإرضاء  الجسد، بقدر ما كانوا يسعون لرفعة الروح، وسعادتها التى تدوم على الدوام وإلى الأبد.

سوف يتغير الأحياء فى طرفة عين

فى اليوم الأخير سوف يتغير الأحياء  فى لحظة، وفى طرفة عين. ويتحول جسد الموت والفساد والآلام إلى جسد القيامة. مثل جسد السيد المسيح القائم من الأموات، جسد غير قابل للآلام والفساد. جسد يتفق مع طبيعة الروح، جسد روحانى “كما هو الترابى هكذا الترابيون أيضاً. وكما هو السماوى هكذا السماويون أيضاً. وكما لبسنا صورة الترابى سنلبس أيضاً صورة السماوى” (1كو15: 48، 49). فالترابى  هو آدم الأول، والسماوى هو آدم الأخير الذى هو الرب يسوع المسيح الذى نزل من السماء متجسداً فى أحشاء البتول مريم، وظهر فى ملء الزمان لكى يهب الخلاص والحياة للعالم. ثم صعد إلى السماء بجسد القيامة فى حالة ممجدة.

جسد القديسين قريب من جسد القيامة الممجد

فى الجسد الروحانى، تغلب طبيعة الروح على طبيعة الجسد. فهو جسد لا تسيطر عليه غرائز شريرة، ولا شهوات رديئة. وكل ما يُسعد الروح يكون سبب سعادة وفرح له. فالقديسون فى حياتهم يقتربون بأجسادهم من طبيعة جسد القيامة. فهم يظلون يتدرجون مع أنفسهم بقوة الروح القدس الساكن فيهم حتى تصبح أجسادهم أجساداً روحانية قريبة من أجساد القيامة التى تقوم فى اليوم الأخير.

فمن أين أخذوا هذه الطبيعة التى هى طبيعة قريبة من طبيعة الروح؟ إنهم قد بدأوا يميتون أعمال الجسد بالروح ثم بدأت طبيعة الروح تسرى فى أجسادهم فبدأت أجسادهم تكتسب طبيعة روحانية كعربون لجسد القيامة الكامل الممجد.

خرافى تسمع صوتى

أعطى السيد المسيح إنذارًا بقوله: “الحق الحق أقول لكم إنه تأتى ساعة وهى الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون” (يو5: 25). فالذين يسمعون صوت ابن الله هم الذين سمعوا صوته هنا على الأرض. “خرافى تسمع صوتى وأنا أعرفها فتتبعنى” (يو10: 27).

فالإنسان الذى اعتاد على سماع كلام الله وإطاعة وصاياه، عندما يسمع صوت السيد المسيح فى اليوم الأخير، سوف يقوم وينجذب نحوه. أما الإنسان الذى يكسر كلام الله، ويخالف وصاياه، ويعطيه القفا لا الوجه ( )، فإنه عندما يسمع صوت السيد المسيح فى اليوم الأخير، سوف يخاف ويرتعب من مقابلة الله. وذلك لأنه كسر وصاياه، وعاش فى الفساد بعيداً عن الرب.

يقول معلمنا بولس الرسول: “فلا ننم إذاً كالباقين، بل لنسهر ونصحُ” (1تس5: 6). وكذلك يقول: “لأنكم أنتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلص فى الليل هكذا يجيء. لأنه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة كالمخاض للحبلى فلا ينجون. وأما أنتم أيها الأخوة فلستم فى ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كلص” (1تس5: 2-4). وهذا هو الفرق بين أولاد الله وأولاد العالم بالنسبة لمجيء السيد المسيح.

يوم الرب كلص فى الليل هكذا يجيء

“قال لهم يسوع: النور معكم زماناً قليلاً بعد. فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام” (يو12: 35). يعيش أولاد الله  فى النور، حياتهم واضحة ومقدسة أمام الله. فعند مجيء السيد المسيح الثانى لن تكون مفاجأة بالنسبة لهم، لأنهم سوف يكونون فى حالة استعداد ويقظة روحية. أما أولاد العالم وأولاد إبليس فسوف يجدهم الله غارقين فى خطاياهم. لأنهم يقولون فى أنفسهم لن يأتى المسيح أو لن تنتهى حياتنا فجأة، نعيش فى خطايانا الآن ثم نتوب بعد ذلك. نتمتع الآن بالعالم بعيداً عن الرب ثم نرجع بعد ذلك. وفى وسط هذه الظلمة وهذا الضياع يباغتهم فجأة ذلك اليوم (أى يوم الوفاة أو اليوم الأخير) كالمخاض للحبلى.

قال السيد المسيح: “كما كان فى أيام نوح كذلك يكون أيضاً فى أيام ابن الإنسان. كانوا يأكلون ويشربون ويزوّجون ويتزوّجون إلى اليوم الذى فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان وأهلك الجميع.. هكذا يكون فى اليوم الذى فيه يظهر ابن الإنسان” (لو17: 26-30).

يعيش الناس الآن بعيدين عن الله ويقولون ليس لدينا وقت لله: لدينا أشغالنا وأموالنا، وانشغالات عالمية كثيرة. فهؤلاء الأشخاص يتجاهلون وجود الله، ويهينونه فى كل مناسبة صغيرة كانت أم كبيرة. وهناك أناس يجدّفون على الله ويتحدّونه، وآخرون ينكرون وجوده. وأناس آخرون غارقون فى شرورهم وخطاياهم.. فكل هذه العينات من الناس يأتيها ذلك اليوم فجأة كالمخاض للحبلى فلا ينجون.

ما هو رجاء من يعيش بعيداً عن الله ؟

ما هو رجاء الإنسان الذى يعيش بعيداً عن الله فى هذه الحياة؟ إن كل إنسان يعلم أن هناك يوماً سوف ينتقل فيه من هذه الحياة ويوضع فى القبر “لأنك تراب وإلى تراب تعود” (تك3: 19). فماذا بعد الموت وبعد القبر؟ وماذا يكون حال الإنسان حين لا ينفع الندم ولا ينفع البكاء؟

الإنسان فى هذه الحالة سيطلب يوماً واحداً يرجع فيه إلى الله ليتوب، فيُقال له قد أُعطيت الفرصة تلو الأخرى، لقد أُعطيت فرصاً كثيرة ولكن حتى لو أُعطيت فرصة جديدة فستضيعها أيضاً.. وذلك لأنك مغلوب من طبيعتك الفاسدة المحزنة. فكم من مرات يعاهد فيها الإنسان الله أن يرجع إليه ثم يعود إلى الخطية مرة أخرى. كما يقول الكتاب عن الإنسان الخاطئ الذى لا يتوب توبة حقيقية “كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة” (2بط2: 22).

لهذا ينبغى أن نتذكر قول الرسول: “جميعكم أبناء نور. وأبناء نهار. لسنا من ليل ولا ظلمة. فلا ننم إذاً كالباقين بل لنسهر ونصحُ. لأن الذين ينامون فبالليل ينامون والذين يسكرون فبالليل يسكرون وأما نحن الذين من نهار فلنصحُ لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة هى رجاء الخلاص. لأن الله لم يجعلنا للغضب بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح. الذى مات لأجلنا حتى إذا سهرنا أو نمنا نحيا جميعاً معه” (1تس5: 5-10).

الله لم يجعلنا  للغضب بل لاقتناء الخلاص

لماذا تقول أنـا مرفـوض مـن الله ولم تعـد هنـاك أية فائـدة منى. يـقـول معلمنا بولس الرسول: “لأن الله لم يجعلنا للغضب بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح” فالله يقول لك أنا أعدَّك لكى تعيش معى.

يعطيك الله إمكانية حياة القداسة، والإمكانية الكاملة أن ترضيه فى حياتك. فلماذا لا تستفيد من هذه الإمكانيات المعطاة لك وتيأس وتستسلم لليأس؟! فإن كان هناك من له إمكانيات الحرب، ومعه صواريخ ومدافع، وله جميع الإمكانيات التى يمكنه أن ينتصر بواسطتها، ومع ذلك يستسلم للعدو بكل سهولة. ويستسلم فى خنوع وهو غير مصدِّق أن الأسلحة التى معه هى قادرة أن تعطيه النصرة، والغلبة فى القتال. فإن هذا الإنسان يحتاج أن يصدِّق مواعيد الله، ويؤمن بعمله.. فهذا هو الإيمان الذى يستطيع أن ينقل الجبال؛ أى يستطيع أن ينقل جبال الخطية الجاثمة على قلوبنا وصدورنا كقول الرب “الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك” (مت17: 20).

هذا هو الإنسان المسيحى الذى يستطيع أن ينقل جبل الخطية، ويقول له انطرح فى بحر هذا العالم المتلاطم فينطرح ويصير هو حراً من الشر والخطية.

سؤال: ما هو الاختطاف؟ وهل هو المجيء الثانى أو مجيء قبل الدينونة؟

الاختطاف سوف يحدث فى المجيء الثانى للسيد المسيح، والذين سوف يختطفون لملاقاة الرب فى الهواء (انظر 1تس4: 17) هم أولاد الله القديسون، والذين أرضوا الرب بأعمالهم الصالحة. وأما الأشرار فيقال عنهم: “هوذا يأتى مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض” (رؤ1: 7). “وهم يقولون للجبال والصخور اسقطى علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف” (رؤ6: 16). فهؤلاء الأشخاص سوف يكونون خجلين، ويفرُّون من وجه السيد المسيح لأنه عندما يأتى سوف يدين كل واحد بحسب أعماله.

سوف تُقام محكمة إلهية.. ومجرد منظر الرب الإلهى سوف يشيع الخوف فى نفوس الأشرار، ويشيع فرحاً فى نفوس الأبرار. وذلك مثل ما يحدث بالضبط عندما يصل مفتش أو مدير أو أى شخص له سلطة فى مكان. فالذى عمل عملاً صالحاً سوف يكون فَرِحاً لأن المفتش سوف يعرف كيف تعب وكيف أنتج ويكافئه. وأما الذى عمل عملاً سيئاً فسوف يكون فى هم وخوف.. وفى لحظة مجيء هذا المفتش من الممكن ألا يحتمل الوجود فى مكان عمله ويحاول أن يهرب..

الإنسان بمجرد أن ينظر إلى الرب القدوس: إن كان قد عاش نظير القدوس الذى دعاه فسيشتاق إليه ويجرى نحوه ويتعلق بأثره فى حب واشتياق. وأما إن كان قد كسر وصاياه، ولم يرضهِ فسوف يهرب عرياناً ويخزى. فمجيء السيد المسيح الثانى سيختطف فيه الأموات عديمو الفساد، والأحياء المتغيرون أيضاً عديمو الفساد، لملاقاة الرب فى الهواء وأما الأشرار فلن يستطيعوا أن يلتقوا بالرب القدوس.

أحاديث السيد المسيح عن المجئ الثانى

تحدث السيد المسيح عن مجيئه الثانى فى مواضع عديدة من الكتاب المقدس سواء بحديث شخصى مباشر أو عن طريق أنبيائه ورسله القديسين.

فموضوع المجيء الثانى هو من أهم المواضيع التى تكلّم عنها السيد المسيح. ولا نقصد موعد المجيء الثانى على وجه التحديد، وإنما ما يعنيه هذا المجيء، وما يقترن به، وما يؤدى إليه، وأيضاً ما هى العلامات التى تسبق هذا المجيء. وتأثير ذلك كله فى حياة الكنيسة كجماعة المؤمنين الذين ينتظرون قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى.

جعت فأطعمتمونى

نشير هنا إلى كلمات السيد المسيح عن مسألة سوف تشغله هو شخصياً فى يوم الدينونة الرهيب.

قال السيد المسيح: “ومتى جاء ابن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسى مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميّز بعضهم من بعض كما يميّز الراعى الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم.. ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار: اذهبوا عنى يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته. لأنى جعت فلم تطعمونى، عطشت فلم تسقونى، كنت غريباً فلم تأوونى، عرياناً فلم تكسونى، مريضاً ومحبوساً فلم تزورونى.. الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر، فبى لم تفعلوا. فيمضى هؤلاء إلى عذاب أبدى والأبرار إلى حياة أبدية” (مت 25: 31-34، 41-43، 45، 46).

والشئ الملاحظ هنا كما يقول قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الله حياته- أن السيد المسيح حينما يجلس على كرسى الدينونة سوف يحاسب الناس أولاً عن أعمال الحب والرحمة التى مارسوها تنفيذاً لوصية “تحب قريبك كنفسك” (مت22: 39).

