قراءة في «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة».. طَوْر التَّكوين (3) – الأستاذ شريف رمزي

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ شريف رمزي
التصنيفات سير قديسين وشخصيات
آخر تحديث 19 يونيو 2021


قراءة في «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة».. طَوْر التَّكوين (3)

شريف رمزي - باحث في التاريخ الكنسيّ.

29 يناير 2021 - 21 طوبه 1737 ش.

نُتابع ما بدأناه في أعدادٍ سابقة من حديثٍ عن الكُتَّاب الَّذين أسهموا في تكوينِ «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة»، في إطارِ دراسةٍ مُتعمِّقةٍ لنَصِّ هذا الكتاب القَيِّم، وفقًا لأقدمِ مخطوطاته..

3) يوحنَّا الأوسيميّ: نشأ بالجيزة، وترَهَّب بأحدِ أديرة أوسيم الَّتي كان يتردَّد عليها وقت أن كان عَلمانيًّا: [ولمَّا كان أوَّل قِسمَة أنبا مُسيس، كان هُناك ديارات كَثير في كُرسيِّهِ بوسيم لهَؤلاءِ أصحاب مِليطيوس، وكانوا سُكَّان فيها، فنَفى جَميعَهُم مِنها. فمِنهُم مَن لَبِس الإسكيم مِن يَدِهِ، وصاروا مُتَّحدِين بِنا، وكان مِن أجلِ ذلك بَيني وبَينهم مُصادَقة، زَمان كُنت فيه عَلمانيّ].

تتلمَذ يوحنَّا على يدي الأنبا مويسيس أُسقُف أوسيم (يُعَيِّد السِّنكساري لتَذكارِ نياحتهِ 11 مِسرى)، وهو الَّذي وسَمه شمَّاسًا، لكن في الواقعِ كان يوحنَّا يحظى [بمَنزِلةِ أُسقُف]، ويتمتَّع بثِقةٍ كبيرة ومكانة مرموقة بين أعلى درجات الإكليروس، وكان له حُضور وكلمة مسموعة في مجلسِ الأبّ البطريرك (البابا خائيل الأوَّل / 46). ولمَّا قبَض الخليفة الأمويّ مروان بن محمَّد (744 - 750م) على البابا خائيل والأنبا مويسيس، كان يوحنَّا برفقتِهِما، فذاقّ معهُما مرارة الحبس وذُلّ القَيد: [فلمَّا طَرَحونا في الحَبسِ، واستوثَقوا مِنَّا بالخَشَبِ والحَديد، صِرنا تحت ضيق عَظيم. وأوَّل مَن قُيِّد بالقَيدِ الحَديد الأبّ البَطريَرك، وبَعده الأُسقُف أنبا مُسيس، وأنا وَلَده يُحَنِّس البائِس الشَّمَّاس الَّذي وَضَع يَده عليَّ بغَيرِ استِحقاقٍ].

وكشاهِد عيان يُسجِّل يوحنَّا الأحداث الَّتي عاصرها بكلِّ دقَّةٍ ويسترسِل في التَّفاصيل (سيرة البابا خائيل وحدها تشغل نحو ثُلث أوارق مخطوط هامبورج الَّذي يحتوي على 46 سيرة). وهو يُشير - برغمِ ذلك - إلى انتهاجهِ الاختصار في شرحِ السِّيرة: [تركنا كثيرًا لم نَكتُبه لِئَلاَّ يَطول الأمر]! أمَّا الأحداث الَّتي لم يُعاصرها فقد استقاها شَفاهةً مِمَّن كان شاهدًا عليها: [نَظَرت ما كَتَبته بعينيَّ، وكثرته جازَ عليَّ ولمَسَته يَديَّ، وما سمِعته مِن الإخوةِ والآباءِ الأحبَّاء قَبلي مِمَّن يُصَدَّق ويؤمَن إلَيهِ].

مخطوط هامبورج، المكتبة الوطنيَّة ٣٠٤ (شرقيّ ٢٦)، نسخ عام ١٢٦٦م، ورقة ٢٤٥ ظ.

وقد أكمَل يوحنَّا عمل سابقيه، فدَوَّن - باللُّغةِ القبطيَّة - بقيَّة تاريخ البابا ألكسندروس الثَّاني / 43 (705 730م)، ثُمَّ تاريخ البابا قُزمان الأوَّل / 44 (730 - 731م)، والبابا تواضروس الأوَّل / 45 (731 - 743م)، والبابا خائيل (ميخائيل) الأوَّل / 46 (743 - 767م).

