الأصحاح السادس والثلاثون – سفر إرميا – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 28- تفسير سفر إرميا – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الأصحاح السادس والثلاثون

كلمة الرب لا تفنى.

غالبًا ما تحوي الأصحاحات 36 - 44 أحداثًا تاريخية مع نبوات قليلة لإرميا النبي.

في أواخر ربيع 605 ق. م أو بداية الصيف هزم نبوخذنصر القوات المصرية في موقعة كركميش على نهر الفرات، وبدأ يتحرك جنوبًا في سوريا إلى فلسطين. يبدو أن هذا الجو كان مناسبًا لإرميا لقراءة درج يحمل نبواته، هذه التي أملاها بروح الرب على كاتبه باروخ. لم تُقرأ حتى الشهر التاسع من السنة الخامسة للملك يهوياقيم [9]، أي في ديسمبر 604 ق. م، نفس الشهر الذي فيه هاجم الجيش البابلي مدينة اشقلون في السهول الفلسطينية ونهبها[555].

كانت يهوذا في صف مصر شكليًا، لكن عمليًا لم يكن ممكنًا لمصر أن تسيطر على يهوذا. وكان يلزم ليهوذا أن تحدد موقفها من الصراع بين بابل ومصر. وربما جاء الصوم العام لا لطلب مشورة الله بخصوص سياسة يهوذا، وإنما لكي يرفع الله الضيق عن يهوذا وتبقى في سياستها تتمم إرادتها لا إرادة الله... على أي الأحوال كانت الظروف من كل جانب تدفع إرميا لإعلان نبواته أو ملخص لها على لسان كاتبه باروخ.

لهذا الأصحاح أيضًا أهمية خاصة، فمن ناحية أوضح كيف بدأ جمع نبوات إرميا؛ ومن ناحية أخرى ألقى ضوءًا على بعض رؤساء يهوذا الذين كانوا في أعماقهم يطلبون سلام إرميا وباروخ... ربما كان هؤلاء الرؤساء مساعدين في إصلاحات الملك يوشيا لذلك تعاطفوا مع النبي وكاتبه[556].

واضح أيضًا أن كاتب القصة شاهد عيان، غالبًا باروخ نفسه، يكتبها، لا ليسجل لنا عملاً تاريخيًا أو جزءًا من حياة النبي فحسب، بل يعرض لنا أيضًا فكرًا لاهوتيًا.

لم يستطع إرميا أن يتحدث مع الشعب، فأرسل إليهم صديقه باروخ يقرأ للقادمين إلى أورشليم الصائمين النبوات التي سبق فأعلنها، لا لإثارتهم ضد السلطات بل لتوبتهم، إذ يقول: "لعل تضرعهم يقع أمام الرب فيرجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء، لأنه عظيم الغضب والغيظ اللذان تكلم بهما الرب على هذا الشعب" [7].

لم يحتمل الملك كلمة الرب، وعوض التوبة أحرق الدرج، وطلب قتل النبي وكاتبه! إنه لم يطق كلمة الرب ولا الناطق بها.

عاد فكتب إرميا ما كان بالدرج الأول وزاد عليه ما لم يكن مكتوبًا. ولا تزال كلمة الله حيَّة إلى يومنا هذا، لم تقدر النيران أن تبيدها‍‍!

1. كتابة درج السفر [1 - 7].

2. إعلان عن الصوم [8 - 10].

3. قراءة للرؤساء [11 - 19].

4. حرق الدرج [20 - 26].

5. النسخة الثانية من الدرج [27 - 32].

الأعداد 1-7

1. كتابة درج السفر:

"وكان في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا أن هذه الكلمة صارت إلى إرميا من قبل الرب قائلة:

خذ لنفسك درج سفر،.

واكتب فيه كل الكلام الذي كلمتك به على إسرائيل، وعلى يهوذا، وعلى كل الشعوب،.

من اليوم الذي كلمتك فيه من أيام يوشيا إلى هذا اليوم.

لعل بيت يهوذا يسمعون كل الشر الذي أنا مفكر أن أصنعه بهم،.

فيرجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء،.

فأغفر ذنبهم وخطيتهم.

فدعا إرميا باروخ بن نيريا،.

فكتب باروخ عن فم إرميا كل كلام الرب الذي كلمه به في درج السفر.

وأوصى إرميا باروخ قائلاً:

أنا محبوس لا أقدر أن أدخل بيت الرب.

فأدخل أنت واقرأ في الدرج الذي كتبت عن فمي كل كلام الرب في آذان الشعب في بيت الرب في يوم الصوم،.