مسألة شرط الإيمان والمعمودية للدخول إلى الملكوت ذكرها السيد المسيح فى أحاديث أخرى وهى مسألة مفهومة يدركها كل إنسان مسيحى لأن “الذى يؤمن بالابن له حياة أبدية والذى لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو3: 36).

فى حديث السيد المسيح عن يوم الدينونة ركّز على تجاهل الأشرار لجوع المساكين وغيرهم معتبراً أن ما نفعله بأحد إخوته الأصاغر فبه قد فعلنا.

ربما يُطمئِن الإنسان نفسه بأنه قد نال العماد المقدس ويمارس التوبة والاعتراف ويحفظ الأصوام، ويحرص على التناول وينتظم فى حضور الكنيسة، وله العديد من الأنشطة فى خدمة الكنيسة. ولكن الموقف الرهيب هو أن كل هذه الأمور لن تعفيه من سؤال الرب عن تنفيذ وصية المحبة “تحب قريبك كنفسك” (مت22: 39).

ينبغى أن يواجه الإنسان نفسه على حقيقتها. هل هو متعاطف مع ذاته؟ هل يفضّل نفسه على غيره؟ هل يكتفى بأنه مرتاح ويتجاهل معاناة الآخرين؟

إن الله قادر أن يشبع الجائع وأن يروى العطشان وأن يكسو العريان وأن يشفى المريض ويطلق المحبوس.. ولكنه يضع هذه الأمور فى طريقنا لاختبار محبتنا. لأن “من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه؟” (1يو3: 17).

الحب والعطاء للكل

وربما يُطمئن الإنسان نفسه بأن له نشاط متسع فى خدمة المحتاجين. ولكن السيد المسيح يقول: “ما فعلتموه بأحد هؤلاء الأصاغر فبى قد فعلتم”. أى أن إهمال فقير واحد فقط يحزن قلب السيد المسيح.

الذى يخطئ فى حق إنسان واحد فكأنه قد أخطأ فى حق البشرية كلها، لهذا قال السيد المسيح: “أحد هؤلاء الأصاغر”. واحد فقط من المساكين تجاهلناه سوف نعطى عنه حساباً فى اليوم الأخير.

أليس لهذا الإنسان الواحـد مشاعر؟ أليست كل دنياه هى واقعه وآلامه ومعاناته هو شخصياً؟

إن من يضع نفسه فى مكان المسكين والبائس يستطيع أن يدرك أن التاريخ والعالم والوجود كله سيقف أمام حالة واحدة. ألم يقل الكتاب “من حفظ كل الناموس وإنما عثر فى واحدة، فقد صار مجرماً فى الكل” (يع2 :10).

فما بالك بمن أهمل كثيراً من الفقراء والأرامل والأيتام. وما بالك بمن يظلمهم أو يسلب حقوقهم ويصرخون عليه أمام الرب.

ما أكثر الإنذارات التى وجهها الله إلى شعبه فى القديم لئلا يسلبوا حق اليتيم والأرملة وحق الكادح. وكذلك الإنذارات التى وجهها فى العهد الجديد حول نفس هذه الأمور مثل قول يعقوب الرسول للأغنياء “هلم الآن أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة. غناكم قد تهرأ، وثيابكم قد أكلها العث. ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما يكون شهادة عليكم، ويأكل لحومكم كنار، قد كنزتم فى الأيام الأخيرة. هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ، وصياح الحصادين قد دخل إلى أذنى رب الجنود” (يع5: 1-4).

لهذا ينبغى أن نراجع أنفسنا قبل فوات الأوان.

الكنيسة و الاستعداد للمجئ الثانى

تهتم الكنيسة المقدسة جداً بالاستعداد للمجيء الثانى للسيد المسيح. لذلك نردد فى ختام قانون الإيمان المسيحى العبارة التالية: }وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى آمين{.

وذلك تحقيقاً للوصية الرسولية “منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب” (2بط 3: 12). وكذلك للتعليم الرسولى “وتنتظروا ابنه من السماء الذى أقامه من الأموات يسوع الذى ينقذنا من الغضب الآتى” (1تس1: 10). وقول معلمنا بولس الرسول “السماوات التى منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح. الذى سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” (فى3: 20، 21). وكذلك قوله: “وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1تس5: 23).

كذلك رتبت الكنيسة فى القداس الإلهى أن يصلى الكاهن عند تقديس القرابين قائلاً: {فيما نحن أيضاً نصنع ذكرى آلامه المقدسة وقيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات وجلوسه عن يمينك أيها الآب وظهوره الثانى الآتى من السماوات المخوف المملوء مجداً نقرب لك قرابينك من الذى لك على كل حال ومن أجل كل حال وفى كل حال}.

وقد يتساءل البعض: كيف نصنع ذكرى ظهوره الثانى الآتى من السماوات المخوف المملوء مجداً؟ وهل يمكن أن نصنع ذكرى شئ لم يحدث إلى الآن؟!.

إن حضور السيد المسيح على المذبح فى سر القربان المقدس يحمل معه كل معانى التجسد والصلب والقيامة والمجيء الثانى. إن جسده الكائن على المذبح هو نفسه الذى ولد من العذراء والذى صلب من أجلنا وقام وصعد إلى السماوات وهو نفسه الذى سيأتى فى ظهوره الثانى. ومن يتناول منه فإنه ينال عربون الحياة الأبدية {يُعطى عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه}. ولذلك فنحن كما نعيش ذكرى الصليب والقيامة فإننا نعيش ذكرى المجيء الثانى ونستعد بكل قلوبنا لهذا المجيء الآتى من السماوات المخوف المملوء مجداً.

إننا حينما نصنع تذكار موت المسيح فإننا نصنع أيضاً تذكار مجيئه الثانى. ونردد كل يوم فى تسبحة نصف الليل السابقة للقداس {عند ظهورك الثانى المخوف؛ لا نسمع برعدة إننى لست أعرفكم}.

لذلك يقول معلمنا بولس الرسول: “لأننى تسلّمت من الرب ما سلمتكم أيضاً إن الرب يسوع فى الليلة التى أُسلم فيها أخذ خبزاً، وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدى المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكرى. كذلك الكأس أيضاً بعد ما تعشوا قائلاً هذه الكأس هى العهد الجديد بدمى. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكرى. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء” (1كو11: 23-26).

أى أننا نصنع تذكار موت الرب على الصليب إلى أن يجيء. فالتذكار هو لموته وقيامته والانتظار هو لمجيئه الثانى. وقد ربط الرسول بولس بهذه العبارة بين الإخبار بموت الرب وانتظار مجيئه.

إن حضور السيد المسيح على المذبح يذكرنا بموته ويذكرنا أيضاً بمجيئه الثانى. كما أننا حينما نستعد للتناول بالتوبة والاعتراف فإننا نستعد للحياة الأبدية. أى أن الاستعداد للتناول من جسد الرب ودمه هو استعداد لمجيء المسيح وعربون للحياة الأبدية وتذوق لها. ألسنا نشترك فى جسد الرب المقام من الأموات؟!

كيفية الاستعداد

إننى أتعجّب ممن يتكلمون عن الاستعداد لمجيء الرب بعيداً عن أسرار الكنيسة المقدسة.

كيف ينال الإنسان قوة الاتحاد بالمسيح والثبات فيه بدون التناول من جسده الحقيقى ودمه الحقيقى.

وكيف ينال الإنسان قوة الاتحاد بالمسيح فى مجيئه الثانى دون أن يقترب من المائدة متذكراً إنها عربون للميراث الأبدى ومائدة المسيح الأبدية.

كثيرون يتكلمون عن الخلاص ولا خلاص إلا بدم المسيح. وأين نجد هذا الدم إلا فى الكأس كما قال هو بنفسه “هذه الكأس هى العهد الجديد بدمى” (لو22: 20، 1كو11: 25). لقد جعل السيد المسيح الكأس الحاوية لدمه هى العهد الجديد وليس الدم بدون الكأس. لأن الكأس هو الوسيلة التى تجعل دمه -الذى للعهد الجديد والذى سفك على الصليب- حاضراً ومتاحاً وفاعلاً فى حياتنا من خلال سر الإفخارستيا.

إننا كلما نحضر القداس الإلهى نستعد لمجيء الرب لأنه بالفعل يحضر وسطنا سرائرياً.

ما بين المجئ الأول و المجئ الثانى للسيد المسيح

نأتى الآن إلى تساؤل لماذا يختلف المجيء الأول للسيد المسيح عن مجيئه الثانى؟!

جاء السيد المسيح فى ظهوره الأول ليخلص العالم باعتباره هو الله الظاهر فى الجسد. ولكن كان ينبغى أن يخفى مجده المنظور لكى يكون من الممكن إتمام الفداء.

لو ظهر السيد المسيح فى ملء مجده لما احتمل البشر النظر إليه. فلا تلاميذه كان من الممكن أن يقتربوا منه ويتتلمذوا على يديه، ولا الأشرار من اليهود أو من الرومان كان من الممكن أن تمتد أيديهم إليه ليسمّروه على الصليب.

لقد أخلى الله الكلمة ذاته “آخذاً صورة عبد.. وإذ وُجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فى 2: 7، 8). هزم السيد المسيح كبرياء الشيطان بتواضعه وطاعته للآب السماوى.

كذلك حرر البشر من خطية الكبرياء، وعلّم تلاميذه: “تعلّموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت11: 29).

لقد أظهر لنا السيد المسيح أن فى الكبرياء ضعف، وفى التواضع قوة. لهذا تتغنى الكنيسة فى لحن أومونوجينيس “`O Monogenhc” الذى يقال فى الجمعة العظيمة، وفى تقديس الميرون، وفى سيامة الأب البطريرك وتقول } قدوس الله الذى أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة{.

ظهوره الثانى المخوف المملوء مجداً

أما المجيء الثانى فهو للدينونة فى نهاية العالم. لذلك فسوف يأتى السيد المسيح فى مجد أبيه مع ملائكته القديسين ويدين الجميع ويحاسب الأشرار على شرورهم.

لقد أعطاهم الفرصة للخلاص وانتهى زمان التوبة. وكما دفع ثمن الخطية على الصليب فسوف يأتى ليطالب بثمن الدم الذى سفكه حباً فى خلاصنا.

قال معلمنا بولس الرسول: “من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة. فكم عقاباً أشر تظنون أنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذى قدّس به دنساً وازدرى بروح النعمة” (عب10: 28، 29).

فى المجيء الأول احتمل العار لأجلنا، وفى مجيئه الثانى سوف يطالبنا بثمرة محبته وإلا فسنحمل نحن عار أنفسنا.

لذلك قيل فى مجيئه الثانى المخوف المملوء مجداً إن الأشرار سوف “يقولون للجبال والصخور اسقطى علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش” (رؤ6: 16).

وقيل فى نبوة زكريا النبى “فينظرون إلىّ الذى طعنوه” (زك12: 10).

بمعنى أنهم سيتعجبون من مجده العظيم بالرغم من أنه هو نفسه الذى طعنوه فى جنبه بالحربة ليتأكدوا من موته.

وقيل أيضاً فى مجيئه الثانى “تنوح جميع قبائل الأرض” (مت24: 30). بمعنى أن مجده المرهوب سوف يجعلهم يبكون على موقفهم قبالته، ينوحون لأنهم يرتعبون من مصيرهم بعد الشرور التى ارتكبوها.

وليس معنى هذا النوح أنهم شعروا بمشاعر التوبة الحقيقية عند مجيء الرب لأن الكتاب يقول: “ثم سكب الملاك الرابع جامه على الشمس، فأعطيت أن تحرق الناس بنار. فاحترق الناس احتراقاً عظيماً، وجدّفوا على اسم الله الذى له سلطان على هذه الضربات، ولم يتوبوا ليعطوه مجداً. ثم سكب الملاك الخامس جامه على عرش الوحش، فصارت مملكته مظلمة. وكانوا يعضون على ألسنتهم من الوجع. وجدّفوا على إله السماء من أوجاعهم ومن قروحهم، ولم يتوبوا عن أعمالهم” (رؤ16: 8-11). بمعنى أن الضربات التأديبية من الله على الأشرار لم تقتادهم إلى التوبة بل على العكس ازدادوا زيغاناً بالرغم من الآلام التى وقعت عليهم. لذلك فإن دينونتهم الأبدية هى نتيجة لعدم توبتهم لا بواسطة الحب والرفق من قبل الله ولا بواسطة التأديبات إذ قد استمروا فى عنادهم وعدم توبتهم مثل الشيطان.

