تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري – الباب الخامس – الجزء الثاني

هذا الفصل هو جزء من كتاب: تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

[pt_view id=”aa2d703e20″ tag=”تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري” field=name]

الصلاة

أكمل السيد المسيح تعليمه لتلاميذه قائلاً: “ومتى صليت فلا تكن كالمرائين. فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين فى المجامع وفى زوايا الشوارع لكى يظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صليت، فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك، وصلِ إلى أبيك الذى فى الخفاء. فأبوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية”. (مت6: 5، 6).

كما قدّم السيد المسيح تعليماً عميقاً عن الصدقة المقبولة، هكذا تكلم عن الصلاة المقبولة أمام الله.

صلاة فى اتضاع

أول شرط قدمه السيد المسيح للصلاة المقبولة، أنها هى الصلاة التى لا تبحث عن مديح الناس ولا حب الظهور، ولا تستجدى إطراءهم.. الصلاة المقترنة بمشاعر الانسحاق والتواضع لأن “الذبيحة لله روح منسحق، القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله” (مز50: 17).

على الإنسان المصلى أن يختار بين أمرين: إما أن يوجه اهتمامه وصلاته إلى الرب، أو أن يوجه هذه الأمور نحو الناس.. ولا يقدر إنسان أن يخدم سيدين..

لهذا قال معلمنا يعقوب الرسول: “رجل ذو رأيين هو متقلقل فى جميع طرقه. وليفتخر الأخ المتضع بارتفاعه” (يع1: 8، 9).

وينطبق على الإنسان المنقسم فى قلبه قول يعقوب الرسول أيضاً: “فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئاً من عند الرب” (يع1: 7).

الإنسان الذى يصلى ليظهر أمام الناس أنه رجل صلاة وعبادة، يأخذ أجره مديحاً من الناس ويفقد أجره السماوى.. إلى جوار أن صلاته لا تكون مستجابة لأنها لم تقدّم بقلب خالص أمام الله. يضاف إلى ذلك أن يكون قد خسر فضيلة الاتضاع وبدأ قلبه يرتفع.. وهذا منتهى الخطورة على حياته الروحية ومحاربته للشياطين. أما المنكسر القلب فقيل عنه: “وليفتخر الأخ المتضع بارتفاعه” (يع1: 9).

ينبغى أن يُذكِّر الإنسان نفسه بهذه الأمور كلما راودته أفكار السبح الباطل.. لأن شيطان الكبرياء وحب الظهور لا يكُف عن محاربة الإنسان بقصد تدمير برج الفضائل التى تعب فى بنائها بالتعب والسهر والجهاد الروحى.

ادخل إلى مخدعك وأغلق بابك

الصلاة هى وسيلة النمو فى المحبة والعلاقة مع الله.. المخدع الحقيقى فى الصلاة هو مخدع القلب. وإغلاق الباب هو إغلاق أبواب الفكر والحواس الخارجية والانحصار فى الحديث مع الله.

الدخول إلى المخدع فى المنزل يساعد على الدخول إلى مخدع القلب الداخلى، وإغلاق باب حجرة الصلاة يساعد على إغلاق أبواب الفكر والحواس عن المشاغل الخارجية.

فإلى جوار أن الصلاة السرية بعيداً عن أنظار الآخرين تبرهن على عدم الرياء والتظاهر بالتقوى، فإنها أيضاً تساعد على التركيز فى الصلاة.

أما فى الصلوات العامة فى القداسات وسائر الصلوات الطقسية فالمطلوب فيها هو الانحصار داخل القلب وعدم الانشغال بما يفعله الآخرون.

المهم فى كل الأحوال أن يدخل الإنسان إلى العمق فى صلاته ويصلى بفكره وبمشاعره ويشعر أن الملك قد أدخله إلى حجاله كقول عروس النشيد (انظر نش1: 4).

الدخول إلى المخدع هو الدخول إلى حجال الملك والتمتع بالعشرة معه وتذوق حلاوة عربون ملكوت السماوات.

الصلاة هى السلم الروحانى الذى يرفع الإنسان من الأرض إلى السماء وهى شركة مع الملائكة السمائيين فى حياة التسبيح، وهى الطريق الواضح للامتلاء من الروح القدس وتقديس الحواس.

الروح القدس يرافق المصلى فى صلاته “الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها” (رو8: 26).. الروح القدس ينير قلب الإنسان وفكره وحواسه ويفتح أذنيه ليسمع صوت الله من خلال الصلاة.

ليست الصلاة حديثاً من طرف واحد ولكنها حديث من طرفين..

فالإنسان يقف أمام الله ويتكلم معه وفى نفس الوقت يقول مع المرنم: “إنى أسمع ما يتكلم به الرب الإله، فإنه يتكلم بالسلام لشعبه ولقديسيه وللذين رجعوا إليه بكل قلوبهم” (مز84: 8).

الصلاة بالمزامير تعطينا فكرة عن هذا النوع من الحوار؛ يقول المصلى للرب: “أنت هو ناصرى وملجأى. إلهى فأتكل عليه”. ويقول الرب للمصلى فى نفس المزمور: “لأنه علىَّ اتكل فأنجيه. أستره لأنه عرف اسمى. يدعونى فاستجيب له. معه أنا فى الشدة، فأنقذه وأمجده. وطول الأيام أشبعه وأريه خلاصى” (مز90: 14، 15).

صلى إلى أبيك

الصلاة فى المسيحية هى علاقة حب بين ابن وأبيه السماوى. فيها الدالة وفيها المهابة والاحترام اللائق من الابن نحو أبيه. وقد أوصى السيد المسيح تلاميذه حينما علّمهم الصلاة أن يدعوا الله أباً ويقولوا: “أبانا الذى فى السماوات” (مت6: 9).

يجازيك علانية

الإنسان الذى يقدم العبادة لله فى الخفاء سوف ينمو فى العلاقة مع الله ويستحق الجزاء الأخروى لأنه لم يأخذ أجره على الأرض.

الذى يصلى فى الخفاء بعيداً عن الرياء وحب الظهور، يجازيه الآب علانية فى الحياة الأبدية لأنه قد انتفع من صلاته ومن عبادته ومن عشرته مع الله، وامتلأ من الروح القدس.

الصلاة الربية

قال السيد المسيح لتلاميذه: “صلوا أنتم هكذا: أبانا الذى فى السماوات..” (مت6 : 9).

إنه شرف عظيم أن يتجه الإنسان نحو الله أبو ربنا يسوع المسيح ويدعوه أباً.

مفهوم البنوة لله

إن السيد المسيح هو ابن الله الوحيد الجنس.. أى الوحيد الذى له نفس جوهر الآب وطبيعته وذلك فى ولادته الأزلية من الآب قبل كل الدهور. فبنوة السيد المسيح للآب هى بالطبيعة وهو الوحيد الفريد فى ولادته بهذه الصورة من الآب.

ولكن السيد المسيح أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له: أى أخذ البنوة للإنسان بالتجسد فصار ابناً للإنسان بولادته من العذراء مريم وأعطانا أن نصير أولاداً لله بالتبنى بولادتنا الجديدة فى المعمودية.

الرب يسوع المسيح هو ابن الله بالطبيعة من حيث لاهوته أما نحن فبعد أن كنا أبناء للجسد صرنا أولاداً لله بالتبنى، ونلنا طبيعة جديدة تمتلئ من بر المسيح كقول الكتاب: “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17). ومعنى ذلك أن الطبيعة الجديدة التى نلناها فى المعمودية هى أيضاً طبيعة مخلوقة، ولكنها تكتسى ببر السيد المسيح “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل 3: 27).

فلكى يدعو الإنسان الله أباً له؛ ينبغى أن يتحلى بالفضائل الروحية، وأن يكتسب الطبيعة الجديدة، وأن يسلك فى وصايا الله بالطاعة والمحبة، وأن يحيا بالإيمان، وأن يكون نوراً فى العالم، وملحاً للأرض.. لهذا قال السيد المسيح لتلاميذه: “كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السماوات هو كامل” (مت5: 48).

وقال يوحنا الرسول: “انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله” (1يو3: 1).

إنها عطية فائقة ينبغى أن نعرف مقدارها.. وحينما نصلى نطلب من الله أن يمنحنا الاستحقاق أن ندعوه أباً لنا.

ففى صلاة القداس الإلهى يقول الكاهن: [طهّر نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا وقلوبنا وعيوننا وأفكارنا وأفهامنا ونياتنا. لكى بقلب طاهر ونفس مستنيرة، ووجه غير مخزى، وإيمان بلا رياء، ومحبة كاملة، ورجاء ثابت نجسر بدالة بغير خوف أن ندعوك يا الله الآب القدوس الذى فى السماوات، ونقول: أبانا الذى فى السماوات..] (القداس الباسيلى).

فلكى نجسر أن ندعو الله الآب أباً لنا نطلب منه أن يطهر نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا وقلوبنا وأفكارنا وأفهامنا ونياتنا.. أى أن يطهر فينا كل شئ فى الداخل والخارج.. ولكى نطلب بدون خوف فينبغى أن يكون ذلك بقلب طاهر ونفس مستنيرة ووجه غير مخزى، وإيمان بلا رياء، ومحبة كاملة ورجاء ثابت.. كل هذه الصفات الرائعة نحتاج إليها لكى تكون لنا دالة ولكى نجسر أن ندعو الله الآب ونقول له: “يا أبانا..”.

كم من مرة يصلى فيها المرء الصلاة الربية دون أن ينتبه إلى خطورة مناداة الله الآب بهذا النداء بدون الاستعداد الكافى واللائق. وها هو صوته يعاتبنا قائلاً: “إن كنت أنا أباً فأين كرامتى؟!” (ملا 1: 6).

أبوة الله وحنانه

إن السيد المسيح بدعوته لنا أن نصلى ونقول: “أبانا الذى فى السماوات..” يقصد أن يذكرنا بقداسة الله، وما يليق به من كرامة، كما أنه يريد أن يذكرنا بأبوته لنا. أى أن الله الآب قد أحبنا وينبغى أن تقوم علاقتنا معه على الثقة والمحبة.

كان الإنسان يشعر أنه يتعامل مع الله كعبد يخشاه ويتقيه، ولكن ليس كابن يشعر بمحبته وعنايته وأبوته وحنانه.

لهذا قال السيد المسيح: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16).

أى إلى هذه الدرجة.. إلى هذا المقدار وصلت محبة الله أن يقدم أغلى ما عنده من أجل خلاص الإنسان.

وهكذا قال الرب لشعبه فى نشيد الكرمة: “ماذا يُصنع أيضاً لكرمى وأنا لم أصنعه له ؟!!” (إش5: 4).

لقد فعل الرب من أجلنا أكثر مما نطلب وأكثر مما نفتكر.. وقد بيّن محبته إذ ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا.

كان السيد المسيح يؤكد باستمرار لتلاميذه أبوة الله الآب لهم ويكشف لهم محبته مثلما قال: “الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتمونى، وآمنتم أنى من عند الله خرجت” (يو16 :27).

وفى مناجاته مع الآب قبل الصلب فى ليلة آلامه قال له: “أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى من العالم.. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به وأكون أنا فيهم” (يو17: 6، 26).

إن اسم “الآب” لم يكن معروفاً ولا مستخدماً بنفس الصورة التى أبرزها السيد المسيح.. إذ جعله مثل أنشودة جميلة يتغنى بها ويكررها باستمرار. وهكذا دعانا أن نردد هذا الاسم الحسن والمحبوب ونقول: “أيها الآب أبانا”.

أبانا الذى فى السموات

يلفت نظرنا أن السيد المسيح قد وجهنا أن نصلى إلى الآب باعتباره أنه فى السماوات، وذلك بالرغم من أن الرب كائن فى كل مكان. وتتضح كينونة الرب فى كل مكان فى مواضع كثيرة فى الكتاب المقدس، ولكن السماوات لها وضعها ومعناها الخاص من الناحية الروحية.

الرب كائن فى كل مكان

إن الرب لا تحده أرض ولا سماء، مجده ملء السماوات والأرض. لهذا قال المرنم: “أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك. وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر، فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك” (مز139: 7-10).

إن المرنم يتكلم عن وجود الإله المثلث الأقانيم الآب والابن والروح القدس فى كل مكان.

كذلك قال الرب فى سفر أرميا: “إذا اختبأ إنسان فى أماكن مستترة أفما أراه أنا يقول الرب؟ أما أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب؟” (أر23: 24).

وقال السيد المسيح: “السماء كرسى الله. والأرض موطئ قدميه” (انظر مت5: 34، 35).

وكتب معلمنا بولس الرسول عن تدبير الخلاص الذى قصده الله فى نفسه “لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ فى المسيح. ما فى السماوات وما على الأرض” (أف1: 10). وهو يعنى بذلك أن الله يجمع فى المسيح جميع القديسين من الملائكة والبشر الموجودين فى السماء وعلى الأرض. وذلك لأن المسيح حاضر فى كل مكان، كما وعد تلاميذه: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمى، فهناك أكون فى وسطهم” (مت18: 20).

وفى سفر الرؤيا قال السيد المسيح: “هذا يقوله ابن الله الذى له عينان كلهيب نار ورجلاه مثل النحاس النقى.. فستعرف جميع الكنائس أنى أنا هو الفاحص الكلى والقلوب وسأعطى كل واحد منكم بحسب أعماله” (رؤ2: 18، 23). وهذا يوضح أن عينى الرب تبصران كل شئ فى الوجود ولا يخفى عليه حتى ما فى داخل قلب الإنسان.

السماوات

مع أن الرب كائن فى كل مكان، إلا أنه مكتوب أنه ساكن فى السماوات أو فى الأعالى كقول المرنم: “الرب عال فوق كل الأمم. فوق السماوات مجده. من مثل الرب إلهنا الساكن فى الأعالى، والناظر إلى المتواضعين، فى السماء و على الأرض” (مز 112: 4-6).

كذلك قيل فى المزمور “الرب فى السماوات ثبت كرسيه ومملكته على الكل تسود” (مز103: 19).

وقيل أيضاً: “السماوات سماوات للرب. أما الأرض فأعطاها لبنى آدم” (مز115: 16). وهذا الأمر له مدلولاته الروحية كما سوف نرى.

وعن تجسد ابن الله الكلمة قيل فى المزمور: “طأطأ السماوات ونزل وضباب تحت رجليه. وركب على كَروب وطار وهف على أجنحة الرياح” (مز18: 9، 10).

وعن بناء هيكل سليمان الذى بناه مسكناً للرب قال: “هل يسكن الله حقاً على الأرض؟ هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك فكم بالأقل هذا البيت الذى بنيت” (1مل8: 27).

وفى إشارة إلى أن الرب هو خالق جميع الأشياء فى السماء وعلى الأرض ورد فى سفر الأمثال “من صعد إلى السماوات ونزل. من جمع الريح فى حفنتيه. من صَر المياه فى ثوب. من ثبّت جميع أطراف الأرض. ما اسمه، وما اسم ابنه إن عرفت؟” (أم30: 4). ولا تخفى هنا الإشارة الواضحة إلى ابن الله الوحيد الذى كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان.

وعن ارتفاع مجد الرب فوق السماوات قيل فى المزمور: “أيها الرب ربنا ما أعجب اسمك فى الأرض كلها، لأنه قد ارتفع عِظَم جلالك فوق السماوات” (مز8: 1).

والرب يرتفع فوق السماوات كما قيل أيضاً فى المزمور: “اللهم ارتفع على السماوات. وليرتفع مجدك على سائر الأرض” (مز56: 5).

إن كلمة السماوات هى جمع كلمة سماء، وهى مشتقة من الفعل سما أى ارتفع إلى فوق. والتسامى والسمو يشير إلى الارتفاع أو التفوق فى الخواص أو القيم أو المبادئ أو السلوك.

وبالرغم من أن الرب حاضر فى كل مكان، إلا أنه يسكن فى السماوات، بل ويعلو فوق السماوات لأنه مَن مثل الرب فى قداسته وصلاحه ومحبته وكل صفاته الإلهية؟!.

إن الرب لا يتعالى على الخليقة، ولكنه بحكم طبيعته المتفوقة فى كل شئ يسمو عليها ويجتذبها نحو السمو والرفعة والقداسة. لهذا اختار الرب أن يسكن فى الأعالى.. لأن من الأعالى يكون مجده كما قيل فى المزمور “قد ارتفع عِظَم جلالك فوق السماوات” (مز8: 1).

لقد أراد الشيطان أن يرفع كرسيه فوق كواكب الله وأن يصير مثل العلى وأن يجلس على جبل الاجتماع فى أقاصى الشمال (انظر إش14: 13، 14). ولكنه كان ينبغى أنه يفهم أنه لا يوجد مثل الله فى القداسة والحق والمحبة. وأنه هو مصدر الحياة للخليقة كلها. فالله لا يفرض نفسه على أحد، ولكن الخليقة بدونه تفقد قيمة وجودها، لأنها هى أصلاً قد خلقت لتشهد لمجده وصلاحه ومحبته وتتمتع بالوجود فى حضرته حيث تستمد منه الحياه.

أراد السيد المسيح أن يجتذب عقولنا وأفكارنا نحو السماويات. لهذا علمنا أن نصلى ونقول: “أبانا الذى فى السماوات..”.

ومَن كان أبوه فى السماوات فإن اشتياقاته تكون سمائية. ويفرح إذا افتكر أنه سوف يذهب إلى السماء. وإن انتقل أحد الأحباء فلا يحزن كالباقين الذين لا رجاء لهم، لأنه يؤمن أن الذين يحبون الله سوف يجتمعون معاً فى الفردوس بعد خروجهم من الجسد. ويجتمعون معاً فى ملكوت السماوات بعد مجيء السيد المسيح ليحيوا فى أمجاده الأبدية.

مَن كان أبوه فى السماوات فإنه يحمل صورة أبيه السماوى ويسلك بطريقة سمائية كقول بولس الرسول: “سيرتنا نحن هى فى السماوات” (فى3: 20).

إن عبارة “أبانا الذى فى السماوات..” فى بداية الصلاة الربية هى دعوة لنا لكى نرفع عقولنا وأفكارنا إلى كل ما هو سمائى وكل ما هو مجيد ولا ننشغل بالأرضيات أو بأباطيل هذا العالم الزائلة.

إذا رفعنا قلوبنا وعقولنا فى الصلاة نحو أبينا السماوى، فلا يليق إطلاقاً أن نحب العالم. لأن “محبة العالم عداوة لله” (يع4: 4).. وهذه هى بداية الصلاة اللائقة والمقبولة أن نشعر بأبوة الله، وننطلق نحوه بمشاعر الحب والتقدير فى السماويات.

ليتقدس اسمك

أول طِلبة فى الصلاة الربية بعد مخاطبة الآب السماوى هى هذه الطِلبة، ومعناها:

ليتقدس اسمك: فى نظرنا وفى أفكارنا.

فى أفواهنا.

فى حياتنا.

فى نظر الآخرين.

من النصوص الموجودة فى الكتاب المقدس يمكننا أن نلمس أهمية هذه الطلبة.

فقد قال الله فى العهد القديم: “وتكونون قديسين لأنى أنا قدوس” (لا11: 44). وقيل عنه: “ليس قدوس مثل الرب” (1صم2: 2)، “فإن الرب إلهنا قدوس” (مز98: 9).

وقيل فى العهد الجديد “نظير القدوس الذى دعاكم. كونوا أنتم أيضاً قديسين فى كل سيرة” (1بط1: 15)، “لأن القدير صنع بى عظائم واسمه قدوس” (لو1: 49).

كلمة “قدوس” قيلت عن الآب وعن الابن وعن الروح القدس، وقيلت فى الثلاث تقديسات (Trisagion) التى تسبح بها الملائكة الثالوث القدوس أو أى أقنوم من الأقانيم الثلاثة.

قيل عن الآب: “أيها الآب القدوس” (يو17: 11).

وقيل عن الابن: “لذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو1: 35).

وقيل عن الروح القدس: “روح الموعد القدوس” (أف1: 13).

ليتقدس اسمك فى نظرنا وفى أفكارنا

ينبغى أن نرى الله كقدوس ونفتكر فيه كقدوس. القداسة هى من صميم طبيعته وجوهره.

الله كقدوس يحب القداسة، ويكره الشر ويرفضه. ولهذا كان ينبغى التكفير عن الخطية، لإعلان قداسة الله للخليقة كلها.

لا مغفرة بدون إعلان سخط الله وغضبه ضد الخطية.

لا مغفرة على حساب قداسة الله الكاملة والمطلقة.

لهذا ففى الصليب أعلن الله محبته غير المحدودة، وأعلن أيضاً قداسته غير المحدودة فى رفضه للشر وغضبه على الخطية.

لقد نقل الآب الخطية ليحملها ابنه الوحيد الذى تجسد من أجل خلاصنا، ويوفى الدين ويكفر عن خطايا كثيرين.

هذا الابن الوحيد المتجسد حامل خطايا العالم تألم “وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شئ” (رؤ19: 15).

وتحاور معه إشعياء النبى قائلاً: “من ذا الآتى من أدوم بثياب حُمر من بصرة، هذا البهى بملابسه المتعظم بكثرة قوته” (إش63: 1). فسأله النبى: “ما بال لباسك محمر، وثيابك كدائس المعصرة؟” (إش63: 2). فأجابه مؤكداً: “قد دست المعصرة وحدى، ومن الشعوب لم يكن معى أحد” (إش63: 3).

وقيل عن السيد المسيح أيضاً: “هو حمل خطية كثيرين وشفع فى المذنبين” (إش53: 12). وأنه “بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها” (إش53: 11). وقال الآب عنه إنه “ضُرب من أجل ذنب شعبى” (إش53: 8).

وقيل عنه أيضاً: “مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا” (إش53: 5، 6).

لقد مات البار عوضاً عن الخطاة لأنه حمل آثامهم و”أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم” (إش53: 10).

لقد ظهرت قداسة الله فى أجلى معانيها على الصليب، حينما اتقدت نار المحرقة فى الذبيحة بكاملها، وهذا الغضب الإلهى ضد الخطية قد زال حينما أوفى الابن المتجسد دين الخطية كاملاً، لأن الله هو “قدوس”.

إننا حينما نصلى ونقول للآب: “ليتقدس اسمك”، نعيش بأفكارنا هذه الحقيقة أن الله قدوس رافض للشر

والخطية، وأن “إلهنا نار آكلة” (انظر تث4: 24). وأن الملائكة تحجب وجوهها وأرجلها من بهائه وقداسته، حينما تقترب منه بالصلاة والتسبيح.

وحينما نصلى ونرتفع إلى الله بأفكارنا، نتذكر الآية التى تقول: “القداسة التى بدونها لن يرى أحد الرب” (عب12: 14). لأن الله قدوس. ومن أراد أن يقترب إليه، فينبغى أن تتقدس أفكاره وحواسه ومشاعره.

ليتقدس اسمك فى أفواهنا

أو لتتقدس أفواهنا حينما نذكر اسمك لأنه قدوس.

ليتقدس اسمك في أفواهنا لأن شفاهنا ينبغى أن تنطق بمجدك وقداستك وتسبحك كقدوس.