واقرأه أيضًا في آذان كل يهوذا القادمين من مدنهم.

لعل تضرعهم يقع أمام الرب،.

فيرجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء،.

لأنه عظيم الغضب والغيظ اللذان تكلم بهما الرب على هذا الشعب "[1 - 7].

كان إرميا محبوسًا لا يقدر أن يدخل بيت الرب [5]. هنا كلمة "محبوس" لا تعني أنه كان مسجونًا، لكنه كان ممنوعًا من الدخول إلى بيت الرب، فحسب نفسه محبوسًا. الفعل العبري Asur الذي يصف سجن إرميا يرد في (33: 1، 39: 15) بمعني إلقاء القبض عليه أو سجنه، لكن المعني هنا مختلف حيث أن عدد 19 يبين أن إرميا كان حرًا في أن يهرب عندما يريد. ولعله تم استبعاد إرميا من الهيكل وحرمانه من دخوله بعد الأحداث الواردة في (19: 1 - 20)، أو بعد صدور أمرٍ عامٍ بذلك بسبب الاشتباه في أمره حتى يُحرم من الحديث مع الشعب[557].

يظهر أن إرميا لم يجمع قبل هذا الوقت أقوال نبواته في سفر. ولسنا نعرف هل دونها حين ألقاها، أم تركها في ذاكرته. ومهما يكن من أمر، فقد أمره الله أن يجمع كل ما تنبأ به في تلك المدة الطويلة، فيعلنه للشعب بقراءته أمامهم في يوم احتفالٍ عامٍ.

أُملى الدرج الأول ما بين نيسان (أبريل) 605 ق. م ونيسان 604 ق. م، بعد هزيمة مصر في موقعة كركميش مباشرة. وربما كانت بداية الكارثة باعثًا على جمع النبوات على أمل أن يتوب يهوذا.

كان الدرج رقوقًا من الجلد أو البردي (مز 40: 7، حز 2: 9). وكانت الكتب العبرية القديمة تُكتب على شكل أعمدة متوازية تستوجب فتح الدرج عند الاستمرار في القراءة. واضح أن السفر لم يكن حجمه كبيرًا جدًا بدليل أنه قُرأ في جلسة واحدة [10، 15، 21، 22].

لم يسجل إرميا النبي نبواته قبلاً لأنه كان في وسط الشعب يتحدث إليهم من حين إلى حين. أما الآن إذ اقترب السبي جدًا تم تسجيل النبوات كتابة بأمرٍ إلهيٍ حتى يحمل المسبيون نسخة منها إلى بابل فتشهد لهم بكلمة الرب، وتبقى نسخة أخرى مع الذين يبقون في يهوذا أو مع الراحلين إلى مصر.

لعل إرميا أدرك أن حياته في خطرٍ، فلا تعود توجد فرص كثيرة للحديث الشفوي مع الشعب، خاصة وأنه ليس له ابن يردد ما قاله أبوه (16: 2)، فأراد تسجيل النبوات.

محتويات الوثيقة التي نحن بصددها غير معروفة، وإن كان من المحتمل أنها ضمت نبوات في شكل مختارات أدبية وأشعار أُعلنت بين عامي 626 و605 ق. م، وبمضاهاتها بالنبوة الحالية يتضح أنها قصيرة نسبيًا، لأنه يمكن أن تقرأ ثلاث مرات في يومٍ واحدٍ [10، 15، 21].

واضح من [3، 7] أن الله يترجى توبة شعبه ولو في اللحظات الأخيرة حتى ليغير الحكم الإلهي من نحوهم؛ فتغْير اتجاه بيت يهوذا يتبعه تغيير في حكم الله (26: 3).

ما قد سجله إرميا من نبوات ضد يهوذا بواسطة باروخ كان قاسيًا على نفسية إرميا صاحب المشاعر الرقيقة لو لم يتحقق أنها كلمة الرب. لذلك كثيرًا ما يكرر العبارات: "لأنه هكذا قال الرب"، "وصارت إليّ كلمة الرب"، "لأنه هكذا قال رب الجنود"، "اسمعوا كلمة الرب"، "يقول الرب"، "اسمعوا الكلمة التي تكلم بها الرب"، "قال الرب لي". فما نطق به هو إعلان إلهي كما يقول الرسول بطرس "لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسانٍ بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2 بط 1: 21). كان رجلا الله إرميا النبي وباروخ تحت قيادة الروح القدس، يُعطى للأول كلمة ينطق بها والثاني يكتب.

