الأصحاح الثالث والأربعون – سفر إرميا – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 28- تفسير سفر إرميا – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الأصحاح الثالث والأربعون

حمل إرميا إلى مصر قسرًا.

بالرغم من قوة حجة إرميا وأمانته الشخصية التي كشفتها الأحداث الماضية إلا أنهم اتهموه بالكذب، لأنه أخبرهم بما لم يحبوا أن يسمعوا؛ ونسبوا كلماته إلى باروخ كاتبه، قائلين عنه إنه سيطر على مشاعر إرميا لكي يقدم رسالة تخالف إرادة الله.

من المؤلم أن يتهموا إرميا أن نبوته كاذبة، لا ينطق بكلمة الرب بل يتكلم بالكذب. قالوا نحن سألناك أن تقول لنا كلمة الرب لكنك أخبرتنا بأقوال باروخ لكي يدفعنا في يد الكلدانيين فيقتلوننا ويقومون بسبينا. لم يتهموا إرميا مباشرة لكنهم جعلوا باروخ كبش الفداء وألقوا باللوم عليه. حقًا عمل باروخ بأمانة مع إرميا وعرَّض حياته للخطر في تنفيذ ما أوكل إليه، لكن الادعاء بأن النبي يتمم إرادة باروخ إدعاء غاية في الغباء يدل على عدم الإيمان والعناد.

لم يهتم إرميا بالرد على هذا الاتهام؛ كما لم ييأس منهم، بل استمر في خدمته لهم حتى النهاية.

1. الذهاب إلى مصر [1 - 7].

2. التنبوء بغزو مصر [8 - 13].

الأعداد 1-7

1. الذهاب إلى مصر:

"وكان لما فرغ إرميا من أن كلَّم كل الشعب بكل كلام الرب إلههم الذي أرسله الرب إلههم إليهم بكل هذا الكلام،.

أن عزريا بن هوشعيا ويوحانان بن قاريح وكل الرجال المتكبرين كلموا إرميا قائلين:

أنت متكلم بالكذب.

لم يرسلك الرب إلهنا لتقول لا تذهبوا إلى مصر لتتغربوا هناك.

بل باروخ بن نيريا مهيجك علينا لتدفعنا ليد الكلدانيين ليقتلونا وليسبونا إلى بابل "[1 - 3].

كانوا يتطلعون إلى الله لا كربٍ يطيعونه بل كقوة يستخدمونها.

ينطبق على هذا الشعب المتكبر والعنيد ما سبق فقاله الله عن الذين أرادوا بناء برج بابل: "والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه" (تك 11: 6). فالكبرياء هو والد العصيان والاستخفاف بالوصية الإلهية. هنا في كبريائهم لم يعلنوا عصيانهم للمشورة الإلهية، بل نسبوا لإرميا النبي الكذب، لا لشيء إلا ليعطوا لأنفسهم عذرًا للسلوك حسب هواهم، حاسبين في أنفسهم أنهم حكماء.

لم يستطيعوا أن ينكروا نبوة إرميا، لكنهم اتهموه أنه لا يسأل الله بل يحركه كاتبه باروخ.

مع مقاومتهم لإرميا واتهاماتهم المستمرة ضده، كانوا بلاشك يهاجمونه كرجل الله الذي وحده يعلن لهم إرادة الله الحقة ويقدر أن يشفع فيهم، لهذا حملوه معهم قسرًا إلى مصر.

"فلم يسمع يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش وكل الشعب لصوت الرب بالإقامة في أرض يهوذا،.

بل أخذ يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش كل بقية يهوذا الذين رجعوا من كل الأمم الذين طوحوا إليهم ليتغربوا في أرض يهوذا،.

الرجال والنساء والأطفال وبنات الملك وكل الأنفس الذين تركهم نبوزرادان رئيس الشرط مع جدليا بن أخيقام بن شافان وإرميا النبي وباروخ بن نيريا.

فجاؤا إلى أرض مصر:

لأنهم لم يسمعوا لصوت الرب،.