لذلك يقول القديس يوحنا فى رؤياه: “وسمعت ملاك المياه يقول: عادل أنت أيها الكائن والذى كان والذى يكون، لأنك حكمت هكذا. لأنهم سفكوا دم قديسين وأنبياء، فأعطيتهم دماً ليشربوا، لأنهم مستحقون. وسمعت آخر من المذبح قائلاً: نعم أيها الرب الإله القادر على كل شئ حق وعادلة هى أحكامك” (رؤ16: 5-7).

وقال أيضاً: “وبعد هذا سمعت صوتاً عظيماً من جمع كثير فى السماء قائلاً: هللويا الخلاص والمجد والكرامة والقدرة للرب إلهنا. لأن أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التى أفسدت الأرض بزناها، وانتقم لدم عبيده من يدها. وقالوا ثانية: هللويا ودخانها يصعد إلى أبد الآبدين” (رؤ19: 1-3).

يدين المسكونة بالعدل

من الواضح أن يوم الدينونة هو يوم لاستعلان دينونة الله العادلة. بعد أن أطال أناته كثيراً على الخطاة لعله يقتادهم إلى التوبة.

فمن الواجب أن نحترس من قساوة القلب التى تمنع التوبة. فالكتاب يحذر الإنسان غير التائب قائلاً: “من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً فى يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة” (رو2: 5).

ينبغى أن نتذكّر باستمرار أن لطف الله إنما يقتادنا إلى التوبة وأن نكون دائماً ساهرين على حياتنا الروحية مستعدين لاستقبال العريس كما أوصانا هو بنفسه.

النبوة التى وردت فى سفر ملاخى

سفر ملاخى وهو آخر أسفار العهد القديم. يتكلم فى آخر آيات منه عن مجيء الرب فيقول: “هأنذا أرسل إليكم إيليا النبى قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتى وأضرب الأرض بلعن” (ملا4: 5-6).

وفى بداية الأصحاح الرابع والأخير يقول: “فهوذا يأتى اليوم المتقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلى الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتى قال رب الجنود: فلا يبقى لهم أصلاً ولا فرعاً. ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها.. اذكروا شريعة موسى عبدى التى أمرته بها فى حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام” (ملا4: 1، 2، 4).

إنها كلمات رائعة لأنه يتكلم عن المجيء الأول وعن المجيء الثانى فى نفس الوقت. فحينما يقول: “يوم الرب اليوم العظيم والمخوف” هذا يشير إلى المجيء الثانى بالأكثر لكن هذا لا يمنع أنه فى المجيء الأول أيضاً كان هناك يوم صلب السيد المسيح يوماً عظيماً ومخوفاً.

قال بطرس الرسول فى عظة يوم الخمسين: “هذا ما قيل بيوئيل النبى يقول الله ويكون فى الأيام الأخيرة أنى أسكب من روحى على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً. وعلى عبيدى أيضاً وإمائى أسكب من روحى فى تلك الأيام فيتنبأون. وأعطى عجائب فى السماء من فوق وآيات على الأرض من أسفل دماً وناراً وبخار دخان، تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم الشهير، ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص” (أع2: 16-21).

من الواضح هنا أنه يتكلم عن يوم الصليب لأنه يقول “تتحول الشمس إلى ظلمة” وهذا حدث بالفعل فى يوم الصلب. وحينما يقول: “دماً وناراً وبخار دخان” فالدم كان هو دم السيد المسيح، والنار لأن السيد المسيح قدّم نفسه صعيدة ومحرقة على الصليب فتنسم رائحة ذبيحته أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة، فالدم والنار وبخار الدخان تشير إلى الصعيدة التى أُصعدت واشتمها الآب رائحة رضا وسرور.

ويقول معلمنا بولس الرسول فى (عب9: 14) عن السيد  المسيح: “الذى بروح أزلى قدّم نفسه لله بلا عيب”. الروح الأزلى هو الروح القدس. وحينما أصعد السيد المسيح نفسه على الصليب بالروح القدس كان هذا هو معنى النار التى أصعدت الذبيحة.

لكن كما أن هذه الآيات تشير إلى المجيء الأول فإنها تشير إلى المجيء الثانى أيضاً. لأنه يقول عن المجيء الثانى: “منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب الذى به تنحل السماوات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب” (2بط3: 12). وأيضاً “سيأتى كلص فى الليل يوم الرب الذى فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التى فيها” (2بط3: 10).

فالمجيء الثانى سوف يكون مهوباً ومرهوباً ومخوفاً أكثر من الزلزلة التى حدثت فى وقت الصلب. إن ما حدث فى يوم الصلب كان مقدمة وإنذارًا لما سوف يحدث فى المجيء الثانى.

حينما رأى التلاميذ إيليا وموسى على جبل التجلى سألوا السيد المسيح “فلماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغى أن يأتى أولاً” (مت17: 10) رد السيد المسيح: “إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا” (مت17: 12) “حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان” (مت17: 13).

وفى البشارة بميلاد يوحنا المعمدان قال الملاك إنه “يتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكى يهيئ للرب شعباً مستعداً” (لو1: 17). وما قاله الملاك عن يوحنا المعمدان هو ما ورد فى نبوة ملاخى “فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتى وأضرب الأرض بلعن” (ملا4: 6).

وعلى الرغم من أنه فى هذه الآية يؤكد على المجيء الثانى لكنها تشير رمزياً إلى المجيء الأول، لأن يوحنا المعمدان كان يرمز إلى إيليا، وكانت له شخصية وأسلوب إيليا، أو المواهب التى يمنحها الروح القدس للأنبياء.

إن إيليا النبى الذى صعد حياً إلى السماء سوف يأتى قبل مجيء الرب المخوف والمرهوب فى مجيئه الثانى. هو صعد حياً إلى ما قبل أزمنة رد كل شئ لأنه فى قصد الله أن يكون لإيليا وأخنوخ رسالة معينة فى مسلسل العمل الإلهى بواسطة قديسيه.

إن هذا التداخل –إذا صح هذا التعبير– بين العهد القديم والعهد الجديد هو أمر رائع. فقد نقل الله اثنين من أنبياء العهد القديم المميزين وحفظهم عنده فى السماء أحياءً ليدخلهم فى نسيج العمل الروحى والتدبير الخاص بمقاصد الله فى حياة الكنيسة فى العهد الجديد. وسوف تتضح الصورة فى النهاية حينما تكتمل الأحداث.

الله يأخذ من أنبياء العهد القديم للعمل فى العهد الجديد، لأنه هو إله العهدين، ولأنه يريد أن يعرفنا أن شهادة يسوع هى روح النبوة، كما قال بطرس الرسول: “الخلاص الذى فتّش وبحث عنه أنبياء. الذين تنبأوا عن النعمة التى لأجلكم، باحثين أى وقت أو ما الوقت الذى كان يدل عليه روح المسيح الذى فيهم إذ سبق فشهد بالآلام التى للمسيح والأمجاد التى بعدها، الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التى أخبرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشروكم فى الروح القدس المرسل من السماء، التى تشتهى الملائكة أن تطلع عليها” (1بط1: 10-12).

أتى يوحنا المعمدان كشاهد على مسح السيد المسيح وعمّده فى نهر الأردن. كان هذا كاهناً من نسل هارون، لكنه كان شاهداً لاستعلان المسيا فى يوم الظهور الإلهى. وقال: “الذى أرسلنى لأعمد بالماء ذاك قال لى الذى ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذى يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (يو1: 33-34).

موسى وإيليا على جبل التجلى

هذا عن يوحنا المعمدان لكنه شئ جميل أن نرى موسى وإيليا هما أيضاً على جبل التجلى، واحد أتى بالروح والآخر روحاً وجسداً لأنه لازال حياً إلى الآن. جاءا ليتكلما مع السيد المسيح أمام ثلاثة من الآباء الرسل عن صلبه وتدبير الفداء والخلاص. كانت زيارة من جوف التاريخ لمعايشة الحدث فى روعته فى حالة من التجلى مع صوت الآب والسحابة النيرة.

قيامة أجساد الراقدين ودخولهم أورشليم

هذه الزيارات من العهد القديم هى شئ فى منتهى الروعة. ويصل الموقف إلى ذروة الروعة حينما “قام كثير من أجساد القديسين الراقدين” (مت 27: 52) فى يوم قيامة السيد المسيح من الأموات بعد أن تمم الفداء “ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين” (مت27: 53).

لكى يعلنوا إنهم نقلوا من الجحيم إلى الفردوس وإنهم يأتون الآن بالجسد والروح لكى يشهدوا للمخلص المسيح إنه رب القيامة ورب الحياة، قيامتهم المؤقتة جاءت كعربون ومقدمة للقيامة العامة فى اليوم الأخير، لكى نعرف أن الراقدين بيسوع سيحضرهم أيضاً معه، كشهادة حية ملموسة لقيامة الأبرار، لئلا يظن أحد أن المسيح فقط هو الذى قام. جاء هؤلاء ليشهدوا “بالحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأظهرت لنا” (1يو1: 2). وكأن الزمن قد اجتمع فى نقطة واحدة. هذا نوع آخر من الاختراق من العهد القديم فى العهد الجديد.

إن هذا التلاشى للفوارق الزمنية يعطينا فكرة عن خروجنا خارج دائرة الزمن حينما يأتى المسيح فى مجيئه الثانى ويأخذنا لنحيا معه فى الأبدية.

الزيتونتان والمنارتان

تكلّمنا عن يوحنا المعمدان كحلقة اتصال بين العهدين وعن التجلى وعن قيامة القديسين الذين شهدوا بالقيامة. والآن نتأمل فى الإصحاح الحادى عشر من سفر الرؤيا:

“وسأعطى لشاهدىّ فيتنبآن ألفاً ومئتين وستين يوماً لابسين مسوحاً. هذان هما الزيتونتان والمنارتان القائمتان أمام رب الأرض. وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما، تخرج نار من فمهما وتأكل أعداءهما، وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما، فهكذا لابد أنه يقتل. هذان لهما السلطان أن يغلقا السماء حتى لا تمطر مطراً فى أيام نبوتهما ولهما سلطان على المياه أن يحوّلاها إلى دم وأن يضربا الأرض بكل ضربة كلما أرادا. ومتى تمما شهادتهما فالوحش الصاعد من الهاوية سيصنع معهما حرباً ويغلبهما ويقتلهما” (رؤ11: 3-7).

هناك إشارات تدل على أن أحد المذكورين فى هذا الأصحاح هو إيليا النبى، لأن إيليا كان له سلطان أن يجعل السماء لا تمطر مطراً فى أيام نبوته، ونزلت نار من السماء وأكلت أفواج الجنود الذين أرسلهم الملك إليه فى كبرياء. والدليل على أنهما إيليا وأخنوخ أنه قيل “هذان هما الزيتونتان والمنارتان القائمتان أمام رب الأرض”. فإيليا وأخنوخ هما الأحياء والقائمين أمام رب الأرض. وأيضاً ذكر أنهما لابسين مسوحاً وهذا ما نعرفه عن إيليا النبى. أما أخنوخ فلا نعرف عنه الكثير، فقد ذكر عنه الكتاب “وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه” (تك5: 24). لكن ذكر فى رسالة يهوذا أن له نبوة تدل على قوته فقيل “وتنبأ عن هؤلاء أيضاً أخنوخ السابع من آدم قائلاً: هوذا قد جاء الرب فى ربوات قديسيه ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التى فجروا بها وعلى جميع الكلمات الصعبة التى تكلم بها عليه خطاة فجار” (يه14، 15). وهو هنا يتكلم عن المجيء الثانى والنبوة أيضاً تشير إلى المجيء الأول لأن المجيء الأول فيه أيضاً ملامح للدينونة مع أنه مجيء للخلاص. فقد قيل عن الروح القدس إنه “يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة” (يو16: 8).

إن دخول أخنوخ وإيليا إلى صراع الكنيسة ضد الوحش قرب نهاية الأيام هو تدبير إلهى عجيب يتواصل فيه العهد القديم مع العهد الجديد لأن الرب نفسه هو إله العهدين ولابد أن من بقى حياً من العهد القديم أن ينال بركات العهد الجديد. ويحيا بمقتضى شريعة الكمال ويجاهد مع الكنيسة المفتداه بدم الحمل.