كان ثمن هذه النبوات حياته كلها، لكنه بقوة الروح يقول للكهنة والأنبياء والرؤساء "أما أنا فها أنذا بيدكم، اصنعوا بي كما هو حسن ومستقيم في أعينكم، لكن اعلموا علمًا أنكم إن قتلتموني تجعلون دمًا زكيًا على أنفسكم وعلى هذه المدينة وعلى سكانها لأنه حقًا قد أرسلني الرب إليكم لأتكلم في آذانكم بكل هذا الكلام" (24: 14 - 15).

كان الرب هو المشدد والمعضد له، لذلك على الرغم مما أصابه من أتعابٍ وسخريةٍ وعارٍ واستهزاءٍ لم يستطع السكوت، إذ يقول: "فكان كلام الرب في قلبيَ كنارٍ محرقةٍ محصورةٍ في عظامي فمللت من الإِمساك ولم أستطع" (20: 9) إنه يشهد للكلمة الإلهية التي ألهبت أعماقه، إذ يقول: "هأنذا جاعل كلامي في فمك نارًا وهذا الشعب حطبًا فتأكلهم" (5: 14)، كما قال الرب له: "لأني ساهر على كلمتي لأجريها" (1: 12).

وقد شبَّه إرميا كلمة الله بالنار والمطرقة فيقول: "أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب، وكمطرقةٍ تحطم الصخر؟!" (23: 29).

وقد قال له الرب "إذا أخرجتَ الثمين من المرذول فمثل فمي تكون، هم يرجعون إليك وأنت لا ترجع إليهم" (15: 19).

ولا ننسى أن نبوة إرميا كانت موضوع اهتمام ودراسة الأمناء المعاصرين له مثل دانيال الذي قال: "أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب لإرميا لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم" (دا 9: 2).

كانت كلمة الرب طعامًا مفرحًا لنفس إرميا: "وُجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" (15: 16). وهذا يذكرنا بقول داود النبي "ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي" وقول الرب للنبي حزقيال الذي كان معاصرًا لإرميا "كُل هذا الدرج واذهب كلم بيت إسرائيل، ففتحت فمي، فأطعمني ذلك الدرج، وقال لي يا ابن آدم أطعم بطنك واملأ جوفك من هذا الدرج الذي أنا معطيكه، فأكلته فصار في فمي كالعسل حلاوة" (حز 3: 1 - 3).

غاية كتابة السفر هو أن يدفعهم إلى التمتع بمغفرة ذنوبهم وخطاياهم، فإن الله لا يشغله كثيرًا إن كنا نسقط تحت التأديب أو نُعفي منه، قدرما يشغله نقاوة قلوبنا وتقديس أعماقنا لكي نصير قديسين كما أنه هو قدوس. إنه الأب الذي يشتهي أن يقتدي به أولاده، يشاركونه حياته لكي يتمتعوا أيضًا بشركة مجده.

لقد أدرك المرتل قوة كلمة الله في رفع الخطايا ونزع عارنا الداخلي فقال: "دحرج عني العار والخزي، فإني لشهاداتك ابتغيت" (مز 119: 22). ويعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة قائلاً:

[تستوجب الخطايا العار والخزي، ففي يوم الدينونة يقوم الخطاة إلى الخزي والعار الأبدي (دا 12: 2)...

يوجد نوعان من العار: فمن جهة اختار الله أدنياء العالم والمزدرى "(1 كو 1: 28)؛ ومن جهة أخرى:" فاعل الشر مرذول أمام (الرب) "(مز 15: 4)...

إنني أقول: "دحرج عني العار والخزي، فإني لشهاداتك ابتغيت" (مز 119: 22). لا تحسبني مستحقًا العار والخزي، لأنني حفظت شهاداتك التي قيل عنها: "طوباهم الذين يحفظون شهاداتك" (مز 119: 2) [558]].

إن كانت الخطايا تلصق الإنسان بالتراب، فإن كلمة الله تلصقه بالله، إذ يقول المرتل: "لصقت بالتراب نفسي، فأحيني بكلمتك" (مز 119: 25). ويعلق العلامة أوريجينوس قائلاً:

[إذ وجد داود نفسه ساقطًا في الخطية التصقت نفسه بالتراب بفعل الخطية. لقد دمرت الخطية مكانة نفسي وحطمت علوها الطبيعي. حقًا إن كل نفس خاطئة تكون "ملتصقة بالتراب" لذا قيل: "وراء إلهك تسير، وتلتصق به" (تث 13: 4؛ 6: 13؛ 10: 30)؛ هذا ما قيل في الشريعة.

