تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري – الباب الثاني عشر

هذا الفصل هو جزء من كتاب: تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

[pt_view id=”aa2d703e20″ tag=”تأملات فى حياة وخدمة السيد المسيح – المسيح مشتهى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري” field=name]

ارسال الروح القدس

عمل الروح القدس فينا

حديث السيد المسيح عن الروح القدس

معزياً آخر

روح الحق

اقنومية الروح القدس

الجوهر والطاقة

عطايا الروح القدس

عطية الحق

النعمة والحق

عمل الروح القدس فى أسرار الكنيسة

يرشدكم إلى جميع الحق

ترسل روحك فتخلق

عمل الروح القدس فينا

قال السيد المسيح: “متى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذى من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى” (يو15: 26).

وهكذا أُرسل الروح القدس بناءً على طلب السيد المسيح، وبناءً على الصلح بدم صليبه.

أما المؤمنون بالمسيح فقال لهم: “أما أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم”.

تلاميذ الرب نشأت بينهم وبين الروح القدس علاقة شخصية، اختبارية كقول معلمنا بولس الرسول: “جميعنا سقينا روحاً واحداً” (1كو12: 13)، وقوله: “الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها” (رو8: 26).

صارت لهم معرفة للروح القدس، ماذا يريد، وماذا يقول “قال الروح القدس أفرزوا لى برنابا وشاول للعمل الذى دعوتهما إليه” (أع13: 2).

صارت لهم الدالة أن يطلبوا من الروح القدس. مثلما تصلى الكنيسة وتقول }أيها الملك السمائى المعزى روح الحق الحاضر فى كل مكان؛ مالئ الكل كنز الصالحات ومعطى الحياة، هلم تفضل وكن فينا، وطهِّرنا من كل دنس أيها الصالح وخلّص نفوسنا{ (قِطع صلاة الساعة الثالثة).

وقد تنبأ داود النبى فى المزمور عن الروح القدس وعن وجوده فى كل مكان وعن عمله فى حياة الإنسان فقال: “أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك. وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك” (مز139: 7-10).

ونلاحظ فى كلمات المزمور؛ عمل الروح القدس فى إرشاد المؤمنين “تهدينى يدك وتمسكنى يمينك”. “لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله” (رو8: 14).

المؤمن الحقيقى الذى يطلبه بحرارة من الله، يستشعر عمل الروح القدس فى داخله: يعلّمه ويرشده ويعزّيه روحياً ويقوده ويقود ضميره، وأحياناً يوبّخه.. يذكّره بكلام السيد المسيح، أو يعلن مشيئة المسيح فى داخله.. يقوّيه.. ينطق على لسانه.. يحدِّثه.. يلهمه لكى يتصرف بحسب فكر الروح.. يعلن له أسرار سمائية، أو مقاصد إلهية.. يرفعه فوق مستوى العالم والمادة والزمان لكى يتصل بالحياة الأبدية. وعموماً يشعر الإنسان بحضور الله فى داخله إذ يصير هيكلاً للروح القدس.

فكيف بعد هذا كله، وكثير غيره، يتصور الإنسان أو تتصور الكنيسة أن تحيا بدون عمل الروح القدس فيها؟!

وقال السيد المسيح إنه هو الذى سيرسل الباراقليط (انظر يو15: 26)، وأن الباراقليط سوف يأخذ مما للمسيح ويخبرنا.. لأن كل ما للمسيح فهو للآب وهو أيضاً للروح القدس. وكل ما للروح القدس فهو للآب وهو أيضاً للابن.. وهكذا.

فالجوهر الإلهى الواحد للأقانيم الثلاثة يجعل كل ما للأقنوم الواحد هو أيضاً للأقنومين الآخرين، فيما عدا الخاصية الأقنومية التى يتمايز بها هذا الأقنوم على وجه الخصوص. فالأبوه هى للآب، والبنوة هى للابن. والانبثاق هو للروح القدس.

حديث السيد المسيح عن الروح القدس

حينما اقتربت ساعة الصلب بدأ السيد المسيح يتكلم حديثاً طويلاً تفصيلياً عن الروح القدس وانبثاقه من الآب وحقيقة أقنوميته وعمله فى الكنيسة، وقد امتاز إنجيل معلمنا يوحنا بأنه كما أفاض فى الحديث عن ألوهية السيد المسيح وأقنوميته باعتباره الابن الوحيد الجنس (monogenh,j مونوجنيس) والله الكلمة (lo,goj  اللوغس) الذى أحبه الآب قبل إنشاء العالم، فإنه أفاض أيضاً فى الحديث عن الروح القدس.

قال السيد المسيح: “إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه، ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يو14: 15-17).

لم يكن ممكناً أن يمنح الآب عطية الروح القدس للكنيسة إلا بناءً على طلب ابنه الوحيد الذى صالح الآب مع البشر بدم صليبه. وبناءً على هذه المصالحة أمكن أن يرسل الآب الروح القدس حسب وعده ليقوم بتوصيل بركات ومفاعيل الخلاص إلى الكنيسة.

وهذا ما عبّر عنه معلمنا بولس الرسول، موضحاً كيف يعمل الأقانيم الثلاث فى خلاص البشرية فقال: “حين ظهر لطف مخلصنا الله (أى الآب) وإحسانه، لا بأعمال فى بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلّصنا” (تى3: 4-6).

لقد دعانا السيد المسيح إلى طاعة وصاياه لكى ننال عطية الروح القدس وكانت الوصية التى أوصى بها تلاميذه هى أن لا يبرحوا أورشليم بعد صعوده إلى السماء إلى أن يلبسوا قوة من الأعالى متى حل الروح القدس عليهم “أقيموا فى مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالى” (لو24: 49).