نصلى فى القداس الباسيلى إلى الآب ونقول: {قدوس قدوس قدوس} بالحقيقة أيها الرب إلهنا الذى جبلنا وخلقنا ووضعنا فى فردوس النعيم..

ويرتل الشمامسة فى القداس أيضاً قائلين: [الشاروبيم يسجدون لك والسارافيم يمجدونك، صارخين قائلين قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس].

ليتقدس اسمك فى حياتنا حينما نحيا كقديسين يتقدس اسمك.

قال السيد المسيح لتلاميذه عن حياة الكمال: “لكى يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذى فى السماوات” (مت5: 16).

إذا أردنا أن يتقدس اسم الله، ينبغى أن نحيا كقديسين.

كيف يفهم الناس قداسة الله، إلا من خلال رؤيتهم لحياة القديسين.

لهذا قال الرسول: “أنتم رسالة المسيح المقروءة من جميع الناس” (انظر 2كو3: 2، 3).

“لأننا رائحة المسيح الذكية” (2كو2: 15).

“أنتم نور العالم” (مت5: 14).

حينما يتقدس اسمك يا رب فى نظرنا وأفكارنا، وحينما يتقدس فى أفواهنا، وحينما يتقدس فى حياتنا.. حينئذ يتقدس فى نظر الآخرين.

لهذا يقول معلمنا بطرس الرسول: “قدسوا الرب الإله فى قلوبكم، مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذى فيكم بوداعة وخوف” (1بط3: 15).

ليأت ملكوتك

ما هو ملكوت الله؟

الملكوت هو الدخول فى ملكية الله وأن يملك الرب على الإنسان، أن يكون الله هو الملك وهو المالك.

إن سكنى الروح القدس فى الإنسان هو وجود لملكوت الله فى داخله.

وولادة الإنسان من الماء والروح فى المعمودية هو دخول فى ملكية الله. هذه الولادة الجديدة تتم باستحقاقات دم المسيح. ولهذا قال الكتاب “قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله” (1كو 6: 20).

لقد اشترانا السيد المسيح بذبيحته الإلهية على الصليب وصرنا ملكاً له ولأبيه الصالح والروح القدس.. دخلنا فى ملكية الله حينما اشتركنا مع المسيح فى صلبه وقيامته فى المعمودية. صرنا أعضاء فى جسده المقدس، وتحقق فينا قول الرسول: “ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء المسيح.. وأنكم لستم لأنفسكم” (1كو 6: 15، 19).

وفى سر الميرون صرنا هيكلاً للروح القدس. أخذنا المسحة المقدسة وختمنا بروح الموعد القدوس. وهذا الختم هو علامة للملكية وعلامة لسكنى الله فى داخلنا، كقول بولس الرسول: “أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم” (1كو3: 16).

ملكوت الله وملكوت السماوات

إن قداسة البابا شنودة الثالث ـ أطال الرب حياته ـ يلفت الأنظار باستمرار إلى الفرق بين عبارة “ملكوت الله” وعبارة “ملكوت السماوات”.

عبارة “ملكوت الله” أعم وأشمل من عبارة “ملكوت السماوات”. ملكوت الله يبدأ منذ الآن ويستمر إلى الأبد فى ملكوت السماوات لوارثى الملكوت. كما أن ملكوت الله يخص حياة الإنسان ويشير أيضاً إلى جماعة القديسين فى السماء وعلى الأرض.

لهذا قال السيد المسيح: “لا يأتى ملكوت الله بمراقبة.. لأن ها ملكوت الله داخلكم” (لو17: 20، 21).

أى أن ملكوت الله ينشأ أولاً فى داخل الإنسان. ولا ينبغى أن يبحث عنه خارجاً عنه.

الإنسان الذى يملك الله على قلبه وحياته هو الذى يمكنه أن يدخل إلى ملكوت السماوات. أى أن دخول ملكوت الله إلى قلب الإنسان، هو شرط دخول الإنسان إلى ملكوت السماوات. فى ملكوت السماوات يوجد الله الواحد المثلث الأقانيم، وعرشه وملائكته وقديسيه، الذين ينعكس عليهم مجده ويظهر فيهم مجد ملكوته، فيصيرون هم أنفسهم جزءًا من ملكوت السماوات. أى أن الأمجاد السماوية يتألق فيها القديسون بمجد عظيم، كما قال السيد المسيح: “حينئذ يضئ الأبرار كالشمس فى ملكوت أبيهم” (مت 13: 43).

لو تخيلنا ملكوت السماوات مثل حديقة روحانية فإن القديسين هم الأزهار والورود التى تزين هذه الحديقة.

ولو تخيلناه مثل كنيسة مجيدة، فإن القديسين يكونون مثل المصابيح المنتشرة فى صحن هذه الكنيسة. أو مثل “النجف” المنير الذى تتجمع فيه اللمبات المضيئة ببريق جميل فى مجموعات تشبه جوقات الملائكة القديسين يسبحون الله صاحب المجد والجلال والبهاء غير الموصوف.

إذن فملكوت الله هو فى السماء وعلى الأرض، الآن وفى الدهر الآتى، فى داخل الإنسان وفى داخل غيره من البشر، ويشمل البشر والملائكة. أما ملكوت السماوات فهو فى السماء فى حياة الدهر الآتى، ويدخله المستعدون لمجيء العريس.

لهذا قال السيد المسيح: “يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن لاستقبال العريس. خمس منهن كن حكيمات، وخمس جاهلات.. والمستعدات دخلن معه إلى العرس، وأغلق الباب” (مت25: 1، 2، 10).

حياة الاستعداد

يلاحظ فى مثل الخمس عذارى أن المستعدات هن اللاتى ملأن آنيتهن من الزيت.

هذا الزيت يشير إلى عمل الروح القدس وسكنى الروح القدس فى الإنسان. لهذا نصلى ونقول: “ليأت ملكوتك”. أى ليملك روحك القدوس على قلبى وحياتى. لتملأ محبة المسيح هذا القلب “لأن محبة الله قد انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5: 5).

إذا امتلأ القلب من محبة المسيح، فمعنى ذلك أنه ممتلىء من الروح القدس.. وهذا هو الاستعداد المطلوب للدخول إلى العرس. إن من يستعد داخلياً لاستقبال العريس، سيطلب مجيء الرب بثقة وفرح. وهنا تمتد طلبته “ليأت ملكوتك” لتعنى أيضاً استعلان ملكوت السماوات. ولهذا تصلى الكنيسة فى قانون الإيمان وتقول }وننتظر قيامة الأموات، وحياة الدهر الآتى آمين {.

ينبغى أن ننتظر ملكوت السماوات كما هو مكتوب: “السماوات التى منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح. الذى سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” (فى 3: 20، 21).

ولكن هذا لا يعنى أن ننشغل بموعد المجيء الثانى للسيد المسيح لأنه قال لتلاميذه: “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التى جعلها الآب فى سلطانه” (أع1: 7).

الطلبة من أجل الآخرين

كما نصلى من أجل أن يملك الله على حياتنا، ينبغى أن نصلى ليملك الله على كل قلب.. نصلى من أجل انتشار ملكوت الله.

كان السيد المسيح يردد منذ بداية خدمته: “قد كمل الزمان، واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر1: 14).

ونحن حينما نطلب إلى الآب السماوى ونقول “ليأت ملكوتك” فإننا نصلى من أجل بشارة الإنجيل، أن تكون مقبولة فى قلب كل إنسان.

إن ملكوت الله قريب من كل إنسان كما قال السيد المسيح. ولكن ليس كل إنسان قريب من ملكوت الله.. لأن قبول الملكوت يلزمه التوبة والإيمان ببشارة الخلاص.

ونحن نصلى فى الصلاة الربية من أجل جميع البشر لكى يجد ملكوت الله مكاناً فى قلوبهم.

حينما قال أغريباس الملك للقديس بولس الرسول الذى وقف أمامه والقيود فى يديه “بقليل تقنعنى أن أصير مسيحياً. فقال بولس الرسول: كنت أصلى إلى الله أنه بقليل وبكثير ليس أنت فقط بل أيضاً جميع الذين يسمعوننى اليوم يصيرون هكذا كما أنا ما خلا هذه القيود” (أع26: 28، 29).

لتكن مشيئتك، كما فى السماء، كذلك على الأرض

نأتى الآن إلى الطلبة الثالثة فى الصلاة الربية، وهى: “لتكن مشيئتك، كما فى السماء، كذلك على الأرض” (مت 6: 10).

ليس هناك أنفع ولا أحكم ولا أجمل من مشيئة الله..

الله القدوس المحب للخير وصانع الخيرات..

الله العارف بكل شئ.. الذى يعرف الأمور قبل كونها..

الذى لا يحده مكان ولا زمان، فهذا “الكائن والذى كان والذى يأتى القادر على كل شئ” (رؤ1: 8).

الضابط الكل (بانطوكراتور)..

“الذى ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع 1: 17).

الذى ليس فيه ظلمة البتة..

الأمين فى مواعيده، والقادر على تحقيقها..

المعين، والمدبر، والحكيم، والرؤوف، والعادل..

الذى ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء..

الله هو الجدير بأن نثق فى مشيئته، ونقبلها، ونسلك بمقتضاها.. بل أن تصير مشيئته هى شهوة تشتاق قلوبنا إلى تحقيقها، ونجد مسرتنا فيها.

مفهوم الطاعة

إن الطاعة لله ليست نوعاً من إلغاء وجود الإنسان أو إلغاء إرادته الخاصة.. ولكنها لتأكيد هذا الوجود،

ولتزكية هذه الإرادة. فالطاعة تحتاج إلى إرادة قوية تقدر أن تطيع، وتُقدِّر قيمة الطاعة..

فمثلاً الطالب الذى يطيع من يدرِّسه فى تحصيل الدرس وعمل الواجبات ويثابر فى الاستذكار، هو الذى يتقدّم فى المعرفة ويحصل على أعلى الدرجات ويصلح للرسالة التى يعد لها نفسه.

وقائد السيارة الذى يلتزم بقواعد القيادة السليمة، يضمن سلامته هو وسيارته، ويضمن سلامة الآخرين، ويصل إلى مقصده ويتمم مسعاه.

الوصية الإلهية هدفها خير الإنسان وحفظه من العطب والفساد الذى تسببه الخطية. كما أن هدفها هو تمجيد الإنسان ومكافأته على هذه الطاعة، مع ما تجلبه الطاعة من خير وبركة وخلاص.

من وجد حياته يضيعها

قال السيد المسيح: “من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها” (مت10: 39) والمقصود بهذه العبارة أن من يسلك حسب أهدافه الخاصة بعيداً عن مشيئة الله فسوف يضيع نفسه.

الإنسان فى سعيه لتحقيق ذاته وتحقيق وجوده يخرب نفسه.. وفى سعيه لتحقيق مشيئة الله يحفظ نفسه لحياة أبدية..

الله هو مصدر الوجود، ومصدر الحياة. فهو الذى “به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع 17: 28). فلا معنى للوجود بدون الله، ولا معنى للحياة بدونه.

الله لا يفرض وجوده فى حياتنا.. ولكننا نحن المحتاجين إلى هذا الوجود.

تماماً مثلما لا يفرض الماء وجوده علينا.. بل نحن المحتاجين إلى الماء لكى نحيا به.

وعندما يبعد الإنسان عن الله يحزن الله على البشرية ويقول: “تركونى أنا ينبوع المياه الحية، لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماء” (أر2: 13). وقال السيد المسيح: “إن عطش أحد فليقبل إلىّ” (يو7: 37). وقال أيضاً عن الماء المادى: “من يشرب هذا الماء يعطش أيضاً” (يو4: 13). وقال عن ماء الحياة الأبدية: “ولكن من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد” (يو4: 14).

مشيئة الله فى السماء

إن الملائكة فى السماء يطيعون الله طاعة كاملة كقول المزمور “سبحوه يا جميع ملائكته الصانعين كلمته” (انظر مز103 : 20).

أما الملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم وسلكوا فى عدم الطاعة فقد سقطوا من السماء، كما قال السيد المسيح: “رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء” (لو10: 18).

الجميل فى السماء أن الكل هناك يصنعون مشيئة الله فى انسجام عجيب.. إنها سيمفونية الطاعة تعزفها الصفوف السمائية مثلما يسبحون الله بأفواههم، فهم يمجدونه بطاعتهم العجيبة.. إنه لحن الطاعة الذى تسمعه آذان القديسين.. وما الألحان والموسيقى إلا إيقاع متناغم على أوتار أو آلات.. هذا ربما يكون مما لم تسمع به أذن.

إننا نصلى لكى تكون مشيئة الله نافذة على الأرض فى حياتنا كما هى نافذة فى السماء.

خبزنا الذى للغد، أعطنا اليوم

هذه هى الطلبة الرابعة فى الصلاة الربية. ويلاحظ أن الطلبات الثلاث الأولى هى طلبات روحية خاصة بالله “ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما فى السماء كذلك على الأرض” (مت6: 9-10). وكذلك الطلبات التالية لطلبة “خبزنا الذى للغد، أعطنا اليوم” هى أيضاً طلبات روحية: “واغفر لنا ذنوبنا.. ولا تدخلنا فى تجربة لكن نحنا من الشرير”.. إلخ.

فالصلاة الربية كلها طلبات روحية وليس من العقول أن نطلب الخبز الجسدى فى وسط هذه الطلبات الروحية. لأن السيد المسيح قال: “اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقى للحياة الأبدية” (يو6: 27).. وقال أيضاً عن الطلبات المادية أو الجسدية “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم” (مت6: 33).

وقد فهمت كنيستنا القبطية منذ البداية معنى ترجمة هذه الفقرة من الصلاة الربية بأنها تعنى “خبزنا الآتى” Pen  wik    `nte   rac; أو “خبزنا الذى للغد” أى خبز الحياة الأبدية الذى هو بالدرجة الأولى جسد الرب ودمه فى سر القربان المقدس أو غذاء الروح بصفة عامة من ممارسات النعمة وعطايا الروح القدس والشبع من كلام الله.

معنى كلمة “إيبى أوسيون”

إن الكلمة اليونانية “إيبى أوسيون evpiou,sion” التى وردت كصفة لكلمة الخبز اليونانية “أرتونa;rton ” وردت فى العهد الجديد مرتين فقط (فى مت6: 11، لو11: 3) ويمكن أن تعنى هذه الصفة أحد المعانى التالية:

1- الجوهرى أو الضرورى للوجود والحياة.

2- الذى للغد – التالى – القادم – الآتى.

3-بمعنى الكافى لليوم الحاضر، أى يكفى من يوم لآخر.

ونلاحظ الآتى:

1- إن بعض الكنائس أو الطوائف المسيحية تصلى “خبزنا الجوهرى” والبعض “خبزنا الآتى أو الذى للغد” والبعض “خبزنا كفافنا”.

2- إن هناك معنى مشترك بين جميع هذه الصيغ، وهو أن هذا الخبز هو الخبز الضرورى للحياة واللازم لحياتنا ووجودنا. وقد وجد هذا المعنى فى قواميس اللغة اليونانية مثل قاموس افستراتيادو المسمى “قاموس العهد الجديد” الأسكندرية سنة  1910م.

3- اتفقت اللجنة اللاهوتية التابعة لقسم الإيمان والوحدة بمجلس كنائس الشرق الأوسط بعد دراسة مستفيضة على مدى عدة سنوات على اختيار عبارة موحدة تجمع كل المعانى السالفة وهى: “خبزنا الضرورى للحياة” وذلك لتوحيد استخدام الترجمة العربية للصلاة الربية أثناء الاجتماعات المسكونية فى الشرق الأوسط.

ارتباط الخبز بالحياة

قال السيد المسيح: “أنا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء” (يو6: 51) “لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم” (يو6: 33).

وقال أيضاً: “من يأكلنى فهو يحيا بى” (يو6: 57). وقال: “والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم” (يو6: 51).

ومن المعلوم أن المسيح هو الحياة إذ قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو14: 6) وقال ” أنا هو القيامة والحياة” (يو11: 25).

وبهذ نرى أن السيد المسيح قد أطلق على نفسه لقب “الخبز” (يو6: 33)، ولقب “الخبز الحى” (يو6: 51) ولقب “الحياة” (يو14: 6، 11: 25).

وفى التعبير الدارج يسمى الناس الخبز “عيش”. وكلمة عيش مثلها كلمة “عِيشة” بكسر العين تعنى “الحياة”. فالناس أيضاً يطلقون لقب الحياة على الخبز. ولكن السيد المسيح قال مردداً ما ورد فى توراة موسى “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 4، انظر تث8: 3).

إن السيد المسيح قد أوضح بهذا أنه كما يحتاج الجسد إلى الخبز المادى لكى يعيش أو لكى يحيا، هكذا تحتاج الروح إلى الخبز الروحى لكى تحيا، ولكى تنمو وتقوى. فينبغى ألاّ يهمل الإنسان غذاء الروح فى سعيه وراء غذاء الجسد. لذلك قال “ليس بالخبز وحده” أى هناك نوعان من الغذاء.

وبكل تأكيد فإن غذاء الروح هو المسيح كما قال معلمنا بولس الرسول: “لى الحياة هى المسيح” (فى1: 21).

المسيح هو الذى “به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع17: 28) لا حياة على الإطلاق بدونه.. ولا نصرة على عوامل الخطية والموت بدونه.. ولا تحرر من الهلاك الأبدى بدونه.. ولا حياة قداسة ونعمة بدونه. إنه حياتنا كلنا وخلاصنا كلنا ورجاؤنا كلنا وقيامتنا كلنا.

إنه القيامة والحياة. لهذا قال: “من يأكل جسدى ويشرب دمى فله حياة أبدية وأنا أقيمه فى اليوم الأخير” (يو6: 54). وقال: “من يأكلنى فهو يحيا بى” (يو6: 57).

ليتك يا رب تفتح قلوبنا وتنير أفهامنا حتى ندرك قوة الحياة الأبدية المذخرة لنا فيك يا قدوس.

واغفر لنا ذنوبنا

أهمية الصلاة الربية إنها هى تلك التى علّمها السيد المسيح لتلاميذه. وهنا نرى أن الرب يدعونا إلى ممارسة التوبة باستمرار، وإلى طلب المغفرة فى كل يوم.

قال معلمنا يوحنا الرسول: “إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم. إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا” (1يو1: 8-10).

إن الإنسان الذى يشعر أنه بار وبلا خطية، يكون قد سقط فى خطيئة الكبرياء. لهذا يلزمنا أن نحاسب أنفسنا على خطايانا ونبكّت أنفسنا باستمرار ونطلب المغفرة بلجاجة ومن عمق القلب.

ولكن معلمنا يوحنا الرسول أكمل كلامه قائلاً: “يا أولادى أكتب إليكم هذا لكى لا تخطئوا” (1يو2: 1). وهو يقصد أن لا يستغل أحد كلامه السابق “إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا” لكى يستحل لنفسه الخطأ بدعوى أن البشر تحت الضعف أو تحت الآلام، ومعرضين للخطأ. لذلك قال: “لكى لا تخطئوا”. ثم أكمل قائلاً: “وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً” (1يو2: 1، 2).

إن الكنيسة هى مؤسسة إلهية للشفاء من الخطية وآثارها فى حياة الإنسان. وفى القداس الإلهى يصلى الجميع قائلين: كرحمتك يا رب ولا كخطايانا.

إن طلب المغفرة شئ ضرورى ولازم لخلاص الإنسان. لأن مغفرة الخطايا فى المسيحية تقترن بالشفاء، بفعل الروح القدس المطهِّر وبدم المسيح المحيى. فبعد نيل الحِل للغفران فى سر الاعتراف؛ يؤهَّل الإنسان للتناول من جسد الرب ودمه. وفى التناول يبرأ من آثار الخطية المدمرة فيكتمل الغفران.

إن الغفران فى نظر الله ليس هو مجرد الخلاص من الغضب الإلهى الذى تسببه الخطية، بل هو أيضاً الشفاء من الخطيئة وآثارها. ففى الغفران يتم وفاء الدين من جانب، كما يتم منح الحياة الأبدية من جانب آخر. وكلا الأمران لازم للمغفرة والمصالحة الحقيقية.

لذلك جاءت طِلبة “اغفر لنا خطايانا” مباشرة بعد طِلبة “خبزنا الآتى أعطنا اليوم”. لأننا لن ننال الغفران والشفاء الكاملين إلاّ من خلال التناول من جسد الرب ودمه الأقدسين.

لهذا يقول الأب الكاهن فى الاعتراف الأخير فى القداس الإلهى عن ذبيحة القربان المقدس: }يعطى عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية لكل من يتناول منه{.

الفرق بين القداسة والعصمة

المسيحية تدعو إلى حياة القداسة ولكنها لا تؤمن بعصمة القديسين الشخصية. توجد عصمة للوحى الإلهى الذى اقتبلته الكنيسة الجامعة. ولكن لا توجد عصمة للأفراد ولا للقديسين.. إن التحرر الكامل من إمكانية الخطية سوف يصل إليه الإنسان حينما يتكلل بالبر فى حياة الدهر الآتى بعد أن يغلب حروب الشيطان فى هذا الدهر الحاضر.

الكل مدعو إلى حياة القداسة “أكتب إليكم هذا لكى لا تخطئوا” (1يو2: 1).

ولكن ليس هناك افتراض مسبّق بالعصمة من الخطية “وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب” (1يو2: 1).

كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية

تقف أمامنا هذه العبارة للقديس يوحنا الرسول، وقد يفهم منها البعض أن أولاد الله القديسين معصومون من الخطية. ولكن لنتأمل أولاً ما قاله القديس يوحنا فى ضوء ما سبق أن ذكره فى نفس الرسالة وشرحناه سابقاً: “أيها الأولاد لا يضلكم أحد. من يفعل البر فهو بار كما أن ذاك بار. من يفعل الخطية فهو من إبليس لأن إبليس من البدء يخطئ. لأجل هذا أظهر ابن الله لكى ينقض أعمال إبليس. كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله. بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. كل من لا يفعل البر فليس من الله” (1يو3: 7-10).

إن القديس يوحنا هنا يقارن بين من يسلك فى طريق الظلمة أى فى طريق إبليس، ومن يسلك فى حياة النور والبر والقداسة.. أى فى طريق الله.

لا يستطيع أحد أن يدّعى أنه مولود من الله أى أنه ابن الله وفى نفس الوقت يعيش فى حياة الخطية بلا توبة وبلا تلمذة للسيد المسيح وإنما يعيش مستسلماً لحياة الشر والخطيئة.

لا يمكن أن يجتمع النور مع الظلمة. ولا يؤهل لدخول الملكوت من يحيا فى الشر ويكره حياة البر والقداسة.

إن المسيحية تفقد محتواها الحقيقى بدون حياة القداسة. فمن يفعل البر فهو تلميذ للرب ومن يفعل الخطية فهو تلميذ لإبليس. ولا يمكن الجمع بين المسيح وإبليس فى آنٍ واحد. ولا ينبغى أن يشعر من يخطئ أنه يستطيع أن يخطئ وهو متمتع بحالة البنوة لله.

ففى حالة الخطية يحتاج الإنسان أن يعود إلى حالة البنوة من خلال وسائط النعمة بالتوبة والاعتراف والتناول.

