وجهًا لوجه لغة الوجه و العيون في الكتاب المقدس – الأستاذ شريف رمزي

كارت التعريف بالكتاب

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ شريف رمزي
التصنيفات الخدمة الكنسية - اللاهوت الرعوي, الكتاب المقدس, دراسات مجمعة في الكتاب المقدس, علم النفس المسيحي
آخر تحديث 22 أكتوبر 2023
تقييم الكتاب 4.999 من 5 بواسطة فريق الكنوز القبطية

تحميل الكتاب

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل الكتاب
3MB

 

بسم الآب والابن والروح القدس. الإله الواحد. أمين

تقديم

عين الإنسان من أهم حواسّه.. فهي ليست فقط مَرصَدًا للجو المحيط أو مدخلاً للمعلومات، بل هي أيضًا قائد لمسيرة الإنسان، وعندها القُدرة أن تسحب الإنسان في أي إتجاه.

لذلك يؤكد السيد المسيح أن “سراج الجسد هو العين” (لو34:11)، وحذّرنا الا يكون النور الذي فينا ظلامًا.

وكما أنّ العين قد تكون عند بعض الناس سبب تلوُّث لحياتهم، مثل داود النبى، أو هلاك كامل لهم، مثل امرأة لوط.. فإن العين يمكنها أن تكون سبب بركة لحياة الإنسان، مثل العين المنفتحة على كلمة الله، أو العين المتامَّلة في أعمال الله، أو العين الرحومة على المحتاجين، أو العين التي تقود الإنسان في الصلاة..

ولا ننسى أن عين الإنسان المسيحي قد تقدَّست بمسحة الميرون المقدّسة، لكي تضيء باستنارة معرفة الله، لأن “الله الذي قال أن يُشرِق نور من ظُلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح”  (2كو6:4)..

وهذا الكتاب الشيَّق الذي بين يديك أيها القارئ العزيز هو مجهود مبارك قام به الأخ شريف رمزي كشف فيه أهميّة لغة الوجه والعيون، وكيف يقود الروح القدس العين حتى لا تكون خطرًا على حياتنا بل تكون مستنيرة ومقدّسة، وسبب خلاص للنفس ومصدر فرح للمحيطين بنا.. وقد زوّد بحثه بعشرات الآيات الجميلة من العهدين، فجاء الموضوع مستوفيًا الجوانب الروحية والكتابية والنفسية والعملية…

الرب قادر أن يعوض الأخ شريف عن تعب محبته بمزيد من النعمة والاستنارة، مع الأجر السمائي بشفاعة أم النور العذراء الطاهرة مريم وكافة مصاف السمائيين.. وبصلوات كاروزنا العظيم مارمرقس الرسول، وبصلوات راعينا الحبيب قداسة البابا شنودة الثالث، ولربنا المجد الدائم إلى الأبد . آمين.

القمص يوحنا نصيف

الكنيسة المرقسية بالإسكندرية

تمهيد

الإناء ينضح بما فيه.. حقيقة ثابتة يعرفها المثقفون، ولا يجهـلها العامّة الذين ثبت لهم بالخبرة العملية أن “الجواب يبان من عنوانه”.

وبالنسبة للإنسان فإن ما يظهر على وجهه من تعبيرات وما يبديه من نظرات يصبح عنوانًا لما في باطنه من مشاعر وأفكار “ومبادئ أحيانًا”.

فما بداخلنا تُظهره ملامحنا وتعبيرات وجوهنا، فيلمسه الآخرون وقد يتأثرون به..

التاريخ يذكر لنا كيف كان أجدادنا المسيحيون الأوائل يتركون انطباعاً على من يتقابل معهم من الوثنيين، فيبادر المرء أخاه إذ يراه فَرِحًا وبشوشًا متسائلًا: “هل قابلت مسيحيًا اليوم”؟!

هذا يعنى إننا نمتلك إمكانية خطيرة في التأثير على الآخرين وتغيير انطباعاتهم وانفعالاتهم ومشاعرهم بل وحتى سلوكياتهم، من خلال ملامحنا وتعبيرات وجوهنا.. فقط إن كانت تعكس ما بداخلنا بصدق ..

يذكرني هذا أيضا بما قيل عن الأنبا انطونيوس “أب الرهبان”، إذ اجتمع حوله عدد من تلاميذه وسأله كل منهم كلمة منفعة، لكن واحداً منهم ظل صامتاً.. فسأله القديس الأنبا أنطونيوس إن كان يريد أن يسأل سؤالاً، فأجاب التلميذ في أدب جمّ وصدق بالغ قائلاً:

“يكفيني النظر إلى وجهك يا أبي”.