وأتوا إلى تحفنحيس "[1 - 7].

لو أن هؤلاء الرؤساء وطنيون بحق لما ذهبوا إلى مصر واختاروا أشهر مدنها الحصينة في ذلك الحين، وإنما كانوا يفضلون البقاء في براري يهوذا ليشاركوا المتألمين من الشعب المُعدم عن التمتع بمدن مصر.

لم يكتفِ الشعب برفض مشورة إرميا الخاصة بالهروب إلى مصر، وإنما حملوه هو وصديقه باروخ معهم إلى مصر قسرًا. كنا نتوقع أن يتركوا إرميا في أرض يهوذا ولا يأخذوه معهم إلى مصر، لأنه كان يعارضهم بشدة في ذهابهم إلى مصر، لكنهم حملوه قسرًا، إما لأنهم كانوا لا يزالوا يحترمونه كنبيٍ يستطيع أن يشفع فيهم في أرض غربتهم بالرغم من مقاومتهم له؛ أو لأنهم خشوا من وجوده في أرض يهوذا لئلا يتحالف هو وتلميذه مع بابل ضد بلده كعميلين لبابل.

لو أن إرميا وباروخ عميلان لبابل لذهبا إلى بابل من البداية ونالا كرامة، ولم يبقيا وسط الشعب الفقير جدًا يشاركانه آلامه. لكن هؤلاء الرؤساء الأشرار فسروا بقاءهما أنهما يعملان لحساب الكلدانيين، خاصة باروخ، وأنهما يطلبان بقاء الرؤساء حتى يسقطوا في شباك بابل ويقتلوهم أو يسبوهم.

ذهبوا إلى تحفنحيس، أو تحفنيس، جاءت في الترجمة السبعينية "تفينس"، تُسمى باليونانية "دفنة". يبدو أنه كان لملك مصر قصر في تحفنحيس، يأتي إليه مع حاشيته حين يجيء في أسفاره إلى هناك، خاصة وأن تحفنحيس مدينة محصنة.

كانت مدينة هامة في أيام إرميا وحزقيال. وجد سير فلندرز بيتريSir Flinders Petrie موقع تحفنيس، وعرفت بـ "تل دفنه"، مدينة مصرية محصنة في أقصى شرق الدلتا، على بعد 10 أميال غربي القنطرة، جاءت في الترجمة السبعينية "تفنيسط"، أما معناها فهو "حصن أو قلعة بناحس Penahse". كان بناحس غالبًا قائدًا صاحب سلطان من طيبة، عاش في القرن 11 ق. م، قام بثورة في الشمال، فنشأت عدة مدن تحمل اسمه.

الأعداد 8-13

2. التنبؤ بغزو مصر:

تبرز شجاعة إرميا الذي حُمل مع كاتبه باروخ قسرًا إلى مصر، في بلدٍ غريبٍ، ولم يكن معه أحد يقف بجواره سوى باروخ. ومع هذا نطق بنبواته بكل جرأة ضد فرعون مصر وضد اليهود الهاربين إليها. لقد أعلن لهم أنهم هربوا من بابل إلى مصر، هوذا تبلغ إليهم بابل حيث تُعلن سلطانها على مصر.

بالرغم من عصيانهم وذهابهم إلى مصر، لم يمنع الله عنهم النبوة، فتنبأ إرميا وهو في مصر. أنه يود أن يفتقد شعبه أينما وُجدوا. لم يكن الموضع هو الذي يحث إرميا على الشهادة بكلمة الرب، بل القلب الناري الذي لا يفتر عن أن يستجيب لروح الرب، لذا نجد إرميا ينطق بكلمة الرب أينما وجد حتى إن حُمل إلى بلدً غريبٍ لا يريد أن يقطنه:

أ. تنبأ في آذان أورشليم (2: 1).

ب. في أبواب بيت الرب، فكان يشهد للداخلين للسجود هناك (7: 1 - 2).

ج. في كل أبواب أورشليم (17: 19).