هل يتباطأ الرب عن موعد مجيئه ؟

عالج القديس بطرس الرسول مشكلة الذين يعتبرون أن الرب قد تباطأ عن موعد مجيئه فقال إنه “سيأتى فى آخر الأيام قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم، وقائلين: أين هو موعد مجيئه لأنه من حين رقد الآباء كل شئ باقٍ هكذا من بدء الخليقة.. ولكن لا يخفَ عليكم هذا الشئ الواحد أيها الأحباء: أن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد. لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة. ولكن سيأتى كلص فى الليل يوم الرب الذى فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التى فيها” (2بط 3: 3، 4، 8-10).

الله فوق الزمن

بالطبع لا أحد يعرف متى سيحدث المجيء الثانى حتى بطرس الرسول نفسه الذى أوحى إليه الروح القدس بكتابة هذه التعاليم، من الواضح أنه يتكلم عن مبادئ وليس عن أوقات. بدليل قوله كما أوردنا: “أن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد” وهذا شئ طبيعى لأن الله فوق الزمن أى غير زمنى وحاضر فى كل زمان كما أنه حاضر فى كل مكان.

وقد كتب الشاعر الفرنسى دى لامارتين عبارة جميلة قال فيها: [إن كينونة يهوه لا تقاس بالشهور والأيام، فيومه يوم أزلى وهو الكائن على الدوام].

ويقول القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات فى قداسه المشهور مخاطباً ابن الله الوحيد: {أنت الكائن فى كل زمان أتيت إلينا على الأرض أتيت إلى بطن العذراء}.

وكتب القديس يوحنا الإنجيلى فى رؤياه عن الله الكلمة: “أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية يقول الرب الكائن والذى كان والذى يأتى، القادر على كل شئ” (رؤ 1: 8). بمعنى أن الرب كائن فى الماضى وفى الحاضر وفى المستقبل الذى يأتى. لأن الرب لا يعبر زمناً بل نحن الذين نذهب إليه عبر الزمان لنجده فى انتظارنا فى الأبدية.

أما عن مجيئه الثانى فيقول: “وها أنا آتى سريعاً وأجرتى معى لأجازى كل واحد كما يكون عمله. أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر” (رؤ22: 12،13). فإن مجيئه بالجسد الممجد الذى صنع به الخلاص لأجلنا هو للدينونة فى اليوم الأخير، ولكى يأخذ قديسيه ويدخل بهم إلى المجد.

وقد لخّص الله الكلمة مفهوم كينونته الدائمة غير المحدودة بزمان عند ظهوره لموسى فى صورة نار مشتعلة فى عليقة، والعليقة لا تحترق، إذ قال لموسى حينما سأله عن اسمه “أهيه الذى أهيه” (خر3: 14) أى “أكون الذى أكون” بمعنى الكائن على الدوام أو الكائن الذى هو كائن أى الكائن الضرورى فوق حدود الزمان والمكان..

طالبين سرعة مجيء يوم الرب

بالرغم من أن القديس بطرس الرسول قد أوضح –كما أوردنا- أن الرب فى مجيئه الثانى لا يشاء  أن يهلك إنسان، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة. بمعنى أنه يطيل أناته على العالم بصورة تؤكد عدم تسرعه فى إهلاك الناس الذين يتجاهلون الدينونة العتيدة أن تأتى على العالم. كما أنه يعطى فرصة للمجاهدين ليكملوا جهادهم ولأصحاب الرسالة الروحية أن يكملوا رسالتهم.. إلا أن القديس بطرس من جانب آخر يحث المؤمنين أن ينتظروا وأن يطلبوا سرعة مجيء يوم الرب كعلامة لاشتياقهم للقاء العريس وتقديرهم لروعة الملكوت المعد للقديسين.

إن من يسلك فى حياة التوبة وفى حياة القداسة لابد أن تتطلع روحه باشتياق لمجيء السيد المسيح. كذلك فإن انتظار مجيء الرب هو من علامات حياة الاستعداد المؤكدة.

لهذا قال بطرس الرسول بعدما تكلم عن زوال السماوات واحتراق الأرض والمصنوعات التى فيها “فبما أن هذه كلها تنحل، أى أناس يجب أن تكونوا أنتم فى سيرة مقدسة وتقوى؟ منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب، الذى به تنحل السماوات ملتهبة، والعناصر محترقة تذوب” (2بط3: 11،12).

نبوة بالروح القدس

لم يكن ممكناً فى العصر الذى كتب فيه القديس بطرس رسالته الثانية أن يوجد من يفهم معنى الانفجار النووى وتحطيم الذرة. ولكن القديس بطرس أورد أقوالاً لا يمكن تفسيرها عملياً إلا فى ضوء المكتشفات العلمية الحديثة فى عالم العناصر والذرات المكونة لها.

قال بطرس الرسول: “ولكن سيأتى كلص فى الليل يوم الرب الذى فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التى فيها” (2بط3: 10). وقال أيضاً: “تنحل السماوات ملتهبة، والعناصر محترقة تذوب”.

إن انحلال العناصر واحتراقها بضجيج هو أمر غير ممكن إلا عن طريق انشطار نواة الذرة للعنصر وهو الأمر الذى لا يتحقق إلاّ فى التفجيرات والتفاعلات النووية وهو ما لم يكن ممكناً فى عصر بطرس الرسول.

كذلك فإن احتراق العناصر لم يكن أمراً ممكناً فى عصر القديس بطرس الرسول. كيف يحترق الحديد أو ينحل؟ كيف يحترق الذهب أو ينحل؟ كيف يحترق الكالسيوم أو ينحل؟ وكيف تحترق الأحجار والصخور وكيف تنحل؟.. كل ذلك من الممكن أن يحدث بواسطة التفجيرات النووية التى تنحل بواسطتها العناصر محترقة وينتج عن ذلك ضجيج هائل مدوى وطاقة حرارية وإشعاعات مروعة.

حينما قال القديس بطرس عن الأجرام السماوية إنها سوف تنحل بضجيج ملتهبة فإن الروح القدس هو الذى أوحى إليه بهذه الكلمات التى لا تناسب على الإطلاق عصره البسيط.

العلامات التى تسبق المجئ الثانى

سوف نعرض لسبع علامات بارزة تسبق المجيء الثانى للسيد المسيح، ثم نأتى بعد ذلك إلى أحداث المجيء الثانى نفسها؛ وهى تتضمن أيضاً علامات أخرى تصاحب هذا المجيء وتميزه عن أى مجيء آخر مزعوم مثل ما يدّعيه الأدفنتست وشهود يهوه. ومن العلامات التى تسبق المجيء الثانى ما يلى:

أولاً: انتشار الإنجيل فى كل العالم

قال السيد المسيح : “ويكرز ببشارة الملكوت هذه فى كل المسكونة شهادة لجميع الأمم. ثم يأتى المنتهى” (مت24: 14). ونستطيع أن نقول إن هذا قد تحقق فى قارات العالم، ولنا الآن كنائس فى أفريقيا وفى أمريكا الجنوبية وكل أنحاء أستراليا إلى جوار الكنائس المنتشرة فى باقى أنحاء العالم، وإلى جوار الكنائس الشقيقة القديمة والكنائس التى انتشرت قبل عصر الانشقاق مثل كنائس أوروبا وآسيا وغيرها.

ومما يسعدنا أن قداسة البابا شنودة الثالث قد اهتم جداً بكل كنائس القارات الجديدة. يُضاف إلى ذلك أن الإنجيل قد طُبع حالياً بما يزيد عن 1500 لغة من لغات العالم، ولم يعد هناك إنسان لا يمكنه قراءة الكتاب المقدس- خاصة العهد الجديد- بلغته الخاصة أو على الأقل أن يستمع إلى من يقرأه له إن كان لا يعرف القراءة.

ومن الأمور الجميلة أيضاً أن طقوس الكنيسة القبطية قد تُرجمت إلى لغات عديدة حتى لغات الكوسا والزولو فى أفريقيا. وبلا شك إلى لغات الشعوب التى توجد فيها لنا كنائس مثل بحر الكاريبى وغيرها. هذا إلى جوار أن الكنائس التى أسستها الكنيسة القبطية قديماً فى أفريقيا فى إريتريا والحبشة قد استخدمت اللغة التجرينية ولغة الجيئز إلى جوار اللغة الأمهرية.

يضاف إلى ذلك أن كتابات قداسة البابا شنودة الثالث قد تُرجمت إلى كثير من لغات العالم المعاصر مثلما تُرجمت كتابات الآباء الأولين أمثال القديسين أثناسيوس الرسولى وكيرلس عامود الدين.

وتحقق فى انتشار الإنجيل بهذه الصورة كلام السيد المسيح الذى أشرنا إليه وتحققت النبوة الواردة فى سفر المزامير والتى ذكرها معلمنا بولس الرسول: “إلى جميع الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصى المسكونة أقوالهم” (رو10: 18). ولكن هناك علامات أخرى وردت فى كتاب العهد الجديد لا يمكننا أن نقول إنها تحققت بعد، لذلك نستكمل باقى العلامات التى تسبق المجيء الثانى.

ثانياً: إيمان اليهود

لقد رفضت الأمة اليهودية -من الناحية الرسمية- السيد المسيح وأسلمته إلى الرومان مطالبة بصلبه. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلى “إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله” (يو1: 11).

وقال اليهود وقت صدور الحكم على السيد المسيح بالصلب: “دمه علينا وعلى أولادنا” (مت 27: 25). استمرت أجيال الأمة اليهودية تتحمل وزر صلب السيد المسيح إلى يومنا هذا. وزادوا فى غيّهم وشرّدوا سكان الأراضى المقدسة من ديارهم، سفكوا دماءً كثيرة ومازالوا يصارعون من أجل مملكة أرضية رفضها السيد المسيح ومن أجل هيكل قال عنه السيد المسيح إنه لا يترك فيه “حجر على حجر لا ينقض” (مت24: 2، مر13: 2، لو21: 6).

إنهم يبكون عند حائط المبكى (وهو من بقايا سور هيرودس) لا على خطية صلبهم للسيد المسيح، ولكن على مجدهم الذى فقدوه. ولم يكتشفوا أن غضب الرب عليهم وهدم الهيكل وتشريدهم فى الأرض قرابة ألفى عام، وتوقفهم عن تقديم الذبائح كان بسبب نهاية العهد القديم ولسبب صلبهم للسيد المسيح وهو الذبيحة الحقيقية التى أبطلت كل الذبائح القديمة.

ليتهم يتوبون فيكفوا عن الصراع وسفك الدماء ويرجعوا إلى الرب ويعترفوا بالمسيح ملكاً سمائياً وبصليبه عرشاً مقدساً لخلاصهم، وبمذبح العهد الجديد وبذبيحة الخبز والخمر على طقس ملكى صادق مذبحاً للرب فى وسط أرض مصر وفى كل أنحاء العالم.

إن إيمان اليهود سيحل كثيراً من المشاكل الدينية والسياسية الناشئة عن رفضهم الاعتراف بيسوع أنه هو المسيح. ولنا فى شهادة الكتب المقدسة فى العهدين القديم والجديد ما يوضح أنهم سوف يؤمنون قبل نهاية العالم.

فى نبوة هوشع النبى يقول: “لأن بنى إسرائيل سيقعدون أياماً كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة.. بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده فى آخر الأيام” (هو3: 4، 5). والمقصود بداود هو المسيح لأن داود كان قد مات وقتما كتب هوشع نبوته.

وفى رسالة معلمنا بولس الرسول إلى أهل رومية يقول “فإنى لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا هذا السر، لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء. أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل مِلؤُ الأمم. وهكذا سيخلص جميع إسرائيل” (رو11: 25، 26).

ثالثاً: النهضة الروحية

أشار القديس بولس الرسول إلى النهضة الروحية التى ستصاحب توبة اليهود وإيمانهم بالمسيح وانتهاء النزاعات بينهم وبين الآخرين فقال: “إن كان رفضهم هو مصالحة العالم، فماذا يكون اقتبالهم إلا حياة من الأموات” (رو11: 15).