أثناء التمتع بحالة البنوة لا يستطيع الإنسان أن يخطئ لأن زرع الله ثابت فيه. أما حينما يخطئ فإنه يكون قد تخلّى عن قوة البنوة وتخلّى عن أسلحة البنوة لله التى تمنعه من أن يخطئ.

فى حالة الخطية لا يكون الإنسان ثابتاً فى بنوته.. ويحتاج إلى تجديد قوة البنوة فى حياته بوسائط النعمة وبالثبات فى المسيح.. حالة الثبات فى المسيح هى التى تمنع الخطية. وكل إنسان مطالب بأن يثبت فى المسيح لكى لا يخطئ. ولكن إن أخطأ فليتب.

طلب المغفرة

“واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا” (مت6: 12).

تكلّمنا عن طلب المغفرة فى الصلاة، انطلاقاً من شعور الإنسان بضعفه وخطاياه واحتياجه للمغفرة.

إن من يقرع صدره طالباً المغفرة فى توبة وانسحاق مثل العشار، هو الذى تُقبل صلاته أمام الرب.. أما المتعالى الذى يفخر بأنه قد ضمن الخلاص، وأنه قد داس على الشيطان تحت الأقدام (مثلما يفعل الخمسينيون وأصحاب بدعة الخلاص فى لحظة وأمثالهم)، فإن صلاته لا تكون مقبولة أمام الرب. بل تتخلى عنه النعمة بغروره، ويكون عُرضة للسقوط فى أية لحظة. بل بالفعل يكون بعيداً عن ملكوت الله، لأن “يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة” (يع4: 6).

هكذا عاش الآباء القديسون يبكون وينوحون على خطاياهم، ويتسابقون فى طلب المغفرة والرحمة، بالرغم من حياة السمو والقداسة التى عاشوا فيها.

بل إنهم كلما اقتربوا من الله أكثر، كلما شعروا بضعفاتهم وتقصيرات محبتهم، وزادوا انسحاقاً وطلباً للمغفرة. وكان ذلك دافعاً لهم للتزايد فى حياة “القداسة التى بدونها لن يرى أحد الرب” (عب12: 14).

كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا

لا تعنى هذه العبارة فقط أننا سوف نغفر فى المستقبل، أو نغفر للمسيئين والمذنبين إلينا فى الوقت الحاضر. بل تعنى أيضاً إننا قد غفرنا فعلاً لمن أذنبوا إلينا، وذلك قبل أن نتقدم إلى الصلاة.

إن العبارة كما وردت فى النص اليونانى من الممكن أن تعطى معنى “كما غفرنا نحن للمذنبين إلينا”.

ولذلك فبعد انتهاء نص الصلاة الربانية قال السيد المسيح لتلاميذه: “إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوى. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم” (مت6: 14، 15).. إن شرط مغفرة الآب لنا، هو أن نغفر نحن لمن أساء إلينا وذلك قبل أن نطلب المغفرة.

يُحكَى عن القديس الأنبا إبرام أسقف الفيوم أن فريقين متخاصمين قد أتيا ليحتكما إليه. وبعد مناقشات طويلة لم يتمكن من مصالحتهم بأية حال. فاقترح عليهم أن يقفوا للصلاة. وعند تلاوة الصلاة الربانية قالها القديس بصوت مسموع. وعندما وصل إلى عبارة “واغفر لنا ذنوبنا..”، قال: “ولا تغفر لنا ذنوبنا، كما لا نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا”. فاستوقفه أحد المشتركون فى الصلاة ليصحح له القول حسب نص الصلاة الأصلى. فرد القديس وقال: {يا أبنائى إننا يجب أن لا نكذب على الرب فى صلواتنا ونطلب المغفرة قائلين : “كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا” ونحن فى الحقيقة لم نغفر .. بل ينبغى أن نقول الصدق لكى لا نخدع أنفسنا ونتصور أن الرب قد قبل صلاتنا}.

وقد أوضح القديس بهذا أنه أراد أن يوبخهم على قساوة قلوبهم.

وهنا ندم المتخاصمون وطلبوا من الأسقف القديس الحِل والبركة والسماح، إذ قبلوا أن يتصالحوا جميعاً. وهنا ردد معهم القديس الصلاة الربانية بحسب نصها الصحيح..

إن السيد المسيح يريدنا أن نتشبه بأبيه السمائى فى صفحه وغفرانه للتائبين الحقيقيين، مهما كانت جسامة خطاياهم.

فكما نرتاح نحن لمغفرة الآب لنا، هكذا ينبغى أن نريح الآخرين بمغفرتنا لهم.

وإن كان الرب قد قال: “كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم” (مت7: 12) فإن هذا بالحرى ينطبق على أن كل ما نريد أن يفعله الله معنا ينبغى أن نفعله نحن مع الآخرين. وذلك لأن مديونيتنا نحن لله فى خطايانا هى أبلغ بكثير من مديونية الآخرين لنا فى إساءاتهم.

وقد شرح السيد المسيح مثل العبد الذى لم يترك الدين لأخيه بعد أن ترك له سيده الدين الذى عليه. وقال إن سيده حينما علم بذلك، أمر بإلقائه فى السجن إيفاءً لما عليه..

ولكننا ينبغى فى مسألة المغفرة أن لا نفرط فى حقوق الرب، أو أن نستهين بالمقدسات. فالذى يسلك بأسلوب غير تائب، أو يكون عثرة للآخرين، ينبغى أن تحرس الكنيسة القطيع منه لئلا يكون سبباً فى هلاك غيره.

ولا تدخلنا فى تجربة

هناك نوعان من التجارب :

1- التجارب بمعنى إغراءات الخطية ومحارباتها الشريرة.

2- التجارب بمعنى الضيقات والآلام.

وقد سميت التجارب هكذا لأنها فى كلتا الحالتين اختبار لمدى قدرة الإنسان على التصدى لها أو احتمالها: فإن اجتازها بسلام يكون قد نجح فى الإمتحان، وإن لم يحتملها يكون قد رسب فى الإمتحان.

والتجارب يقوم بها الشيطان المجرّب فى كلتا الحالتين وغالباً ما يبدأ بالنوع الأول فإن فشل نتيجة التصاق الإنسان بالرب فى حياته الروحية، فإنه يتجه إلى النوع الثانى انتقاماً من فشله الأول ورغبة منه فى تطويع الإنسان أو إضعاف مقاومته حينما يعاود الكرة ويعود إلى تجارب النوع الأول لعله يفلح فى هذه المرة .. وهكذا.

حينما كان الشيطان يفشل فى إخضاع القديسين لعبادته من خلال الأوثان المحرمة، فإنه كان يصب انتقامه على أجساد هؤلاء القديسين بآلام مروّعة لإضعاف عزيمتهم فى مقاومته بقصد إخضاعهم لعبادة الأوثان بالسجود أو بالتبخير لها.

المقصود فى الصلاة الربانية

المقصود بعبارة “لا تدخلنا فى تجربة، لكن نجنا من الشرير” (مت6: 13) فى الصلاة الربانية هو تجارب النوع الأول. أى تجارب الخطية وليس تجارب الآلام والضيقات.

وهذا يتضح من قول معلمنا يعقوب الرسول: “احسبوه كل فرح يا إخوتى حينما تقعون فى تجارب متنوعة، عالمين أن امتحان إيمانكم ينشئ صبراً” (يع1: 2، 3). ومن الواضح أن المقصود بالتجارب فى قول يعقوب الرسول ليس هو تجارب الخطية بل تجارب الضيقات والآلام خاصة من أجل الرب. وقد أوضح الرسول أن تجارب الضيقات هى امتحان للإيمان إن كان إيماناً ثابتاً وحقيقياً أم لا. فكل ضيقة هى امتحان لثبات الإنسان فى محبته لله. ولذلك أكمل يعقوب الرسول كلامه بقوله: “طوبى للرجل الذى يحتمل التجربة لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذى وعد به الرب للذين يحبونه” (يع1: 12).

ولكن الرسول يفرق بين نوعى التجارب التى ذكرناها فينتقل مباشرة للحديث عن التجارب الشريرة ويقول: “لا يقل أحد إذا جُرِّب إنى أُجرَّب من قِبل الله. لأن الله غير مجرَّب بالشرور وهو لا يجرِّب أحداً. ولكن كل واحد يجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتاً” (يع1: 13-15).

إن كل شئ يتم بسماح من الله أى أنه يسمح للشيطان المجرِّب أن يجرِّب البشر بنوعي التجارب: أى بالضيقات وأيضاً بالتجارب الشريرة. ولكن الله نفسه لا يجرّب الإنسان بالتجارب الشريرة. ولا يشاء أن يسقط أحد فى الخطية. ولا أن يهلك أحد من الناس بل “يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تى2: 4). وهو لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع وتحيا نفسه كقول الرب: “إنى لا أسر بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا” (حز33: 11). أى أنه لا يسر بموت الخطاة، ولكن فى الوقت نفسه لا يمنع الشيطان من امتحان البشر لكى تثبت قداستهم وكراهيتهم للخطية، ورفضهم لإطاعة الشيطان والانسياق للأهواء والشهوات الشريرة والدنسة.

لهذا قال يعقوب الرسول عن سقوط الخطية: “لا يقل أحد إذا جرِّب إنى أجرب من قبل الله” (يع1: 13). لا يحتج الإنسان قائلاً إن الله هو الذى رتب لى السقوط، أو دبر لى الخطية، أو جعلها سهلة أمامى، أو حلوة فى نظرى .. بل إن الشيطان هو الذى يجعل الخطية جميلة وشهية فى نظر الإنسان.. وهو الذى يقترح على الإنسان فكرة التمتع بالخطية وكسر وصايا الله أو نسيانها. هو الذى يحاول إقناع الإنسان بالتعدى على الوصية المقدسة، وهو الذى يجتذب فكر الإنسان بعيداً عن محبة الله، وبعيداً عن مصلحته الأبدية.

ويقول الرسول أيضاً إن الخطية تمر بمراحل فى كيان الإنسان “كل واحد يجرّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتاً” (يع1: 14، 15). الخطية تبدأ بفكرة معروضة على الإنسان فإذا لم يرفضها فإنها تجتذبه بطريقة خادعة إرضاءً للشهوة. فإذا تفاعل الإنسان مع الشهوة، تسرى فى كيانه عوامل اللذة والدنس حتى يسكر بسحرها ونشوتها. وبسريان تأثيرات الشهوة فى كيان الإنسان يبدأ فى ممارسة الخطية إرضاءً لشهوته. وكلما توغل فى الخطية كلما اشتعلت الشهوة بزيادة حتى يصل إلى إكمال فعل الخطية دون أن يتراجع فيكون السقوط المميت.

إن هناك شيطاناً اسمه شيطان تكميل الفعل. فحينما يبدأ قلب الإنسان يضربه بسبب شروعه فى ارتكاب الخطية، يأتى شيطان تكميل الفعل ليدفعه إلى عدم التراجع. وأحياناً يقول له ما فائدة التراجع وقد أغضبت الرب لسبب شروعك فى ارتكاب الخطية؟ ولماذا تحرم نفسك من اكتمال لذة الخطية وقد حُسِبت عليك خطية.. إن التراجع لن يفيدك فى شئ. أكمِل الخطية وبعد ذلك يأتى التفكير فى التوبة.. وهكذا يظل يلح عليه حتى يتجاسر على تكميل فعل الخطية التى “إذا كملت تنتج موتاً” (يع1: 15).

كما أن الإنسان ينبغى أن يحترس تماماً من شيطان الفكر والإغراء، فإنه ينبغى أن يحترس وبقوة من شيطان تكميل الفعل.

إن التراجع عن الشهوة أسهل من التراجع عن الخطية. والتراجع عن الخطية قبل اكتمالها أفضل بكثير من الوقوع فيها. لأن اكتمال الخطية ينشئ الاعتياد عليها ويجعل طريق التوبة صعباً محفوفاً بالمخاطر.

وهناك شيطان آخر ينبغى الاحتراس منه وهو شيطان اليأس، الذى بعدما يسقط الإنسان فى الخطية يأتيه ليثير فيه مشاعر اليأس وقطع الرجاء.

فقبل السقوط يقول الشيطان للإنسان: إن الخطية هى حلوة وجميلة ومن حقك، ولا ضرر فى ارتكابها. وبعد السقوط يقول له: ها قد أضعت نفسك فى الخطية وانفصلت عن الله.. وهو لن يقبل رجوعك إليه ولا أمل فى قبوله لك، ولا أمل فى قدرتك على ترك الخطية وليس أمامك إلا الاستمرار فيها أو الاستمرار فى البعد عن الله.

إن حيل الشيطان كثيرة ومتنوعة. وفخاخه لا يستطيع أن يفلت منها إلا المتواضعون كما قيل للقديس أنطونيوس فى البرية.

 لكن نجنا من الشرير

هناك أناس لا يتصورون أن هناك حرباً من الشيطان ضد أولاد الله. ولكن كلمات السيد المسيح التى علمنا إياها فى الصلاة الربانية تظهر خطورة الموقف ووطأة الحروب الشيطانية فقال الرب متى صليتم فقولوا هكذا .. “ولا تدخلنا فى تجربة، لكن نجنا من الشرير” (مت6: 13).

إن الصلاة الربانية تحوى أهم الطلبات وأخطرها بالنسبة لخلاص الإنسان. لذلك علينا أن ندرك أهمية ترديد هذه الطلبة “لا تدخلنا فى تجربة، لكن نجنا من الشرير” نطلبها بحرارة.. ومن عمق القلب.. بصراخ.. بلجاجة.. بدموع.. إنها صرخة غريق يطلب من الرب النجاة. كما ذكر قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته- قول الشاعر:

صوتى عِلى مثل صرخة غريق بيصرخ بيصرخ بيصرخ

بيصــــــرخ بكل قـــــــــواه  للحيــــــــــــــــــــــاة

إن أهمية هذه الطلبة تؤكدها كلمات معلمنا بطرس الرسول: “اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين فى الإيمان” (1بط5: 8، 9).

إننا نحتاج من الناحية الروحية أن يحارب الرب عنا.. وأن يدفع جحافل قوات الظلمة (أى الشياطين) بقوته الإلهية.. لهذا ينبغى أن نطلب معونته باستمرار.. وبدون هذه المعونة وهذه القوة.. فلن يمكننا أن نغلب. ولكننا حينما نتسلح بقوة الرب مجاهدين، حينئذ تكون الغلبة ونترنم قائلين: “الرب قوتى ونشيدى. وقد صار خلاصى. هذا إلهى فأمجده. إله أبى فأرفعه. الرب رجل الحرب. الرب اسمه.. يمينك يا رب معتزة بالقدرة. يمينك يا رب تحطم العدو” (خر15: 2، 3، 6).

بالمسيح يسوع ربنا

لم ترد هذه العبارة فى الصلاة الربانية كما نطق بها السيد المسيح فى وقتها، وكما سجلتها الأناجيل على فمه المبارك. لأنه من ناحية هو الذى علّمها لتلاميذه، فلا يمكن -والحال هكذا- أن يقول هو عن نفسه “بالمسيح يسوع ربنا”.

ومن الجانب الآخر فإن صياغة صلوات الكنيسة التى سيترتب عليها إتمام الفداء قد ارتبط بأحداث الفداء. وفى ليلة آلامه بدأ السيد المسيح يوضح لتلاميذه كيف ينبغى تقديم الصلوات للآب السماوى بعد إتمام الفداء على أساس أنها ينبغى أن تقدم باسمه “فأنتم كذلك عندكم الآن حزن. ولكنى سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم. وفى ذلك اليوم لا تسألوننى شيئاً. الحق الحق أقول لكم: إن كل ما طلبتم من الآب باسمى يعطيكم. إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمى. اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملاً.. فى ذلك اليوم تطلبون باسمى” (يو16: 22-24، 26)

وقد أوضح السيد المسيح بذلك أنهم لم يكونوا بعد قد صلّوا الصلاة الربانية باسمه فقال لهم: “إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمى. اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملاً.. فى ذلك اليوم تطلبون باسمى”.

فمن غير اللائق إطلاقاً تقديم الطلبات للآب السماوى بعد إتمام الفداء دون أن تكون باسم الرب يسوع المسيح. فكل صلاة نصليها تسبقها الصلاة الربانية ونردد فيها هذه العبارة الخالدة “بالمسيح يسوع ربنا”.

لقد شجع السيد المسيح تلاميذه أن يوجهوا الصلاة الربانية إلى الآب مباشرة. ولكن من يستطيع أن يصلى إلى الآب بدالة البنوة إن لم يطلب باسم الابن الوحيد الفادى والمخلص يسوع المسيح؟!.

لذلك قال معلمنا بولس الرسول: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتم روح التبنى الذى به نصرخ يا أبا الآب (أى أيها الآب أبانا)” (رو8: 15). إن المصالحة التى صنعها السيد المسيح قد أعطتنا دالة البنوة.

لهذا وضعت الكنيسة عبارة “بالمسيح يسوع ربنا” كما تسلّمت ذلك من الآباء الرسل فى الصلاة الربانية. ومما يؤكد أيضاً هذه الحقيقة أن الآباء الرسل كانوا يستخدمون اسم الرب يسوع المسيح فى صنع المعجزات، وفى الكرازة بالإنجيل، وفى التعميد، وفى طلب المعجزات من الله الآب، وفى كتابة رسائلهم إلى الكنائس والمؤمنين -كما فى كتابة الأناجيل بطبيعة الحال- وصارت قاعدة لا يمكن التغاضى عنها أن هذا الاسم قد صار هو عنوان كل شئ فى المسيحية، تردده الكنيسة فى الصلاة الربانية، وعند قراءة الإنجيل، وفى كل صلواتها الليتورجية وتسابيحها، ويردده القديسون بلا فتور، ويهزمون به كل قوة العدو. فما أجمل ترديد صلاة {يا ربى يسوع المسيح خلصنى}.

ولكى نوضح أهمية اسم الرب يسوع المسيح فى حياة الكنيسة فى عصر الرسل نقدم الأمثلة التالية على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر:

أولاً: فى معجزة شفاء الأعرج من بطن أمه قال بطرس الرسول: “ليس لى فضة ولا ذهب ولكن الذى لى فإياه أعطيك باسم يسوع المسيح الناصرى قم وامشِ” (أع3: 6).

ثم قال للشعب: “إن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، إله آبائنا مَجَّد فتاه يسوع، الذى أسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس، وهو حاكم بإطلاقه.. الذى أقامه الله من الأموات، ونحن شهود لذلك. وبالإيمان باسمه شدّد اسمه هذا الذى تنظرونه وتعرفونه، والإيمان الذى بواسطته أعطاه هذه الصحة أمام جميعكم” (أع3: 13، 15، 16).

ويلاحظ أنه باسم يسوع المسيح قد تم الشفاء بحسب نطق بطرس الرسول، وأيضاً بالإيمان بهذا الاسم. أى بالنطق والإيمان بالاسم القدوس معاً.

ثانياً: فى معمودية يوم الخمسين بعد عظة بطرس الرسول للجموع المحتشدة، إذ “نخسوا فى قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الأخوة؟ فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس. لأن الموعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين على بُعد، كل من يدعوه الرب إلهنا” (أع2: 37-39).

ومن الواضح هنا أن المعمودية تتم حسب وصية الرب يسوع المسيح على اسم الآب والابن والروح القدس. والابن الذى على اسمه تتم المعمودية مع الآب والروح القدس هو الرب يسوع المسيح. فالمعمودية على اسم المسيح هى معمودية العهد الجديد على اسم الثالوث القدوس، بالإيمان بيسوع المسيح أنه هو ابن الله مخلّص العالم.

ثالثاً: فى كرازة الرسل كان اسم يسوع هو محور كرازتهم فقال بطرس لرؤساء الكهنة وعشيرتهم وكتبتهم فى أورشليم بعد شفاء الأعرج: “فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل، أنه باسم يسوع المسيح الناصرى، الذى صلبتموه أنتم، الذى أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً.. وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس، به ينبغى أن نخلص” (أع4: 10، 12).

وكان اليهود ورؤساؤهم يفزعون كثيراً من اسم الرب يسوع وقال رئيس الكهنة للآباء الرسل: “أما أوصيناكم وصية أن لا تعلِّموا بهذا الاسم؟ وها أنتم قد ملأتم أورشليم بتعليمكم.. فأجاب بطرس والرسل وقالوا: ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس” (أع5: 28، 29).

وبعد ذلك جلدوا الآباء الرسل “وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه. وكانوا لا يزالون كل يوم فى الهيكل وفى البيوت معلمين ومبشرين بيسوع المسيح” (أع5: 40-42).

وهكذا كان قد حدث أيضاً مع بطرس ويوحنا بعد شفاء الأعرج باسم الرب يسوع المسيح “بينما هما يخاطبان الشعب، أقبل عليهما الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيون، متضجرين من تعليمهما الشعب، وندائهما فى يسوع بالقيامة من الأموات.. جعلوا يسألونهما بأية قوة وبأى اسم صنعتما أنتما هذا” (أع4: 1، 2، 7) وقرروا أن يهددوهما “أن لا يكلما أحداً من الناس فيما بعد بهذا الاسم فدعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة، ولا يعلما باسم يسوع” (أع4: 17، 18).

رابعاً: حينما صلى الآباء الرسل ورفعوا صوتاً بنفس واحدة إلى الله طالبين أن يؤيد خدمتهم الكرازية بالمعجزات؛ قالوا: “ولتجر آيات وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع. ولما صلوا تزعزع المكان الذى كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة” (أع4: 30، 31). فمن الواضح أهمية إتمام المعجزات باسم الرب يسوع المسيح حينما نطلبها من الآب السماوى.

خامساً: حينما وعد السيد المسيح تلاميذه قبيل صعوده بأن ترافق المعجزات عملهم الكرازى قال لهم: “وهذه الآيات تتبع المؤمنين: يخرجون الشياطين باسمى” (مر16: 17).

وليس هذا فقط بل إن الرسل قد اختبروا قوة الاسم الحسن القدوس أى اسم الرب يسوع المسيح أثناء وجوده معهم على الأرض بالجسد كما سجّل معلمنا لوقا الإنجيلى “فرجع السبعون بفرح قائلين: يا رب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك” (لو10: 17). شعر الرسل بقوة هذا الاسم وفاعليته واختبروها عملياً.

وحدث بينما كان بولس الرسول وسيلا ولوقا الإنجيلى وبعض المؤمنين ذاهبين إلى الصلاة فى فيلبى أن جارية بها روح عرافة استقبلتهم وكانت تكسب مواليها مكسباً كثيراً بعرافتها. هذه اتبعت بولس ومن معه و”صرخت قائلة: هؤلاء الناس هم عبيد الله العلى، الذين ينادون لكم بطريق الخلاص. وكانت تفعل هذا أياماً كثيرة. فضجر بولس والتفت إلى الروح وقال: أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها. فخرج فى تلك الساعة” (أع16: 17، 18).

سادساً: فى الإيمان بكرازة الرسل كان اسم يسوع هو المحور الرئيسى للإيمان. مثلما حدث مع وزير كنداكة ملكة الحبشة حينما آمن وطلب العماد وقال له فيلبس: “إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز. فأجاب وقال: أنا أُومِنُ أن يسوع المسيح هو ابن الله.. فنزلا كلاهما إلى الماء.. فعمده” (أع8: 37، 38).