ذلك كله يعطينا فكرة كيف أن تعبيرات الوجه التي تنُم عن حالة من الهدوء والسلام الداخلي النابع عن صلة حقيقية بالله، يمكن حقاً أن تترك أثرها على كل من يتعامل معنا، ليس نفسياً فقط  لكن روحياً أيضا  وإلا فما معني قول الكتاب:

“ليكن الناظر إليك مباركًا”   (را 2: 19).

لكنّي أتصور أن ذلك يتأتّى في مرحلة متقدمة جداً من العلاقة الحية بالله، يتخللها جهاد حقيقي مدعوماً بنعمة خاصة من الله ..

قصدتُ أن أوضح أن ليس كل شخص مؤهلاً ليصبح النظر في وجهه “بركة”.. فما قلناه عن القديس الأنبا أنطونيوس وما يمكن أن نقوله عن القديس البابا كيرلس وأبينا القمص بيشوي كامل وآخرون ممن سبقونا أو لازالوا على قيد الحياة، ليس بالضرورة أن نُطبقه على أنفسنا وعلى كل من هم حولنا..

على كل ٍ ليس هذا ما يعنينا، قصدت فقط أن أشير إلى إمكانية التأثير روحياً في الآخرين من خلال تعبيرات الوجه الصادقة ..

مجرد إبتسامة يمكن جداً أن تُغير من سلوك إنسان أو تقوده إلى تغيير مجرى حياته كليًا..

إلهنا القدوس قادر أن يبارك فى هذا المجهود المتواضع ليأتى بالثمار المطلوبة ويعين ضعفي على استكمال السلسلة، بشفاعة أمنا كلنا العذراء القديسة مريم، ورئيس الملائكة الطاهر ميخائيل، وبصلوات صاحب الغبطة والقداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث، ولإلهنا كل مجد وكرامة إلى الأبد، أمين.

المؤلف

 1 –   تعبيرات الوجه عنوان الحقيقة

إن كنت تستطيع أن تتعرف إلى هوية شخص ما من خلال ملامح وجهه، فليس من الصعب كذلك أن تلمس صدق كلماته أو دفء مشاعره من خلال تعبيرات وجهه.. فأيوب الصّدّيق -عندما اشتدّ الخلاف بينه وبين أصحابه الثلاثة- لم يجد وسيلة لإثبات صدقه وأمانته إلا اللجوء لخبرتهم في الحكم على تعبيرات وجهه التي ألفوها..

“والآن تفرسوا فـيَّ، فإني على وجوهكم لا أكذب” (أي28:6)

في رأيي إن قراءة تعبيرات الوجه وفهم لغة العيون لا يحتاجان إلى موهبة خاصة، بشرط أن يكون الإنسان حسّاساً ولمّاحاً، أمّا الإنسان الساذج فتخدعه تعبيرات الوجه الزائفة..

هذا بالنسبة للإنسان، لكنّ إلهنا فاحص القلوب والكُلى فله نظرة فاحصة تختلف عن نظرات البشر، ومن غير الجائز بل يستحيل خداعه، ومع كونه في مجد لا يدنى منه وعظمته لا توصف، فإنه -جل شأنه- لا يتجاهل تعبيرات وجوهنا وما تُظهره من مشاعر وأحاسيس، بل أنه من فرط إحساسه ورِقّته يتأثر جداً بلغة العيون ويتفاعل معها..

هذا واضح في مناجاته للنفس البشرية في سفر النشيد: “قد سبيت قلبي يا أختي العروس قد سبيت قلبي بإحدى عينيك” (نش9:4)

بل أحياناً – وأقول مجازًا– يُغلب الله من نظرات الصدق التي تعكس مشاعرنا الحقيقية تجاهه، هذا ما نلمسه فى قول الوحي الإلهي على لسان  سليمان الحكيم: “حولي عنى عينيك فإنهما قد غلبتاني” (نش 5:6)

هذا أيضاً ما فهمه داود النبي فأنشد يقول: “إليك رفعت عيني يا ساكن السماء.. عيوننا نحو الرب إلهنا حتى يتراءف علينا” (مز  123: 1، 2)

فـهل كل إنسان يمكنه ببساطة أن يرفع وجهه أمام الله أيًّا كان ما يخفيه من مشاعر أو أفكار؟ الإجابة: لا.