إذ رفض الالتصاق بالتراب وأراد أن يعيش حسب كلمة الرب؛ أي حسب الكتاب المقدس الإلهي الموحي به، يطلب العون الإلهي لكي يحيا. من يهتدي ينطق بكلمات الرب، فتظهر أعماله وسيرته الصالحة[559]].

الأعداد 8-10

2. إعلان عن الصوم:

أملى إرميا كاتبه باروخ النبوات، ولا نعرف هل جمعها إرميا كما هي، أو رتبها ولخَّص بعضها. على كل حالٍ يظهر أن هذا العمل استغرق وقتًا طويلاً. والفرصة التي انتهزها إرميا هي الصوم الذي فرضه الملك على الشعب بسبب الخطر المرتقب من جراء تقدم جيوش الكلدانيين. والظاهر أنها كانت الفرصة الأخيرة التي أراد الله أن يعطيها للشعب لأجل التوبة والرجوع إليه.

"ففعل باروخ بن نيريا حسب كل ما أوصاه به إرميا النبي بقراءته في السفر كلام الرب في بيت الرب.

وكان في السنة الخامسة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا في الشهر التاسع أنهم نادوا بصومٍ أمام الرب، كل الشعب في أورشليم، وكل الشعب القادمين من مدن يهوذا إلى أورشليم.

فقرأ باروخ في السفر كلام إرميا في بيت الرب في مخدع جمريا بن شافان الكاتب، في الدار العليا في مدخل باب بيت الرب الجديد في آذان كل الشعب "[8 - 10].

باروخ بن نيريا.

باروخ اسم عبري معناه "مبارك".

كان أخو سرايا رئيس المحلة للملك صدقيا (51: 59)، الذي كان يشغل مركزًا ساميًا في حاشية الملك صدقيا، وكان يطمع في أن يكون واحدا من ملازميه "هل تطلب لنفسك أموراً عظيمة" (45: 5). وكما يقول يوسيفوس المؤرخ إنه من عائلة عريقة للغاية[560].

وقد ذكر أولاً في (32: 12) كمرافق لإرميا، كان معه في السجن، وشهد على عملية شراء حقل ابن عمه بعناثوث، واحتفظ بعقود الشراء. وقد خدم سيده بأمانة (36: 10)، وكتب نبواته (36: 4، 32)، وكان يقرأها بصوتٍ عالٍ أمام الناس (36: 10 - 15). وقد كلفه ذلك التضحية بالكثير من مشروعاته وأعماله العالمية.

وعندما سقطت أورشليم أقام مع إرميا في المصفاة[561]، وعندما قُتل جدليا قُبض عليه للتأثير على إرميا لكي يرحل (43: 3)، وطبقًا لما جاء في (43: 6) حُمل مع إرميا إلى مصر حيث ماتا هناك[562]. يوجد تقليد آخر يقول إن باروخ ذهب مؤخرًا إلى بابل أو حُمل إلى هناك بواسطة نبوخذنصر بعد فتح الأخير لمصر.

وفي كل أجزاء النبوة يُذكر باروخ على أنه كاتب إرميا وليس كاتب السفر. كتب باروخ في بابل السفر الذي يحمل اسمه، من الأسفار القانونية الثانية، يحوى ستة أصحاحات، منها الأصحاح السادس والأخير عبارة عن رسالة لإرميا النبي موجه للذين كانوا مزمعين أن يُساقوا إلى السبي.

بسبب ارتباط باروخ بشخصية إرميا استغل البعض شهرته فنسبوا إليه فيما بعد كتابًا يسمى "رؤيا باروخ"، ينسب له رؤى تسلمها من السماء. جاء في النسخة السريانية أنه بسبب تقواه لم يسمح الله بخراب الهيكل، لهذا أمره أن يترك أورشليم قبل خرابه ليُبعد حماية حضوره عن الهيكل[563]. وقد رأى باروخ من سنديانة إبراهيم التي في حبرون الهيكل مُقامًا على نارٍ بواسطة ملائكة الذين سبقوا أن أخفوا الأواني المقدسة[564].

في الأدب العبري ينتمي باروخ إلى إرميا بقرابة جسدية، وكلاهما كانا كاهنين ومن نسل راحاب الزانية[565].