وحينما بشر فيلبس هذا الرجل من سفر إشعياء؛ يقول سفر الأعمال “ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب فبشره بيسوع” (أع8: 35). فالإيمان بيسوع أنه هو ابن الله قد بنى على كرازة المبشرين بهذا الاسم.

بل إن السيد المسيح نفسه بعد صعوده إلى السماء قد أعلن اسمه لشاول الطرسوسى حينما ظهر له بمجد عظيم فى الطريق إلى دمشق وقال شاول: “من أنت يا سيد؟ فقال الرب: أنا يسوع الذى أنت تضطهده، صعب عليك أن ترفس مناخس” (أع9: 5).

وكتب بولس الرسول “إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصتَ. لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص” (رو10: 9، 10).

(you will be saved – N.King James V.)

أى أن الإيمان بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحى يقودنا إلى الخلاص بالمعمودية وتنفيذ باقى وصايا الرب التى للعهد الجديد.

عن هذا أيضاً كتب يوحنا الرسول فى إنجيله “لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكى تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه” (يو20: 31).

سابعاً: فى كتابات الآباء الرسل كان اسم يسوع يتصدر رسائلهم بصورة واضحة ففى رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية يقول: “بولس رسول لا من الناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح والله الآب الذى أقامه من الأموات” (غل1: 1).

وفى رسالته إلى أهل أفسس يقول: “بولس، رسول يسوع المسيح بمشيئة الله، إلى القديسين الذين فى أفسس، والمؤمنين فى المسيح يسوع نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح” (أف1: 1، 2). ففى فاتحة الرسالة ذكر اسم يسوع ثلاث مرات.

وهكذا كتب يعقوب الرسول: “يعقوب عبد الله والرب يسوع المسيح يهدى السلام إلى الاثنى عشر سبطاً الذين فى الشتات” (يع1: 1).

وبطرس الرسول: “بطرس، رسول يسوع المسيح، إلى المتغربين من شتات بنتس وغلاطية وكبدوكية وأسيا وبيثينية. المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق، فى تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح لتكثر لكم النعمة والسلام” (1بط1، 2).

ويوحنا الرسول: “الذى كان من البدء، الذى سمعناه، الذى رأيناه بعيوننا، الذى شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة.. الذى رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكى يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهى مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح” (1يو1: 1، 3).

ويهوذا الرسول: “يهوذا عبد يسوع المسيح، وأخو يعقوب، إلى المدعوين المقدسين فى الله الآب، والمحفوظين ليسوع المسيح، لتكثر لكم الرحمة والسلام والمحبة” (يه1، 2).

وفى الأناجيل: “كتاب ميلاد يسوع المسيح” (مت1: 1)، “بدء إنجيل يسوع المسيح” (مر1: 1)، وبالنسبة لإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا فقد تكلما عن يسوع المسيح فى فاتحة إنجيليهما بلقب “الكلمة” أى كلمة الله (اللوغوس) ثم أوردا اسم الرب يسوع المسيح مرارًا عديدة فى الإنجيل نفسه.

معنى اسم يسوع

قال الملاك ليوسف عن خطيبته العذراء مريم: “فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم” (مت1: 21).

اسم “يسوع” باللغة العبرية هو “يهوشع” بمعنى “يهوه خلّص” كما هو مكتوب فى سفر إشعياء: “هوذا الله خلاصى فأطمئن ولا أرتعب لأن “ياه” يهوه قوتى وترنيمتى وقد صار لى خلاصاً” (إش12: 2).

وحينما ظهر الابن الكلمة فى صورة نار مشتعلة فى عليقة وهى لا تحترق فى برية سيناء لموسى النبى، وسأله موسى النبى ما اسمك؟ قال له: “هكذا تقول لبنى إسرائيل يهوه إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحق، وإله يعقوب أرسلنى إليكم هذا اسمى إلى الأبد وهذا ذكرى إلى دور فدور” (خر3: 15).

لذلك قال السيد المسيح لتلاميذه: “تكونون لى شهوداً” (أع1: 8). كما قال الرب فى العهد القديم: “أنا أنا الرب وليس غيرى مخلص.. وأنتم شهودى يقول الرب، وأنا الله” (إش43: 11، 12).

فمن يشهد ليسوع؛ يشهد ليهوه المخلص. أما شهود يهوه الذين “ينكرون الرب الذى اشتراهم، يجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعاً” (2بط:2: 1)، إنهم ينتحلون لأنفسهم هذا الاسم “شهود يهوه” بينما هم “منكرو يهوه” لأنهم ينكرون أنه هو المخلِّص.

ما أجمل أن ننادى بهذا الاسم الحسن مثلما نقول فى التسبحة (يوم السبت):

{اسمك حلو ومبارك فى أفواه قديسيك؛ يا ربى يسوع المسيح مخلصى الصالح}.

لهذا وضعت الكنيسة عبارة “بالمسيح يسوع ربنا” فى الصلاة الربانية لكى تكون مقبولة أمام الله الآب.. وبعد ذلك نكمل الصلاة الربانية للآب قائلين: {لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين}.

لأن لك الملك

فى نهاية الصلاة الربانية، وردت هذه العبارة “لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين” (مت6: 13).

عندما رفض شعب إسرائيل أن يملك الله عليهم، تضايق صموئيل النبى لأنهم طلبوا ملكاً يملك عليهم مثل باقى الشعوب. وصلّى صموئيل إلى الرب “فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب فى كل ما يقولون لك. لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياى رفضوا حتى لا أملك عليهم” (1صم8: 7).

عبارة “لأن لك المُلك” التى نقولها للرب فى الصلاة الربانية؛ نعترف بمُلكه الحقيقى، وبأننا فى ملكيته؛ لأنه هو خالق كل الأشياء وحافظها بقدرته الإلهية، كما أنه قد خلّصنا من خطايانا ومن الهلاك الأبدى بذبيحة ابنه الوحيد يسوع المسيح الذى اشترانا لأبيه.

عبارة “لك المُلك” فيها اعتراف بالحقيقة التى كثيراً ما يتجاهلها البشر. ولذلك قال صموئيل النبى لكل اسرائيل بعد أن أقام عليهم شاول بن قيس ملكاً: “هأنذا قد سمعت لصوتكم فى كل ما قلتم لى وملّكت عليكم ملكاً.. أما هو حصاد الحنطة اليوم؟ فإنى أدعو الرب فيعطى رعوداً ومطراً فتعلمون وترون أنه عظيم شرّكم الذى عملتموه فى عينى الرب بطلبكم لأنفسكم ملكاً. فدعا صموئيل الرب فأعطى رعوداً ومطراً فى ذلك اليوم. وخاف جميع الشعب الرب وصموئيل جداً. وقال جميع الشعب لصموئيل: صلّ عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت. لأننا قد أضفنا إلى جميع خطايانا شراً بطلبنا لأنفسنا ملكاً. فقال صموئيل للشعب: لا تخافوا.. لا يترك الرب شعبه من أجل اسمه العظيم.. وإن فعلتم شراً فإنكم تهلكون أنتم وملككم جميعاً” (1صم12: 1، 17-20، 22، 25).

ثم بعد أن بدأ شاول الملك بداية حسنة، استكبر قلبه وتعالى على الرب، فرفضه وأقام داود الملك عوضاً عنه.. ومن نسل داود حسب الجسد جاء السيد المسيح ابن الله الوحيد لخلاص العالم.

وقال الملاك جبرائيل للعذراء مريم عن ابنها الرب يسوع المسيح: “ابن العلى يُدعى. ويعطيه الرب الإله كرسى داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد. ولا يكون لملكه نهاية” (لو1: 32، 33).

ها قد طلب الشعب ملكاً أرضياً، رافضين أن يملك الله عليهم، وقد أخطأوا فى ذلك. ولكن الرب حوَّل مسار المُلك الأرضى مرةً أخرى إلى المُلك السمائى؛ فاستبدل شاول بداود، ثم جاء المسيح ليجلس على عرش داود وهو فى نفس الوقت الرب المالك فى السماء. وقال السيد المسيح: “مملكتى ليست من هذا العالم” (يو18: 36).

أما العرش المقصود الذى ملك عليه فكان هو خشبة الصليب؛ لأنه قال قبل صلبه: “وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلىّ الجميع. قال هذا مشيراً إلى أية ميتةٍ كان مزمعاً أن يموت” (يو12: 32، 33)؛ أى مشيراً إلى ارتفاعه عن الأرض بتسمير جسده المحيى على خشبة الصليب المقدسة.

وقال أيضاً لليهود: “متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذٍ تفهمون أنى أنا هو” (يو8: 28). أى أن العالم سوف يكتشف أن المصلوب هو يهوه المخلص.. هو ملك اليهود.. هو ملك إسرائيل.. هو الملك المرفوض من الأشرار، ولكنه هو الملك الحقيقى الذى يملك على قلوب الأبرار.

حقاً إن الرب قد ملك على خشبة وكان عنوان علته مكتوباً فوق رأسه باللغات العبرانية واليونانية واللاتينية “يسوع الناصرى ملك اليهود” (انظر مت27: 37 ، مر15: 26 ، لو23: 38 ، يو19:19).

إن السيد المسيح ليس هو فقط ملك اليهود بل إن “له على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب” (رؤ19: 16). تماماً مثل أبيه الصالح “المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب، الذى وحده له عدم الموت، ساكناً فى نور لا يُدنى منه. الذى لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه. الذى له الكرامة والقدرة الأبدية آمين” (1تى6: 15، 16).

مُلك الآب هو مُلك للابن

إن مُلك الآب هو مُلكٌ للابن، وملكوت الآب هو ملكوت الابن ولهذا دُعى ملكوت الله “ملكوت ابن محبته” (كو1: 13).

كذلك فإن مجد الآب هو مجد الابن، لأن الابن هو “بهاء مجده” (عب1: 3)، وجوهر الآب غير المنقسم هو نفسه جوهر الابن، ولا يوجد اختلاف فى صفات الجوهر الإلهى بين الآب والابن والروح القدس، بل هم متساوون فى المجد والربوبية والكرامة، مع كون الآب والد وباثق، والابن مولود من الآب، والرو ح القدس منبثق من الآب.

ولسبب أن مجد الآب هو نفسه مجد الابن، لهذا قال السيد المسيح: “إن ابن الإنسان سوف يأتى فى مجد أبيه مع ملائكته” (مت16: 27). وقال أيضاً عن مجيئه الثانى: “متى جاء ابن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذٍ يجلس على كرسى مجده” (مت25: 31). ولا فرق أن يقول “فى مجده” أو “فى مجد أبيه” لأن المجد الإلهى مجد واحد..

فمجد الابن هو مجد الآب، وتمجيد الابن هو تمجيد للآب، ولذلك فالذوكصا أى “التمجيد” فى ليتورجية الكنيسة الأرثوذكسية توجّه بصورة متواترة فى الصلوات إلى الثالوث القدوس الواحد المساوى: الآب، والابن، والروح القدس؛ بقولنا: Do{a  Patri  ke Uiw  ke  `Agi`w  Pna?ti {ذوكصا باترى كى إيو كى أجيو بنيفماتى} أى {المجد للآب والابن والروح القدس}. إن أفواهنا تتقدس بتمجيد الثالوث القدوس، وفى شهر كيهك نردد بكل تبجيل {قلبى ولسانى للثالوث يُسبحان: أيها الثالوث المقدس ارحمنا}.

لك القوة

تحدثنا عن عبارة “لك المُلك” التى وردت فى نهاية الصلاة الربية، ونأتى الآن إلى عبارة “والقوة”.. شئ جميل أن نعترف بقوة الله، فنقول: “لك القوة”. فهو القوى ومصدر كل قوة فى الوجود. هو القادر على كل شئ (Almighty). وهو أقوى الأقوياء، ولا شئ فى الوجود يتفوق على قوته.

الله قوى فى قدرته.. قوى فى حكمته.. قوى فى محبته.. قوى فى غضبه ضد الشر والخطية.. قوى فى مقاومة مملكة الظلمة الروحية.. قوى فى خلاصه.. قوى فى نعمته.. قوى فى حفظه وعنايته.. قوى فى تدبيره وفطنته..

لذلك يقول المزمور “صوت الرب على المياه. إله المجد أرعد. الرب على المياه الكثيرة. صوت الرب بقوة. صوت الرب بجلال عظيم. صوت الرب يحطم الأرز. الرب يكسر أرز لبنان ويسحقها مثل عجل لبنان. والمحبوب مثل ابن وحيد القرن. صوت الرب يقطع لهيب النار. صوت الرب يزلزل القفر. الرب يزلزل برية قادش” (مز28: 3-8).

ويقول فى مزمور آخر “تقلد سيفك على فخدك أيها القوى بجلالك وجمالك. استله وانجح وأملك. من أجل الحق والدعة والعدل. وتهديك بالعجب يمينك. نبلك مسنونة فى قلب أعداء الملك أيها الجبار. الشعوب تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك” (مز44: 3-6).

الذى يؤمن ويعترف بقوة الله، لا يخاف من أى قوة أخرى ظالمة أو غاشمة فى الوجود. لا يخاف ولا حتى من الموت، لأن الله قد سحق سلطان الموت بقوة عجيبة فى تجسد ابنه الوحيد الجنس لأجل خلاصنا.

لهذا تسبّح الكنيسة الابن الواحد من الثالوث القدوس فى تسبحة الثلاثة تقديسات (Trisagion) وتقول: {قدوس الله قدوس القوى قدوس الحى الذى لا يموت الذى صلب عنا ارحمنا}.

وفى يوم الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة تسبح الكنيسة الابن الوحيد الجنس الذى تجسّد لأجل خلاصنا، وتضيف إلى تسبحة {لك القوة والمجد والبركة والعزة..} عبارة {قوتى وتسبحتى هو الرب وصار لى خلاصاً مقدساً}. وهى مقتبسة من نبوة إشعياء النبى: “هوذا الله خلاصى فأطمئن ولا أرتعب لأن ياه يهوه قوتى وترنيمتى وقد صار لى خلاصاً” (إش12: 2).

إننا ننسب القوة للثالوث القدوس: ننسبها إلى الآب فى الصلاة الربانية ونقول: “لأن لك الملك والقوة..”. وننسبها إلى الابن فى تسابيح البصخة المقدسة ونقول: “لك القوة والمجد..”. وننسبها إلى الروح القدس ونسمّيه “روح القوة” (2تى1: 7، انظر إش11: 2)، وورد فى سفر ميخا النبى “لكننى أنا ملآن قوة روح الرب وحقاً وبأساً لأخبر يعقوب بذنبه وإسرائيل بخطيته” (مى3: 8).

كذلك قال السيد المسيح لتلاميذه: “لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم” (أع1: 8).

وقيل عن السيد المسيح: “أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح فى البرية أربعين يوماً.. ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل” (لو4: 1، 2، 14). وتحققت فيه نبوة إشعياء النبى: “ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله. ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب” (إش11: 1، 2). حينما أخلى الابن الكلمة نفسه آخذاً صورة عبد وإذ وجد فى الهيئة كإنسان فقد قبل مسحة الروح القدس-إنسانياً- ليستعلن أنه هو المسيا المنتظر الذى يحمل خطايا العالم لإتمام الفداء.

إن القوة التى تصدر من الثالوث القدوس هى نفسها قوة الآب وقوة الابن وقوة الروح القدس. لها أصلها فى الآب وتتحقق بواسطة الابن فى الروح القدس، لأن للأقانيم الثلاثة قدرة إلهية واحدة وقوة واحدة هى قوة الجوهر الإلهى الواحد للثالوث القدوس المساوى.

إننا حينما نعترف للرب فى الصلاة الربانية بأن له “القوة” فإننا نتقوى بالروح. لأن الرب يمنحنا القوة بنعمته.

الرب هو قوى وهو يعمل بقوة بواسطتنا. إن أدركنا سر القوة، كما أدركه بولس الرسول وقال: “حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى” (2كو12: 10) “أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى” (فى4: 13).

إن إلهنا القوى لا يحرمنا من القوة إذا تركناه ليملك على قلوبنا. لذلك قال السيد المسيح: “الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة” (مر9: 1).

هذه القوة التى يمنحها لنا السيد المسيح هى قوة الروح القدس. وملكوت الله الذى أتى بقوة هو سكنى الروح القدس فى المؤمنين بالمسيح حسب وعده ووعد الآب “ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم” (أع1: 8).

وقد أوصى معلمنا بولس الرسول كثيراً بأهمية أن يتسلح الإنسان بقوة الله فى حياته الداخلية لكى ينتصر على الشيطان فقال: “متقوين بكل قوة، بحسب قدرة مجده لكل صبر وطول أناة بفرح” (كو1: 11)، “لكى يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه فى الإنسان الباطن” (أف3: 16)، “أخيراً يا إخوتى تقووا فى الرب وفى شدة قوته. البسوا سلاح الله الكامل لكى تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس” (أف6: 10، 11).

حينما يدرك الإنسان مقدار ضعف إمكانياته الشخصية وشدة احتياجه إلى قوة الله، فإن الله يعمل فيه بقوة. حينما يتضع أمام الله.. حينما يحتمل الضيقات من أجل الله.. حينما لا يحسب نفسه شيئاً.. حينئذ تكون القوة. وهذا ما شرحه بولس الرسول عن معنى الضعف الشخصى ومعنى قوة المسيح العاملة فيه إذ قال: “ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة فى الجسد. ملاك الشيطان ليلطمنى لئلا أرتفع. من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقنى فقال لى: تكفيك نعمتى لأن قوتى فى الضعف تكمل. فبكل سرور أفتخر بالحرى فى ضعفاتى لكى تحل علىّ قوة المسيح. لذلك أُسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح. لأنى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى” (2كو12: 7-10).

فهو يقصد أنه حينما يكون ضعيفاً بالجسد لسبب المرض أو الاضطهادات فحينئذ يكون قوياً بالروح القدس الذى يعمل فيه. وحينما لا يتكل على إمكانياته البشرية فحينئذ يرى عمل الله الفائق. ولكنه فى ذلك يقدّم نفسه فى طاعة وخضوع لمشيئة الله الذى يعمل فيه بقوة شديدة.

ما أجمل لحن التوزيع فى الكنيسة فى نهاية القداس الإلهى الذى هو المزمور المائة والخمسين “سبحوا الله فى جميع قديسيه.. فى جلد قوته.. على مقدرته.. ككثرة عظمته..” (مز150: 1، 2). إن الكنيسة تشدو بقوة الرب، وتتقوى فى الرب وفى شدة قوته، لأنه هو “الرب العزيز القدير، الرب القوى فى الحروب” (مز23: 8).

لك المجد

نأتى الآن إلى ختام الصلاة الربانية فى إطار تعليم السيد المسيح فى الموعظة على الجبل، الجملة الأخيرة تحتوى ثلاث كلمات وهى: الملك والقوة والمجد، فكما نخاطب الآب السماوى قائلين “لك الملك”.. نقول أيضاً “والقوة” ثم نختم قائلين “والمجد” وكل ذلك “إلى الأبد آمين”.

حينما ننسب إليه المُلك؛ معناها أننا نعترف بملكه على حياتنا وعلى كل الخليقة، ولهذا نسلّم حياتنا له. وحينما ننسب إليه القوة؛ معناها أننا نثق فى قدرته على نصرتنا وخلاصنا طالما أننا قد سلّمنا حياتنا له داخلين إلى معرفة قوته الإلهية. وحينما ننسب إليه المجد فإننا فى اختبارنا لقوته وفاعليتها نمجده ونسبحه.

إن تمجيد اسم الله هو عمل الملائكة والقديسين الدائم غير المنقطع. بل إن وجود الخليقة هو لمجد الله. كذلك فإن خلاص البشرية هو لمدح مجد نعمته أو لمدح مجده، كما قال معلمنا بولس الرسول: “لنكون لمدح مجده” (أف1: 12) أنظر أيضاً (أف1: 6، أف1: 14، أف1: 18).

وفى الرؤيا السماوية قال القديس يوحنا: “وحينما تعطى الأحياء (الأربعة) مجداً وكرامةً وشكراً للجالس على العرش الحى إلى أبد الآبدين. يخر الأربعة والعشرون قسيساً قدام الجالس على العرش ويسجدون للحى إلى أبد الآبدين، ويطرحون أكاليلهم أمام العرش قائلين: أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة لأنك أنت خلقت كل الأشياء وهى بإرادتك كائنة وخلقت” (رؤ4: 9-11).

بعد ذلك سمعهم القديس يوحنا يترنمون ترنيمة جديدة عن خلاص الرب، ثم قال: “ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش والأحياء (الأربعة) والقسوس، وكان عددهم ربواتِ ربواتٍ (أى مئات الملايين)، وألوفَ ألوفٍ (أى ملايين). قائلين بصوت عظيم: مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة، والغنى، والحكمة، والقوة، والكرامة، والمجد، والبركة. وكل خليقة مما فى السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر، كل ما فيها سمعتها قائلة: للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين. وكانت الأحياء الأربعة تقول آمين، والقسوس الأربعة والعشرون خروا وسجدوا للحى إلى أبد الآبدين” (رؤ5: 11-14).

فالترنيمة الأولى كانت لأن الرب قد خلق جميع الأشياء فسمعهم يقولون: “أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد”. والترنيمة الجديدة هى لأن الرب قد خلّص البشر بابنه الوحيد فسمع يوحنا السمائيين يقولون: “مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ المجد”. وانضمت إليهم كل الخليقة قائلة: “للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين”.

لهذا فالكنيسة تهتم دائماً بترديد التمجيد للثالوث القدوس فى كل صلاة حيث أن تمجيد الله هو عمل أساسى للقديسين سواء فى حياتهم أو تسابيحهم وصلواتهم.

بعد كل أول قطعة من صلوات الأجبية (الساعات) نردد: { Do{a  Patri  ke Uiw  ke  `Agi`w  Pna?ti ذوكصا باترى كى إيو كى أجيو بنيفماتى}  أى {المجد للآب والابن والروح القدس} وبعد القطعة الثانية أو الثالثة نقول { Ke  nun  ke  `a“ i  ke  ictouc  `e`wnac  twn  `e`wnwn  `amhn  كى نين كى أإى كى يستوس إأوناس تون إأونون آمين} أى {الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين}.

كذلك بعد الرشومات الثلاثة الأولى التى تقال جهراً عند تقديم الحمل باسم الآب والابن والروح القدس، يرد الشعب باللحن “المجد للآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين”.

وفى تسبحة الثلاث تقديسات (Trisagion)  حينما نردد: {قدوس الله قدوس القوى قدوس الحى الذى لا يموت.. } ثلاث مرات نختمها بالقول: {المجد للآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين}. ويُقال هذا اللحن بالطريقة العادية وبالطريقة الحزاينى فى مناسبات الحزن.

وفى لحن القيامة المجيدة: {المسيح قام من الأموات، بالموت داس الموت ووهب الحياة للذين فى القبور. المجد للآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين}.