2- سقوط الوجه

كثيرون مَنعهم شرّهم وخطيئتهم من أن  يرفعوا وجوههم أمام الله، لأن هذه الوجوه كانت تُظهر حقيقة ما يخفونه فلم يقووا على مواجهة الله..

تعبير”سقط وجهه” يتكرر كثيراً فى الكتاب المقدس، فسقوط الوجه أو إخفائه له دلالاته الواضحة.

­* هذا ما حدث مع قايين بعدما قبل الرب قربان هابيل أخيه ولم يقبل قربانه..

“فاغتاظ قايين جداً وسقط وجهه، فقال الرب لقايين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك” (تك 4: 6,5).

سقوط الوجه هنا علامة الحقد والحسد اللذان تملكا على قلب قايين.

* وقد يُعَبّر سقوط الوجه عن الحزن الشديد، كما فعل يشوع بعدما هُزم شعب إسرائيل أمام أهل عاى..

“فمزق يشوع ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب.. فـقال الرب ليـشوع قم، لماذا أنـت سـاقط على وجهك” (يش 10,6:7)

* وقد يكون الخوف كذلك سبباً في سقوط الوجه كما كان الحال بالنسبة للتلاميذ في حادثة التجلي عندما سمعوا صوتاً من السحابة..

“ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدًا” (مت 6:17).

* وسقوط الوجه يكون أحياناً بدافع الخجل والشعور بالذنب، كما يظهر في صلاة عزرا الكاهن..

“اللهم إني أخجل وأخزى من أن أرفع يا إلهي وجهي نحوك لأن ذنوبنا قد كثرت” (عز 6:9)

* وقد يكون كذلك تعبيرًا عن الشكر والامتنان والعرفان بالجميل، كما فعلت راعوث مع بوعز عندما أخجلها كرمه الزائد معها..

“فسقطت على وجهها وسجدت إلى الأرض وقالت له كيف وجدت نعمة في عينيك لتنظر إليّ وأنا غريبة” (را 2: 10)

* أو يكون علامة على الاتضاع وانسحاق النفس، كما هو الحال في مثل الفريسي والعشار..

“وأمّا العشّار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء”  (لو13:18)

نعود إلى نقطة البحث الأولى.. كيف يمكن لإنسان أن يرفع وجهه أمام الله دون خجل، فيتذوق حلاوة اللقاء مع الله؟

الوحي لإلهي نفسه يعطينا الإجابة على هذا السؤال..

“إن أعددتَ أنت قلبك وبسطت إليه يديك، إن أبعدت الإثم الذي في يدك ولا يسكن الظلم في خيمتك، حينئذٍ ترفع وجهك بلا عيب وتكون ثابتًا ولا تخاف”  (أى13:11-15).

فالأمر إذن يظل رهنًا للحالة الداخلية للإنسان وما يستتبع ذلك من سلوكيات.. وليس أدل على ذلك من موقف موسى النبي..

3 – وجهًا لوجه

في بداية علاقته المباشرة مع الله لم يكن موسى يجرؤ على التحدّث إلى الله بوجه مكشوف..!!

هذا الأمر يتجلى بوضوح في لقاء العليقة، وهـو اللـقاء الأول الذي جمع موسى بالله وجـهًا لوجـه.. فيقول الكتاب:

“فغطي موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله” (خر 6:3).

ربما هو شعور بالخوف أو عدم الاستحقاق وقف حائلاً بين موسى وبين الاستفادة من الفرصة العظيمة التي أُتيحت له ولم يكن في مقدوره أن يستثمرها في ذلك الحين، لكن بمرور الوقت استطاع موسى أن يكسر حاجز الخوف ويخرج من العزلة التي فرضتها عليه مفاهيمه الخاصة عن طبيعة الله ليصبح التعامل المباشر مع الله أمرًا مألوفًا بالنسبة لموسى[1].

“ويُكلم الرب موسى وجهًا لوجه كما يُكلم الرجل صاحبه”
(خر 11:33).

طبيعة هذه العلاقة كشفها الله نفسه في شهادته عن موسى أمام إخوته..

“فماً إلى فم وعياناً أتكلّم معه لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين”  (عد 8:12).