قُرئ كلام السفر في آذان الشعب في يوم صوم في الشهر التاسع في السنة الخامسة لحكم الملك يهوياقيم. لم يكن هذا اليوم من أيام الصوم الخاصة بمناسبة دينية وردت في الشريعة، إنما كان من أجل الأزمة القومية التي حلَّت بهم، ربما بمناسبة وصول الجيوش البابلية إلى السهول الفلسطينية. في مثل هذه المناسبة يربط الشعب توسلاته وطلباته بالصوم لكي يخلصهم الله من الضيق. لكنهم إذ لم يلتزموا بالتوبة قيل: "حين يصومون لا اسمع صراخهم، وحين يُصعدون محرقة وتقدمة لا أقبلهم" (14: 12).

كان الشهر التاسع هو ديسمبر من عام 604 ق. م، حيث كان الجو باردًا [22]، عندما أطاح البابليون بأشقلون في سهل فلسطين.

جمريا.

هو ابن "شافان" الكاتب الرسمي للدولة تحت حكم يوشيا (2 مل 22: 3، 8). إذا كان "شافان" هذا هو نفسه الرجل المذكور في إرميا (25: 24) يكون "جمريا" أخو "أخيقام" الذي عامل إرميا برفق. ولقد كان اسم "جمريا" شائعًا إلى حد ما في القرن السابع ق. م. وتذكر إحدى رسائل "لخيش" (اللوح الأول) "جمريا بن هيسيل ياهو في عام 589 ق. م.

يربط البعض بين قراءة باروخ السفر في غرفة جمريا بن شافان وقصة وجود السفر في الهيكل في أيام يوشيا الملك (2 مل 22: 3، 23: 3)، عندما قرأ شافان هذا الدرج (2 مل 22: 3). على أي الأحوال استخدام باروخ غرفة جمريا يشير إلي تعاطف الأخير مع إرميا النبي.

كانت الحجرة في العلية (26: 10)، حيث يستطيع الشعب المجتمع في الفناء والقاعات السفلى أن يتطلع إليه ويسمعه. لكن للأسف لم نعرف شيئًا عن رد فعل الشعب عند سماعه السفر.

الأعداد 11-19

3. قراءة للرؤساء:

"فلما سمع ميخايا بن جمريا بن شافان كل كلام الرب من السفر،.

نزل إلى بيت الملك إلى مخدع الكاتب وإذا كل الرؤساء جلوس هناك.

أليشاماع الكاتب ودلايا بن شمعيا وألناثان بن عكبور وجمريا بن شافان وصدقيا بن حننيا وكل الرؤساء.

فأخبرهم ميخايا بكل الكلام الذي سمعه عندما قرأ باروخ السفر في آذان الشعب.

فأرسل كل الرؤساء إلى باروخ يهودي بن نثنيا بن شلميا بن كوشي قائلين:

الدرج الذي قرأت فيه في أذآن الشعب خذه بيدك وتعال.

فأخذ باروخ بن نيريا الدرج بيده وأتى إليهم.

فقالوا له: اجلس واقرأه في آذاننا.

فقرأ باروخ في آذانهم.

فكان لما سمعوا كل الكلام أنهم خافوا ناظرين بعضهم إلى بعض وقالوا لباروخ:

إخبارًا نخبر الملك بكل هذا الكلام.

ثم سألوا باروخ قائلين: أخبرنا كيف كتبت كل هذا الكلام عن فمه.

فقال لهم باروخ: بفمه كان يقرأ لي كل هذا الكلام وأنا كنت أكتب في السفر بالحبر.

فقال الرؤساء لباروخ: اذهب وأختبئ أنت وإرميا ولا يعلم إنسان أين أنتما "[11 - 19].

وقف باروخ في الدار العليا، في مدخل باب بيت الرب الجديد وبدأ يقرأ. سمعه شاب يدعى ميخايا حفيد شافان، فتأثر جدًا وأسرع إلى القصر وأخبر الرؤساء الذين استدعوا باروخ ليقرأ لهم ما بالدرج. خافوا جدًا إذ سمعوا عن الخراب الذي سيحل بالبلاد، وشعروا بالمسئولية أن يُخطروا الملك بمحتويات الدرج.

إذا كان "اليشاماع" الكاتب هو نفسه "اليشاماع" المذكور في (41: 1، 2 مل 25: 25) فإنه يكون من أصل ملكي.