د. عند مدخل باب الفخاري حيث يسمع ملوك يهوذا وسكان أورشليم كلمة الرب (19: 1 - 3).

هـ. في قصر الملك (22: 1 - 3؀).

و. في دار بيت الرب حيث يتكلم مع القادمين للسجود من كل مدن يهوذا (26: 1 - 2).

ز. في السجن (32: 6).

ح. في أرض مصر (34: 8 - إر 44).

بلاشك لم يكن إرميا سعيدًا في مصر للأسباب التالية:

أ. كانت مصر مملوءة بالأصنام.

ب. لم يكن شعبه متعاطفًا معه، ولم يكن يتوقع منهم معاملة حسنة.

ج. لا ننسى أنه حُمل إلى مصر وهو الذي نادى بعدم الالتجاء إليها، فلم يكن يتوقع معاملة طيبة من أى رجلٍ حكوميٍ في مصر، إذ كانت أفكاره السياسية معروفة.

"ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا في تحفنحيس قائلة:

خذ بيدك حجارة كبيرة واطمرها في الملاط في الملبن الذي عند باب بيت فرعون في تحفنحيس أمام رجال يهوذا، وقل لهم:

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.

هأنذا أرسل وآخذ نبوخذراصر ملك بابل عبدي وأضع كرسيه فوق هذه الحجارة التي طمرتها فيبسط ديباجه عليها.

ويأتي ويضرب أرض مصر،.

الذي للموت فللموت،.

والذي للسبي فللسبي،.

والذي للسيف فللسيف.

وأوقد نارًا في بيوت آلهة مصر، فيحرقها ويسبيها ويلبس أرض مصر كما يلبس الراعي رداءه ثم يخرج من هناك بسلام.

ويكسر أنصاب بيت شمس،.

ويحرق بيوت آلهة مصر بالنار "[8 - 13].

لا يُعرف إن كان هذا قد تحقق فعلاً أم كان ذلك رؤيا يتحدث عنها إرميا وسط شعبه لتأكيد هجوم بابل على مصر، خاصة وأن ذهاب إرميا النبي مع بعض رجال يهوذا إلى جوار القصر في بلد غريب أمر صعب. جاء في بعض النسخ أن هذا تم ليلاً أو سرًا.

لقد جاء هذا الهجوم متأخرًا جدًا، عام 568 ق. م، ولم يذكر التاريخ هجومًا لبابل على مصر قبل هذا التاريخ.

ويلاحظ في نبواته التي نطق بها في مصر الآتي:

أ. حملت النبوة شقّين الأول ورد هنا في هذا الأصحاح حيث تنبأ إرميا عن خراب مصر، والثاني في الأصحاح التالي حيث تنبأ عن اليهود الذين في مصر. سبق فقال لهم إنهم إن ذهبوا إلى مصر فالسيف يتبعهم هناك، الآن يحدد هذا السيف وهو سيف نبوخذراصر. جاء في فقرة من نص بابلي أن نبوخذراصر غزا مصر عام 7 / 568، وقد ترك فرعون أحمس (أماسيس) على العرش يمارس السياسة البابلية. لقد صارت هذه النبوة واقعًا تاريخيًّا إذ غزا ملك بابل مصر مرتين وهزمها، هذا أمر غير مشكوك فيه.

ب. إن كانوا قد أصروا على الذهاب إلى مصر ولم يسمعوا لصوت الرب، فإن صوت الرب يذهب إليهم هناك ليحثهم على التوبة.

ج. ملك بابل وهو من أعظم عابدي الأصنام، يُكرم الشمس في معابده وأصنامه، مع ذلك يأتي إلى مصر في "بيت شمس" ليحطم أصنام الشمس المصرية.

د. في مثل الحجارة المطمورة في الطين يشبه بابل بالحجارة الضخمة القوية ومصر بالوحل، لقد تغطت الحجارة بالوحل فلم ير اليهود قوة بابل، لكن حتمًا يُزال الوحل ويكتشف اليهود الهاربين إلى مصر سلطان بابل.