لكن المُلفت  للنظر أن موسى نفسه الذي دفعه خوفه إلى أن يغطّي وجهه في حديثه الأول مع الله، بات مجرد النظر إلى وجهه مخيفًا لشعب إسرائيل إذ كان وجهه يشع بالنور بعد لقاء له مع الله، الأمر الذي اضطر معه موسى إلى وضع “بُرقع” علي وجهه عندما يُكلم الشعب.

“فنظر هرون وجميع بني إسرائيل موسى وإذ جلد وجهه يلمع.. فخافوا أن يقتربوا إليه.. ولما فرغ موسى من الكلام معهم جعل على وجهه برقعًا” (خر30:34-33).

وفي مشهد مُغاير تمامًا لما فعله موسى في لقائه الأول مع الله حين غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلي الله..

“كان موسى عند دخوله أمام الرب ليتكلّم معه ينزع البرقع حتى يخرج”  (خر 34:34)

الأمر حقاً يدعو للعَجَب..

لكن متابعة هذا التطور في العلاقة بشيء من التأمل يكشف لنا عن طبيعة هذه العلاقة وتفرُّدها، بحيث أمكن للوحي الإلهي في النهاية أن يلخّصها على النحو التالي:

“ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عَرَفَه الرب وجهًا لوجه”  (تث 10:34).

هذه العلاقة الفريدة ساعدت كثيرًا في تغيير المفهوم السائد بأن رؤية الله تعني الموت بالنسبة للإنسان، ليحل محله مفهوم أكثر انفتاحًا مفاده أن الله يمكن رؤيته بالعيان والتعامل معه عن قرب دون أن ينتج عن ذلك موتاً، لكن ذلك يظلّ كما قلنا سابقاً رهنًا بالحالة الداخلية للإنسان.. وهذا واضح في قول داود:

“المستقيم يبصر وجهه”  (مز 7:11).

“وجهك يا رب أطلب، لا تحجب وجهك عنى”  (مز 8:27، 9).

وقوله عن الودعاء :

” نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل”  (مز 5:34)

نفس المعني يتجلى بوضوح في سفر الرؤيا، فالوحي الإلهي يخبرنا أن مكافأة الله لعبيده القديسين في الأبدية إنهم “سينظرون وجهه” (رؤ 4:22).

4 – وجوه و وجوه

في تعاملاتنا اليومية نتقابل مع عشرات الأشخاص الذين لا يختلفون في ملامح الوجه فقط لكن أيضاً في تعبيراتهم وما يبدونه من نظرات، بل إن الواحد منهم تختلف معالم وجهه من وقت لآخر باختلاف حالته النفسية والروحية وما يطرأ عليها من تغيير.

الكتاب المقدس حافل بالأمثلة التي تبرهن علي صدق هذه النظرية.

عندما هرب يعقوب من وجه أخيه عيسو ولجأ إلي لابان خاله، حظي يعقوب بمقابلة حارة وترحاب شديد من جانب لابان..

تأمل معي -عزيزي القارئ- حيثيات هذه المقابلة كما جاءت في سفر التكوين:

“فكان حين سمع لابان خبر يعقوب ابن أخته أنه ركض للقائه وعانقه وقبّله وأتى به إلى بيته.. فقال له لابان إنما أنت عظمي ولحمي” (تك 14,13:29).

لكن سرعان ما تبدّل الحال، فتبدلت المودة والألفة والتفاهم المقترنة بصلة الدم لتحل محلها الأحقاد والأطماع من جانب لابان..

“ونظر يعقوب وجه لابان وإذا هو ليس معه كأمس وأول من أمس” (تك2:31).

التغيير الذي طرأ علي نفسية لابان تجاه يعقوب صَاحَبه أيضًا تغيير في تعبيرات وجهه.. لم يعد نفس الوجه الذي لاقاه قبلاً بالبشاشة والترحاب.

في حياة كل منَّا وجوه يألفها ويحبها ويشتاق إليها، ووجوه أخرى تخيفه وتزعجه فيحاول أن يتجنبها قدر المستطاع..

* لنأخذ مثالاً بولس الرسول الذي ارتبط روحيًّا بأولاده الذين آمنوا بواسطته.. نسمعه يخاطب أهل تسالونيكي قائلاً:

“فإذ قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نري وجهكم.. طالبين ليلاً ونهارًا أوفر طلب أن نري وجوهكم”  (1 تس10:3،17:2).