وفى تسبحة صلاة باكر نقول: {فلنسبح مع الملائكة قائلين: المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة}.

وهى العبارة التى رددتها الملائكة فى السماء عند ميلاد السيد المسيح ويقولها الكاهن فى القداس الباسيلى أثناء صلاة الصلح.

وفى القداس الغريغورى عند بداية الأنافورا يصلى الكاهن: {مستحق ومستوجب، مستحق ومستوجب، مستحق ومستوجب؛ مستحق بالحقيقة وعادل أن نسبحك ونباركك ونخدمك ونسجد لك ونمجدك.. أنت الذى السلاطين تنطق بمجدك ..} فى هذا القداس توجه الصلوات إلى الابن الوحيد مخلص العالم ولكننا نفهم أن تمجيد أحد الأقانيم الثلاثة هو تمجيد الله الواحد المثلث الأقانيم.

ما أجمل أن نمجد الله فى صلواتنا وأن تتلذذ أفواهنا بتمجيده. إننا حينما نمجده تتقدس أفواهنا وتبتهج قلوبنا بمشاركة السمائيين فى إرسال تماجيد البركة إلى فوق إليه. وبهذا يتحقق الهدف من وجودنا وهو تمجيد اسم الله.

إلى الأبد أمين

نحن دائماً نربط الذوكصا (التمجيد) للثالوث وبين عبارة [الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين، آمين]. أى أننا نلتزم بتمجيده الآن وإلى الأبد. لا نتوقف عن تسبيحه وتمجيده إلى أبد الدهور. نذكّر أنفسنا بأن التمجيد سيستمر فى الأبدية وهو عمل القديسين فى الأبدية، يسبحون الرب من أجل محبته ويمجدونه لأجل رحمته غير الموصوفة مثلما نردد فى تسابيح الثلاث فتية فى شهر كيهك: {سبحوه مجدوه زيدوه علواً إلى الأبد رحمته. فهو المسبّح والممجد والمتعالى على الأدهار وإلى الأبد رحمته}.

إذا كان ملك الله الآب وقوته ومجده هو إلى الأبد، فلماذا يبحث الإنسان عن أى مصدر آخر للوجود أو السعادة أو الخلود غير الله.

إن خلود الإنسان فى الحياة الأبدية يتوقف على ارتباطه بهذا الإله الذى مُلكه وقوته ومجده إلى الأبد .

لهذا قال السيد المسيح للآب: “وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذى أرسلته” (يو17: 3).

إن تبعية أى إله آخر غير حقيقى لاشك أنها ستحرم الإنسان من الحياة الأبدية. فهناك الآلهة الوثنية وعبادتها التى هى عبادة الشياطين. وهناك الطمع ومحبة المال الذى هو عبادة الأوثان المحرّمة. وهناك عبادة الذات التى تحرم الإنسان من التمتع بحياة الشركة مع الله وملائكته ومع غيره من البشر.

إن الإله الحقيقى وحده فى وسط الآلهة الأخرى الغريبة هو إله إبراهيم الذى أعلن عن نفسه لمختاريه ودخل معهم فى عهد وميثاق.

أى هو إله الإعلان وإله العهد والوعد بالخلاص. هو الإله الذى هكذا أحب العالم “حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16).

إن معرفة الإله الحقيقى يجب أن ترتبط برفض الآلهة الأخرى الغريبة، كما يجب أن ترتبط بالإيمان بابنه الوحيد الجنس يسوع المسيح الذى أرسله من أجل خلاص العالم.

لهذا قال معلمنا بولس الرسول: “فمن جهة أكل ما ذبح للأوثان، نعلم أن ليس وثنٌ فى العالم، وأن ليس إلهٌ آخر إلاّ واحداً. لأنه وإن وُجد ما يسمى آلهة، سواء كان فى السماء أو على الأرض، كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون. لكن لنا إلهٌ واحدٌ: الآب الذى منه جميع الأشياء، ونحن له. وربٌ واحدٌ: يسوع المسيح، الذى به جميع الأشياء، ونحن به” (1كو8: 4-6).

فالآب هو الإله الواحد مع ابنه الوحيد الجنس والروح القدس، بين الآلهة الوثنية. والابن يسوع المسيح هو الرب الواحد مع أبيه الصالح والروح القدس، بين الأرباب الوثنية.

وقد قيل فى سفر التثنية “اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا ربٌ واحدٌ” (تث6: 4).

فإذا قيل “لنا.. ربٌ واحدٌ يسوع المسيح” فهذا معناه أن هذا الرب هو ما قيل عنه لإسرائيل “الرب إلهنا ربٌ واحدٌ” وهو الإله الحقيقى الذى أمر الرب موسى بعبادته وحده.

إن معرفة هذه الحقائق أى أن الآب القدوس مع ابنه الوحيد الجنس والروح القدس هو الإله الحقيقى، وأن الله قد بذل ابنه الوحيد الجنس على الصليب عن حياة العالم.. هذه هى الحياة الأبدية التى يتمتع بها كل من يؤمن ويسلك فى وصايا السيد المسيح ومحبته على الدوام.

الحياة الأبدية كانت عند الآب وأظهرت لنا “بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذى أبطل الموت وأنار الحياة والخلود” (2تى1: 10).

هذه الحياة الأبدية نذكِّر أنفسنا بها كلما ذكرنا فى الصلاة الربانية هذه العبارة “لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين”.

ليتنا نتمسك برجاء الحياة الأبدية.. ونسعى دائماً لتمجيد المالك إلى الأبد آمين.

متى صمتم

بعد أن علّم تلاميذه الصلاة، قال السيد المسيح فى الموعظة على الجبل: “ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين. فإنهم يغيّرون وجوههم لكى يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمت، فادهن رأسك واغسل وجهك. لكى لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذى فى الخفاء. فأبوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية.” (مت6: 16-18).

الصوم هو أحد وسائل العبادة وتنشيط الحياة الروحية وضبط الجسد.

هو ذبيحة حب لله إذا اقترن بالصلاة والعبادة بالروح والحق.

هو فرصة لتغذية الروح، كما أن الأكل هو وسيلة لتغذية الجسد.

عن هذا قال السيد المسيح: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 4).

فالروح تحتاج إلى غذاء روحى وإلى تغذية تماماً مثلما يحتاج الجسد إلى الخبز وسائر أنواع الطعام الجسدى. لو اهتم الإنسان بتغذية جسده فقط، فسوف تبقى الروح بلا غذاء، إلى أن يتمرد الجسد عليها، فلا تستطيع الروح أن تضبطه أو تسيطر عليه.

وفى الصوم فرصة للتشبه به، حينما يعطى الإنسان من خبزه للجوعان أثناء اختباره لجوع الصائم، وحينما يعطى من ملبسه للعريان أثناء اختباره لمذلة لابسى المسوح، إذا أُتيحت له فرصة لبس المسوح فى الخفاء.

الإيجابية فى الصوم

الذى يشعر بثقل الصوم يكون قد اكتفى بالصوم وحده، ولكن هناك لذة روحية فى الصوم تفوق لذة التنعم بالطعام الجسدى.

فى تذوق هذه اللذة الروحية فى الصلاة: فى السجود بانسحاق (الميطانيات).. فى مشاعر التوبة.. فى الارتفاع بالروح نحو السمائيات.. فى القراءات الروحية فى الخلوة وإحساس الوجود مع الله.. فى ضبط الجسد.. فى التحرر من محاربات الشياطين.. فى قوة الروح وحرارة العبادة.. فى كل ذلك يشعر الإنسان بلذة تعوضه عن تعب الجسد، وتعوضه عن خسارة التلذذ بالأطعمة الشهية.

هذه اللذة الروحية بدونها لن ينتفع الإنسان من صومه شيئاً ويكون كمن يلاكم الهواء.

أراد السيد المسيح بقوله عن الصوم فى الخفاء بعيداً عن مشاعر التباهى بالصوم؛ أن يلفت نظرنا إلى أن الآب السماوى الذى يرى فى الخفاء هو يجازى الإنسان ويكافئه. وما أجملها مكافأة حينما يتلذذ الإنسان بالحياة مع الله كعربون للأبدية، حيث لا أكل ولا شرب جسدانى، بل غذاء الروح لكل من الروح والجسد الروحانى الذى يستطيع أن يحيا فى ملكوت السماوات.

لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض

واصل السيد المسيح تعاليمه السامية، فتحدث عن علاقة قلب الإنسان بالكنز الخاص به، فكلما كنز على الأرض ارتبط بالأرض، وكلما كنز فى السماء ارتبط بالسماء. لذلك قال: “لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً” (مت6: 19-21).

الإنسان الحكيم هو الذى يجعل كنزه فى السماء لأن هذا سوف يساعده على الاشتياق للسماء، ويجعل ارتباطه بالأرض ضعيفاً. فلا يخشى الموت، بل يفرح بانطلاقه من هذا العالم، ويضحى بما يملكه هنا على الأرض، من أجل محبته للمسيح، مقدماً الحب للجميع.. أى أنه يعطى بسخاء للمحتاجين ولا يبخل عليهم.. ولا يكترث بزيادة ممتلكاته، بل على العكس يفرح بأن يبيع ممتلكاته ويعطى صدقة كما أوصى السيد المسيح: “لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت. بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياساً لا تفنى وكنزاً لا يفندُ فى السماوات” (لو12: 32، 33).

إن أفضل وسيلة لتحويل الأموال إلى السماء هو توزيعها على المحتاجين لأن من يقرض المسكين يقرض الرب.

كذلك قال السيد المسيح لبطرس حينما قال له: “ها نحن قد تركنا كل شئ وتبعناك” (مت19: 27، مر10: 28) “ليس أحد ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً لأجلى ولأجل الإنجيل، إلا ويأخذ مئة ضعف الآن فى هذا الزمان.. وفى الدهر الآتى الحياة الأبدية” (مر10: 29، 30). بمعنى أن الترك لا يتعلق فقط بالأموال والممتلكات، ولكنه يتعلق أيضاً بالارتباط العائلى وكل ما يشغل الإنسان عن الحياة مع السيد المسيح وتبعيته وخدمته، خاصة فيما يتعلق بالكرازة بالإنجيل والسعى من أجل خلاص الآخرين.

لهذا كان معلمنا بولس الرسول يتذكر كنزه فى السماء، من خلال محبته لمخدوميه الذين ولدهم فى المسيح فيقول: “ألستم أنتم عملى فى الرب” (1كو9: 1).. “يا سرورى وإكليلى” (فى4: 1).

بمعنى أن الذين قام بخدمتهم سيكونون هم أنفسهم أكاليل له فى المجد السمائى، ولن ينسى له الرب تعبه وعمله من أجل انتشار الإنجيل. ومن أجل رعايته للمخدومين. لهذا قال أيضاً: “لأن من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا. أم لستم أنتم أيضاً أمام ربنا يسوع المسيح فى مجيئه. لأنكم أنتم مجدنا وفرحنا” (1تس2: 19، 20).

وفى تحذيره لنا من أن نكنز كنوزاً على الأرض، أوضح السيد المسيح أن الكنوز الأرضية تتعرض للسوس والصدأ أو تتعرض للنقب والسرقة. ومن الممكن أن تضيع. كما أنها تصير عبئاً على حياة مالكها وتسبب له الكثير من الأحزان فى حال فقدانه لها.

لهذا فإن أفضل طريقة للمحافظة على أموال الإنسان، أن يضعها بين يدى الرب.. أن ينقلها إلى السماء.. أن ينقذها من الضياع.. أن يتاجر ويربح بها لحساب الملكوت السمائى.. أن لا يدفنها فى الأرض. ومهما حاول الإنسان أن يحافظ على أمواله، فلن يقدر أن يأخذها معه بعد الوفاة، مثلما قال قداسة البابا شنودة الثالث أطال الرب حياته فى قصيدته المشهورة:

وسأهدم فى المخازن ثم أبنى                     وأجمع فضتى وأضم تبرى

وأغرس لى فراديساً كبــــــارًا                    بأطياب وأطيار وزهـــــر

وماذا بعد هذا ليت شعرى؟!                      سأترك كل أموالى لغيرى

وأفنى مثلـما يفنـى فقــــــــير                     وأرقد مثله فى شـبر أرض

وقد أكّد السيد المسيح على أهمية إعداد الإنسان نفسه لميراث ملكوت السماوات مضحياً بكل غالٍ وثمين “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطى الإنسان فداءً عن نفسه” (مت16: 26).

المسألة تحتاج من الإنسان أن يتبصر فى مصيره الأبدى.. وما يمكن أن تشكله الكنوز الأرضية من معوقات لخلاص نفسه.. وفى نفس الوقت ما يمثله الميراث الأبدى والحياة السمائية من سعادة حقيقية غير زائلة.

يحتاج الأمر إلى تذوق حلاوة الحياة مع الله والشركة مع ملائكته وقديسيه.. يحتاج إلى ممارسة الصلاة والتسبيح كوسيلة لتذوق الحياة السمائية.. إلى اختبار حياة الإيمان والاتكال على الله، والغنى الكبير لمن يسلك بالإيمان.. كيف تتدفق الخيرات بين يديه وهو لا يملك شيئاً. مثلما قال معلمنا بولس الرسول: “كفقراء ونحن نغنى كثيرين. كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ” (2كو6: 10).

أولاد الله يتركون كل شئ، وهم يملكون كل شئ لأن “للرب الأرض وملؤها، المسكونة وجميع الساكنين فيها” (مز23: 1). يتركون كل شئ لأن كنوزهم هى فى السماء، ويملكون كل شئ لأنهم يحيون بالإيمان، وكل شئ مستطاع للمؤمن. فلا يعسر عليه شئ.. مثلما عاش القديس الأنبا ابرآم أسقف الفيوم بخزانة خاوية وكانت الأموال تجرى بين يديه. وأكثر من هذا كانت المواهب والمعجزات الفائقة للطبيعة تجرى على يديه نفعنا الرب ببركة صلواته آمين.

سراج الجسد هو العين

أكمل السيد المسيح تعاليمه السامية فقال: “سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً. فإن كان النور الذى فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون؟!” (مت6: 22، 23).

العين البسيطة

وقد أورد السيد المسيح هذا التعليم بعد كلامه مباشرة عن أهمية عدم تكوين كنوز على الأرض بل فى السماء، ثم أضاف بعد الكلام عن العين البسيطة كلامه عن عدم الارتباك فى خدمة سيدين وهما الله والمال، لأنه لا يقدر أحد أن يخدم سيدين.

وبهذا نفهم أن السيد المسيح قد ربط بين العين البسيطة وبين عدم الطمع، والبعد عن محبة العالم الناتجة عن شهوة العين. وهذا ما تؤكده كلمات القديس يوحنا الرسول فى رسالته الأولى: “لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التى فى العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لأن كل ما فى العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضى وشهوته وأما الذى يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد” (1يو2: 15-17).

إن العين مثل باقى الحواس الخمس هى منفذ للأفكار التى تتولد منها الرغبات والشهوات. وبساطة النظرة معناها التعفف فى النظر بالبعد عن الاشتهاء.

بساطة النظر هى أن يرى الإنسان ما يشير إلى الله فى كل ما يراه، ولا يرى شيئاً سواه. فالبساطة هى عدم التركيب. وحينما تتداخل محبة العالم مع محبة الله؛ تفقد النظرة بساطتها لأنها تكون مركبة وليست بسيطة.

وكيف يرى الإنسان الله فى كل ما يراه؟ إن هذا يتحقق حينما تملأ محبة الله قلب الإنسان أى حينما يحب الله من كل قلبه ومن كل فكره. ومن المعلوم أن “محبة الله قد انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5: 5). هناك معونة إلهية من الروح القدس تمنحنا إمكانية النمو فى محبة الله باستمرار.

فالذى يؤمن بالمسيح كمخلّص، وينال الولادة الجديدة بالمعمودية ويتأهل لانسكاب وسكنى الروح القدس فى داخله، يصير قادراً بمعونة الروح القدس على الانطلاق فى محبة الله نحو الكمال، لكى يصل إلى المحبة الكاملة التى تحدّث عنها القديس يوحنا الرسول بقوله: “لا خوف فى المحبة، بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج. لأن الخوف له عذاب، وأما من خاف فلم يتكمل فى المحبة. نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً” (1يو4: 18، 19). وقد أوضح الرسول أن هذه المحبة تنشأ من عمل الروح القدس فينا بسبب إيماننا بالمسيح فقال: “بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا، أنه قد أعطانا من روحه. ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلّصاً للعالم. من اعترف أن يسوع هو ابن الله؛ فالله يثبت فيه وهو فى الله. ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التى لله فينا. الله محبة ومن يثبت فى المحبة يثبت فى الله والله فيه” (1يو4: 13-16).

الإنسان الذى يحب الله يستطيع أن يدرك قدرة الله فى كل أعماله: يراه بعينى قلبه فى جمال وإتقان الخليقة، ويراه فى بذله ومحبته على الصليب، ويراه فى تدبير العالم وحفظه.

حينما يرى الذهب لا تتحول نظرته إلى شهوة اقتناء المادة، بل يرى فيه ما يشير إلى صفات الله الذى لا يتغير وتكون هذه هى النظرة البسيطة.

وحينما يرى امرأة لا يتأمل فى مفاتن جسدها، بل يرى عطية الله لآدم إذ خلق له معيناً نظيره، وبالمرأة أمكن أن يأتى المسيح من نسلها لخلاص العالم. فيرى فى المرأة العذراء مريم فى طهارتها، فى عفتها، فى أمومتها وهى قد صارت سماء ثانية حينما حملت الله الكلمة فى أحشائها، وبهذا يستطيع أن يرى المسيح بعينى قلبه مولوداً من امرأة فى ميلاد طاهر عذراوى.

وهكذا يستطيع الإنسان بنظرته البسيطة أن يدرك الله فى كل ما يراه. ويتحقق فيه قول السيد المسيح: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت5: 8). ومثل هذا الإنسان يتأهّل لرؤية السيد المسيح فى مجد ملكوته الأبدى.

جسدك كله يكون نيراً

العين البسيطة تحرر الإنسان من محبة العالم وشهوته، وبهذا لا تتحرك فى الإنسان عوامل الظلمة الروحية. بمعنى أن المشاعر الدنسة والأطماع لا تجد طريقها إلى قلب الإنسان ولا تحرك غرائزه الجسدية. فيحتفظ الإنسان بالمشاعر الروحية النورانية التى تسرى وتملأ كيانه حتى يرتفع نحو السمائيات وينعم بشركة الحياة الروحية مع الله وقديسيه.

وكما أن الشهوات العالمية تقترن بملذات الجسد، هكذا فإن الرغبات الروحية تقترن بلذة الروح التى تتمتع بالله ويصير هو مصدر شبعها وفرحها وسرورها.

إن خبرة الحياة الروحية هى مسألة لا يمكن التعبير عنها بالكلمات العادية، بل هى عطية لا ينطق بها يختبرها أناس الله القديسون، ولسان حالهم يقول “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز33: 8).

الإنسان الذى يريد أن يتذوق الحياة مع الله عليه أن يحرص على حفظ حواسه ومشاعره.. يطلب معونة الروح القدس بلجاجة وينمو فى محبة الله، ويجاهد فى طريق الحياة الروحية: بالصوم.. بالسهر فى الصلاة .. بالتسبيح.. بالبعد عن مغريات العالم.. بإنكار الذات.. باحتمال المشقات.. بحرارة الروح فى العبادة.. وكلما زادت محبته، كلما زادت مذاقته.. وكلما زادت مذاقته، كلما زادت محبته. وهكذا “من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2كو3: 18).

لا يقدر أحد أن يخدم سيدين

أكمل السيد المسيح تعليمه على الجبل وقال: “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (مت 6: 24).

من هذا الكلام نفهم أن كل إنسان مسيحى مطالب بأن يخدم الله بحسب المواهب الممنوحة له من الله.

هناك أنواع من الخدمة الرسمية فى الكنيسة كخدمة درجات الكهنوت المتعددة. وهناك تكليف من الكنيسة لبعض الأفراد بخدمات معينة مثل الخدمات التى لا يلزمها درجة كهنوتية، وإنما فى مجال بعض الأنشطة العامة فى حياة الكنيسة.

وهناك خدمة الإنسان المسيحى بصفة عامة سواء فى محبته للآخرين، أو فى تقديم قدوة صالحة لهم، أو فى الاستعداد لمجاوبة كل من يسأله عن سبب الرجاء الذى فيه (انظر1بط3: 15).. وعموماً فى تنفيذ وصايا السيد المسيح الذى قال على سبيل المثال: “من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين” (مت5: 41).

لا يمكن لتلاميذ الرب أن يخدموه خدمة مقبولة حقيقية إن كانت حياتهم مرتبطة بخدمة المال ومحبته. لأن السيد المسيح قال عن خدمة الله وخدمة المال: “إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر. أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر” (مت 6: 24).

ولهذا أيضاً قيل أن “محبة العالم عداوة لله” (يع4: 4). فليس من الممكن لمن تسكن محبة العالم فى قلبه أن يخدم الله ويلتصق به.

ربما يدخل الإنسان فى صراع بين انشغاله بالأمور الدنيوية مع جمع المال وسماع أخباره، وبين المواظبة على الصلاة وقراءة الأسفار المقدسة. ومن الواضح أن الناس كثيراً ما تشغلهم هذه الأمور الدنيوية عن العبادة الروحية، فتصير حياتهم فاترة ويدخل إليها كثير من الأخطاء والشرور. ويعطون الرب القليل من وقتهم واهتمامهم وتبرد محبته فى قلوبهم. وهناك العديد من خدام مدارس التربية الكنسية تركوا خدمتهم بعد تخرجهم من الجامعة.

الذى يريد أن تزداد محبة الله فى قلبه عليه أن يطرد محبة العالم ويقاومها.. عليه أن يتفكر فى الهدف الذى يتجه نحوه. هل يتجه نحو الإلهيات والسمائيات، أم يتجه نحو الأرضيات والأمور الزمنية؟!

إن خدمة الله لا تقتصر على خدمة الناس فقط، بل يدخل ضمنها خدمة التسبيح والصلاة والشكر. مثل خدمة الملائكة الذين يسبحون الرب بغير فتور، وينشغلون به وبجماله وبتمجيده، فيمتلئون فرحاً “لا يُنطق به ومجيد” (1بط1: 8)..

الخدام الرسميون

إن كان من غير اللائق أن ينشغل المسيحى العادى عن خدمة الرب بخدمة المال، فكم بالأولى يكون الأمر بالنسبة للخدام الرسميين وخاصة المكرسين منهم الذين صاروا نصيباً للرب وتم إفرازهم لخدمته. لقد حذّر معلمنا بولس الرسول تلميذه تيموثاوس فى هذا الشأن وقال: “فاشترك أنت فى احتمال المشقات كجندى صالح ليسوع المسيح. ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكى يرضى من جنّده” (2تى2: 3، 4).

إن الارتباك بأمور هذه الحياة لا يليق بخدام السيد المسيح الذين تجندوا للخدمة. فمن صارت رسالته فى الحياة خدمة الكلمة والكرازة بالإنجيل أو رعاية القطيع، لا يليق به أن يحتقر هذه الرسالة السامية وينسى نذوره أو تعهداته أمام الرب فى يوم تكريسه ويرتد إلى الانشغال بأمور العالم.