ما هذه الحياة من الأموات التى ستصاحب إيمان اليهود إلا نهضة روحية تعم العالم المسيحى وتدعو الجميع إلى التوبة. والقديس بولس يقصد هنا أن رفض اليهود للمسيح قد أدى إلى اتجاه الرسل إلى الكرازة بالإنجيل للأمم الذين كان لا علاقة لهم بإبراهيم وإسحق ويعقوب وفى هذا خير كبير للأمم فكم بالحرى يكون قبولهم للمسيح إلا مزيد من الخير لهذه الأمم.

رابعاً: ظهور الوحش

فى الأيام الأخيرة سيُحَل الشيطان من سجنه كقول الكتاب “ثم متى تمت الألف السنة يُحل الشيطان من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين فى أربع زوايا الأرض” (رؤ20:  7، 8). وكان الشيطان قد تم تقييده حينما صنع السيد المسيح الفداء لمدة ألف سنة. ورقم ألف سنة يشير إلى زمن طويل وليس إلى حرفية الرقم لأن الفداء قد تم منذ ما يقرب من ألفى سنة. وقد ذكر الكتاب تقييد الشيطان كما يلى: “ورأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية، وسلسلة عظيمة على يده. فقبض على التنين، الحية القديمة، الذى هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة، وطرحه فى الهاوية وأغلق عليه، وختم عليه لكى لا يضل الأمم فى ما بعد، حتى تتم الألف السنة. وبعد ذلك لابد أن يُحل زماناً يسيراً” (رؤ20: 1-3).

عن هذه الفترة القصيرة التى سيُحَل فيها الشيطان من سجنه قبل نهاية العالم قيل فى الكتاب “ويل لساكنى الأرض والبحر، لأن إبليس نزل إليكم وبه غضب عظيم، عالماً أن له زماناً قليلاً” (رؤ12: 12).

معنى ذلك أنه قبل نهاية العالم بفترة قصيرة نسبياً سوف ينال الشيطان قدرة على فعل الضلال بصورة أقوى بكثير من سابقتها، بعد أن قيده السيد المسيح بعملية الفداء. وأبرز ما ذكره الكتاب من حيل الضلال التى سوف يأتى بها الشيطان هو ظهور الوحش الذى هو إنسان، سوف يكون مجيئه بعمل الشيطان ومعه قدرات كبيرة لصنع معجزات كاذبة مدّعياً أنه هو الإله الحقيقى والمسيح الحقيقى الذى انتظر اليهود مجيئه من قبل. وهنا يبدأ عصر الارتداد مع أناس غير الذين آمنوا ونالوا الخلاص حسب قول معلمنا بولس الرسول: “وهكذا سيخلص جميع إسرائيل” (رو11: 26).

أما مرحلة الارتداد التى تسبق مجيء السيد المسيح فقال عنها: “لا يأتى (يقصد المسيح) إن لم يأتِ الارتداد أولاً ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهاً أو معبوداً، حتى إنه يجلس فى هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله.. الذى مجيئه بعمل الشيطان، بكل قوة، وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم، فى الهالكين، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا. ولأجل هذا سيُرسل إليهم الله عمل الضلال، حتى يصدِّقوا الكذب، لكى يدان جميع الذين لم يصدّقوا الحق بل سُرّوا بالإثم” (2تس2: 3، 4، 9-12).

هذا الوحش هو إنسان ولكن سوف يكون مؤيداً بقوة الشيطان. والدليل على أنه إنسان هو قول الكتاب “هنا الحكمة من له فهم فليحسب عدد الوحش، فإنه عدد إنسان، وعدده: ستمئةٍ وستةٌ وستون” (رؤ13: 18).

فى اللغة العربية مثلاً عندما نحسب عدد اسم إنسان فإننا نرتب الحروف على طريقة أ ب ج د هـ و ز ح ط ى ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت..” فالحرف “أ” يقابله رقم (1)، والحرف “ب” يقابله رقم (2)، وهكذا إلى الحرف “ى” يقابله رقم (10)، ومن بعده مباشرة الحرف “ك” يقابله رقم (20)، وهكذا إلى الحرف “ق” يقابله الرقم (100)، ومن بعده مباشرة الحرف  “ر” يقابله الرقم (200) وهكذا..

وفى اللغة اليونانية تتبع نفس الطريقة للأبجدية اليونانية: ألفا، بيتا، جاما (غما)، دلتا.. الخ. وفى اللغة العبرية تستخدم طريقة مشابهة، وهكذا يتم حساب أرقام الحروف المكوِّنة للاسم ويتم جمعها لحساب عدد كل إنسان. وعدد الوحش هو 666 (انظر رؤ13: 18). ويمكننا أن نتأكد من شخصيته عندما يظهر بحساب رقم اسمه فى ذلك الحين.

خامساً: الارتداد العام

نتيجة ظهور الوحش والعجائب التى سيجريها بقوة الشيطان فإنه سيضل الساكنين على الأرض حتى يصدقوا أنه هو المسيح “ويصنع آيات عظيمة، حتى إنه يجعل ناراً تنزل من السماء على الأرض قدام الناس، ويضل الساكنين على الأرض بالآيات التى أعطى أن يصنعها” (رؤ13: 13، 14)

لهذا قال السيد المسيح محذراً: “إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا” (مت24: 23).

ولكن للأسف سيتبع كثيرون تهلكات الوحش، ويعبدونه كما هو مكتوب “وأعطى أن يعطى روحاً لصورة الوحش، حتى تتكلم صورة الوحش، ويجعل جميع الذين لا يسجدون لصورة الوحش يُقتلون. ويجعل الجميع: الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، والأحرار والعبيد، تصنع لهم سمة على يدهم اليمنى أو على جبهتهم، وأن لا يقدر أحد أن يشترى أو يبيع، إلا من له السمة أو اسم الوحش أو عدد اسمه” (رؤ13: 15-17). عدد اسم الوحش هو 666 كما ذكرنا وهو يشير إلى رقم ستة ثلاث مرات، ورقم ستة هو سبعة ناقص واحد أى ما ينقص عن الراحة. أما عدد ثمانية فهو سبعة زائد واحد أى ما يزيد على الراحة. لهذا فإن رقم ثمانية يرمز إلى السيد المسيح وقيامته وعهده الجديد. ويرمز إلى يوم الأحد أى يوم الرب فى بداية الأسبوع الجديد.

فالوحش يعمل ضد الثالوث القدوس لكى يحرم الناس من الأبدية. أما السيد المسيح فيعمل بقوة الثالوث القدوس أى بقوته مع أبيه الصالح والروح القدس لكى يمنح الناس الأبدية. لذلك يرمز البعض إلى اسم السيد المسيح برقم 888.

فى فترة الإرتداد العام سيحدث اضطهاد عظيم على الكنيسة، أى على كل جماعة القديسين، ويقتل الوحش كثيرين منهم. ويرسل الله النبيين أخنوخ وإيليا لمساعدة الكنيسة فى صراعها ضد الوحش.

سادساً: عودة أخنوخ وإيليا إلى الأرض

جاء ذلك فى سفر الرؤيا إذ قال الرب: “وسأعطى لشاهدى فيتنبآن ألفاً ومئتين وستين يوماً لابسين مسوحاً. هذان هما الزيتونتان والمنارتان القائمتان أمام رب الأرض. وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما تخرج نار من فمهما وتأكل أعداءهما وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما فهكذا لابد أنه يقتل. هذان لهما السلطان أن يُغلقا السماء حتى لا تمطر مطراً فى أيام نبوتهما ولهما سلطان على المياه أن يحولاها إلى دم وأن يضربا الأرض بكل ضربة كلما أرادا. ومتى تمما شهادتهما فالوحش الصاعد من الهاوية سيصنع معهما حرباً ويغلبهما ويقتلهما. وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظيمة التى تدعى روحياً سدوم ومصر حيث صلب ربنا أيضاً” (رؤ11: 3-8).

من المنطقى طبعاً أن يكون بقاء أخنوخ وإيليا فى السماء أحياء حتى الآن هو لغرض الشهادة للمسيح فى مرحلة حساسة من تاريخ الكنيسة. ومن المنطقى أن ينالا إكليل الشهادة لأنه قد “وُضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة” (عب9: 27). ومن الطبيعى أن تتحقق نبوة ملاخى النبى الذى كتب قول الرب: “هأنذا أرسل إليكم إيليا النبى قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف” (ملا4: 5).

فكما جاء يوحنا المعمدان متقدماً أمام الرب فى مجيئه الأول بروح إيليا وقوته ثم صار شهيداً للحق، هكذا سيأتى إيليا نفسه متقدماً أمام الرب فى مجيئه الثانى المهوب والمخوف ويصير شهيداً مع أخنوخ.

لم يكن يوحنا المعمدان هو إيليا شخصياً بل يرمز إلى إيليا وقد جاء بنفس القوة الروحية التى لإيليا ونفس الأسلوب.

أما إيليا نفسه فقد ظهر مع السيد المسيح فى مجد على جبل التجلى مع موسى النبى وكانا يكلمانه عن الخلاص الذى كان عتيداً أن يصنعه فى أورشليم.

ولو كان يوحنا المعمدان هو نفسه إيليا فى تجسد جديد كما يدّعى أصحاب بدعة “عودة التجسد” Reincarnation لظهر يوحنا المعمدان على جبل التجلى وليس إيليا على اعتبار أنه هو آخر صورة يكون قد تجسد فيها. ولكن المسيحية المستقيمة الرأى ترفض هذه البدعة تماماً.

سابعاً: الضيق العظيم

سأل التلاميذ السيد المسيح على انفراد قائلين: “قل لنا متى يكون هذا؟ وما هى علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟” (مت24: 3). فأجابهم السيد المسيح قائلاً لهم: “انظروا. لا يضلكم أحد، فإن كثيرين سيأتون باسمى قائلين: أنا هو المسيح! ويضلون كثيرين. وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا لا ترتاعوا. لأنه لابد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المنتهى بعد. لأنه تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل فى أماكن. ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع” (مت24: 4-8).

إن مقدمات نهاية العالم هذه التى تكلّم عنها السيد المسيح ولقّبها بلقب “مبتدأ الأوجاع” لا تنطبق على مرحلة ظهور الوحش الذى سيدّعى أيضاً أنه هو المسيح ويضل غالبية العالم فى موجة الارتداد العام التى قال عنها بولس الرسول “لا يأتى (يقصد السيد المسيح) إن لم يأت الارتداد أولاً ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك” (2تس2: 3).

فى مبتدأ الأوجاع سوف يظهر أنبياء كذبة ناسبين إلى أنفسهم اسم المسيح، وسوف تحدث اضطهادات على الكنيسة ولكن ليس المنتهى بعد.

كذلك الحروب والزلازل والأوبئة لا تعنى أن نهاية العالم قد أتت لأن النهاية لها مواصفات أخرى تحدّث عنها السيد المسيح وسوف تظهر هذه الأمور بعد تحقق المراحل الخمسة السابقة التى تحدثنا عنها. أما المرحلة السادسة فهى ضمن الأحداث التى تصاحب نهاية العالم أثناء الضيق العظيم.

الضيق العظيم قال عنه السيد المسيح: “لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون” (مت24: 21).

وأكمل السيد المسيح كلامه قائلاً: “ولو لم تقصّر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تقصّر تلك الأيام”(مت24: 22).

 

إذن من مواصفات المرحلة الأخيرة التى تسبق مجيء السيد المسيح أن الضيق الذى فيها لا يشابه ما سبق من ضيقات. فمثلاً عبرت على الكنيسة ضيقات شديدة فى العصر الرسولى وما بعده، واضطهد اليهود ومن بعدهم الأباطرة الوثنيون الآباء الرسل ومن جاءوا بعدهم حتى سال الدم أنهاراً فى عصور الاستشهاد فى أنحاء كثيرة من العالم مثل مصر وأورشليم وأنطاكية وروما وأرمينيا والهند. فى تلك الآونة استشهد مارجرجس والقديس مرقوريوس والقديسة دميانة مع راهباتها الأربعين والقديس مارمينا والقديسة كاترينا والقديس أبانوب وكثير من القديسين والقديسات ومن قبلهم القديس اسطفانوس وأحد عشر رسولاً والقديس بولس الرسول.. كان المسيحيون أحياناً يُساقون إلى ساحات الاستشهاد ليكونوا طعاماً للأسود الجائعة ويعذَّبون بالحديد المحمى فى النار وسائر أنواع العذاب التى تقشعر لها الأبدان.