"الناثان بن عكبور" ذكر مرة أخرى في (26: 22)، أما عن الآخرين باستثناء "جمريا بن شافان" فلا نعرف عنهم شيء. و "يهودي بن نثنيا بن شلميا بن كوش" [14] غير معروف إلا في هذا الموضع، ولابد أنه كان ذا أهمية في عصره وإلا ما كان هناك داعٍ لذكر نسبه إلى الجيل الثالث.

إذ أمر الرؤساء باروخ أن يجلس فمن الواضح أنهم كانوا يظهرون له المودة، وربما انحدر من عائلة من الطبقات العليا. وقد يدل الاستقبال والحفاوة التي قوبل به على أن لإرميا بعض الأتباع بين حكام يهوذا.

استقبالهم المشوب بالخوف لهذا الدرج ألزمهم أن يخبروا الملك فورًا بما فيه. وقد اهتم الرؤساء أيضًا بسلامة إرميا وباروخ إذ كانوا يعرفون ما اتصف به يهوياقيم من ظلمٍ وعدوانٍ. ومن الواضح أنهم استفادوا من النهاية المأساوية التي لقيها "يوريا" نتيجة لأقواله (26: 23).

يذكر التقليد اليهودي أن مكان الاختباء عرف باسم "كهف إرميا"، وكان يقع خارج باب دمشق وإن كان ذلك ليس يقينًا.

الأعداد 20-26

4. حرق الدرج:

ثم دخلوا إلى الملك إلى الدار وأودعوا الدرج في مخدع أليشاماع الكاتب،.

وأخبروا في أذنيْ الملك بكل الكلام.

فأرسل الملك يهودي ليأخذ الدرج،.

فأخذه من مخدع أليشاماع الكاتب،.

وقرأه يهودي في أذنيْ الملك وفي آذان كل الرؤساء الواقفين لدى الملك.

وكان الملك جالسًا في بيت الشتاء في الشهر التاسع، والكانون قدامه متقد.

وكان لما قرأ يهودي ثلاثة سطور أو أربعة أنه شقه بمبراة الكاتب وألقاه إلى النار التي في الكانون حتى فني كل الدرج في النار التي في الكانون.

ولم يخف الملك ولا كل عبيده السامعين كل هذا الكلام ولا شققوا ثيابهم.

ولكن ألناثان ودلايا وجمريا ترجوا الملك أن لا يحرق الدرج فلم يسمع لهم.

بل أمر الملك يرحمئيل ابن الملك وسرايا بن عزرائيل وشلميا بن عبدئيل أن يقبضوا على باروخ الكاتب وإرميا النبي، ولكن الرب خبأهما "[20 - 26].

بلا شك توقع "أليشاماع" استقبالاً فاترًا من يهوياقيم المتعجرف والذي كان يسكن في بيت الشتاء. والكلمة العبرية "بيت beyit" تعني أحيانًا جزءًا من البناء (1 أي 28: 11، حز 46: 24). ففي المنازل المكونة من طابقين كان الطابق الأرضي عادة يُستخدم للإقامة الشتوية بينما الطابق العلوي الجيد التهوية كان أنسب لحر الصيف. وكان "الكانون" مصدرًا للحرارة في يوم شديد البرودة من أيام الشتاء.

كان دور الشاب ميخايا بن جمريا حيًّا، إذ لم يحتمل أن يسمع الكلمة ويصمت بل ابلغ الرؤساء لعلهم يقومون بدورٍ روحي. فعلاً سألوا أن يأتي بباروخ دون إبطاء ليقرأ عليهم كلمات النبي. وقد وقع عليهم - وكان من بينهم بعض الأشراف - خوف عظيم. ورغم مقاومتهم لإرميا لكنهم خافوا، كما وُجد نفر قليل منهم يثق في كلمات الرب على لسان إرميا، شعروا أن من واجبهم إخطار الملك بالأمر لخطورته.