وقد أطاع التلاميذ هذه الوصية ومكثوا فى العلية فى أورشليم إلى أن نالوا العطية الموعود بها. كانت هذه هى بركة الطاعة لأن ابن الطاعة تحل عليه البركة. وقد قدّم السيد المسيح مثالاً رائعاً للطاعة فى طاعته الكاملة للآب حتى الموت، موت الصليب. وبهذه الطاعة الكاملة ومن خلال ذبيحة الصليب تمت المصالحة الحقيقية مع الآب. وصارت الطاعة هى المدخل إلى حياة الشركة مع الله.

لهذا قالت الجموع للرسل فى يوم الخمسين: “ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟” (أع2: 37) وقال شاول الطرسوسى (بولس الرسول) للسيد المسيح حينما ظهر له فى الطريق ودعاه إلى الإيمان وهو مرتعد ومتحير: “يا رب ماذا تريد أن أفعل؟” (أع9: 6).

معزياً آخر

قال السيد المسيح: “أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر” (يو14: 16) وهو يقصد الروح القدس لهذا قال: “روح الحق؛ الذى لا يستطيع العالم أن يقبله” (يو14: 17)

وعندما قال: “معزياً آخر” فهو يقصد أن الروح القدس سيعوض ترك السيد المسيح لهم فى وجوده بينهم بالجسد، وانطلاقه إلى السماء ليجلس عن يمين الآب، وليخدم فى المقدس السماوى ويشفع من أجل مغفرة الخطايا بصفة دائمة عند الآب.

كان وجود السيد المسيح بينهم يعزيهم: يعزيهم بكلام النعمة الخارج من فمه، ويعزيهم بمثاله الصالح الجميل، ويعزيهم بما يعمله من معجزات فائقة، ويعزيهم بنصائحه وإرشاداته، ويعزيهم برؤيتهم له إذ هو صورة الله غير المنظور الذى قال: “الذى رآنى فقد رأى الآب” (يو14: 9). كانت تعزية ليست بقليلة أن يرى الإنسان السيد المسيح الذى قال للآب: “أنا مجدتك على الأرض، أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى، كنت أحفظهم فى اسمك” (انظر يو17: 4، 6، 12) والذى قال لتلاميذه: “هذه هى مشيئة الذى أرسلنى أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية” (يو6: 40).

وقال لهم: “إن أنبياءَ وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا. ولكن طوبى لعيونكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع” (مت13: 17، 16) لهذا كله ولكثير غيره قال لهم: “أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر” (يو14: 16).

هذا المعزى الآخر ينبغى أن يشرق بالمسيح فى قلوبهم، وينبغى أن يذكّرهم بكلامه وأن يعلمهم كل شئ ويرشدهم فى طريق الحق. وينبغى أن يكون هو نفسه روح الحق لكى يعلن الحق فى داخلهم وبذلك يعلن المسيح.

هذا المعزى ينبغى أن يشهد لأرواح التلاميذ أنهم أبناء الله، أنهم ورثة الملكوت. وينبغى أن يمنحهم القوة أن يصنعوا الآيات والعجائب التى تشهد للمسيح.

وهذا المعزى ينبغى أن ينطق على أفواههم بكلام النعمة مثلما كان يتكلم السيد المسيح وقيل له “انسكبت النعمة على شفتيك” (مز44: 2).

هذا المعزى ينبغى أن يشعرهم بحضور السيد المسيح معهم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر حسب وعده قبل صعوده إلى السماء جسدياً، ولكنه بلاهوته يملأ الوجود كله. وقد احتاج التلاميذ لعمل الروح القدس المعزى لكى يدركوا ويستشعروا وجود الرب المسيح معهم كل الأيام.

لهذا قال السيد المسيح: “أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله” (يو14: 16، 17).

تحدثنا عن عمل الروح القدس فى تعزية التلاميذ فى مقابل التعزيات التى كانوا يحصلون عليها بوجود السيد المسيح فى وسطهم قبل صعوده إلى السماء. ونود أن نشير أيضاً إلى أهمية هذه العبارة “معزياً آخر” (يو14: 16)، لأنها تؤكّد أقنومية الروح القدس وتمايزه عن أقنوم الابن.

فالأقانيم الثلاثة لهم نفس الجوهر الإلهى الواحد، لأن اللاهوت واحد. ولكن كل أقنوم متمايز عن الآخر بخاصيته الأقنومية: فالآب له الأبوة، والابن له البنوة بالولادة من الآب قبل كل الدهور، والروح القدس له الانبثاق من الآب قبل كل الدهور. وهذا ما عبّر عنه القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات بقوله [الآب هو اسم من لا مصدر له، والابن اسم من وُلِدَ فى غير بدء، والروح القدس اسم من انبثق أو أتى من غير ولادة] (الخطاب اللاهوتى الرابع -الفقرة 19).

وقال أيضاً عن الثالوث: [نعبد الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، ثلاثة أقانيم، فى لاهوت واحد، لا يناله انقسام فى المجد، والكرامة، والجوهر، والملك] (الخطاب اللاهوتى الخامس-الفقرة 28).

وفى حديثه عن الروح القدس وتأكيد ألوهيته قال القديس: [أى من الأسماء التى تطلق على الله لا تطلق عليه، ما خلا اللا مولود والمولود؟ إذ كان لابد من إستثناء ميزتى الآب والابن الخاصيتين حتى لا يكون هناك إلتباس] (الخطاب اللاهوتى الخامس -الفقرة 29).

وفى شرحه لوحدانية الجوهر وتمايز الأقانيم الإلهية قال القديس: [والتعبيرات: غير مولود ومولود ومنبثق، تدل على الآب، والابن، والروح القدس موضوع كلامنا هنا، وهكذا نحافظ على ميزة الأقانيم الخاصة فى الطبيعة الواحدة وكرامة اللاهوت الواحدة.