وأتَمّ يوحنَّا هذا الجُزء من سِيَرِ البِيْعة بعد نياحة البابا خائيل، وقد تَنَيَّح هذا الأبّ في مارس 767م. وكان الملك كرياكوس، الَّذي حَكَم المُقرة النُّوبيَّة حتَّى عام 768م، مُتربِّعًا على عرشِ مملكتهِ: [ثُمَّ أقاموا آخر اسمه قرياقوس، خَيِّر صِدِّيق. وصار مُتَولِّي إلى يَومِ وضِعَت هذه السِّيرة]. ذلك يعني أنَّ يوحنَّا قد أنهى عمله في نفسِ العام الَّذي شَهِد نياحة البابا خائيل، أي في غُضونِ عام 767م.

4) يوحنَّا المقاريّ: كان تلميذًا وابنًا روحيًّا للأنبا يوسف (يوساب) الأوَّل / 52 (830 - 849م). دَوَّن يوحنَّا - باللُّغةِ القبطيَّة - سِيَر تِسعة بطاركة، من البابا مينا الأوَّل / 47 (767 - 774م)، إلى البابا شنوده الأوَّل / 55 (858 - 880م). وقد ظهر يوحنَّا كشاهد عيان، عاصَر الأحداث وكان عُنصرًا فاعِلاً فيها، بداية من سيرة البابا يوسف (أبيه الرُّوحيّ)، حتَّى أنَّه رافق الأبّ البطريرك في محبسهِ: [وأُطلِق (البطريرك) مِن السِّجن ومَن مَعَه، وأنا كاتِب هذه السِّيرة الحَقير كُنت مَعَهُم]. أمَّا ما دَوَّنه يوحنَّا من تفاصيلٍ تخُصّ البطاركة الَّذين لم يُعاصِرهُم فقد استقاها من مصادرٍ سابِقة، وهي - على الأرجَحِ - مصادر شَفهيَّة.

ومن بابِ الاعتراف بالفضلِ لأصحابه، يَذكُر يوحنَّا أنَّ الَّذي عَلَّمه الكتابة، وأخبره - بروحِ النُّبوَّة - أنَّه الشَّخص المُختار من الله لإكمال سِيَر البِيْعة، هو الأبّ أمونة (أمونيوس): [وكان راهِبًا مِن صَبائِهِ بدَيرِ أبو حِنِّس... حَضَرت أنا الفَقير عِنده وكان يُعَلِّمني الكِتابة، وذلك في عاشِرِ سَنةٍ مِن بَطرَكيَّةِ الأبّ أنبا يوسف... فقال لي بكَلِمةِ روح القُدُس: يا ابني طوبى لمَن كَتَب واهتَمّ بسِيَرِ البَطارِكة... وأنت الَّذي تَهتَمّ بكِتابَتِها لأنَّ الرَّبّ يَدعوك]. وقد عاود الأبّ أمونة الظُّهور ليوحنَّا في رؤيا بعد - بعد نياحته - يحمِل إليه الرِّسالة عينها. كما ظهَر له البابا يوسف (يوساب) أيضًا بعد نياحته بصورةٍ نورانيَّة ومعه لفيف من الآباءِ البطاركة: [وأولئِك المُضيئون كانوا يُقلِقونَني (يوقظونني) لأُتَمِّم الكَلام المُقَدَّس، وكُنت حَزين القَلب حَيث لا أقدر، وأولئِك والأبّ أنبا يوسف رأيتهُم مُجتَهِدين في بِناءِ الأساس، ومِن بَعدِ قَليل رأيت عُمُدًا أقاموهم، وبارَكوا عليَّ وغابوا عَنِّي، فعَلِمت أنَّ أولئِك العُمُد هُم الآباء القِدِّيسون الَّذين أشتَهي أن أكتُب سيرَتهُم المُقَدَّسَة].

ويُحدِّد يوحنَّا زمن كتابته لهذا الجُزء من سِيَرِ البِيْعة، في حَبريَّةِ البابا شنوده الأوَّل / 55، وكان يوحنَّا - بحُكمِ رهبنته في دَيرِ القدِّيس أنبا مقار - تلميذًا له ومُقرَّبًا منه: [هذه السَّنة الَّتِي كَتَبنا فيها هذه السِّيرة، وهي سَنة خَمس مائة واثنَين وثَمانين للشُّهَداءِ، وهي سَنة مائتي واثنين وخَمسين لمُلكِ الإسلام]. وهذا التَّاريخ يوافق سنة 866م.

أمَّا خِتام سيرة البابا شنوده الأوَّل والمُتَضَمِّن خبر نياحته، فيَرِدُ في النُّسَخِ الأحدَث من سِيَر البِيْعة، خلافًا لأقدَمِها، وقد أُضيف - على ما يبدو - في وقتٍ لاحقٍ على ترجمةِ السِّيَر إلى اللُّغةِ العربيَّة، وتلك الإضافة ترتبط - على الأرجَحِ - بيوحنَّا ثالث، وهو الأرخُن يوحنَّا بن صاعد المعروف بابن القلزميّ.

يتبع..