ربما يتصور بعض رجال الكهنوت أن الانشغال بالعمل الاجتماعى والأنشطة والإداريات وأعمال التعمير الخاصة بالكنيسة هو داخل إطار خدمة الله. ولكن ينبغى أن يتذكر الخادم المكرس للخدمة أن فى أولويات رسالته خدمة الكلمة والصلاة. وفى أوليات خدمته أن يهتم بالخدمة الروحية مثل الافتقاد، وأن يهتم بكل أحد من أجل خلاصه. مع الاستعانة بأشخاص متخصصين لأداء الأعمال الإدارية الأخرى والاكتفاء بالإشراف العام ومتابعة الأنشطة وصبغها بالصبغة الروحية.

خادم الله لابد أن تصطبغ خدمته بالناحية الروحية. فلا ينسى نفسه فى وسط مشاغل الخدمة الكثيرة لئلا يتحول إلى ما يشبه موظف فى الكنيسة.

وربما يلاحظ الناس أن كلامه يبتعد كثيراً عن المجال الروحى لأنه “من فضلة القلب يتكلم الفم” (مت12: 34). وبهذا تفقد خدمته تأثيرها على المخدومين.

ولكن هناك مشكلة أكبر وهى أن يتحول الهدف من الخدمة الرسمية إلى الكسب المادى أو جمع المال. وهنا تنهار الخدمة تماماً لأن السيد المسيح قال: “لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (مت6: 24).

فالكاهن مثلاً الذى يسعى إلى اكتناز الأموال من وراء خدمته، ولا يبالى بخلاص الرعية ينطبق عليه قول الرب فى سفر حزقيال: “ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم. ألا يرعى الرعاة الغنم. تأكلون الشحم وتلبسون الصوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم. المريض لم تقووه. والمجروح لم تعصبوه. والمكسور لم تجبروه. والمطرود لم تستردوه. والضال لم تطلبوه. بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم فتشتتت بلا راع وصارت مأكلاً لجميع وحوش الحقل وتشتتت.. ولم يكن من يسأل أو يفتش

(حز34: 2-6).

لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون

أكمل السيد المسيح تعليمه فقال: “لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوى يقوتها. ألستم أنتم بالحرى أفضل منها؟” (مت6: 25، 26).

عناية الله بنا

أبرز السيد المسيح هنا حقيقة قوية وهى أن الله هو الذى وهب الإنسان الحياة، وهو الذى خلق له جسده بكل ما فيه من تفاصيل دقيقة فى منتهى الإتقان والإبداع مثل تكوين العين والعصب البصرى ومركز الإبصار فى المخ والتى تمكن الإنسان من رؤية الأشياء المتحركة والمجسمة بألوانها البديعة، ويقوم بتسجيل كل ذلك فى المخ مثل شريط الفيديو. ولا توجد كاميرا فيديو فى كل العالم تستطيع أن تلتقط الصورة المتحركة بنفس الوضوح والدقة التى تعمل بها العين. وهكذا باقى أعضاء جسد الإنسان.

فإذا كان الله هو الذى خلق هذا الجسد بكل ما فيه من إتقان وإبداع ليناسب طبيعة حياة الإنسان، فلماذا يحمل الإنسان هم الحصول على الملابس التى تكسو هذا الجسد؟ ومن هنا جاءت الحكمة التى أبرزها السيد المسيح: أليس الجسد أفضل من اللباس؟

إن الملابس يستطيع الإنسان أن يصنعها لنفسه، ولكنه لا يستطيع أن يصنع لنفسه جسداً فيه كل خصائص الحياة.

هكذا أيضاً يستطيع الإنسان أن يدبّر لنفسه طعاماً ولكنه لا يستطيع أن يمنح الحياة لجسد ليس به حياة. أو أن يخلق الحياة.

لذلك جاءت الحكمة الخالدة “أليست الحياة أفضل من الطعام؟” (مت6: 25) أى أن الحياة هى الأهم وهى الأصعب فى الحصول عليها. أما الطعام فهو متوفر ومتاح، وإن كان الله هو أيضاً الذى خلقه من أجل الإنسان حينما خلق الزروع والأشجار والأسماك والطيور والحيوانات بأنواعها.

من الممكن إذا صام الإنسان عن الأكل لفترة من الزمن أن يستمر حياً. ولكنه إذا فقد الحياة نفسها فماذا يفعل؟

وعبارة الحياة لها معانى كثيرة: فهناك حياة الجسد وهناك حياة الروح. فبدون الروح لا يحيا الإنسان، وبدون الله لا تحيا الروح. وقد قال السيد المسيح: “أنا هو القيامة والحياة” (يو11: 25). وقال معلمنا بولس الرسول: “لى الحياة هى المسيح” (فى1: 21). كما قال عن الله: “هو يعطى الجميع حياة ونفساً وكل شئ.. لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع17: 25، 28).

لقد وهب الله موسى وإيليا القدرة أن يصوما أربعين يوماً عن الطعام مثلما صام هو أيضاً أربعين يوماً على الجبل وقال للشيطان: “مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 4). بمعنى أن كلام الله هو مصدر حياة للإنسان، أما الخبز فإنه يساعد الجسد على بذل الطاقة والاستمرار فى حفظ تكوينه سليماً. فالذى يقوت جسده ويهمل احتياج روحه للغذاء الروحانى فإنه سوف يخسر الجسد والروح كليهما فى الهلاك الأبدى.

حقاً إن الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس: فإن كان الله قد منحنا الأفضل والأصعب فكيف لا يمنحنا الأقل والأسهل؟! المسألة إذن تحتاج إلى حكمة وإلى إيمان.

التأمل فى الطبيعة

إن السيد المسيح يدعونا إلى التأمل فى الأشياء الموجودة فى الطبيعة مثل طيور السماء وغيرها من المخلوقات.

إن الله قد دبّر لكل الخليقة التى على الأرض وسائل إطعامها وحفظها. حتى ولو كانت خليقة غير عاقلة، تحيا فقط بالغريزة. كل نوع من الطيور أو الحيوانات يجد ما يناسبه من الطعام، ولديه من الطباع الغريزية ما يؤهله للحصول على ما يحتاج إليه.

واتخذ السيد المسيح الطيور مثالاً ننظر إليه ونتأمل فيه فقال إن الطيور “لا تزرع، ولا تحصد، ولا تجمع إلى مخازن” (مت6: 26) والله يعتنى بها ويعطيها طعامها اللازم لحفظها حية.

وقال السيد المسيح: “ألستم أنتم بالحرى أفضل منها؟” (مت6: 26) لماذا يهتم الإنسان ويدخل فى صراعات رهيبة من أجل لقمة العيش ولسبب القلق على المستقبل؟!

إن كان الإنسان له من الأهمية عند الله ما يفوق الطيور بكثير -بدليل أن الله قد أرسل ابنه الوحيد متجسداً لأجل خلاص الإنسان- فلماذا يقلق الإنسان؟ ولماذا تهتز ثقته فى عناية الله به؟.

إنه اختبار جميل جداً أن يشعر الإنسان بعناية الله به. مثلما كان يعتنى بالقديس الأنبا بولا السائح فى البرية ويرسل له الخبز فى منقار أحد الغربان تماماً كما حدث مع القديس إيليا النبى الذى أمر الرب أحد الغربان ليعوله وهو ساكن بجوار النهر أثناء المجاعة.

إن الإنسان الذى ينسى نفسه؛ لا ينساه الله. والإنسان الذى لا يهتم بطعامه ولباسه؛ فإن الله يرسلهما إليه حتى ولو لم يطلب.

فعلى الإنسان أن يختار أحد سبيلين: إما أن يحمل هم نفسه ويصارع من أجل لوازم حياته الأرضية، أو أن يثق فى عناية الله به دون أن يتكاسل عن العمل بل يجتهد ويعمل حسب الوصية، ولكن لا يحمل هماً بل يختبر محبة الله وعنايته المتجددة فى كل يوم بل وفى كل خطوة من حياته. لذلك قال الكتاب “أما البار فبالإيمان يحيا وإن ارتد لا تسر به نفسى” (عب10: 38)..

ملقين كل همكم عليه

أكمل السيد المسيح تعليمه بشأن الاتكال على الآب السماوى الذى يدبر كل شئون حياة أولاده لكى لا يحملوا هموم هذا العالم مثلما قال الرسول: “ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتنى بكم” (1 بط5: 7). فقال السيد المسيح: “ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعاً واحدة؟ ولماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل. ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان فى كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فإن كان عشب الحقل الذى يوجد اليوم ويطرح غداً فى التنور، يلبسه الله هكذا، أفليس بالحرى جداً يلبسكم أنتم يا قليلى الإيمان؟” (مت6: 27-30).

يتضح من هذا التعليم أن حمل الهموم هو من قلة الإيمان. فالذى يؤمن إيماناً حقيقياً بعناية الرب به لا يحمل هماً على الإطلاق، عالماً أن “كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله” (رو8: 28).

ويتضح أيضاً أن السيد المسيح يريد أن يحرر الإنسان من الرغبة فى اكتناز الأمور الدنيوية خوفاً من المستقبل المجهول، لأن الله يعتنى بكل الخليقة، ويستطيع الإنسان أن يرى أمثلة واضحة لعناية الله فى المخلوقات المحيطة به مثل زنابق الحقل التى تنمو بقدرة إلهية وتكتسى بأروع الألوان حتى أن سليمان فى كل مجده لم يلبس فى مثل جمال ما تكتسى هى به. وهذه الزنابق قد خلقها الله لأجل الإنسان ليتمتع بجمالها وليأخذ منها درساً عن عناية الله وقدرته “مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته” (رو1: 20).

لذلك أكمل السيد المسيح كلامه فقال: “لا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوى يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم. فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفى اليوم شره” (مت6: 31-34).

أراد السيد المسيح أن يميّز بين أولاد الله وأولاد العالم. فقال إن الأمم (أى فى ذلك الحين الوثنيين) يطلبون من آلهتهم الأمور المادية باستمرار. وعلاقتهم بهذه الآلهة تقوم أساساً على اهتمامهم بأجسادهم وأمورهم الدنيوية. أما أولاد الله فينبغى أن يطلبوا حياة القداسة التى تليق بهم كمخلوقين على صورة الله ومثاله. وأن يطلبوا أن يملك الله على حياتهم وقلوبهم وبهذا يتحقق ملكوت الله فى داخلهم.

إن الأمور الدنيوية الزائلة هى متاحة للجميع. لأن الله يشرق على الأبرار والأشرار بشمس النهار. ولكن الأمور الخاصة بملكوت الله لا تمنح إلا للأبرار الذين يطلبون من الله.

ما يتناسب وعظمته الإلهية

إن من يذهب إلى مطعم فاخر ليطلب طعاماً لدابته؛ يهين هذا المطعم. كذلك من يذهب إلى الله ليطلب أمور العالم الفانية؛ لا يدرك قيمة الوجود فى حضرة الله حيث ينبغى أن يطلب الأمور غير الفانية الباقية إلى الأبد. أما الأمور الفانية فإن الآب السماوى يعلم احتياجنا لها وسوف يمنحنا إياها تلقائياً ضمن عنايته بنا حتى دون أن نطلب أو نسأل. لهذا قال السيد المسيح: “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم” (مت6: 33).

لا تهتموا بما للغد

وهنا نطق السيد المسيح بحكمته المشهورة “فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفى اليوم شره” (مت6: 34).

إن الذى يريد أن يعيش مع الله ينبغى أن يحيا مثل الأطفال الذين لا يحملون هم الغد. يكفيهم أن يسعدوا بما هم فيه من خير ونعمة.

الكبار فقط هم الذين يحملون هم الغد ويقومون بتخزين المال والطعام وبناء البيوت ويفكّرون فى مستقبلهم ومستقبل أولادهم.

الكبار فى السن فقط هم الذين يتنازعون على ميراث آبائهم حتى قبل أن يحين موعد الميراث. وقد يسيئون إلى مشاعر والديهم بشدة اهتمامهم بالمستقبل. أما الأطفال فى الأسرة فدائماً يكفيهم أن ينالوا احتياجهم الحاضر المؤقت ولا يحملون هم الغد. وأحياناً يؤنّب الكبار أطفالهم لأنهم لا يفكرون فى هموم المستقبل ومخاطره.

إن الإنسان المسيحى الذى يعيش مع الله مثل الأطفال لا يخاف من المستقبل لأنه يؤمن بالعناية الإلهية. ويكفيه أن يقضى يومه الحاضر بسلام. إنه يؤدى ما عليه من واجبات اليوم: فى العمل، فى الدراسة، فى الحياة العائلية، فى المجتمع. ولكنه لا يرتبك بهموم الغد. لأن فى كل يوم يوجد ما يكفى من المشاغل.

بالطبع ليس هناك خطأ فى أن يضع الإنسان برنامجاً لتنظيم أوقاته ومواعيده ومقابلاته وأسفاره والأعمال المطلوبة منه. ولكن الخطأ هو أن ينشغل الإنسان بما سوف يفعله فى المستقبل عوضاً عن أن يختبر معونة الله له فى الحاضر. أما عن المستقبل فيقول: إن شاء الرب وعشنا فسوف نفعل ما نويناه. والمفروض أن يشعر الإنسان بقيادة الروح القدس له فى حاضره وفى مستقبله. بمعنى أن يقوده الروح فى الطريق الحاضر متجهاً نحو المستقبل بروح التسليم والرجاء، ويفرح حينما يطلب من الآب باسم الابن الوحيد فينال عطايا الروح القدس ومعونته وإرشاده.

لا تدينوا لكى لا تدانوا

أكمل السيد المسيح تعليمه فقال: “لا تدينوا لكى لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التى بها تدينون تدانون، وبالكيل الذى به تكيلون يُكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذى فى عين أخيك، وأما الخشبة التى فى عينك فلا تفطن لها؟ أم كيف تقول لأخيك: دعنى أخرج القذى من عينك، وها الخشبة فى عينك؟ يا مرائى أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى من عين أخيك” (مت7: 1-5).

كان من عادة اليهود فى وقت مجيء السيد المسيح أن يدينوا غيرهم ولا يحكموا على أنفسهم. وقال عنهم السيد المسيح أنهم “يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل” (مت23: 24) أى يدققون فى الأمور البسيطة والشكلية ويخطئون فى أمور جوهرية. وقال للفريسيين: “أيها الفريسى الأعمى نق أولاً داخل الكأس والصحفة لكى يكون خارجهما أيضاً نقياً” (مت23: 26) لأن الفريسيين اهتموا بأن يظهروا للناس مثل الصديقين وهم من داخل مملؤون اختطافاً وخبثاً. وقال إنهم يشبهون “قبوراً مبيضة تظهر من خارج جميلة وهى من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة” (مت23: 27).

لذلك حارب السيد المسيح بشدة الرياء والنفاق والتمسح بمسوح القداسة مع وجود خطايا كثيرة داخل قلب الإنسان.

ومن نتائج النفاق والكبرياء أن يدين الإنسان غيره قبل أن يحكم على نفسه. أن ينتقد غيره على أخطائه، بينما هو يرتكب ما هو أشد من الخطايا والشرور، ويحاول التظاهر بحياة القداسة أمام الناس.

لذلك وضع السيد المسيح هذه القاعدة الذهبية “بالكيل الذى به تكيلون يكال لكم” (مت7: 2).. فمن أراد أن يصلح من شأن غيره، عليه أن يصلح شأن نفسه أولاً.

السيد المسيح لم يمنع الإنسان من إصلاح غيره. لأن الكتاب يقول “اعزلوا الخبيث من بينكم” (1كو5: 13). وقال القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: “وبخ انتهر عظ، بكل أناة وتعليم” (2تى 4: 2). وقال له أيضاً: “الذين يخطئون وبّخهم أمام الجميع لكى يكون عند الباقين خوف” (1تى5: 20). وبولس الرسول هو نفسه حكم على خاطئ كورنثوس حكماً صارماً فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس.

ولكن لا ينبغى أن يحكم الإنسان على غيره فى أمور هو نفسه يستوجب الحكم بسببها أو يفعل ما هو أفظع منها. لهذا قال السيد المسيح: “أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى من عين أخيك” (مت7: 5). وبهذا سمح الرب للإنسان أن يخرج القذى من عين أخيه بشرط ألاّ تكون هناك خشبة فى عينه أكبر من القذى وتمنعه من الرؤية الصحيحة.

الأسقف

وبالنسبة للأسقف الذى يطالبه الرب بوعظ الناس وتوبيخهم وإرشادهم وتأديبهم، وإذا لزم الأمر الحكم عليهم بالأحكام الكنسية: ينبغى أن يكون هو نفسه ليس تحت الحكم، لهذا قال الكتاب “يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل الله” (تى1: 7). وباعتبار الأسقف وكيل الله فهو مطالب بإعلان قداسة الله ومحبته فى آنٍ واحد.

الأسقف ينبغى أن يتحلى بفضائل الأبوة ويصالح الناس مع الله ويهتم بكل أحد ليخلصه، ولكنه فى الوقت نفسه ينبغى أن يحكم على الخطاة غير التائبين لعله يقتادهم إلى التوبة منذراً إياهم بالدينونة الأبدية التى تنتظرهم.

إنه يعلن الدينونة العتيدة من خلال منعه لغير التائبين من شركة الأسرار المقدسة ليفهموا أنهم لعدم توبتهم سوف يحرمون أيضاً من الحياة الأبدية مثلما قال السيد المسيح: “إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لو13: 3). وقال لليهود: “إنكم تموتون فى خطاياكم” (يو8: 24) لأنهم كانوا يقاومون الروح القدس بمقاومتهم لتعليم ورسالة السيد المسيح.

إن الأسقف الذى لا يحاسب الخطاة فى الكنيسة يتعرض لأن يطلب الله دمهم من يديه. وحينما يصدر ضدهم الأحكام المناسبة فإنه يتبرأ من ذنبهم أمام الله. ولكن عليه أن يحرص باستمرار على قبول التائب إذا رجع دون أن يكون ذلك سبباً لإلغاء العقوبة الكنسية التى تساعده على عدم تكرار الخطية مرة أخرى. ولكن العقوبة فى حالة المنع من شركة الأسرار المقدسة ينبغى أن تحدد نهايتها بالنسبة للتائب الذى يرجع عن خطيئته. أما غير التائب فينتظر الأسقف توبته لكى يحدد له موعداً لعودته إلى ممارسة حياة الشركة.

أما بالنسبة للأفراد العاديين فإن التمييز بين ما هو صائب وما هو خطأ لا يعتبر إدانة. ولكن الإدانة تحدث حينما يحكم الإنسان على غيره بأنه لن يتوب دون أن ينتظر توبته ويصلى من أجله. كذلك التشهير بالغير يعتبر إدانة، إن لم يكن هناك داع لمصلحة الجماعة فى الإعلان عن خطأ أحد الأشخاص.

فالذى يقوم بالتشهير بسمعة غيره، لن يمكنه إصلاح هذه السُمعة إذا تاب هذا الآخر ورجع عن خطيئته. لهذا فكل ما يعمله الإنسان ينبغى أن يكون صالحاً للبنيان. وكل ما يتكلم به يكون لمنفعة الآخرين أو للصالح العام للجماعة. ويتكلم مع من له سلطة الإصلاح وليس مع نفوس ضعيفة قد يعثرها هذا الكلام.

إن التسرع فى الحكم على الآخرين هو نوع من الإدانة التى قد تكون ظالمة، والحديث عن خطايا الآخرين هو نوع من الإدانة لسبب التشهير بسمعتهم. ومحاولة إصلاح الآخرين قبل إصلاح الإنسان لنفسه هو كسر لوصية السيد المسيح “لا تدينوا لكى لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التى بها تدينون تدانون، وبالكيل الذى به تكيلون يكال لكم” (مت7: 1، 2).

إن من يسلك فى طريق التوبة عليه أن لا ينشغل بخطايا الآخرين. ومن هو غير مسئول عليه أن يترك الحكم فى الأمور لمن هو مسئول، لأن الروح القدس أقام فى الكنيسة رعاة ومدبرين وقضاة يفصلون كلمة الحق باستقامة، ويحرسون التعليم والبيعة من الذئاب الخاطفة، ومن كل أنواع الانحراف والفساد. لهذا قال معلمنا بولس الرسول: “خطايا بعض الناس واضحة تتقدم إلى القضاء” (1تى5: 24).

لا تعطوا القدس للكلاب

أكمل السيد المسيح تعليمه قائلاً: “لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم” (مت7: 6).

أراد السيد المسيح أن يحذِّر تلاميذه من التفريط فى الأشياء والأمور والأسرار المقدسة. هناك من الأمور ما ينبغى أن يحتفظ بها الإنسان ولا يبوح بها للآخرين، لكى لا يساء استخدامها.

ومن أمثلة ذلك إذا أراد شخص ما أن يعمل الخير من أجل بعض المحتاجين، فلا ينبغى أن يكشف ذلك للجشعين والطماعين لئلا يعطلوا هذا العمل ويقاوموه.

كذلك لا ينبغى التفريط فى الأسرار المقدسة. أى لا ينبغى السماح بشركة التناول للأشخاص الذين يسلكون فى النجاسة أى للمستبيحين الذين يستهترون بقدسية الأسرار الطاهرة ولا يسلكون فى التوبة والبعد عن الشر.

لو سمحت الكنيسة للمستبيح أن يتناول من الأسرار المقدسة فسوف يستخف بالكنيسة وبكل ما فيها ويكون كأصل مرارة يتنجس به كثيرون. ويتحول هو ومن معه أضدادًا للكنيسة وتقاليدها ومقدساتها ويحاربون من يرغب فى السلوك فى مخافة الله.

هذا ما حدث فى بعض الكنائس فى الغرب التى تركت الحبل على الغارب لكل من يريد أن يتقدم إلى الأسرار المقدسة بدون استحقاق. وتطور الأمر حتى صار هناك أناساً فى هذه الكنائس يدافعون عن الأمور المخجلة والقبيحة المخالفة لتعليم الكتاب المقدس كالشذوذ الجنسى ويمدحون من يمارسها ويهاجمون من يقاومها.

فالأمر يبدأ بالتساهل فى توزيع الأسرار بدعوى الترفق بالخطاة بما فى ذلك غير التائبين، ثم يتطور إلى اعتبار أن ذلك حق مكتسب يمكن المناداة به جهراً وبلا خجل أو حياء. ثم تتسع المساحة لتشمل الدفاع عن خطايا محرَّمة وتحليل ارتكابها لمن هو فى شركة الكنيسة. ثم تحدث الكارثة فى بعض كنائس الغرب عندما يتباهى الأسقف بسيامة بعض المنحرفين أخلاقياً فى الكهنوت. وللأسف والمحزن أن ينضم إلى هؤلاء من يهاجمون الوصايا التى وردت فى الكتاب المقدس وتنهى عن هذه الانحرافات. وكذلك ينضم إليهم الداعين إلى الحركة النسائية فى الكنائس Feminist Movement الذين يطالبون بسيامة المرأة فى الدرجات الكهنوتية المتعددة، رافضين تعليم الكتاب المقدس بأن الرجل هو رأس المرأة وأنه هو المسئول عن التعليم فى الكنيسة بصفة عامة، بمعنى أن المرأة لا تعلِّم ولا تتسلط على الرجل فى الكنيسة (انظر 1تى2: 12).