فالابن ليس الآب إذ ليس إلا آب واحد، ولكن له ما للآب، والروح القدس ليس الابن لمجرّد كونه يأتى من الآب، إذ ليس إلا ابن واحد، الوحيد (انظر يو3: 16)، ولكن له ما للابن. الثلاثة واحد فى الألوهة، والواحد هو ثلاثة من حيث الميزات الخاصة. وهكذا فالواحد ليس ما ذهب إليه سابيليوس (الذى اعتقد بالأقنوم الواحد)، والثالوث ليس ما تذهب إليه انقسامات اليوم الهدّامة (يقصد البدع الأريوسية التى كان القديس يحاربها)] (الخطاب اللاهوتى الخامس –الفقرة 9).

وبهذا يتضح معنى قول السيد المسيح فى إنجيل يوحنا عن الروح القدس: “معزياً آخر”. فالابن هو أقنوم، والروح القدس هو أقنوم آخر. ولكنه ليس آخر من حيث الجوهر والألوهية.

لذلك لا نقول أن الابن هو إله، والروح القدس هو إله آخر. بل نقول أن الابن هو أقنوم، والروح القدس هو أقنوم آخر. فالتثليث هو فى الأقنومية وليس فى الجوهر أو الألوهة غير المنقسمة.

هل المعزى الآخر هو إنسان ؟

لقد تجسّد أقنوم الابن، ووجد فى الهيئة كإنسان. أما أقنوم الروح القدس فليس إنساناً على الإطلاق، ولا يمكن أن يكون إنساناً، كما أنه لم يتجسد ويتأنس مثل أقنوم الابن.

لم يكن هذا المعزى الآخر إنساناً، ما قيل عنه ينطبق على من يمكنه أن يكون حاضراً بقدرته الإلهية فى كل زمان ومكان. فهو روح الحق الذى يمكث مع المؤمنين بالمسيح إلى الأبد لهذا قال السيد المسيح عنه: “ليمكث معكم إلى الأبد” (يو14: 16) فلا يوجد إنسان عادى يمكنه أن يمكث معنا إلى الأبد على الأرض.

كما أنه لا يوجد إنسان يقول عنه السيد المسيح: “ماكث معكم ويكون فيكم” (يو14: 17) وهل يمكن لإنسان عادى أن يمكث إلى الأبد مع تلاميذ الرب، وأن يحل فى داخلهم؟!!

والروح القدس لم يتجسد، ولهذا فهو يعمل بصورة غير منظورة فى الكنيسة، وفى قلوب المؤمنين. ليس مثل السيد المسيح الذى أمكن للعالم أن يراه متجسداً، لهذا قال عنه السيد المسيح إن العالم “لا يراه ولا يعرفه” (يو14: 17). لا يراه لأنه لم يتجسد، ولا يعرفه العالم لأنه لم يقبله ولم يختبر عمله فى داخله. لو كان الروح القدس إنساناً لما قيل عنه إن العالم لا يستطيع أن يراه.

الابن يرسل الروح القدس

هناك فرق بين الإرسال والانبثاق. فالروح القدس أُرسِلَ من الآب والابن ولكنه ينبثق من الآب فقط. الإرسال يخص عمل الروح القدس وهو فى الزمان. أما الانبثاق فهو يخص كينونة الروح القدس وهو فوق الزمان.

قال السيد المسيح: “ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذى من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى” (يو15: 26).

ولو كان الروح القدس ينبثق من الآب والابن كما يعتقد الكاثوليك، لضاع التمايز الأقنومى بين الأقانيم. فقد رأينا كيف قال القديس غريغوريوس عن الروح القدس، إنه هو [اسم من انبثق أو أتى من غير ولادة] أى أنه لا يمكن أن يأتى الروح القدس من خلال من هو مولود وهو الابن.. وهذا الكلام يخص كينونة الروح القدس وليس مواهبه..

روح الحق

الحق لا يتجزأ والحق هو الله: فالحقانى والحق وروح الحق هم واحد، كما أن الحكيم والحكمة وروح الحكمة هم واحد.

لا يمكن أن نفصل الحق عن مصدره أى عن الحقانى، ولا يمكن أن نفصل الحكمة عن الحكيم -لأنه لا يوجد حكيم بغير حكمة.

الحق مولود من الآب وروح الحق منبثق من الآب. والوالد ليس هو المولود، والباثق ليس هو المنبثق، والمنبثق والمولود ليسا هما الباثق، ولكن الوالد –الباثق- والمولود والمنبثق هم واحد. مثلما نقول أن النور والشعاع الصادر عنه هما نور واحد. والعقل والفكر الصادر عنه هما واحد؛ لهما نفس الجوهر ونفس الطبيعة ولا يمكن أن يوجد الواحد منهما بدون الآخر.

إن الروح القدس هو روح الحق لأنه هو روح الله، وهو الذى يلهم الحق ويرشد إلى الحق. لهذا قال السيد المسيح عن الروح القدس: “متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق” (يو16: 13).

من يتكلّم بالروح القدس سوف يتكلّم بكلام الحق: لهذا قيل عنه فى قانون الإيمان {الناطق فى الأنبياء}. ومن يشهد بالروح القدس فسوف يشهد بالحق؛ كما قال السيد المسيح: “ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذى من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معى من الابتداء” (يو15: 26، 27). وقال: “وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلى شهادة لهم وللأمم.  فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تعطون فى تلك الساعة ما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم” (مت10: 18-20).

لقد امتلأ الرسل والشهداء من الروح القدس، ولهذا فقد شهدوا بالحق وشهدوا للحق وعرفوا الحق، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت لسبب أن الحق كان واضحاً أمام أعينهم.

لهذا كُتبَ عن الشهداء فى حربهم ضد الشيطان “وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة  شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت” (رؤ 12: 11).

كان دم الخروف هو سبب تحررهم من الشر، وولادتهم الجديدة، ومصالحتهم الدائمة مع الله، وكان دم الخروف هو سر ثباتهم فى المسيح. وكانت كلمة شهادتهم هى بقوة الروح القدس الساكن فيهم. فبدم الخروف نالوا الخلاص والتبنى، وبالروح القدس شهدوا للحق بقوة ولم يخافوا. وفى محبتهم للفادى الذى اشتراهم لم يحبوا حياتهم حتى الموت، لأنهم أدركوا أنهم لا يعيشون لأنفسهم بل للذى مات لأجلهم وقام.