هـ. في [12] الراعي الذي يرتدي ثوبه يعني أن نبوخذنصر يصير سيدًا على مصر بسرعة وبسهولة جدًا كراعٍ يعبر بقطيعه من موضع إلى آخر فيرتدي ثوبه. أو أن ملك بابل يلتحف بمصر حوله كما يرتدي الراعي ثوبه بسهولة وسرعة. أو أن مصر تصير في قبضة ملك بابل تمامًا كما يسيطر الراعي على ثوبه حين يرتديه في ليلة قارصة البرد.

و. بالنسبة لحرق معابد مصر [13]، كانت العادة في الشرق الأوسط عندما يغزو ملك بلدًا ما يحطم معابدها ويستولي على أصنامها ليأخذها معه. جاء في بردية من جزيرة الفيلة بجوار أسوان بأنه حدث سطو على المعابد بواسطة Cambyses الحاكم الفارسي عندما هزم مصر. وغالبًا ما كانت التماثيل تُحمل في موكب الملوك المنتصرين عند عودتهم إلى بلادهم.

بيت شمس: كان يُطلق على هذا الموضع "أون On, Aven"، يدعى باليونانية "هليوبوليس". وهي مدينة إله الشمس "رع Ra"، تبعد حوالي عشرة أميال شمال شرقي القاهرة، حاليًا صارت جزءًا من العاصمة، وتحتضن مطار القاهرة الدولي. كانت تبعد حوالي 19 ميلاً من شمال مدينة ممفيس القديمة.

كانت المدينة الرئيسية للعِلم المصري. يتحدث عنها هيرودت كأحد أربعة مدن عظيمة، عرفت باحتفالاتها الدينية الخاصة بتكريم الشمس.

هذا وقد أُطلق هذا الاسم على مدن بإسرائيل يهوذا، أحدها في تخم أرض يهوذا الشمالي وكانت تخص بني هرون (يش 15: 10؛ 21: 16) وربما هي عين شمس (يش 19: 41)؛ وأخرى في أرض نفتالي (يش 19: 38) وربما هي عين الشمسية الحالية، والثالثة في تخم أرض يساكر (يش 19: 22) وربما هي نفس المدينة السابقة.

ربما يقصد بالأنصاب [13] المسلاّت الشهيرة في مصر.

من وحي إرميا 43.

هب لي أن أحتمي فيك،.

لا في مدينة فرعون الحصينة!

إذ نطق إرميا بالكلمة الإلهية،.

حذر رؤساء يهوذا من الإحتماء في فرعون!

اتهموه بالكذب،.

وحسبوا باروخ تلميذه قد أثَّر عليه!

إرميا النبي في حبه لم يعاتبهم بكلمة،.

لكنه في حزم حذرهم لخلاصهم.

حملوه قسرًا إلى مصر،.

وهناك لم يتوقف عن الحديث معهم،.

بشجاعة أعلن لهم كلمات الحق.

ظنوا بهروبهم إلى فرعون ينجون من السيف،.

فإذا بسيف بابل يقتل في مصر.

هربوا حتى لا يسبيهم ملك بابل،.

فإذا بملك بابل يسبي آلهة المصريين.

ظنوا أن سلامهم في المدن المصرية الحصينة،.

فإذا بنار بابل تلتهم المدن وتحرق البيوت!

اختفوا في حصون مصر بعيدًا عن عيني بابل،.

فإذا بملك بابل يلتحف بها كثوب راعٍ!

هناك التقى بهم وبددهم!

هب لي يارب أن أحتمي فيك،.

لا في مدينة فرعون الحصينة!

فالتحف بنعمتك واتحصن باسمك،.

عِوض الاختفاء في حصون البشر!

Derek Kindner: The Message of Jeremiah, p. 131.

Ibid 132.

Unger’s Bible Dictionary, 1966, p. 1068.

Ibid 132.

Thompson, p. 672.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الرابع والأربعون - سفر إرميا - القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثاني والأربعون - سفر إرميا - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر إرميا الأصحاح 43
تفاسير سفر إرميا الأصحاح 43