وسوف تتكرر هذه الأمور قبل نهاية العالم، ولكن كل هذا وذاك لا يُقارن بالضيق العظيم الذى تكلم عنه السيد المسيح والذى لم يكن مثله منذ ابتداء العالم.

إن الوحش حينما يأتى لن يستطيع أحد أن يقهر سلطانه المدمر إلا بظهور السيد المسيح نفسه مثبتاً بهذا أن الشيطان حينما ينال حريته ويُحَل من سجنه فلن يتراجع عن شروره المريعة، بل سوف يتزايد فى عداوته للكنيسة. وسوف تعاين الخليقة العاقلة كلها جسامة وخطورة أن يُحَل الشيطان من سجنه لأنه لا يمكن أن يتوب لا بالسجن ولا بالحرية. هو شر لا يُضبَط إلا بالدينونة الأبدية. ولذلك فسوف تصرخ الخليقة كلها قائلة للرب الحاكم العادل “عادلة وحق هى طرقك يا ملك القديسين” (رؤ15: 3). لن يوجد فيما بعد من يتعاطف مع الشيطان مثل أوريجانوس ويقول أن الشيطان من الممكن أن يخلص لأن هذا منتهى الضلال. بل سوف تردد الأبدية أصداء هذه الأنشودة أن الرب عادل هو، وأن “العدل والحق قاعدة كرسيك” (مز89: 14). وبذلك يصبح الجو مهيئاً لاستعلان الدينونة الأبدية وانقضاء الدهر.

إن شهود يهوه والسبتيين يستكثرون على الرب مثل أوريجانوس أن يحكم بالعذاب الأبدى على الأشرار. ولكن الرب يكون قد فعل أكثر مما يمكن أن نفتكر فى طول أناته على الشيطان وجنوده وكل من له شركة معه فى الظلمة.

 

لا يوجد حل للشر إلا أن يلقى فى الظلمة الخارجية والدينونة الأبدية فـى جهنم. ولا يمكن إبطال شـر الوحـش ومن يقويه إلا بظهور مخلصنا يسوع المسيح.

سوف يعرف الجميع أنه بدون المسيح لا يمكن أن يخلص جسد “لو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد” (مت24: 22).

لهذا قال معلمنا بولس الرسول إن الرب سوف يأتى ليبيد شر الوحش “الأثيم الذى الرب يبيده بنفخة فمه، ويبطله بظهور مجيئه. الذى مجيئه بعمل الشيطان، بكل قوة، وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم، فى الهالكين” (2تس2: 8-10). لقد وعد الرب وقال: “لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ” (1كو10: 13).

فلا ينبغى أن نفزع من الحديث عن نهاية العالم لأن هناك علامات لم تتحقق بعد سوف تسبق الضيق العظيم. وحتى أحباء الرب الذين سوف يعايشون الأيام الأخيرة، لاشك أن الرب سوف يؤازرهم لكى لا يهلك المختارون. لأن الرب وعد وقال عن خرافه: “أنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدى” (يو10: 28).

علينا فقط أن نحيا فى التوبة والاستعداد طالبين سرعة مجيئه، حتى ولو كان المنتهى لم يأتِ بعد ولكن هناك أشواقًا فى قلوب القديسين نحو استعلان ملكوت السماوات. وهذا الاشتياق موجود فى قلوب حتى الذين رقدوا على رجاء القيامة.

أحداث المجيء الثانى

قال السيد المسيح لتلاميذه: “وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس والقمر لا يعطى ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماوات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان فى السماء. وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء السماوات إلى أقصائها” (مت 24: 29-31).

إظلام الشمس

كما أظلمت الشمس فى يوم صلب السيد المسيح بصورة معجزية، سوف تُظلِم أيضاً ولكن بصورة نهائية فى مجيئه الثانى. تنبأ ملاخى النبى عن يوم الصلب وأيضاً عن المجيء الثانى وكتب أن الرب يقول “ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها.. هأنذا أرسل إليكم إيليا النبى قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوف” (ملا4: 2، 5) حينما تظلم الشمس الطبيعية، تشرق شمس البر أى السيد المسيح.

فى المجيء الأول: أشرقت شمس الخلاص عندما بسط السيد المسيح ذراعيه على خشبة الصليب. وبهذا كان الشفاء فى أجنحة السيد المسيح وهو معلّق فى الجو مثل الطائر أو مثل النسر الذى يفتح جناحيه أو يبسط ذراعيه يدعو الجميع إلى أحضانه التى فيها الخلاص.

فى المجيء الثانى: حينما تظلم الشمس، تظهر علامة ابن الإنسان فى السماء. فكيف تظهر فى الظلمة بدون الشمس والقمر والنجوم إن لم تكن منيرة؟

فالاحتمال الأغلب هو أن تكون العلامة هى علامة الصليب المنيرة. لأن الصليب هو علامة المسيحية فى كل مكان. وقال معلمنا بولس الرسول: “كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهى قوة الله” (1كو1: 18). وقال أيضاً: “أنتم الذين أمام عيونكم قد رسم يسوع المسيح بينكم مصلوباً” (غل3: 1).

وهذا معناه أن الإنسان المسيحى يرتسم أمام عينيه باستمرار صليب المسيح.

علامة ابن الإنسان

لذلك فالأغلب أن تكون علامة ابن الإنسان هى علامة الصليب. وأن تكون مضيئة بقوة حتى يراها الجميع قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف. وهذا ما تسلّمناه من تقليد الكنيسة أن الصليب هو علامة ورمز المسيحية، تتزين به الكنائس وبه تتم مباركة كل الأشياء.. فهو علامة المسيحية وعلامة البركة والخلاص والتقديس. يعقب ظهور علامة ابن الإنسان أن يظهر السيد المسيح نفسه “آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير” (مت24: 30).

مجيء ابن الإنسان

قال السيد المسيح عن مجيئه الثانى: “ومتى جاء ابن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسى مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب” (مت25: 31، 32). وقال أيضاً: “فإن ابن الإنسان سوف يأتى فى مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله” (مت16: 27).

وقد وصف السيد المسيح عمداً مجيئه الثانى مرة بقوله “فى مجد أبيه”، ومرة أخرى “فى مجده” كما أوردنا فى الآيتين السابقتين، وذلك ليؤكد لنا أن مجده هو مجد أبيه. فللأقانيم الثلاثة مجد واحد ومُلك واحد وقدرة إلهية واحدة. لأن الجوهر الإلهى واحد غير منقسم.

بالإضافة إلى ذلك فإنه قد استخدم لقب “ابن الإنسان” فى حديثه عن مجد أبيه السماوى ليؤكد أن “ابن الإنسان” هو هو نفسه “ابن الله” أى أن المولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته هو هو نفسه الذى تجسد فى ملء الزمان وولد من العذراء القديسة مريم بحسب ناسوته وصار ابناً للإنسان دون أن يتغير عن ألوهيته جاعلاً ناسوته واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.

هذا ما نردده فى التسبحة المقدسة عن أن ابن الله هو نفسه صار ابناً للإنسان بقولنا }لم يزل إلهاً، أتى وصار ابن بشر. لكنه هو الإله الحقيقى أتى وخلّصنا{ (ثيئوطوكية يوم الخميس).

نعود إلى حديث السيد المسيح عن مجيئه فى مجده أو فى مجد أبيه فنقول إن هذا المجيء المملوء مجداً سوف يكون مفرحاً للأبرار لأن به نجاتهم من الضيق العظيم ولكنه سوف يكون مخيفاً ومرعباً للأشرار. لذلك قال: “تنوح جميع قبائل الأرض” (مت24: 30). وتتحقق النبوة “فينظرون إلىَّ الذى طعنوه” (زك12: 10).

لن يكون خوف الأشرار هو نوع من التوبة. لأن التوبة ينبغى أن تقترن بمشاعر الحب للرب والعرفان بقيمة دمه المسفوك من أجل غفران الخطايا لكل من يؤمن ويتوب ويتبرر.

مقار الآخرة

مقار الآخرة هى أربعة: الفردوس، والجحيم، وملكوت السماوات، وجهنم، منها مؤقت أى الفردوس والجحيم، ومنها أبدى أى ملكوت السماوات وجهنم. والمقار المؤقتة هى لانتظار الأرواح بعد الوفاة إلى يوم الدينونة الأخير، أما المقار الدائمة فهى للأرواح والأجساد معاً فيما بعد الدينونة أى بعد مجيء المسيح الثانى حيث “يخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيآت إلى قيامة الدينونة” (يو5: 29).

فأجساد الموتى سوف تقوم فى اليوم الأخير حيث تعود الأرواح إلى الأجساد وتتحد بها مرة أخرى لكى تدان الأرواح مع الأجساد. ولكن الجسد بعد القيامة العامة سوف تكون له خصائص جديدة تختلف عن خصائصه الحالية، وليس بمعنى أن الأجساد سوف تفنى ولكنها ستتغير عند القيامة وهذا ما سوف نشرحه بمشيئة الرب بتفصيل أكثر من واقع تعاليم الكتاب المقدس.

أولاً: الفردوس

الفردوس حالياً ليس على الأرض مثلما كان وقت خلق آدم ثم حواء. إذ أن ذلك الفردوس أى الجنة كان يحوى أشجارًا وثمارًا وحيوانات. وقد وضع الرب الإله آدم فى الجنة ليعملها.

وحينما أخطأ الإنسان بعدم طاعته للوصية الإلهية، نُفى من الفردوس أى أن الرب قد أخرجه من الفردوس لئلا يمد يده ويأكل من شجرة الحياة ويحيا إلى الأبد فى خطيته ولا توجد له فرصة لإدراك خطورة الخطية وعواقبها من حيث إن أجرة الخطية هى موت. وصار موت الجسد هو الدليل الواضح على أن الخطية قد أساءت إلى الإنسان وصار محتاجاً إلى الخلاص بصلب المسيح وموته وقيامته من الأموات، وذلك مثلما قال قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته- عن السيد المسيح: “بالصليب حل الرب مشكلة الخطية (إذ أوفى الدين الخاص بها) وبقيامته حل مشكلة الموت الناتج عن الخطية”.

الفردوس الحالى صار مقراً للروح فقط بدون الجسد، وليس فيه أشياء مادية مثل الأشجار والثمار والمزروعات والأنهار. وبالطبع ليس فيه حيوانات على الإطلاق مثل الحمير والبغال والغزلان والفيلة..الخ. لأن الحيوانات ليس لها أرواح خالدة مثل البشر، بل إن نفس الحيوان هى دمه “لأن نفس كل جسد دمه هو بنفسه” (لا 17: 14). وبمجرد موت الحيوان يذهب إلى الأرض وليس له روح تذهب إلى مقار الآخرة على الإطلاق.

أما ما رآه القديس يوحنا الرسول وكتب عنه فى سفر الرؤيا من جهة الأربعة أحياء غير المتجسدين، فهذه كائنات حية روحية من طغمة الملائكة الكاروبيم ومنظرها الذى رآه هو منظر رمزى له مدلول روحى. فوجه الإنسان يرمز إلى تجسد الرب، ووجه العجل يرمز إلى ذبيحة الصليب، ووجه الأسد يرمز إلى القيامة، ووجه النسر يرمز إلى الصعود. كما أنها ترمز إلى الأناجيل الأربعة متى ولوقا ومرقس ويوحنا. بنفس هذا الترتيب. وذلك حسب طقس الأيقونات القديمة فى الكنائس الأرثوذكسية جميعاً.

الفردوس الحالى ذكره السيد المسيح وهو معلّق على الصليب حينما طلب إليه اللص اليمين قائلاً: “اذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك” (لو23: 42) فأجابه السيد المسيح مصححاً له طلبته: “الحق أقول لك إنك اليوم تكون معى فى الفردوس” (لو23: 43).

قال السيد المسيح ذلك لأن أرواح الأبرار تذهب إلى الفردوس أولاً وتنتظر هناك فى شركة روحية مع المسيح إلى يوم الدينونة الأخير حيث تقف أمام كرسى المسيح بعد عودتها إلى الجسد المقام من الأموات، ثم يضعها السيد المسيح عن يمينه وبعد ذلك يدعوها إلى ميراث ملكوت السماوات.

وقد قصد السيد المسيح أن يعلن للص اليمين إنه لن ينتظر طويلاً لكى يلتقى به، وذلك بعد مجيئه الثانى واستعلان ملكوت السماوات، بل إنه سوف يلتقى به سريعاً بعد خروج روحه من الجسد حيث يكون السيد المسيح قد فتح باب الفردوس مرة أخرى لتنتقل إليه أرواح الأبرار.