اقنومية الروح القدس

يعتقد شهود يهوه بأن الروح القدس هو مجرد قوة أو طاقة صادرة عن الله. ولكن السيد المسيح فى حديثه الرائع عن الروح القدس والذى سجّله لنا القديس يوحنا الإنجيلى أراد أن يؤكد على أن الروح القدس هو أقنوم وليس مجرد طاقة فقال: “متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق. لأنه لا يتكلم من  نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به” (يو16: 13).

فبقوله: “لا يتكلم من نفسه” يشير إليه كأقنوم وقوله: “يتكلم”، و”يسمع” لا ينطبق على طاقة أو قوة بل ينطبق على أقنوم له خصوصيته ويتعامل ويتكلم وله ضمير الملكية، مثلما ورد فى سفر الأعمال “قال الروح القدس: أفرزوا لى برنابا وشاول للعمل الذى دعوتهما إليه” (أع 13: 2). فالروح القدس يقول “لى” مثلما قال السيد المسيح نفسه: “كل ما للآب هو لى. لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم” (يو16: 15).

الروح القدس كأقنوم يتكلم ويسمع ويأخذ ويعطى ويمجد المسيح ويشهد له ويخبر ويرشد ويعلِّم ويأمر ويقود الكنيسة ويتكلم عما له بضمير الملكية كما شرحنا. ويستحيل أن يكون مجرد طاقة صادرة عن الله.

الروح القدس هو “روح القوة والمحبة والنصح” (2تى 1: 7)، وهو “روح الحياة” (رو8 :2) وهو “روح الحكمة والفهم روح المشورة” (إش 11: 2).

الروح القدس هو الخالق كقول الكتاب عن خلق الخليقة “ترسل روحك فتُخلق” (مز 104: 30)، “بكلمة الرب صنعت السماوات وبنسمة فيه كل جنودها” (مز33 :6). ومثلما قال أليهو بن برخئيل البوزى صديق أيوب الملهم من الله: “روح الله صنعنى ونسمة القدير أحيتنى” (أى 33: 4).

لقد كشف لنا السيد المسيح فى حديثه السابق لصلبه مباشرة عن أقنومية الروح القدس وعن صدوره من الآب بالانبثاق الأزلى بقوله: “روح الحق الذى من عند الآب ينبثق” (يو15: 26).

وبالرغم من أن السيد المسيح وقتها قال: “إن لى أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن” (يو16: 12)، ولكنه مع ذلك تكلم باستفاضة عن الروح القدس لكى ينعم علينا بمعرفة الروح القدس الحقيقية ثم يقوم بتسليم الأمر للروح القدس ليعلّمنا كل ما لم نحتمل أن نسمعه فى ذلك الحين “أما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق” (يو16: 13).

شكراً للرب الذى أنعم علينا بهذه المعرفة للروح القدس، وشكراً للقديس يوحنا اللاهوتى الذى سجل لنا هذه الكلمات فى إنجيله -الذى هو رابع الأناجيل- قبل أن يرحل من هذا العالم، وهو آخر من تنيح من الرسل القديسين الذين سلمونا الإيمان الثمين.

الجوهر والطاقة

سجّل القديس لوقا هذا عن السيد المسيح فى إنجيله: “ونزل معهم ووقف فى موضع سهل هو وجمع من تلاميذه وجمهور كثير من الشعب من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيداء الذين جاءوا ليسمعوه ويشفوا من أمراضهم. والمعذبون من أرواح نجسة وكانوا يبرأون. وكل الجمع طلبوا أن يلمسوه لأن قوة كانت تخرج منه وتشفى الجميع” (لو6: 17-19).

مجرد لمس الرب يسوع المسيح كان كافياً لأن ينال الناس الشفاء، لأن قوة كنت تخرج منه وتشفى الجميع.

هذه القوة التى تخرج من السيد الميسح هى طاقة فائقة للطبيعة يسمّيها اللاهوتيون باللغة اليونانية (evne,rgeia  إنرجيا)  ومثلها الكلمة الإنجليزية energy وهى مأخوذة عن اليونانية ومعناها “طاقة”.

وطبعاً فى معرفتنا عن لاهوت السيد المسيح فإننا نميز بين الطاقة والجوهر، فالجوهر هو باللغة اليونانية (Ouvsi,a  أوسيا) وباللغة الإنجليزية Essence.

وللسيد المسيح جوهر بشرى متحد بجوهر إلهى. والجوهر الإلهى للسيد المسيح هو نفسه للآب وللروح القدس. فالأقانيم الثلاثة لاهوت واحد وجوهر واحد غير متجزئ ولا منقسم.

وما يمنحه السيد المسيح للمؤمنين به هو الطاقة وليس الجوهر.. ومع ذلك فإن هذه الطاقة يكون الثالوث القدوس هو مصدرها ومانحها.

وكل طاقة أو نعمة أو قدرة يمنحها أحد الأقانيم لها أصلها فى الآب أى أنها من الآب وتُمنح بالابن فى الروح القدس.

عطايا الروح القدس

هكذا علّم آباء الكنيسة الكبار مميزين بين الروح القدس الذى يستمد جوهره أزلياً من الآب وحده، وبين عطايا الروح القدس التى لها أصلها فى الآب وتتحقق من خلال الابن بواسطة الروح القدس. فالروح القدس لا يُمنح للبشر كأقنوم من حيث جوهره، ولكن عطايا الروح القدس هى التى تُمنح باستحقاقات الابن الوحيد الجنس.