لئلا تدوسها بأرجلها

من عادة الناس أن تحترم المقدسات إذا احترمتها الكنيسة. وتستخف بالمقدسات إذا استخفت بها الكنيسة. لذلك قال عالى الكاهن لبنيه: “تجعلون شعب الرب يتعدون” (1صم2: 24) وقيل عن تأثيرهم على الشعب أن “الناس استهانوا تقدمة الرب” (1صم2: 17) .

إذا لم يحترم الشعب المقدسات فإنهم يدوسونها بأرجلهم عوضاً عن أن يضعوها على رؤوسهم.

والمعروف أن خميرة صغيرة تخمّر العجين كله. لذلك قال الكتاب “اعزلوا الخبيث من بينكم” (1كو5: 13).

ومهما تحملت الكنيسة فى سبيل إبعاد المخطئين عن شركة الكنيسة، فإنه أكرم لها أن تحتمل هجومهم عليها والتشهير بها باطلاً حتى ولو فى الصُحف، من أن تسمح لغير المستحقين بأن يدوسوا المقدسات بأرجلهم.

إن أمثال هؤلاء  يمزقون أنفسهم بأنفسهم بهجومهم على كنيستهم التى تسعى إلى تقديس الجماعة بالتوبة والسلوك فى مخافة الرب. وسوف تتبدد مؤامراتهم على الكنيسة باعتبارهم خارجين عنها.

أما إذا أُعطى لهم القدس وداسوه بأرجلهم، فإنهم يلتفتون إلى الكنيسة ويمزقونها تمزيقاً حقيقياً بنشر الفساد داخل الكنيسة.

وسواء أطلق المدافعون عن هؤلاء الناس على أنفسهم أنهم جبهة الإصلاح الكنسى، أو أطلقوا على أنفسهم أى اسم آخر، فإنهم ينكشفون فى النهاية أنهم هم دعاة التسيب ودوس المقدسات داخل الكنيسة.

كيف يطلق على نفسه أنه يسعى للإصلاح من يرفض الإصلاح، ويهاجم المحاكمات الكنسية للمخطئين غير التائبين فى الكنيسة؟!

ويتساءل هؤلاء قائلين: من يحكم على توبة الإنسان؟ ونجيب على ذلك بأن الكنيسة فى كل تاريخها ومنذ العصر الرسولى قد حكمت على توبة أعضائها. لذلك قال السيد المسيح لتلاميذه من الرسل القديسين: “من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت”  (يو20 : 23)

ومن تم إمساك خطاياه عليه لعدم توبته فلا يمكن أن تطلب الكنيسة له الغفران فى الصلاة على المنتقلين. لأن من أمسكت عليه الكنيسة خطاياه فكيف تمسكها عليه وفى الوقت نفسه تطالب الله بغفرانها له. لا يمكن – كما أشار قداسة البابا شنودة الثالث أطال الله حياته- أن تتناقض الكنيسة مع نفسها بهذه الصورة فى صلاتها أى فى علاقتها مع الله الذى أوصاها بحفظ المقدسات.

اسألوا تعطوا

أكمل السيد المسيح تعاليمه السامية فقال: “اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم. لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له” (مت7: 7، 8).

إنها دعوة عجيبة لنيل عطايا الآب السماوى مؤيّدة بوعد من فم ابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح بأن كل من يسأل يأخذ.

الله نفسه يدعونا أن نطلب.. وذلك لأنه فى خيريته يشتاق أن يمنح خيراته وعطاياه للمؤمنين به وبقدرته ومحبته.

عادة يطلب المحتاج من القادر، فإذا كان القادر محباً للعطاء فإنه يعطيه بسرور وبلا تردد. أما ما يفوق ذلك فهو أن يسعى القادر نحو المحتاج داعياً إياه أن يطلب وبلا حدود واعداً إياه بأنه مهما سأل فسوف يأخذ!.

هكذا أحب الله العالم حتى أنه مستعد أن يعطى وبلا حدود حتى ولو بذل ابنه الوحيد الجنس لأجل خلاصنا. إنه عطاء المحبة الذى يفوق كل توقعات السائل المحتاج.

الله يريدنا لا أن نطلب الأشياء التى تفنى، بل التى لا تفنى. يريدنا أن نطلب محبته أن تعمل فينا بقوة، ويريدنا أن نطلب معرفته أن تزداد فى عقولنا وقلوبنا وأفهامنا، يريدنا أن نطلب ملكوتاً لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ لنا فى السماوات. يريدنا أن نطلب القوة الروحية والنصرة على الشر والخطية وكل قوات الظلمة. يريدنا أن نطلب صداقة الملائكة والقديسين. يريدنا أن نطلب ملء الروح القدس فى كل مراحل حياتنا، وقيادة الروح القدس وإرشاده ومعونته. يريدنا أن نطلب ثمار الروح القدس فى حياة الفضيلة. يريدنا أن نطلب بنياناً للكنيسة وانتشارًا لملكوته وخلاصاً لأنفس الكثيرين. يريدنا أن نطلب مواهبه وعطاياه لمنفعة الكنيسة وبنيانها. يريدنا أن نطلب نقاوة فى التعليم وأن نطلب أن يرسل فعلة إلى حصاده، لأن الحصاد كثير والفعلة قليلون. يريدنا أن نطلب من أجل أعدائنا لكى يحوّل الرب الأعداء إلى أصدقاء مثلما حوّل حياة شاول الطرسوسى بصلاة اسطفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء ليصير شاول مضطهد الكنيسة هو بولس رسول يسوع المسيح والمبشر بالإنجيل إلى الأمم. يريدنا أن نطلب لكى يعطى الرب قوة للكارزين والشاهدين لقيامة المسيح من الأموات. يريدنا أن نطلب منه معونة فى وقت الضيق لينقذنا.

كل هذه العطايا الإلهية وكثير غيرها، لا يمكننا أن نحصل عليها من العالم وبأى وسائل بشرية. أما وعد السيد المسيح فيؤكد لنا الحصول عليها حينما نسأل أو نطلب من الآب باسمه، أو منه هو شخصياً، أو من الروح القدس باسمه.

بهذا نرى أهمية الصلاة فى حياتنا، فى علاقتنا بالله، وفى اقتناء الفضائل، وفى خدمتنا لأجل ملكوت الله، وفى علاقتنا بالآخرين، وفى بنيان الكنيسة.

الصلاة ليست فروضاً نؤديها بلا روح أو بلا عاطفة، بل هى ضرورية لحياتنا الروحية وهى مصدر للخير والبركة والامتلاء من الروح القدس والنمو فى محبة الله.

إنها علاقة الأبناء بأبيهم السمائى.. يحيون فى بيته ويتنعمون بخيراته وهباته وعطاياه.

من يقرع يفتح له

الصلاة تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى مواظبة.. فمن يصلى هو كمن يقرع على الباب وينتظر حتى يُفتح له.

لذلك يقول المزمور “انتظر الرب تقوَّ وليتشدد قلبك وانتظر الرب” (مز26: 14). الله لا يغلق الباب فى وجه من يطلبه، بل على العكس قال السيد المسيح: “تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم” (مت11: 28) وقال أيضاً: “من يقبل إلىّ لا أخرجه خارجاً” (يو6: 37).

إن الله يفتح الباب فى الوقت المناسب، فلا ينبغى أن نيأس من الصلاة والطِلبة بكل حرارة، وبكل مواظبة.

الصلاة تحتاج إلى إيمان، لذلك قال السيد المسيح: “كل ما تطلبونه فى الصلاة مؤمنين تنالونه” (مت 21: 22).

عبارة “اقرعوا يفتح لكم” تعطينا انطباعاً أن الصلاة ينبغى أن تمتزج بروح التضرع والصراخ إلى الله، وربما أحيانا تكون فى صورة طلب النجدة.

فالقرع على الباب يكون متناسباً مع حالة القارع واحتياجه. فمن كان فى خطر يقرع بصورة متواترة أى يقرع قرعاً سريعاً متتالياً. أما من كان يقصد زيارة حبيب أو صديق فإنه يقرع على بابه بهدوء أو بتأنٍ.

وكما طلب منا الرب أن نقرع على بابه، فإنه هو أيضاً من جانبه يقف على أبواب قلوبنا قارعاً حسب قوله: “هانذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتى وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معى” (رؤ3: 20). إن الرب ينتظر منا أن نفتح له حينما يقرع.. نستجيب لمحبته.. نقبل سكناه فينا.. نجعل فى داخلنا موضعاً لراحته.

ولاشك أن من يفتح قلبه للرب إذا قرع على بابه، فإن الرب هو أيضاً سيفتح له حينما يقرع على باب السماء فى صلواته. ومن لا يفتح قلبه للرب، لا يفتح له الرب إذا قرع. لذلك يقول الكتاب “من يسد أذنيه عن صراخ المسكين، فهو أيضاً يصرخ ولا يُستجاب” (أم21: 13). أما إذا فتح قلبه للرب ولعمل روحه القدوس فإن صلاته تكون مقبولة فى كل وقت.

عطايا الآب

أكمل السيد المسيح تعاليمه فى الموعظة على الجبل بعد أن قدَّم الدعوة لتلاميذه أن يسألوا فيعطوا.. فقال: “أم أى إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزاً يعطيه حجراً؟ وإن سأله سمكة يعطيه حية؟ فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحرى أبوكم الذى فى السماوات يهب خيرات للذين يسألونه!” (مت7: 9-11).

الثقة فى الصلاة

الصلاة هى التى تبرهن على ثقة الإنسان فى الإله الذى يعبده. إنه يثق فى قدرته، ويؤمن بوجوده وقدرته على الاستماع إلى الصلاة. ويؤمن كذلك بقدرته على استجابة الصلاة.

إن المؤمن يختبر فاعلية الصلاة فى حياته بصورة واضحة تجعله يزداد إيماناً. ولذلك يقول الرب: “أما البار فبالإيمان يحيا وإن ارتد لا تسر به نفسى” (عب10 : 38).

الإنسان البار يعيش فى خبرة مستمرة للعمل الإلهى الفائق للطبيعة. والمعجزة بالنسبة له تعتبر شيئاً طبيعياً لأن حضور الله المستمر فى حياته يرفعه فوق مستوى العالم والمادة والمنظور “ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التى ترى بل إلى التى لا ترى لأن التى ترى وقتية وأما التى لا ترى فأبدية”  (2كو 4: 18).

بالصلاة يشعر الإنسان البار أنه يحرك العالم كله، ليس بحسب مشيئته الخاصة، بل بقيادة الروح القدس له فى حياته. لذلك يقول الكتاب إن “طلبة البار تقتدر كثيراً فى فعلها” (يع 5: 16).

إن الصلاة لا تعرف شيئاً اسمه المستحيل “لأنه ليس شئ غير ممكن لدى الله” (لو1: 37)، ولأن “كل شئ مستطاع للمؤمن” (مر9: 23).

الصلاة تخرج بالإنسان من إطار التوقع البشرى إلى ما يفوق توقعات البشر. لأن الله يعطينا أكثر مما نطلب أو نفتكر.

إن نحن أهملنا الصلاة واتكلنا على أنفسنا، فإننا نعمل بقدرتنا وحدنا. أما بقوة الصلاة فإننا نضيف قوة الله إلى قوتنا. أى تزداد قدرتنا بما لا يقاس.

ولكى يؤكّد لنا السيد المسيح أن الآب السماوى سوف يمنحنا بالصلاة كل ما نحتاج إليه فى مسيرتنا نحو الأبدية، فقد قال: “أى إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزاً يعطيه حجراً” (مت7: 9). وهذا برهان واضح على أن صلاة المؤمن لا يمكن أن تخيب. لأن من يدّعى ذلك يكون كمن يقول إننا أكثر براً من الله وحاشا أن يكون ذلك. لهذا قال السيد المسيح: “إن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة” (مت7: 11). بمعنى أن الآباء من البشر يمنحون الخيرات لأولادهم، وذلك بالرغم من الشر الموجود فى البشر. فكم بالحرى الرب القدوس الكلى الصلاح ألا يمنح خيرات للذين يسألونه؟.

فلماذا نشك فى رغبة الآب فى الاستجابة لطلباتنا؟.. ولماذا نتجاهل وجوده وقدرته ونهمل فى صلواتنا؟.. ولماذا نتجاهل محبته التى أكدّها وأعلنها لنا؟.. لماذا ولماذا يطول غيابنا؟! وهو الذى يدعونا باستمرار إلى الحياة فى شركة مقدسة معه.

أمثلة استجابة الصلاة

استخدم السيد المسيح مثلين: الحجر فى مقابل الخبز، والحية فى مقابل السمكة.

والحجر يرمز إلى الشيطان، أما الخبز فيرمز إلى السيد المسيح.

كما أن الحية ترمز إلى الشيطان، أما السمكة فترمز إلى السيد المسيح.

الحجر الذى استخدم فى صناعة الأصنام. وللأسف سجد البشر لهذه الأصنام الحجرية التى لا تسمع ولا تشعر ولا تحس، وكان الشيطان مخفياً فيها لكى تقدم له العبادة. ولكن هذه العبادة لم تشبع الإنسان ولم تمنحه الحياة.

أما السيد المسيح فقال عن نفسه: “أنا هو خبز الحياة” (يو6: 35).. “لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم” (يو6: 33). وأعطانا السيد المسيح جسده مأكلاً وقال: “من يأكلنى فهو يحيا بى” (يو6: 57) وقال: “والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم” (يو6: 51).

فبكل تأكيد إن سألنا الآب خبزاً سمائياً فلن يعطينا حجراً، بل بالعكس كلما طلبنا فى الصلاة الربانية “خبزنا الآتى أعطِنَا اليوم” (مت 6: 11) فإنه يمنحنا خبز الحياة الأبدية لنحيا إلى الأبد..

ومن المعروف طبعاً أن إبليس قد لُقِّب بلقب “الحية القديمة” (رؤ12: 9)، وهو الذى استخدم الحية لخداع الإنسان.

أما السيد المسيح فلقبه “يسوع المسيح ابن الله المخلّص”، والحروف الأولى لكلمات هذه العبارة باللغة اليونانية هى   vIcqujv  ومعناها “سمكة”. لهذا استخدم المسيحيون الأُول السمكة رمزاً لهم يتعرفون به على بعضهم البعض. وأدخلوه فى النقوش الخاصة بهم كرمز للسيد المسيح.

فبكل تأكيد حينما نطلب من الآب السماوى أن يمنحنا السيد المسيح مخلصاً لحياتنا، فلن يعطينا بدلاً من ذلك الشيطان الحية القديمة الذى يقودنا فى طريق الضلال. بل إن “الرب قريب” (فى4: 5) على الدوام كما هو مكتوب.

محبة القريب

أكمل السيد المسيح كلامه لتلاميذه وقال: “فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء” (مت7: 12).

كثيراً ما ينحاز الناس إلى أنفسهم، يبررون للنفس أخطاءها، ولا يبررون نفس الخطأ للآخرين. ويطلبون للنفس حقوقها، ولا يمنحون نفس الحقوق للغير. يطلبون الرحمة والحنان لأنفسهم ويعاملون غيرهم بقسوة أو بغير حنان.. وهكذا.

ولذلك فقد وضع السيد المسيح هذه القاعدة الذهبية “كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم”. أى أن يضع الإنسان نفسه فى مكان الآخر ليحدد التصرف المناسب تجاهه كما لو كان تجاه نفسه.

فى هذا تتحقق الوصية “أحب قريبك كنفسك” (مت19: 19). ولهذا قال السيد المسيح أيضاً: “لأن هذا هو الناموس والأنبياء”.

أمثلة من الحياة

وسوف نورد بعض أمثلة من الحياة العملية عن تطبيق هذه القاعدة الذهبية:

فالمدرس مثلاً فى المدرسة عليه أن يتذكر نوع المعاملة التى كان يتمناها حينما كان تلميذاً لكى يعامل بها تلاميذه.

والأب فى المنزل عليه أن يتذكر الأمور التى كان يطالب بها والده، لكى يعامل بها أولاده.

والمدير فى العمل عليه أن يقارن بين ما يتمناه من معاملة المسئول الأعلى منه له، ومعاملته هو لمرؤوسيه.

والضابط فى الجيش عليه أن يتذكر حينما كان فى التجنيد كيف كان يتمنى أن يعامله الضباط، لكى يعامل بذلك جنوده.

والممتحن عليه أن يتذكر ماذا كان يأمل أن يجد فى ورقة الأسئلة، لكى يراعى ذلك عند وضع الامتحان، وأيضاً عند فحص أوراق الإجابة وتقدير الدرجات ويقول لو كنت فى مكان ذلك الطالب فماذا كنت سأفعل؟ ويتذكر أيضاً مرارة الرسوب بعد جهد وعناء كبير فى الاستذكار.

والكاهن فى الكنيسة عليه أن يتذكر كم كان يود أن يزور الكاهن منزله ليفتقده ويسأل عنه. وكم كان يتمنى أن يخصص الأب الكاهن أوقاتاً مناسبة لسماع الاعترافات، وكم كان يشتاق لسماع كلمة التعليم المشبعة فى العظات. وكم كان يلتمس الأبوة والحنان والابتسامة المريحة فى معاملة كاهن كنيسته وأب اعترافه له قبل أن يصير هو كاهناً.

والأسقف أيضاً عليه أن يتذكر مكانة الأسقف فى عينيه وتأثير كلماته عليه. لكى يحافظ على هذه المكانة فى أعين الآخرين حينما صار أسقفاً. ولكى يتكلم بحساب عالماً أن كل ما يقوله يؤثر تأثيراً عميقاً فى أنفس سامعيه سلباً كان أم إيجاباً.

وعليه أيضاً أن يتذكر كم كان يتمنى أن يستمع الأسقف إلى رأى الشعب، وأن يفتح صدره لمن يبدى رأياً مخالفاً لوجهة نظره بأسلوب مهذب يليق بالبنين. وكم كان يتمنى أن يهتم الأسقف بكل أحد ليخلّصه، وأن لا يدخل فى خصومة شخصية مع أحد، وأن يكون واسع الصدر طويل الأناة رحيماً بالضعفاء والفقراء والمحتاجين.

عليه أن يتذكر الصورة المثالية التى كان يتمنى أن يراها فى الأب الأسقف، لكى يسلك هو أيضاً بمقتضاها ولا ينسى أنه فى يوم من الأيام كان واحداً من الرعية، فلا يتعالى على الشعب بل يخدمهم بكل محبة وتواضع، ويتعب من أجل راحتهم إلى جوار حراسته للقطيع من الذئاب الخاطفة ومن الناس الخداعين.

القاضى فى المحكمة عليه أن يتذكر كم كان قاسياً أن يقع ظلم عليه أو على أى أحد لكى يتأنى قبل الحكم. ولكى يعطى المتهم فرصة للدفاع عن نفسه، أو إثبات براءته. ولكى يفحص الأمر من جميع جوانبه.. الأدلة والظروف والدوافع والعوامل الخارجة عن الإرادة.. قبل أن يحدد الحكم أو نوع العقوبة.

الطبيب أيضاً عليه أن يتذكر نفسية المريض ومعاناته ويضع نفسه فى مكانه لكى يبذل أقصى جهده فى علاجه. ولا يكون هدف الطبيب هو التربح من مهنته، بل شفاء المرضى متشبهاً بالسيد المسيح الذى شفى مرضى كثيرين وحمل أوجاعنا وأسقامنا فى جسده على الصليب. لذلك فهناك من الأطباء من يعالجون مرضاهم مجاناً، بل ويصرفون لهم الدواء بلا مقابل متحملين مصاريف علاجهم بكل سرور.

كذلك الغنى عليه أن يضع نفسه فى مكان الفقير. أو ينزل ليرى بنفسه أحوال الفقراء ومعاناتهم. يرى كيف يسكن البعض فى عشش من الصفيح فى برد الشتاء القارس. وكيف ينامون بلا غطاء أو بلا عشاء يقرص الجوع بطونهم. وكيف يمزق المرض صدورهم لقلة الغذاء والكساء فى برد الشتاء.

المشكلة الحقيقية هى أن الغنى أحياناً تلهيه مشاغله الشخصية أو العائلية. وقد تلهيه الملاهى العالمية والحفلات والتنافس بين الأغنياء على مظاهر الغنى الكاذبة. يجتذبه حب القنية والملابس الفاخرة والقصور الفخمة، فلا يرى معاناة المساكين الذين يحتاجون إلى الفتات الساقط من مائدته.

أحياناً يتبقى من المآدب والحفلات ما يكفى لإشباع قرية بأكملها من الطعام. ولكن ربما لا يبالى أحد فى معظم الفنادق بمصير المأكولات التى تذهب مع النفايات. لذلك ينبغى أن نتذكر كيف أمر السيد المسيح تلاميذه بعد معجزة إشباع الخمسة آلاف من الخمس خبزات بأن يرفعوا الكسر لكى لا يضيع شئ. وبالفعل جمعوا اثنتى عشرة قفة مملوءة من كسر الخبز وحملوها معهم مع أن السيد المسيح كان بإمكانه أن يمنح البركة لخبزة واحدة لتصير آلافاً من الخبز بدلاً من الكسر. إنها دروس علّمها السيد المسيح لتلاميذه لتكون نوراً للأجيال تمشى على هديه فلا تضل الطريق.

وقفة مع النفس

إن كل إنسان منا يحتاج إلى وقفة مع نفسه يراجعها ليرى هل بالفعل يفعل بالناس ما يريد هو أن يفعل الناس به؟ وهل يعيش الوصية فى بساطتها كما قالها السيد المسيح فى موعظته على الجبل؟

حقاً إن جبل الموعظة يدلنا على الوصية الشامخة فى معانيها، والتى تحتاج إلى من يتفرغ من الانشغال بالأرضيات ليرتفع إلى القمم العالية فى جبل الوصية الإلهية.

الباب الضيق

أكمل السيد المسيح تعليمه على الجبل فقال: “ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذى يؤدى إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذى يؤدى إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه” (مت7: 13، 14).

هناك أناس يُطَمئِنون أنفسهم بمن حولهم. يقولون طالما أن كثير من معارفنا يسلكون بهذا الأسلوب فليس من المعقول أن يهلك كل هؤلاء الذين يمثلون غالبية من نعرفهم.

ولكن السيد المسيح حذّر من البداية من الاطمئنان إلى سلوك الغالبية ومحاكاتهم. لأن تنفيذ الوصية هو الذى يحدد مصير الإنسان، وليس مقدار من لا يلتزمون بها، وليس عذراً على الإطلاق أن نقول للرب أن غالبية الناس لم يلتزموا بتنفيذ وصاياك. بل إن السيد المسيح قال: “الذى عنده وصاياى ويحفظها فهو الذى يحبنى، والذى يحبنى يحبه أبى، وأنا أحبه وأظهر له ذاتى” (يو14: 21).

وبالرغم من أن تنفيذ الوصية يستدعى الدخول من الباب الضيق، إلا أن الباب الضيق يمنحنا شرف الاشتراك مع المسيح فى آلامه، كما أنه يؤهلنا لاختبار حضور  المسيح فى حياتنا.