قبل تقديم السفر طلبوا من باروخ وإرميا أن يختبئا، لأنهم يعرفون طبيعة يهوياقيم العنيفة الظالمة. لقد ظنّوا أن الملك يكتفي بسماع ملخص لما ورد في الدرج، لكن هذا لم يرضه بل طلب من "يهودي" أن يحضر الدرج بينما جلس الملك بجوار كانون النار يستدفئ، والرؤساء واقفون حوله، بينما كان الشعب في أرجاء المدينة في حالة خوفٍ وفزعٍ، خاصة الذين في الهيكل. إذ بدأ الملك يستمع لما ورد في الدرج بدت علامات الغضب على وجهه. كانت أمامه فرصة للتوبة، خاصة وأن بعض رجاله حثوه أن ينصت إلى كلمة الرب، لكنه طرح السفر في النار، فإذا به يطرح نفسه وبيته ومدينته في نيرانٍ قاسيةٍ! وبعد قراءة ثلاثة سطور أو أربعة خطف الدرج وطلب المبراة التي تلازم الكاتب عادة. وكلما كان "يهودي" يقرأ عدة أسطر من الدرج كان الملك يقطع ذلك الجزء ويحرقه في النار باحتقار، ظانًا أنه يستطيع أن يحطم الكلمة النبوية. عوض أن يشقوا ثيابهم ويمزقوا قلوبهم بروح التوبة مزق يهوياقيم الدرج وألقاء في النار. عبثًا حاول دلايا وجمريا والناثان إقناعة ألاّ يحرق الدرج، لكنه أصدر أمره بالقبض على إرميا النبي وكاتبه باروخ فلم يجدهما رسله.

كانت "المبراة" أو "سكين الكاتب" تُستخدم في عمل وإصلاح الأقلام المصنوعة من الغاب ولقطع أو قص سجلات البردي.

التحدي السافر الذي أظهره الملك وحاشيته فيه تناقض صارخ مع رد فعل يوشيا عندما سمع سفر الشريعة المُكتشف حديثًا (2 مل 22: 11). إذ لما سمع يوشيا والد يهوياقيم سفر الشريعة مزق ثيابه.

استخدم الملك المبراة لتمزيق الكتاب والنار لحرقه، لكن ما ورد في الدرج تحقق، وبقيت كلمة الله أعظم من كل قوة مضادة. هكذا يحاول الملحدون وأيضًا النُقاد تمزيق كلمة الله بفلسفات بشرية برّاقة، لكن كلمة الله أعظم من كل مقاومة. كذلك الذين يرفضون طريق الصليب الضيق من أجل الراحة الزمنية يمسكون بمبراة يهودي ليمزقوا الكلمة الإنجيلية في حياتهم.

ما أتعس الإنسان الذي يمزق كلمة الله بمبراة ذهنه ويزيفها بعقله، يطرح رجاءه لا الدرج في النار، أما كلمة الرب فباقية إلى الأبد. "السموات والارض تزولان لكن كلامي لا يزول" (مر 13: 31). من يرتبط بكلمة الحياة الباقية إلى الأبد (1 بط 1: 25، يو 12: 48) يحطم الفناء ويغلب الموت ويدخل إلى عدم الفساد الأبدي.

حقًا إن استخف أحد بصوت الله كف عن التحدث، والذين لا يستحسنون أن يبقوا الله في معرفتهم يسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوضٍ ليفعلوا كل نجاسةٍ وطمعٍ (رو 1: 28 الخ)، هذا يذكرنا بتلك الكلمات الرهيبة التي خُتمت بها حياة أول ملوك إسرائيل، "ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلي يوم موته" (1 صم 15: 35).

  • لا تمزق الخطاب المكتوب على قلبك كما فعل الملك الفاسد حيث شق بمبراة الكاتب الخطاب المُسلم إليه بواسطة باروخ. لا تجعل هوشع يقول لك كما لإفرايم: "أنت كحمامة رعناء" (هو 7: 11) [566].

القديس جيروم.

لا نستطيع أن ندرك على وجه التحديد التام معني "الله خبأهما". هل حث أحدًا من الرؤساء ليخفيهما في موضع معين، أم اختفي إرميا وكاتبه وستر الرب عليهما فلم يعرف أحد موضعهما؟!

إننا جميعاً في حاجة الى هذه التخبئة الإلهية التي لا نعرف مدتها. يجب علينا إطاعة الصوت الذي ينادينا كما نادى إيليا "انطلق من هنا واتجه نحو المشرق واختبئ".

عندما لا نطمع في شيء في الوجود إلا في إرضائه فحينئذ نكون مختبئين في حصنه الحصين، ومن مخبأنا الأمين الذي ننعم فيه بمجد نوره العظيم نتطلع بثبات إلى الشرور المزعجة وهي تجوز بجوارنا دون أن تجترئ على الاقتراب منا.

هكذا لا يزال ابن الله يتدخل لحماية خاصته. فعشْ له وحده. كن سهمًا مبريًا مختبئًا في ظل يده وفي كنانته مختفيًا (إش 49: 2). أثبت فيه. أصغِ إليه، فإنه يقول لك كما قال داود لأبياثار: "أقم معي. لا تخف لأن الذي يطلب نفسي يطلب نفسك. ولكنك عندي محفوظ" (1 صم 22: 23).