وعندما نفخ السيد المسيح الروح القدس فى وجه تلاميذه بعد قيامته من الأموات فقد نفخ موهبة الكهنوت ومغفرة الخطايا، ولم ينفخ جوهر الروح القدس الذى ينبثق جوهرياً من الآب وحده. لذلك وردت العبارة فى النص اليونانى بدون أداة التعريف (لافيتيه بنيفما  أجيون La,bete pneu/ma a[gion ) (يو20: 22) وليس “لافيتيه تو بنيفما تو أجيون”.

وقد لوحظ أن تعبير الروح القدس ” تو بنيفما تو أجيون To. Pneu/ma To.  [Agion    ” إذا ورد بأداة التعريف فى النص اليونانى فإنه يشير إلى الأقنوم ذاته. أما إذا ورد بدون أداة التعريف “بنيفما أجيون  pneu/ma a[gion  ” فإنه يشير إلى عطايا الأقنوم ومواهبه أى إلى الطاقة (evne,rgeia  إنرجيا) وليس إلى الجوهر (Ouvsi,a  أوسيا).

أمثلة من أقوال الآباء

قال القديس أثناسيوس:

[الآب يخلق كل الأشياء من خلال الكلمة فى الروح القدس] (الرسالة الثالثة إلى سرابيون فصل5).

وقال أيضاً:

[الآب يفعل كل الأشياء من خلال الكلمة فى الروح القدس] (الرسالة الأولى إلى سرابيون فصل 28).

وقال فى حديثه عن الروح القدس:

[من الواضح أن الروح ليس مخلوقاً، ولكنه يشترك فى عملية الخلق. لأن الآب يخلق كل الأشياء من خلال الكلمة فى الروح، لأنه حيثما يوجد الكلمة، فهناك الروح أيضاً، والأشياء التى خلقت من خلال الكلمة تأخذ قوتها الحيوية من الروح من الكلمة. لذلك كتب فى المزمور الثالث والثلاثين “بكلمة الرب صنعت السماوات وبنسمة فيه كل جنودها” (مز33: 6)].

(The Spirit & the Church: Antiquity- Stanely M Burgess- Hendricksons Publishers- p.118).

أما القديس غريغوريوس أسقف نيصص فقد قال:

[كل عملية تأتى من الله إلى الخليقة، وتسمى بحسب فهمنا المتنوع لها. لها أصلها من الآب وتأتى إلينا من خلال الابن وتكتمل فى الروح القدس] (آباء ما بعد نيقية. المجموعة الثانية ج5 صفحة 334).

ونحن فى عقيدتنا الأرثوذكسية مثلما نميّز بين إرسال الروح القدس من الآب والابن وانبثاقه من الآب فقط لأن الإرسال فى الزمن أما الانبثاق فهو أزلى وخارج الزمن. هكذا أيضاً نميّز بين عطايا الروح القدس التى يتم منحها من الآب والابن، وجوهره كأقنوم الذى هو من الآب فقط.

لذلك نقول عن الروح القدس فى قانون الإيمان {الرب المحيى المنبثق من الآب}.

وقال عنه السيد المسيح: “روح الحق الذى من عند الآب ينبثق” (يو15: 26). وهو فى هذا يتكلم عن الأقنوم الذى ينبثق من الآب بحسب جوهره.

عطية الحق

إن الحق كجوهر يخص الله وحده، أما الحق كطاقة فهو يُمنح كعطية للمؤمنين بالمسيح “وتعرفون الحق والحق يحرركم” (يو8: 32). وقد دُعى الروح القدس “روح الحق” (يو14: 17، يو15: 26، يو16: 13) لأنه فى جوهره هو حق تماماً مثل الآب والابن، كما أنه يشهد للحق ويخبرنا بجميع الحق ويأخذ مما للحق ويخبرنا.

عن هذا قال السيد المسيح لتلاميذه: “متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم. كل ما للآب هو لى. لهذا قلت: إنه يأخذ مما لى ويخبركم” (يو16: 13-15).

وقال لهم أيضاً: “إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم تعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يو14: 15-17). “وأما المعزى، الروح القدس، الذى سيرسله الآب باسمى، فهو يعلّمكم كل شئ، ويذّكركم بكل ما قلته لكم” (يو14: 26).

إن الوحى الإلهى هو عطية من الروح القدس. وقد أعلنت الأناجيل المقدسة وباقى أسفار العهد الجديد حقيقة الله الآب باعتباره أنه هو “أبو ربنا يسوع المسيح” (أف1: 3، انظر أف 3: 14، كو1: 3)، وهو مصدر انبثاق الروح القدس “روح الحق الذى من عند الآب ينبثق” (يو15: 26).

وفى العهد القديم أشار الوحى فى بعض المواضع إلى مثل هذه الأمور:

ففى سفر الأمثال وردت إشارة واضحة إلى الله الآب وابنه “من صعد إلى السماوات ونزل؟ من جمع الريح فى حفنتيه؟ من صرّ المياه فى ثوب؟ من ثبّت جميع أطراف الأرض؟ ما اسمه؟ وما اسم ابنه إن عرفت؟” (أم30: 4).

وفى سفر المزامير وردت إشارة واضحة للروح القدس الحاضر فى كل مكان “أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحى الصبح، وسكنت فى أقاصى البحر، فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك” (مز139: 7-10).

وفى سفر أيوب يتكلم عن الروح القدس الخالق “روح الله صنعنى ونسمة القدير أحيتنى” (أى33: 4). هذا على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر.

ولكننا فى العهد الجديد قد أُتيح لنا أن نعرف من هو الآب، ومن هو الابن، ومن هو الروح القدس بصورة واضحة جداً حسب وعد السيد المسيح.

لقد أبرز هذه الحقيقة فى حديثه مع الآب قبل الآلام والصلب مباشرة بقوله: “أنا مجدّتك على الأرض.. أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى.. أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتنى. وعرّفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به وأكون أنا فيهم” (يو17: 4، 6، 25، 26).