أما أرواح الأبرار الذين رقدوا على رجاء الخلاص وكانت تنتظر فى السجن، فقد ذهب إليها السيد المسيح بروحه الإنسانى المتحد باللاهوت وبشّرها بإتمام الفداء وأخرجها من السجن ونقلها إلى الفردوس أى أنه قد }رد آدم وبنيه إلى الفردوس{ مثلما نقول فى قسمة عيد القيامة.

وقد وردت أقوال فى الكتاب المقدس تؤكد أن السيد المسيح قد فعل ذلك مثل قول معلمنا بولس الرسول عن السيد المسيح: “لذلك يقول: إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً وأعطى الناس عطايا. وأما أنه صعد فما هو إلا إنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى، الذى نزل هو الذى صعد أيضاً فوق جميع السماوات لكى يملأ الكل” (أف4: 8-10). وقد صعد السيد المسيح بروحه من الجحيم إلى الفردوس بعد نزوله إلى الجحيم آخذاً معه أرواح الأبرار. كما أنه صعد إلى السماوات العليا حيث عرش الآب بعد 40 يوم من قيامته من الأموات وفى هذا الصعود لم يأخذ معه أحداً من البشر إلى أن يأتى للدينونة.

وقد تكلم أيضاً القديس بطرس الرسول عن عمل السيد المسيح فى نزوله بالروح إلى الجحيم للكرازة بإتمام الفداء وفى نقل أرواح الأبرار إلى الفردوس فقال: “فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكى يقربنا إلى الله مماتاً فى الجسد ولكن محيىً فى الروح، الذى فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التى فى السجن” (1بط3: 18، 19).

وقد سبق إشعياء النبى فقال بفم الله الآب: “أجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم، لتفتح عيون العمى، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن” (إش42: 6، 7). والكنيسة فى صلاتها على الراقدين تقول: [هذه النفس التى اجتمعنا بسببها اليوم، يا رب افتح لها باب الفردوس كما فتحته للص اليمين. افتح لها باب الراحة لتدخل وتتنعم هناك وتشارك جميع القديسين..].

ثانياً: الجحيم أو الهاوية

“الجحيم” كلمة معناها الهاوية، وهى ترجمة للكلمة العبرية “شِئول ” وللكلمة اليونانية “هاديس a[dhj”،  وهو كمقر للانتظار كان يحوى أرواح القديسين، وأرواح الأشرار، وذلك قبل أن يتمم السيد المسيح الفداء. ولكن صار مقراً لانتظار أرواح الأشرار فقط بعد إتمام الفداء، وفتح الفردوس ونقل أرواح القديسين إلى هناك.

بالنسبة للقديسين كانت أرواحهم تتطلع إلى مجيء المخلص ليخرجها من بيت السجن حسب وعد الرب “أجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم لتفتح عيون العمى لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين فى الظلمة” (إش42: 6، 7).

كانت هناك رموز كثيرة للجحيم فى العهد القديم مثل جب الأسود الذى ألقى فيه دانيال النبى. ففى قصة إلقاء دانيال فى الجب إشارة واضحة إلى عمل الخلاص. فالملك داريوس والحكم الذى أصدره وخَتَمه، ولا يمكن أن يتغير حتى بالرغم من محبة الملك لدانيال، كان إشارة إلى حكم الموت الذى صدر ضد البشرية ولم يكن من الممكن إلغاؤه. كان الملك يتمنى أن ينقذ دانيال من الجب، ولكن الحكم كان ينبغى أن يتم وقال الملك لدانيال: “إن إلهك الذى تَعبُدُه دائماً هو ينجيك” (دا 6: 16).

وحينما أُلقى دانيال فى الجب لسبب مؤامرة أعدائه الأشرار الذين يرمزون إلى الشياطين أعداء الرب وأعداء البشرية، أرسل الله ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تمس دانيال بسوء “إلهى أرسل ملاكه وسدَّ أفواه الأسود فلم تضرنى” (دا 6: 22)، وخرج دانيال من الجب حياً إشارة إلى قيامة السيد المسيح بعد نزوله إلى الجحيم، وإلى صعوده إلى الفردوس دون أن يمسكه الجحيم ودون أن يمسكه الموت أيضاً “إذ لم يكن ممكناً أن يُمسَك منه” (أع2: 24).

وبهذا تم حكم الموت دون إلغاء، ولكن أمكن العبور منه والتحرر من سلطانه. وقد تنبأ عن ذلك داود النبى فقال “لأنك لا تترك نفسى فى الجحيم (الهاوية) ولا تدع قدوسك يرى فساداً”  (أع2: 27 ، انظر مز15: 10). وشرح القديس بطرس فى عظة يوم الخمسين أن هذا الكلام قد قيل عن السيد المسيح (انظر أع 2: 25).

وبهذا أكّد بطرس الرسول أن السيد المسيح قد نزل إلى الجحيم. وعاد فقال عن السيد المسيح فى رسالته الأولى إنه “ذهب فكرز للأرواح التى فى السجن” (1بط3: 19). وبذلك ربط نبوءة أشعياء (42: 6) بنبوءة داود النبى فى المزمور (15: 10) موضحاً أن الجحيم كان سجناً للأرواح.

كان إبليس هو صاحب سلطان الموت كما أوضح القديس بولس الرسول فى حديثه عن عمل السيد المسيح فى تخليصنا من إبليس “فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية” (عب2: 14، 15).

إن تصوير القديس بولس هنا للموقف فى رسالته إلى العبرانيين هو تصوير فى غاية القوة، ربط فيه بين رفع سلطان الموت وبين إبادة إبليس أى إبادة سيطرته على أرواح البشر. وكذلك أوضح أن الخوف من النزول إلى الجحيم بعد الموت فى حياة حتى الذين رقدوا على رجاء الخلاص، هو حالة من العبودية، لأن الأرواح كانت فى طريقها إلى السجن هناك فى الهاوية. ولكن بالطبع كانت أرواح القديسين الراقدين فى حالة أفضل من أرواح الأشرار وغير المؤمنين الذين ليس لهم رجاء على الإطلاق.

كان القديسون فى السجن ينتظرون بالإيمان تنفيذ وعد الرب بالفداء.. كانت عبوديتهم مؤقتة سيحولها المسيح إلى بنوة.. وكان خوفهم ممتزجاً بالرجاء بعكس الآخرين الذين لا رجاء لهم وعبوديتهم لا نهاية لها.

كما قال أبو الآباء يعقوب فى بكائه وحزنه حينما اعتقد بموت يوسف ابنه “إنى أنزل إلى ابنى نائحاً إلى الهاوية” (تك37: 35). ولكنه قبيل موته حينما كان يتنبأ أمام أبنائه قال: “لخلاصك انتظرت يا رب” (تك49: 18). “ولما فرغ يعقوب من توصية بنيه ضم رجليه إلى السرير وأسلم الروح وانضم إلى قومه” (تك49: 33).

وحينما قاوم قورح ومعه داثان وأبيرام وأولادهم موسى وهرون وقدموا بخوراً فى مجامرهم، عاقبهم الرب بأن هبطوا أحياء إلى الهاوية إذ “انشقت الأرض التى تحتهم وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الأموال. فنزلوا هم وكل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية وانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة” (عد16: 31-33). ومعنى نزولهم أحياء إلى الهاوية أى أنهم نزلوا إلى أقسام الأرض السفلى أحياء وماتوا هناك حيث يوجد الجحيم.

وقد ذكر السيد المسيح أن الجحيم له أبواب فقال عن الكنيسة: “وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” (مت16: 18) وكذلك قيل عن حزقيا الملك “كتابة لحزقيا ملك يهوذا إذ مرض وشفى من مرضه، أنا قلت فى عز أيامى أذهب إلى أبواب الهاوية. قد أُعدمت بقية سنىَّ” (إش38: 9، 10).

وقد حطّم السيد المسيح متاريس الجحيم حينما نزل إليه من قبل الصليب ليحرر المسبيين الذين رقدوا على الرجاء ويصعد بهم من الجحيم إلى الفردوس كما هو مكتوب “سبى سبياً وأعطى الناس عطايا. وأما أنه صعد فما هو إلا إنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى” (أف4: 8، 9).

وتنبأ داود النبى عن ذلك فقال فى المزمور “أعظمك يا رب لأنك احتضنتنى ولم تشمت بى أعدائى أيها الرب إلهى صرخت إليك فشفيتنى. يا رب أصعدت من الجحيم نفسى. وخلصتنى من الهابطين فى الجب.. أية منفعة فى دمى إذا هبطت إلى الجحيم.. حوّلت نوحى إلى فرح لى. مزّقت مسحى ومنطقتنى سروراً، لكى ترتل لك نفسى ولا يحزن قلبى. أيها الرب إلهى إلى الأبد أعترف لك” (مز29).

ثالثاً: ملكوت السماوات

ملكوت السماوات أعده الله للقديسين قبل إنشاء العالم كما قال السيد المسيح عن دعوته للأبرار: “تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت25: 34).

فى هذا الملكوت السماوى سوف يلتقى الأبرار من البشر ومن الملائكة حول العرش الإلهى ليشتركوا معاً فى تسبيح الله وتمجيده بفرح لا يعبَّر عنه، وبمجد ليس له نظير فى العالم المنظور. وهو “ما لم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه” (1كو2: 9).

لقد اختار الله الآب فى المسيح جميع القديسين الذين سوف يتأهلون لميراث ملكوت السماوات لأنه سبق فعرف أنهم سوف يستجيبون لدعوة محبته بالفداء الذى أكمله الابن الوحيد لأجلهم. وقد شرح معلمنا بولس الرسول ذلك بكلمات رائعة فى فاتحة الرسالة إلى أهل أفسس إذ قال: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته، لمدح مجد نعمته التى أنعم بها علينا فى المحبوب. الذى فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته التى أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التى قصدها فى نفسه، لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ فى المسيح ما فى السماوات وما على الأرض فى ذاك الذى فيه أيضاً نلنا نصيباً معينين سابقاً حسب قصد الذى يعمل كل شئ حسب رأى مشيئته” (أف1: 3-11).

ملكوت السماوات حتى الآن لم يدخله ذو طبيعة بشرية إلا السيد المسيح فقط الذى ذهب هناك كسابق للقديسين ليعد لهم مكاناً كما قال هو بنفسه لتلاميذه: “لا تضطرب قلوبكم أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بى. فى بيت أبى منازل كثيرة، وإلا فإنى كنت قد قلت لكم أنا أمضى لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتى أيضاً وآخذكم إلىّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً” (يو14: 1-3).

وفى مناجاته مع الآب السماوى قبل الصلب “تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال.. أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتنى يكونون معى حيث أكون أنا لينظروا مجدى الذى أعطيتنى لأنك أحببتنى قبل إنشاء العالم” (يو17: 1، 24).

إن أرواح القديسين تنتظر فى الفردوس ولكن هؤلاء القديسين سوف يدخلون إلى ملكوت السماوات بعدما يأتى السيد المسيح فى مجيئه الثانى للدينونة ويأخذهم معه بعد أن يدعوهم للقيامة من القبور.

وقد شرح القديس بولس الرسول أن ملكوت السماوات ليس على الأرض بأقوال متعددة مثل قوله: “وأما رأس الكلام  فهو أن لنا رئيس كهنة مثل هذا قد جلس فى يمين عرش العظمة فى السماوات خادماً للأقداس والمسكن الحقيقى الذى نصبه الرب لا إنسان. لأن كل رئيس كهنة يُقام لكى يقدم قرابين وذبائح. فمن ثم يلزم أن يكون لهذا أيضاً شئ يقدّمه. فإنه لو كان على الأرض لَما كان كاهناً إذ يوجد الكهنة الذين يقدّمون قرابين حسب الناموس. الذين يخدمون شبه السماويات وظلها كما أوحى إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن” (عب8: 1-5). “فكان يلزم أن أمثلة الأشياء التى فى السماوات تطهر بهذه وأما السماويات عينها فبذبائح أفضل من هذه. لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقية بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا” (عب9: 23، 24).

وأكّد القديس بولس الرسول فى رسالته إلى العبرانيين أن السيد المسيح قد دخل إلى السماء عينها كسابق للقديسين فقال: “حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا صائراً على رتبة ملكى صادق رئيس كهنة إلى الأبد” (عب6: 20).