من أراد أن يرى الرب وعمله فعليه أن يختار الباب الضيق والطريق الكرب وهناك يختبر عمل الله ومعونته.

فمثلاً من يحرص على الصلاة والسهر ويتعب فيهما، يحصد ثمر صلاته وسهره وينال نعمة من عند الرب.

ومن يجاهد بالصوم والصلاة والميطانيات، يحصد ثمرة جهاده فى اقتناء الفضائل الروحية ويمتلئ من الروح القدس.

ومن يحرص على قراءة الأسفار المقدسة بروح الخشوع والتضرع والاستماع إلى صوت الرب. يفتح الرب ذهنه ليفهم الكتب والمقاصد الإلهية ويمتلئ من الحكمة بفعل الروح القدس.

ومن يواظب على الحضور إلى الكنيسة ويشارك فى التسابيح والصلوات والقداسات ويتقرب من الأسرار المقدسة، يحصد ثمرة تعبه بالثبات فى المسيح والامتلاء من الروح القدس.

ومن يذلل نفسه فى التوبة وممارسة سر الاعتراف بروح الانسحاق والندم على الخطية والرغبة الصادقة فى حياة القداسة، يؤهل للتناول من الأسرار المقدسة وينال غفران خطاياه ويحصل على السلام القلبى بالمصالحة مع الله.

لهذا يقول المرنم: “الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج. سيراً كانوا يسيرون وهم باكون حاملين بذارهم، ويعودون بالفرح حاملين أغمارهم” (مز125: 5، 6).

الذين يتعبون فى الخدمة ويبذلون أنفسهم من أجل الآخرين بروح المحبة الصادقة، يكافئهم الرب بالمواهب الروحية، ويمنحهم الآب كرامة سمائية، ويأخذون جزاءً حسناً فى ملكوت السماوات. لأن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه. إنه لشرف عظيم أن يشترك الإنسان فى خدمة ملكوت الله وهو يشعر أنه غير مستحق لهذه الخدمة ولهذه الكرامة. وهكذا أيضاً الشهداء والمعترفين قد استحقوا كرامة عظيمة بعد الآلام التى احتملوها وصار لأسمائهم قوة للشفاء ولإخراج الشياطين. وبنيت الكنائس والأديرة على أسمائهم واستحقوا الأكاليل السمائية.

الباب الواسع

أما الباب الواسع فهو طريق إشباع الشهوات والملذات العالمية بطريقة تكسر فيها الوصايا الإلهية والقيم الروحية.

والباب الواسع هو السعى فى طلب الكرامة والعظمة بأى ثمن مهما كان ذلك على حساب المبادئ.

والباب الواسع هو السعى لاكتناز الأموال بلا داع، والنفس لا تشبع من محبة المال الذى هو مثل عبادة الأوثان المحرمة.

والباب الواسع هو الانسياق وراء رغبات الجسد الذى مصيره الفساد فى القبر وإهمال رغبات الروح التى لا يشبعها إلا الحياة مع الله والاستماع إلى كلامه المحيى.

والباب الواسع هو المناداة بحرية زائفة يصنع فيها الإنسان كل ما يشتهيه من أمور باطلة بينما هو مستعبد لخطايا وشرور كثيرة.

والباب الواسع هو تجاهل محبة القريب واحتياجاته والانعكاف على إرضاء الذات فى أنانية قاتلة. فالغنى الذى لا يشعر بمعاناة الفقراء وعوزهم وبؤسهم؛ يسلك من الباب الواسع والطريق الرحب المؤدى إلى الهلاك مثلما حدث فى مثل لعازر والغنى الذى تكلّم عنه السيد المسيح.

والباب الواسع هو تجاهل تبكيت الروح القدس للإنسان وهو يدعوه إلى التوبة ولكنه يفضل ألا يتعبه ضميره، فلا يحاسب نفسه على خطاياه ويتهرب من محاسبة النفس وتبكيت الضمير بأن يستغرق فى ملاهى العالم الباطلة ويضيع عمره وتضيع نفسه. و”ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطى الإنسان فداءً عن نفسه؟” (مت16: 26).

احترزوا من الأنبياء الكذبة

بدأ السيد المسيح يحذّر تلاميذه من البدع والهرطقات التى يحاول الشيطان بها تضليل العالم فقال: “احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة، من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنباً، أو من الحسك تيناً؟ هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارًا جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارًا ردية، لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارًا جيدة. كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى فى النار. فإذاً من ثمارهم تعرفونهم” (مت7: 15-20).

المظاهر الخارقة للطبيعة

اعتاد عدد كبير من شعبنا أن يندفع وراء المظاهر الخارقة للطبيعة والتى قد تكون نتيجة قوى السحر أو الشعوذة أو بعمل الشيطان الذى يحاول تقليد أعمال الله الحقيقية.

وقد أورد الكتاب المقدس أمثلة لهذه الأمور. ففى سفر أيوب نرى أن الشيطان قد قام –بسماح من الله– بأعمال خارقة للطبيعة فى تخريب ممتلكات أيوب جميعها، وفى قتل كل أبنائه فى وقت واحد. استطاع أن يُنزل نارًا من السماء لحرق كل حقوله ومواشيه، وأن يهدم البيت حيث كان أبناؤه كلهم مجتمعين فقتلهم معاً.

واستطاع أكثر من ذلك -أيضاً بسماح من الله– أن يضرب جسد أيوب كله بقرح ردئ. وكان بإمكانه إمعاناً فى الخداع أن يرفع هذا القرح الردئ الذى ضربه به.

لذلك حذّر معلمنا بولس الرسول من إنسان الخطية ابن الهلاك الذى سيأتى فى بداية عصر الارتداد ويدعى أنه هو المسيح “الذى مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم فى الهالكين” (2تس2: 9، 10). وسيصل الأمر إلى عبادة هذا المضل الذى سيصنع كثيراً جداً من المعجزات ويهلك الكثيرين، كما أنه سيضطهد المؤمنين الحقيقيين اضطهادًا مريعاً، ويقتل النبيين أخنوخ وإيليا فى جبال أورشليم.

لذلك فليست المعجزات وحدها هى التى تدلنا على صدق صاحب النبوة. وليست الأمور الخارقة للطبيعة وحدها هى التى تدلنا على من هو مؤيد من الله أو من يعمل روح الله بواسطته.

المسألة تحتاج إلى فحص عقيدة الشخص وما ورد عنه من نبوات سابقة وما ينادى به من تعاليم إن كانت أرثوذكسية مستقيمة أم لا. وكذلك فحص سيرته وما يعمله فى حياته الخاصة وفى علاقته بالآخرين. لهذا قال السيد المسيح: “من ثمارهم تعرفونهم” (مت7: 20).

فعلى سبيل المثال إذا فحصنا حركة شهود يهوه التى ظهرت سنة 1876م فى الولايات المتحدة نرى أن مؤسسها هو “تشالز رصل” من بنسلفانيا. ولد سنة 1854م، وكان ينتمى أولاً إلى الكنيسة البروتستانتية، وبدأ من سن 16 سنة ينحرف فى أفكاره، ثم تتلمذ على السبتيين عندما كان عمره 24 عاماً. وقد ادعى معرفة اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية. ثم ظهر جهله بها جميعاً. وأنه لم يتلق أى تعليم. كما أنه لم ينل أية درجة كنسية.

ادعى أن الله يوحى إليه ما يقوله فى تفسير الكتاب المقدس. ثم قال بحضور المسيح سنة 1874، وأن الحصاد قد بدأ سنة 1878 وأن يهوه قد أجلس المسيح على العرش سنة 1914م ليبدأ الدينونة.

رُفعت ضده بعض قضايا، منها قضية من امرأته تطالب بنفقة فى خلافه معها. وقضية من المزارعين الذين خدعهم وباع لهم ما أسماه بالقمح العجائبى (كبذور).

وقد توفى تشالز رصل سنة 1916 وخلفه القاضى رزفورد.

وقد أصدر كتباً كثيرة. وتنبأ بمجيء إبراهيم أبى الآباء، ومعه مجموعة من الأنبياء! وبنى لهم قصراً فى كاليفورنيا كلّفه 75 ألف دولار وقتذاك. ولم يحضر أولئك الأنبياء فتعبت نفسيته.

وقد أصدر شهود يهوه كثيراً من الكتب والنبذات.. وأسسوا لذلك جمعية الكتب والكراريس. ثم برج المراقبة Watch Tower وترجموا مؤلفاتهم إلى عشرات اللغات (انظر مقال “فى اللاهوت المقارن – شهود يهوه – بدعة مركبة تضم العديد من البدع” مجلة الكرازة بتاريخ 14 مارس 1997).

أنكر شهود يهوه السيد المسيح وانطبق عليهم قول معلمنا بطرس الرسول: “ولكن، كان أيضاً فى الشعب أنبياء كذبة. كما سيكون فيكم أيضاً معلمون كذبة، الذين يدسون بدع هلاك. وإذ هم ينكرون الرب الذى اشتراهم، يجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعاً. وسيتبع كثيرون تهلكاتهم. الذين بسببهم يُجَدَّف على طريق الحق. وهم فى الطمع يتجرون بكم بأقوال مصنعة، الذين دينونتهم منذ القديم لا تتوانى وهلاكهم لا ينعس” (2بط2: 1-3).

وإذا لاحظنا سيرة مؤسس هذه البدعة الشيطانية التى تنكر الرب الذى اشترانا، نرى أن حياته ممتلئة من الأضاليل والحيل، ولم يسلك لا فى الحق العقائدى، ولا فى الحق فى سلوكه مع الناس، بل كانت حياته كلها كذباً.

إيلين هوايت

يعتبر السبتيون أن السيدة إيلين هوايت Ellen G.White هى نبيتهم، صاحبة الرؤى والأحلام والإعلانات السمائية. ويضعون كتاباتها فى مرتبة الكتب المقدسة، ويعتبرون أن ما ادعته من رؤى وأحلام هى إلهام وإعلان من الله لجماعة مجيئيو اليوم السابع Seventh – day Adventists وكان ويليام ميللر William Miller  المولود فى الولايات المتحدة الأمريكية فى 15 فبراير سنة 1782م فى ولاية ماساتشوسيتس قد استنتج فى سنة 1818م بعد دراسة للكتاب المقدس لمدة عامين أن نهاية العالم ستكون فى سنة 1843م، واستمر ينشر فكره حتى انتهت سنة 1843م، ولم يأت المسيح لنهاية العالم، واستنتج أحد أتباعه ويدعى صموئيل سنو Samuel Snow أن المسيح بالحساب الأدق سوف يأتى فى يوم الكفارة العظيم فى الشهر السابع اليهودى من سنة 1844م، وبالتحديد فى يوم 22 أكتوبر، ولما لم يتحقق أيضاً مجيء السيد المسيح فى ذلك التاريخ أصيبت حركة ويليام ميللر بالإحباط الشديد، وأطلقوا على ذلك اليوم اسم “الإحباط الكبير” The Great Disappointment (انظر كتاب Seventh-Day Adventist By Antony A. Hoekema طبعة سنة 1990م- الناشر Eerdmans Michigan).

بعد ذلك ادعت الآنسة ايلين هارمون Ellen Gould Harmon فى يناير سنة 1845م وسنها وقتئذ 17 سنة أن الرب قد أراها فى حلم أن المسيح سوف يأتى فى المستقبل الفورى. ولما لم يتحقق ذلك ادعى أحد قيادات الحركة أن المسيح فى 22 أكتوبر سنة 1844م قد انتقل من القدس السماوى إلى قدس الأقداس، وبهذا بدأ “الكفارة النهائية” للخطاة.

وفى الفترة ما بين سنة 1840م وسنة 1850م دخل تعليم “تقديس يوم السبت” إلى هذه الجماعة حيث أدخل هذا التعليم جوزيف باتس Joseph Bates واقنع الجماعة به وكان منتمياً إلى جماعة “معمدانيو اليوم السابع” Seventh-Day Baptists من قبل. وقد ادعت إيلين هارمون هوايت التى تزوجت جيمس هوايت James White أنها قد رأت حلماً يؤكّد حتمية حفظ السبت اليهودى بالنسبة للمسيحيين.

وكانت إيلين هوايت قد أصيبت برمية حجر أثناء وجودها فى المدرسة فى الجانب الأيسر من جبهتها كاد يودى بحياتها، وأصاب مخها بتدمير سيئ حتى أنها لم تتمكن من استكمال دراستها الرسمية بالمدرسة، ولكنها اعتبرت رسولة من الله إلى جماعة ويليام ميللر.

وفى سنة 1861م تم تسجيل هذه الجماعة باسم كنيسة مجيئيو اليوم السابع Seventh-Day Adventist Church وتوفيت السيدة إيلين هوايت سنة 1915م عن عمر 87 عام، ولكنها لم تحضر المجيء الثانى للسيد المسيح، ومع ذلك فهى مكرمة بطريقة عالية فى جماعة السبتيين. وكانت إيلين هوايت قد استبدلت أسلوب الأحلام بادعاء زيارات فى الساعة الثالثة صباحاً لملائكة كانوا يخبرونها بما ينبغى أن تكتبه. وغالباً كانت تؤكد برؤاها ما سبق أن بحثته الجماعة وأقرته من عقائد، ولكن كتاباتها احتوت على كثير من الأخطاء والمغالطات العلمية. ففى كتابها عن “الهبات الروحية” Spiritual Gifts ادعت أن السبب الرئيسى فى تدمير العالم بالطوفان كان هو التلاحم (أى التزاوج والإنجاب) بين البشر والحيوانات، وقالت أن الأنواع المختلطة التى لم يخلقها الله لم يأخذها نوح معه إلى الفلك لأنها خليط بين البشر والحيوانات، بينما أثبت العِلم استحالة التزاوج للإنجاب بين البشر والحيوانات.

وقد سببت أخطاء إيلين هوايت التعليمية مشاكل كثيرة لجماعة السبتيين. فهل تصلح أن تكون نبية؟

(كتاب  Seventh-Day Adventists – False Prophets لمؤلفه Wallace D. Stattery وهو عضو سابق فى جماعة السبتيين خرج عليهم وألّف هذا الكتاب).

كيف نميز الأرواح

من المهم جداً أن نميز الأرواح هل هى من الله “لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم” (1يو4: 1). هؤلاء يدسون بدع هلاك. لهذا قال يوحنا الرسول: “لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح، هل هى من الله؟” (1يو4: 1).

ونرى مثلاً التيار الخمسينى الذى يدّعى عمل المعجزات والتكلم بالألسنة، كما نرى السبتيون وشهود يهوه والمورمون يدّسون بدع هلاك. ونرى “حركة الدهر الجديد” New Age Movement  وما فيها من تعاليم خطرة جداً على المسيحية. إلى جوار ما ظهر من بدع متعددة فى تاريخ المسيحية مثل البدعة الأريوسية والبدعة النسطورية وكثير غيرها.

يلزمنا إذاً أن نعرف كيف نميز الأرواح ونتدرب على ذلك.

قال السيد المسيح: “كل من هو من الحق يسمع صوتى” (يو18: 37). وقال أيضاً: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو14: 6).

لذلك يلزمنا أن نطلب إرشاد وقيادة روح المسيح لنا، لأنه هو “روح الحق” الذى يرشدنا إلى جميع الحق (انظر يو16: 13).

يلزمنا أن نتضع جداً أمام الله ونطلب الامتلاء من الروح القدس، ليعمل روح الله فينا، ويرشدنا إلى الحق الذى فى المسيح –بشرط أن يكون ذلك بعيداً عن روح الغرور وحب الظهور.

ويلزمنا أن نطلب بلجاجة الحكمة التى من الله، وأن نكون ثابتين فى التعليم الرسولى الآبائى، ولا يحملنا كل ريح تعليم (انظر أف4: 14). ولا نعتمد على فهمنا الخاص، ولا نفرح بكل ما هو جديد ومخالف لما تعلمناه من الآباء الكبار معلمى البيعة.

لذلك قال معلمنا بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: “وما سمعته منى بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلّموا آخرين أيضاً” (2تى2: 2). وقال له أيضاً: “احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا” (2تى1: 14). ويلاحظ هنا أهمية الروح الواحد الذى يجمعنا مع الآباء الذين تسلّمنا منهم الإيمان المسلّم مرة للقديسين. فالذين يتهمون الكنائس الأرثوذكسية المحافظة بالجمود؛ عليهم أن يتذكروا أن الثبات هو وصية رسولية (انظر 2تى3: 14 ، 2بط1: 19).

فلننظر إلى ما آل إليه حال الكنائس أو الجماعات التى لم تحفظ أرثوذكسية التعليم والتقليد الرسولى والالتزام بالكتب المقدسة، وكيف صارت حالياً تدافع عن أو تبارك زيجات الجنس المثيل وتبيح العلاقات السابقة للزواج، كما أنها تقبل خلط العقائد المسيحية بالعقائد الوثنية مثلما يحدث فى ديانة العصر الجديد New Age Religion.

 

ختام الموعظة على الجبل

“ليس كل من يقول لى يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذى يفعل إرادة أبى الذى فى السماوات” (مت7: 21).

فى ختام الموعظة على الجبل أوضح السيد المسيح أن محبة الله وطاعة وصاياه والامتلاء من ثمار الروح القدس هو الذى يخلّص الإنسان.

أما المواهب الروحية مثل النبوة، وإخراج الشياطين، وصنع المعجزات فهى تمنح من الروح القدس للأفراد فى الكنيسة من أجل مجد الله وبنيان الكنيسة، ولا تعتبر دليلاً على دخول ملكوت السماوات لمن يجريها باسم الرب يسوع المسيح. أما ثمار الروح القدس التى هى: محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف، فهى لازمة لدخول ملكوت السماوات لأنها هى علامة القداسة الحقيقية.

لهذا قال السيد المسيح: “كثيرون سيقولون لى فى ذلك اليوم: يا رب، يا رب أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرِّح لهم: إنى لم أعرفكم قط! اذهبوا عنى يا فاعلى الإثم” (مت7: 22، 23).

بيت الصخر وبيت الرمل

أشار السيد المسيح فى ختام الموعظة على الجبل إلى أهمية العمل بوصاياه وليس الإعجاب بها فقط أو تجاهلها.

فالحياة المسيحية ليست هى مجرد الإيمان بالمسيح، ولا حتى الإيمان وقبول العماد باسم المسيح فقط. بل هى إلى جوار ذلك كله الالتزام بوصاياه بروح الطاعة والإيمان.

وابتدأ السيد المسيح يشبّه الحياة بالبيت الذى يبنيه الإنسان ليسكن فيه.

فالإنسان سيكون مسئولاً عن نوعية البناء وما سوف يتعرّض له على مر السنين.

من أراد أن يصل إلى الحياة الأبدية، عليه أن يبنى بناءً قوياً سليماً مؤسساً على الصخر. أى مؤسساً بطريقة قوية متينة وليس مبنياً بطريقة سطحية.

البناء الروحى السليم هو المؤسس على الالتزام بالوصية مهما بدت غريبة أو صعبة فى تطبيقها.

إن الله يعرف ما هو لصالحنا، أكثر مما نعرف نحن. وهو أيضاً سوف يمنحنا العون إذا اتكلنا عليه وسلكنا بالإيمان فى طاعة وصاياه.

ونظراً لأن الأمين فى القليل، أمين أيضاً فى الكثير، كما قال السيد المسيح فى (لو16: 10). لذلك فإن الله سوف يتدخل بقوة لمعونة حافظى وصاياه حينما تهب عليهم رياح التجارب العنيفة من قبل الشيطان الشرير.

إن أمانة الإنسان فى تنفيذ الوصية هى إلزام حقيقى للرب أن يتدخل لمعونة أولاده بصورة تفوق الوصف والتصور، كما حدث فى حياة الشهداء فى وسط آلامهم العجيبة التى احتملوها من أجل الشهادة للمسيح.

فمن ينفذ وصية الرب القائل: “لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً” (مت5: 39). هو الذى سيعينه الرب بصورة أقوى إذا تعرض لآلام الاستشهاد.

أما من يتجاهل الوصية، فسوف يضعف فى وقت التجربة ويعثر ويسقط ويكون سقوطه عظيماً، كما قال الرب: “كل من يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها، يشبه برجل جاهل، بنى بيته على الرمل. فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، وصدمت ذلك البيت فسقط، وكان سقوطه عظيماً” (مت7: 26، 27).

إن سلوك الشهيد مار جرجس فى حياة العفة التى أوصى بها السيد المسيح “كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها فى قلبه” (مت5: 28)، هو الذى جعله يصمد أمام المرأة الخليعة التى أدخلوها إليه فى السجن لتسقطه فى الخطية. فاجتذبها هو إلى الإيمان والتوبة. فهو سلك كشاب عادى فى حياة العفة، وعندما تعرض للإغراء الإجبارى استطاع أن يصمد بصورة مشرّفة كشاب طاهر حقيقى.

رد فعل الجموع

“فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بُهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة” (مت7: 28، 29).

لقد ملّ الناس الاستماع إلى تعاليم الكتبة والفريسيين التى لم تقدر أن تغيّرهم من العمق من الداخل.

أما تعليم السيد المسيح فقد حرك قلوبهم واجتذبهم نحو تنفيذ الوصية بفرح. ولذلك بهتت الجموع من تعليمه السامى الفائق للطبيعة البشرية العادية.

إنها تعاليم العهد الجديد، عهد النعمة والخلاص، عهد القداسة والتبرير، عهد حياة البنوة لله. وهى تعاليم تحمل معها قوة تنفيذها أو هى كلمات ممسوحة بالروح القدس لتؤثر فى قلوب السامعين.

لذلك قال المرنم فى المزمور: “انسكبت النعمة على شفتيك” (مز44: 2).

حقاً إن الموعظة على الجبل هى خطاب العرش الخالد للسيد المسيح المعلم الأعظم وراعى الخراف العظيم.

ومهما كتبنا فى هذه التأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح فسوف نبقى محتاجين إلى المزيد، لنعرف كيف فهم الآباء القديسون هذه الوصايا الرائعة، وغاصوا فى أعماقها وأخرجوا لنا جدداً وعتقاء من التعاليم النافعة لخلاص أنفسنا.

 

كما أن الصوم هو فرصة للتذلل أمام الله بمشاعر التوبة والحزن على الخطية.. هو فرصة لمحاسبة النفس ومراجعتها فى حضرة الله فى الصلاة، وفى ممارسة سر التوبة والإعتراف مع أب الإعتراف الذى هو وكيل لأسرار الله.

لهذا ينبغى أن يقترن الصوم بمشاعر الاتضاع. الأمر الذى يستدعى عدم التباهى بالصوم.. لهذا حذَّر السيد المسيح من تعبيس الوجه بهدف إظهار الصوم للآخرين.

الإنسان ينبغى أن يحتفظ بمشاعر الانسحاق الداخلى فى سرية بينه وبين الله، وأمام أب الاعتراف. أما فى مواجهة الناس فينبغى أن يكون بشوشاً لا معبساً. وينبغى أن يخفى صومه على قدر الإمكان ويتحاشى أى مشاعر للتباهى فى داخل نفسه.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found