ففى قول السيد المسيح: “وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (يو8: 32) كان يقصد أن نعرف حقيقة الله.. حقيقة أبوته.. وحقيقة محبته، وقداسته، وبغضه للخطية، وطول أناته، وقدرته على كل شئ.. وكل صفاته الجميلة التى تأسرنا وتجعلنا نرفض الخطية ونتحرر من سلطانها.

النعمة والحق

يقول القديس يوحنا الحبيب فى إنجيله: “لأن الناموس بموسى أعطى، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” (يو1: 17).

ويقول القديس غريغوريوس الأرمنى St. Gregory the Illuminator {لقد أخلى السيد المسيح نفسه وصار إنساناً، غير المائت صار قابلاً للموت (بحسب الجسد)، لكى يمنح البشر أن يصيروا شركاء طبيعته الإلهية غير المائتة}. والقديس غريغوريوس يقصد بهذا أن النعمة الفائقة للطبيعة التى يمنحها السيد المسيح بالروح القدس هى التى تعطى للمؤمنين باسمه والمتحدين معه بشبه قيامته، أن يشتركوا فى الحياة الأبدية.

إن عبارة القديس بطرس الرسول الواردة فى النص التالى من رسالته الثانية: “كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى، بمعرفة الذى دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكى تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة” (2بط1: 3، 4) هذه العبارة المشهورة، التى يحاول البعض أن يخرجوا بها عن الإطار الذى قيلت فيه، مقصود بها شركة الحياة الأبدية وشركة عدم الموت، بعد شركة الحياة الروحية بالجهاد ضد الخطية والهروب من الفساد الذى فى العالم بالشهوة.

لذلك أكمل قوله: “ولهذا عينه -وأنتم باذلون كل اجتهاد- قدموا فى إيمانكم فضيلة..” (2بط1: 5). إنها شركة العمل مع الروح القدس، وهى شركة مع الثالوث القدوس، هى التى تؤهلنا أن ننال المواعيد العظمى والثمينة التى بها نصير “شركاء الطبيعة الإلهية” فى حياة القداسة وفى النهاية شركة الحياة الأبدية.

إن هناك فرقاً واضحاً بين “الجوهر الإلهى” غير المدرك، وبين “الطاقات الإلهية” التى نعرف الله بها. إن الطاقات الإلهية هى التى تعمل فينا بالنعمة، والتى تهب لنا العطايا الفائقة للطبيعة.

مثل نعمة البنوة لله فى المعمودية، ومثل مواهب الروح القدس فى سر المسحة المقدسة.

وهى أيضاً التى تمنحنا عربون الحياة الأبدية فى سر الإفخارستيا. فإن الاتحاد بالمسيح فى سر الإفخارستيا، لا يعنى اتحادًا أقنومياً يماثل الاتحاد الطبيعى بين لاهوته وناسوته فى تجسده من العذراء مريم، بل يعنى اتحادًا بالحياة الأبدية الممنوحة لنا بالنعمة كعربون، لكى نثبت فيه ونقهر عوامل الخطية والموت والشركة مع إبليس. إننا لا نتحد بجوهر اللاهوت مثل الاتحاد الحاصل فى تجسد الله الكلمة، بل نتحد بالطاقات الإلهية الممنوحة لنا بالنعمة.

لهذا قال القديس يوحنا الإنجيلى: “أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” (يو1: 17).

النعمة فى العهد الجديد

إن النعمة فى العهد الجديد ليست مجرد المواهب الفائقة للطبيعة التى يمنحها الروح القدس مثل الوحى لكتبة الأسفار المقدسة فى العهدين القديم والجديد، ولا القوات والعجائب التى أجراها الأنبياء فى العهد القديم والتى تجرى مع المؤمنين فى العهد الجديد.

ولكنها تتخطى هذا بكثير لأنها تمنح الخلاص والتجديد ومغفرة الخطايا والميلاد الفوقانى وثمار الروح القدس مثل المحبة والفرح والسلام، وتمنح عربون الحياة الأبدية، وتعلن الأسرار الإلهية. كما أنها تمنح أمجاد الشركة مع الله فى حياة القداسة المناسبة لنا، وتمنح القيامة بالجسد الممجد فى اليوم الأخير.

ما أجمل كلمات بطرس الرسول:

“كما اشتركتم فى آلام المسيح، افرحوا لكى تفرحوا فى استعلان مجده أيضاً مبتهجين.. وإله كل نعمة الذى دعانا إلى مجده الأبدى فى المسيح يسوع، بعدما تألّمتم يسيراً، هو يكمّلكم، ويثبّتكم ويقوّيكم، ويمكّنكم، له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين” (1بط4: 13، 5: 10، 11).

عمل الروح القدس فى أسرار الكنيسة

يتساءل البعض  هل نحن نثبت فى الرب بالتناول من جسده ودمه، أم فى سر التثبيت أى المسحة المقدسة بواسطة زيت الميرون؟

ونجيب على ذلك بأننا نثبت فى الرب يسوع المسيح فى التناول من جسده ودمه الأقدسين حسب قوله: “من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فىّ وأنا فيه” (يو6: 56).

كما أننا نثبت فى الرب فى سر المسحة المقدسة الذى يدعى سر التثبيت حسبما ورد فى رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس: “ولكن الذى يثبتنا معكم فى المسيح وقد مسحنا هو الله الذى ختمنا أيضا وأعطى عربون الروح  فى قلوبنا ” (2كو 1: 21، 22). وقال القديس يوحنا الرسول: “وأما أنتم فالمسحة التى أخذتموها منه ثابتة فيكم” (1يو2: 27). فالله الآب يعمل بواسطة الابن الوحيد، كما يعمل بواسطة الروح القدس لأن قدرة واحدة للثالوث وعطية واحدة، بالرغم من تمايز دور كل أقنوم فى العمل الواحد.