كذلك أكد أن السيد المسيح قد صعد إلى السماوات مرة واحدة بعد قيامته من الأموات فقال: “بدم نفسه دخل مرة واحدةً إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً” (عب9: 12).

وتكلّم أيضاً عن السماء ودعاها مدينة الله الحى وأورشليم السماوية حيث الملائكة الذين يحيطون بعرش الله فقال: “قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحى أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين فى السماوات وإلى الله ديان الجميع وإلى أرواح أبرار مكملين” (عب12: 22، 23).

وتكلّم السيد المسيح كثيراً عن ملكوت السماوات ليجتذب أنظار التلاميذ نحو السماويات فقال على سبيل المثال: “يشبه ملكوت السماوات إنساناً ملكاً صنع عرساً لابنه وأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس” (مت22: 2، 3). وقال عن نهاية العالم: “حينئذ يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس.. والمستعدات دخلن معه إلى العرس.. فاسهروا إذاً لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التى يأتى فيها ابن الإنسان” (مت25: 1،10، 13).

رابعاً: جهنم

كلمة “جهنم” هى كلمة عبرية أصلها ” جيهِنوم ” أى “وادى هنوم” وهو وادٍ عميق ضيق يقع فى جنوب أورشليم حيث قدم اليهود أولادهم للإله مولك على نحو ما فعل الوثنيون، ولذلك أمر الملك يوشيا “لكى لا يعبر أحد ابنه أو ابنته فى النار لمولك” (2مل23: 10).

كان تمثال الإله مولك النحاسى المجوف يتم إيقاد النار بداخله حتى يحمى معدنه إلى درجة الاحمرار. ثم يقدم الآباء أبناءهم كضحايا للإله مولك، فيضع الكهنة الوثنيون الأطفال الصغار على يدى التمثال المحمية بالنار مع عمل أصوات طبول وأصوات صراخ الكهنة أو أناشيد عبادتهم الوثنية للتغطية على صوت صراخ الأطفال الذين تشويهم نار ذراعى الإله مولك بصورة بشعة. وهكذا نرى كيف استعبد الشيطان البشر وماذا يفعل الإنسان بغواية إبليس حينما يفقد إنسانيته.

ولقد أصبح هذا الوادى بعد ذلك هو المكان المرفوض من المدينة وفيه كانت تُلقى أجساد المجرمين، وجثث الحيوانات، وجميع أنواع القاذورات التى يرعى فيها الدود وتشتعل فيها النار. وبسبب عمقه وضيقه والنار والدخان المتصاعد منه، صار رمزاً لمكان عقاب الأشرار فى المستقبل. وحيث إن النار كانت تميِّز المكان لذلك دُعى نار جهنم. ولقد وردت كلمة جهنم فى العهد الجديد إحدى عشرة مرة وذلك فى أناجيل متى ومرقس ولوقا وفى رسالة يعقوب الرسول وفى رسالة بطرس الرسول الثانية.

فقد قال السيد المسيح: “من قال (لأخيه) يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم” (مت5: 22). “إن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله فى جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله فى جهنم” (مت5: 29، 30).

كما قال: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحرى من الذى يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما فى جهنم” (مت10: 28).

وبذلك أوضح السيد المسيح أن عذاب جهنم سوف يشمل الجسد والروح معاً بقوله “كليهما فى جهنم” ووبّخ السيد المسيح الكتبة والفريسيين قائلاً: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلاً واحداً. ومتى حصل تصنعونه ابناً لجهنم أكثر منكم مضاعفاً” (مت 23: 15). وكذلك قال لهم: “أيها الحيات أولاد الأفاعى كيف تهربون من دينونة جهنم؟” (مت23: 33).

جهنم النار الأبدية

أوضح السيد المسيح أن فى جهنم سوف تكون النار الأبدية حيث الدود الذى لا يموت والنار التى لا تطفأ مثلما كان الحال فى وادى هنوم (جيهِنوم) فقال: “خير لك أن تدخل الحياة أقطع من أن تكون لك يدان وتمضى إلى جهنم إلى النار التى لا تطفأ. حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ” (مر9: 43،44).

وشرح يوحنا الرسول فى سفر الرؤيا عذاب الذين يسجدون للوحش ويخضعون لسلطان إبليس فقال “إن كان أحد يسجد للوحش ولصورته ويقبل سمته على جبهته أو على يده، فهو أيضاً سيشرب من خمر غضب الله المصبوب صرفاً فى كأس غضبه ويعذَب بنار وكبريت أمام الملائكة القديسين وأمام الخروف. ويصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين” (رؤ14: 9-11). وبهذا أوضح أن العذاب هو أبدى.

وكتب أيضاً عن دينونة الوحش والنبى الكذاب “فقبض على الوحش والنبى الكذاب معه الصانع قدامه الآيات التى بها أضل الذين قَبِلوا سمة الوحش والذين سجدوا لصورته وطُرح الاثنان حيَّين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت” (رؤ19: 20).

وكتب عن دينونة الأموات فى اليوم الأخير “ورأيت الأموات صغارًا وكبارًا واقفين أمام الله وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة، ودين الأموات مما هو مكتوب فى الأسفار بحسب أعمالهم. وسلّم البحر الأموات الذين فيه وسلّم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ودينوا كل واحد بحسب أعماله. وطرح الموت والهاوية فى بحيرة النار. هذا هو الموت الثانى. وكل من لم يوجد مكتوباً فى سفر الحياة طُرح فى بحيرة النار” (رؤ20: 12-15).

وكتب عن أنواع الخطاة الذين سوف يذهبون إلى العذاب الأبدى فقال: “وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم فى البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذى هو الموت الثانى” (رؤ21: 8). وأوضح السيد المسيح أن العذاب سوف يكون فى النار الأبدية المعدة لإبليس وللملائكة الأشرار “ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار اذهبوا عنى يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته” (مت25: 41). “فيمضى هؤلاء إلى عذاب أبدى” (مت25: 46).

القيامة الأولى والموت الأول – القيامة الثانية والموت الثانى

كتب القديس يوحنا الرسول فى سفر الرؤيا “هذه هى القيامة الأولى. مبارك ومقدس من له نصيب فى القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثانى سلطان عليهم” (رؤ20: 5، 6).

ما هى القيامة الأولى؟ وما هو الموت الثانى؟ وما هى علاقة ذلك بالمجيء الثانى للسيد المسيح؟ هذه الأمور سنحاول أن نجيب عنها. إلى جوار ذلك فإن القيامة الأولى تفترض قيامة ثانية، والموت الثانى يفترض موتاً أولاً فيلزمنا أيضاً أن نضع هذا فى اعتبارنا عندما نتأمل فى هذه الأقوال الإلهية الصادقة.

أولاً: القيامة الأولى

القيامة الأولى هى النصرة الروحية التى يطالبنا الرب بها فى حـياتنا الحـاضرة لكى نتأهل لمـيراث الملـكوت ونستحق أن نشارك فـى قيامة الأبرار أى القيامة الثانية.

عن القيامة الأولى قال السيد المسيح: “كل من كان حياً وآمن بى فلن يموت إلى الأبد” (يو11: 26). وقال أيضاً “الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة” (مر9 : 1).

طبعاً لم يكن المقصود فى كلام السيد المسيح عن عدم موت المؤمنين به إلى الأبد بمعنى أنهم لن يُنقلوا من هذا العالم، بل كما نقول فى صلاة أوشية الراقدين }لأنه لا يكون موت لعبيدك بل هو انتقال{ فإننا نفهم الموت فى كلام السيد المسيح بمعنى السقوط تحت سلطان ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس. وبهذا يكون السيد المسيح قد وعد أن من كان حياً بالجسد وآمن به فلن يذوق الموت الروحى إلى الأبد.

وفى قوله: “إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة” يقصد إلى جوار أن هناك قوماً كانوا عتيدين قبل وفاتهم أن يحضروا حلول الروح القدس فى يوم الخمسين، فإنه قصد أيضاً أن من آمنوا به وثبتوا فيه فلن يموتوا موتاً روحياً إلى أن يعاينوا مجيئه الثانى واستعلان ملكوت السماوات بقوة.

مع ملاحظة أن عبارة “ملكوت الله” هى عبارة عامة تشمل ملكوته الحالى وملكوته الآتى فى السماوات. أما عبارة “ملكوت السماوات” فإنها غالباً تشير إلى الحياة الأبدية فى السماوات.

 

القيامة الأولى أيضاً نفهمها عن المعمودية فى قول معلمنا بولس الرسول: “حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته.. كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو6: 4، 5، 11).

ثانياً : الموت الثانى

من الطبيعى أن من عاشوا حياتهم ملتصقين بالرب وأكملوا جهادهم وسعيهم أى أنهم قد تمتعوا بقوة القيامة الأولى، فإن الموت الثانى لن يكون له سلطان عليهم كما ورد فى سفر الرؤيا.

والموت الثانى من المفهوم إنه الهلاك الأبدى. ومن ليس للموت الثانى سلطان عليه ينطبق عليه قول الرب: “من يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاً، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة وسأعترف باسمه أمام أبى وأمام ملائكته” (رؤ3: 5).

الـذين للموت الثانى سلطان عليهم ينطبق علـيهم قـول السيد المسيح لليهود: “وتموتون فى خطيتكم” (يو8: 21). هؤلاء يموتون فى خطاياهم بمعنى أنهم يموتون الموت الأول بنهاية حياتهم على الأرض، ويتأهلون بموتهم فى خطاياهم للموت الثانى أى الهلاك الأبدى.

وقيل أيضاً عن هلاك الأشرار: “وطرح الموت والهاوية فى بحيرة النار. هذا هو الموت الثانى. وكل من لم يوجد مكتوباً فى سفر الحياة طُرِح فى بحيرة النار” (رؤ20: 14، 15).

 ثالثاً : الموت الأول

يقول الكتاب : “وُضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة” (عب9: 27). والمقصود بذلك موت الجسد، وهذا الموت الأول يشترك فيه جميع البشر حتى القديسون مثل السيدة العذراء مريم. وحتى أخنوخ وإيليا بعد صعودهما إلى السماء أحياء، فإنهما سوف يرجعان إلى الأرض ويصيران شهداء وتموت أجسادهما كباقى البشر.

ولكن هذا الموت الأول الذى يشترك فيه الجميع لا يعنى وحدة المصير للجميع لأن الكتاب يقول: “طوبى للأموات الذين يموتون فى الرب منذ الآن. نعم يقول الروح لكى يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم” (رؤ14: 13).

رابعاً : القيامة الثانية

من البديهى أن القيامة الثانية هى قيامة الأبرار للحياة الأبدية. وقد تكلّم السيد المسيح عن الأبرار الذين سوف يقيمهم عن يمينه فى يوم الدينونة “يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت 25: 34). وقال عن الأشرار مقارناً إياهم بالأبرار فى يوم الدينونة: “فيمضى هؤلاء إلى عذاب أبدى والأبرار إلى حياة أبدية” (مت25: 46).

معنى ذلك أن قيامة الأشرار للدينونة لا ينطبق عليها لقب القيامة الثانية الخاصة بالأبرار لأن الأشرار أصلاً لم يتمتعوا بالقيامة الأولى الروحية التى للأبرار، وبهذا فإن قيامة الأشرار قد أخذت فقط لقب “قيامة الدينونة” كقول السيد المسيح: “تأتى ساعة فيها يسمع جميع الذين فى القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيآت إلى قيامة الدينونة” (يو5: 28، 29). أما القيامة الثانية الخاصة بالأبرار فهى “قيامة الحياة”.

إذا كانت القيامة الأولى هى الانتصار الروحى على الشر فإن القيامة الثانية تكون هى التحرر من سلطان الموت الناتج عن الخطية الأولى التى بها دخل الموت إلى العالم. لذلك قيل فى الكتاب “آخر عدو يُبطل هو الموت” (1كو15: 26).

خاتمة

إن المعانى الخاصة بالموت الأول والموت الثانى والقيامة الأولى والقيامة الثانية، ترتبط بعمل السيد المسيح الخلاصى لتحرير البشر المفديين من عواقب الخطية، وصولاً إلى المصير الأبدى للإنسان بعد مجيء السيد المسيح الثانى الذى ينتظره القديسون بكل اشتياق ومحبة.

 

 

 

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found