الاسم "يرحمئيل ابن الملك" [26] قد يعني أنه كان من سلالة الملك (39: 6، 1 مل 22: 26، صف 1: 8).

الأعداد 27-32

5. النسخة الثانية من الدرج:

"ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا بعد إحراق الملك الدرج والكلام الذي كتبه باروخ عن فم إرميا قائلة:

عد فخذ لنفسك درجًا آخر واكتب فيه كل الكلام الأول الذي كان في الدرج الأول الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا.

وقل ليهوياقيم ملك يهوذا:

هكذا قال الرب.

أنت قد أحرقت ذلك الدرج قائلاً لماذا كتبت فيه قائلاً مجيئًا يجيء ملك بابل ويهلك هذه الأرض ويلاشي منها الإنسان والحيوان.

لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا:

لا يكون له جالس على كرسي داود وتكون جثته مطروحة للحر نهارًا وللبرد ليلاً.

وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم وأجلب عليهم وعلى سكان أورشليم وعلى رجال يهوذا كل الشر الذي كلمتهم عنه ولم يسمعوا.

فأخذ إرميا درجًا آخر ودفعه لباروخ بن نيريا الكاتب، فكتب فيه عن فم إرميا كل كلام السفر الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا بالنار وزيد عليه أيضًا كلام كثير مثله "[27 - 32].

كم مضى من الوقت بعد تدمير الدرج الأصلي وبين عمل النسخة الثانية؟ لا يعرف أحد بالضبط. لكن ربما لا تزيد عن عدة شهور. وشملت النسخة الثانية على مادة إضافية تركز على المصير الذي ينتظر حاكم غير تقي.

لم ينشغل إرميا النبي وكاتبه بمقاومة الأشرار لهما بل بحفظ الكلمة الإلهية وتسجيلها، ليس فقط في سفر عبر الدهور بل وفي حياتهما. وكما يقول العلامة أوريجينوس معلقًا على قول المرتل: "جلس الرؤساء وتقاولوا عليّ، أما عبدك فكان يهتم بحقوقك" (مز 119: 23): [ليتكلم هؤلاء الرؤساء أيا كانوا، فإن البار لا يفعل شيئًا سوى التحدث بفرائض الرب، هذه الفرائض التي ينطق بها البار ليست كلمات بشرية! [567]].

من وحي إرميا 36.

كلماتك نار آكلة.

  • ثار الكل على نبيك إرميا لكي يصمت،.

أما فهو فشعر بنار الكلمة الإلهية تلتهب في أعماقه،.

مياه الضيقات والسخرية لا تقدر أن تطفئها!

  • ليلهب روحك الناري نار كلمتك فيّ،.

تحرق كل الأشواك الخانقة في أعماقي!

نعم! لتهبني شركة الطبيعة الإلهية، إنها النار الآكلة.

تبدد كل برودٍ روحيٍ،.

وتحولني إلى خادمٍ سماويٍ ناري!

بل مزق بمبراة السفر نفسه،.

وألقاه في أتون النار!

ظن هذا المسكين أنه قادر أن يبدد الكلمة،.

ولم يدرك أن الكلمة نار سماوية تبني وتمجد!

  • هب لي يارب هذه النار،.

فأصرخ قائلاً:

نار كلمتك قد أحرقتني،.

أريد ان أرتفع إلى سمواتك.

وأحيا معك أيها النار الآكلة،.

وأشارك السمائيين النورانيين تسابيحهم!


[555] Thompson: Jeremiah, p. 620; D. Wiseman: Chronicles of Chaldaen Kings, p. 69.

[556] See Thompson, p. 620.

[557] Cf Thompson: Jeremiah, p. 623.

[558] المؤلف: مزمور 119. [غنى كلمة اللَّه ولذتها].

[559] المرجع السابق.

[560] Antiq. 10: 9: 1.

[561] Josephus: Antiq. 10: 9: 1.

[562] St. Jerome: On Isa. 30: 6,7.

[563] Syriac Apoc. Baruch 2: 1: 5: 5.

[564] Ibid 6: 7.

[565] The Jewish Encyclopedia, vol 2, p. 548.

[566] Ep. 31: 2.

[567] المؤلف: مزمور 119. [غنى كلمة اللَّه ولذتها].

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح السابع والثلاثون - سفر إرميا - القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الخامس والثلاثون - سفر إرميا - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر إرميا الأصحاح 36
تفاسير سفر إرميا الأصحاح 36