ففى عمل الخلاص مثلاً يشترك الأقانيم الثلاثة معاً وكل أقنوم يقوم بدوره المتمايز:

فالله الآب أرسل ابنه الوحيد إلى العالم ليخلص العالم. ولكى يتجسد الابن الوحيد؛ هيأ له الآب جسداً بواسطة الروح القدس فى أحشاء العذراء مريم “أخبر باسمك إخوتى وفى وسط الكنيسة أسبحك.. ذبيحة وقرباناً لم تُرِد ولكن هيأت لى جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر، ثم قلت هأنذا أجيء فى درج الكتاب مكتوب عنى لأفعل مشيئتك يا الله” (عب: 2: 12، عب10: 5-7 ، انظر مز22: 22). فمع أن الابن الوحيد هو الذى تجسد إلا أن الآب والروح القدس قد اشتركا فى تهيئة هذا التجسد.

كذلك عند صلب السيد المسيح، يقول معلمنا بولس الرسول: “المسيح الذى بروح أزلى قدّم نفسه لله بلا عيب” (عب9: 14).. لقد قدّم السيد المسيح ذبيحة نفسه بلا عيب كرئيس كهنة أعظم إلى الآب بواسطة الروح القدس (بروح أزلى قدّم نفسه). وقد تقبّل الآب هذه الذبيحة تكفيراً عن خطايا البشرية.

إذن لم يكن الآب ولا الروح القدس غائبين عن مشهد الجلجثة، ولا منفصلين عن الابن الوحيد {هذا الذى أصعد ذاته ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة} {لحن فاى إيتاف اينف Vai    etafenf   } فى طقس الجمعة العظيمة وفى طقس تسبحة يوم الأحد.

وأيضا فى عمل الخلق اشترك الأقانيم الثلاث كخالق واحد فى عمل الخلق كما هو مكتوب “بكلمة الرب صنعت السماوات وبنسمة فيه كل جُنودها” (مز33: 6).

وفى عمل الخلاص يعيد الرب خلقة الإنسان من جديد حسب قول معلمنا بولس الرسول: “إذاً إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17). وهذا يتم بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس. عن هذا كتب أيضاً معلمنا بولس الرسول إلى تلميذه تيطس فقال: “ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال فى بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلّصنا، بغُسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس، الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا”(تى3: 4-6).

وهو فى ذلك يقول عن الآب “مخلصنا الله”.

وعن الابن “بيسوع المسيح مخلصنا”.

وعن الروح القدس “خلصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس”.

وهذا يظهر اشتراك الأقانيم الثلاثة معاً فى عمل الخلاص حتى نكرر ما قاله الآباء القديسون أن [كل ما يعمله الآب هو بواسطة الابن فى الروح القدس].  أو [كل ما يعمله الآب هو من خلال الابن بواسطة الروح القدس]. فالله الآب يعمل دائماً مع الابن ومع الروح القدس مثلما قال السيد المسيح: “أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو5: 17). وقال: “الآب الحال فىّ هو يعمل الأعمال” (يو14: 10).

لذلك لا نتعجب أننا ننال الثبات فى المسيح بواسطة سر المسحة المقدسة بعد العماد الطاهر، وذلك بفعل الروح القدس. كما إننا نثبت أيضاً فى المسيح بالتناول من جسده ودمه فى سر التناول. فالآب يثبتنا فى المسيح بواسطة الروح القدس فى سر مسحة الميرون. وكذلك بواسطة الابن بتناولنا من جسده ودمه الأقدسين.

والثبات فى المسيح يقترن بتنفيذ وصاياه المقدسة مثلما قال: “إن ثبتم فىّ وثبت كلامى فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم.. إن حفظتم وصاياى تثبتون فى محبتى” (يو15: 7، 10).

لذلك قال معلمنا يوحنا الرسول “أما أنتم فما سمعتموه من البدء، فليثبت إذاً فيكم. إن ثبت فيكم ما سمعتموه من البدء، فأنتم أيضاً تثبتون فى الابن وفى الآب. وهذا هو الوعد الذى وعدنا هو به: الحياة الأبدية. كتبت إليكم هذا عن الذين يضلونكم. وأما أنتم فالمسحة التى أخذتموها منه ثابتة فيكم، ولا حاجة بكم إلى أن يعلّمكم أحد، بل كما تعلّمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ، وهى حق وليست كذباً كما علمتكم تثبتون فيه” (1يو2: 24-27).

والرسول يقصد أن سر المسحة  يجعل الروح القدس ساكناً فى الإنسان. وطالما يسكن الروح القدس فهو يرشد الإنسان إلى جميع الحق حتى يثبت فى الحق. وقد وعد الرب يسوع المسيح تلاميذه بذلك فقال: “وأما المعزى الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمى، فهو يعلّمكم كل شئ” (يو14: 26). وقال أيضاً: “متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق.. ذاك يمجدنى، لأنه يأخذ مما لى ويخبركم” (يو 16: 13، 14). حتى ما يخبرنا به الروح القدس فهو مما للمسيح لأنه هو عطية الثالوث القدوس.

“يرشدكم إلى جميع الحق” (يو16: 13).

قال السيد المسيح لتلاميذه: “متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم. كل ما للآب هو لى. لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم” (يو16: 13-15).

الروح القدس هو روح الحق فهو يشهد للحق. يشهد للمسيح الذى هو الحق المولود من الآب ينبوع الحق. والروح القدس هو الذى يعلن المسيح فى داخلنا، ولا يستطيع أحد أن يقول أن المسيح رب إلا بالروح القدس (انظر 1كو12: 3).

وكما كان الروح يرف على وجه المياه فى بداية الخليقة عندما كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة. وقال الله: ليكن نور فكان نور (انظر تك1: 1-3). هكذا أيضاً أشرق نور معرفة الله فى المسيح بعمل الروح القدس فى الكنيسة “لأن الله الذى قال أن يُشرق نور من ظلمة، هو الذى أشرق فى قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله فى وجه يسوع المسيح” (2كو4: 6).

الذى أشرق فى قلوبنا هو الروح القدس الذى أعطانا الاستنارة فى المعمودية، ويرشدنا إلى جميع الحق بسكناه فى قلوبنا. هو الذى يشرق فينا بمعرفة المسيح. ويمنحنا أن نفهم كلمة الله المدونة فى الأسفار المقدسة. ويذكّرنا بوصايا السيد المسيح – بل ويحولها إلى حياة فى داخلنا. وهو الذى يسكب محبة الله فى قلوبنا. وهو الذى يربطنا بالمسيح كأعضاء فى جسده المقدس. وبصفة عامة هو الذى يربطنا بالآب السماوى من خلال قبولنا وتمتعنا ببركات الفداء الذى صنعه السيد المسيح لأجلنا غافراً خطايانا بدمه الطاهر الكريم.

ترسل روحك فتخلق

قال السيد المسيح لتلاميذه: “متى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب. روح الحق الذى من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى” (يو15: 26). ويقول المرنم: “ترسل روحك فتُخلق وتجدد وجه الأرض” (مز104: 30). والمقصود أن الرب يُرسل روحه فيتم تجديد الخليقة مرة أخرى.

ونصلى فى صلاة الساعة الثالثة {روحك القدوس يا رب الذى أرسلته على تلاميذك القديسين ورسلك المكرمين فى وقت الساعة الثالثة؛ هذا لا تنزعه منا أيها الصالح، لكن جدده فى أحشائنا. قلباً نقياً اخلق فىّ يا الله وروحاً مستقيماً جدده فى أحشائى. لا تطرحنى من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه منى} (القطعة الأولى). وبهذا نحن نخاطب السيد المسيح الذى أرسل روحه القدوس على تلاميذه القديسين فى يوم الخمسين فى الساعة الثالثة لكى يخلق فينا قلباً نقياً بعمل الروح القدس المتجدد فى داخلنا باستمرار.

الخليقة الجديدة

إن الارتباط بين الروح القدس والخليقة، هو ارتباط دائم فى القديم والجديد. ففى بداية خلق العالم “كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور، فكان نور” (تك1: 2، 3).

وعند تجديد الحياة على الأرض مرة أخرى بعد الطوفان أرسل نوح الحمامة – التى ترمز إلى الروح القدس الذى حل على السيد المسيح عند عماده فى نهر الأردن بهيئة جسمية مثل حمامة- وعادت الحمامة إلى نوح وهى تحمل فى فمها غصن الزيتون إشارة إلى عودة الحياة على الأرض مرة أخرى بعد غسيلها بالطوفان. وكان الطوفان وتجديد الحياة على الأرض رمزاً للخلاص بالمعمودية كما قال معلمنا بطرس الرسول: “الفلك.. الذى فيه خلص قليلون أى ثمانى أنفس بالماء. الذى مثاله يخلصنا نحن الآن أى المعمودية” (1بط3: 20، 21).

وقال أيضاً معلمنا بولس الرسول: “ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال فى بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغُسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا” (تى3: 4-6).

إن تجديد الروح القدس فى الخليقة الجديدة فى المسيح يتم فى المعمودية لاشك فى هذا على الإطلاق حيث يقول بولس الرسول: “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17).

لهذا خلق السيد المسيح عينين للمولود أعمى من الطين وأمره أن يذهب ويغتسل فى بركة “سلوام” الذى تفسيره “مُرسل”. وهذا الاسم هو إشارة إلى إرسال الروح القدس الذى يخلق للإنسان أعين جديدة فى المعمودية بها يستطيع أن يعاين ملكوت الله لأنه “إن كان أحد لا يولد من فوق؛ لا يقدر أن يرى ملكوت الله” (يو3: 3). وأيضاً “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح؛ لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5). إذن فالمُرسَل هو الروح القدس الذى أرسله الابن حسب موعد الآب. لهذا قال المزمور “ترسل روحك فتُخلق وتجدد وجه الأرض” (مز104: 30). وهو يقصد أن الرب يرسل روحه لتجديد الحياة على الأرض مرة أخرى بواسطة المعمودية.

يوم الخمسين

لهذا يعتبر يوم الخمسين هو عيد ميلاد الكنيسة. لأن الكنيسة نالت التجديد بالمعمودية فى ذلك اليوم. قال السيد المسيح لتلاميذه عند صعوده إلى السماء: “لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير” (أع1: 5).

وقال لهم: “خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى” (يو16: 7).

كان مجيء الروح القدس لازماً لتجديد وجه الأرض مرة أخرى. وعاد روح الله يرف مرة أخرى على وجه المياه فى الخليقة الجديدة. وتم تعميد ثلاثة آلاف نفس فى يوم الخمسين.

كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة لأن الخطية والموت قد ملكا على جميع البشر و”اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رو5: 12).

كانت الأرض خربة وخالية لأن “الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد” (رو3: 12، انظر مز53: 3).

كانت الأرض خربة وخالية لأن محبة العالم وأيضاً عبادة الأوثان المحرمة قد انتشرت فى الأرض بصورة مريعة.

كانت الأرض خربة وخالية نظراً لفساد الطبيعة البشرية التى سقطت فى قبضة الفساد لسبب فقدان الشركة مع الله والدخول فى شركة مع الشيطان.

كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة. هذه هى ظلمة الجهل والخطية والموت تحت سلطان إبليس.

“وقال الله ليكن نور” (تك1: 3).. فى الخليقة الجديدة أشرق نور المسيح على حياة المفديين كقول الرب: “لكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها” (ملا4: 2). إننا لم نسمع عن شمس لها أجنحة سوى أن السيد المسيح (شمس البر) قد فتح ذراعيه وهو معلق على الصليب كما يفتح الطائر جناحيه.

إن الله الذى قال أن يشرق نور من ظلمة؛ قد أشرق على البشرية بنوره العجيب “وقال الله: ليكن نور فكان نور” (تك1: 3).

 

 

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found