* علي العكس كان يعقوب أب الآباء يخشى مقابلة عيسو أخيه، لأنه توقّع أن يرى في وجهه نظرات الحقد والكراهية والرغبة في الثأر، وعندما وضعهما الله علي طريق واحد حاول يعقوب أن يتصرّف بحكمة ليحتوى غضب أخيه.. فماذا فعل؟!

“قال أستعطِف وجهه بالهدية السائرة أمامي وبعد ذلك أنظر وجهه”  (تك 2:32).

كانت هديته لأخيه من الماشية والأغنام تساوى ثروة، وذلك يعكس مدى حرص يعقوب على تغيير نفسية أخيه من الحالة التي تركه عليها قبل أن يهرب إلي لابان..

وبدا أن محاولته تلك قد أتت بثمارها، أو أن مشاعر الأخوة وصلة الدم تغلّبتا علي مشاعر الثأر والانتقام.

“فركض عيسو للقائه وعانقه ووقع علي عنقه وقبله وبكيا.. فقال عيسو: لي كثير، يا أخي ليكن لك الذي لك، فقال يعقوب: لا. إن وجدت نعمة في عينيك تأخذ هديتي من يدي لأني رأيت وجهك كما يُرى وجه الله فرضيتَ عليّ” (تك 10.9,4:33)

في محبة وقناعة عجيبة طلب عيسو من أخيه أن يعفيه من قبول الهدية، لكن يعقوب ألحَّ عليه فقبلها..

في نظر يعقوب كانت تلك الثروة التي تركها لأخيه لا تعنى شيئاً، في مقابل نظرة الرضا والتسامح التي ظهرت علي وجه عيسو عند مقابلته له..

كانت هذه النظرة بالنسبة ليعقوب تعنى الكثير.. كانت نهاية لسنوات طويلة من الخوف والهروب والغُربة عن الوطن والأهل، والاستسلام لظُلم لابان..

إلي هنا يبدو الأمر منطقيًا..

لكن الغريب حقاً أن يقارن يعقوب بين تلك النظرة التي رآها في وجه أخيه مهما بلغ عمقها وما تُعبِّر عنه من حنو واشتياق وما بعثته من سلام في نفس يعقوب، وبين وجه الله نفسه.. “رأيت وجهك كما يُرى وجه الله”!

والأغرب جدًّا أن يقول ذلك بعد وقت قصير-ربما هي ساعات- من لقاء حقيقي جمعه وجه لوجه مع الله قبيل لقاء عيسو ..

“فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل. قائلًا لأني نظرت الله وجهاً لوجه”   (تك 30:32).

تُري ماذا دعا يعقوب إلي عقد مثل هذه المقاربة ؟!

البعض يحسبها جرأة حقًّا.. وقد يخاله البعض نوعًا من التملق والنفاق، أو علي أقل تقدير نوعاً من المجاملة.

الحقيقة إن مثل هذه المُقاربة تظل رهناً بتقدير شخصي ليعقوب نفسه بما له من خبرة طويلة في علاقتة الشخصية بالله..

لكن – في رأيي- إن الأمر مَرَدّه إلي كون الإنسان قد خُلق أولاً علي صورة الله ومثاله (تك 27:1).

ومفهوم طبعاً أن المعني ينصرف إلي صورة القداسة والبِرّ التي جًبل الله الإنسان الأول عليها لكنه فقدها بالسقوط.

أما وقد تلمّس يعقوب بعضًا من ملامح هذه الصورة في وجه أخيه فهذا أمر له مبرراته المنطقية فيما أشرنا إليه من مظاهر الحب والتسامح ودفء المشاعر التي أظهرها عيسو نحو أخيه..

* هذا المعني يتكرر أيضاً في سفر أعمال الرسل عند الحديث عن استفانوس..

“فشخص إليه جميع الجالسين في المجمع و رأوا وجهه كأنه وجه ملاك”   (أع 15:6)

أؤكد أن الأمر في النهاية يتوقّف علي الحالة الداخلية التي تطبع تأثيرها علي تعبيرات الوجه وقَسماته..

فماذا عن الوجوه التي لا يألفها الناس ويتحاشونها..

إنها وجوه بشرية لكن انتفت عنها ملامح الرحمة والحب واختفت منها الابتسامة، ليس من باب الوقار لكن لانعدام الحب والافتقار إلى السلام الداخلي، لذلك حلّ الوجوم محل النضارة والقبح محل الجمال..

خبرة الشر أول ما تصنعه أنها تحول كل ما هو جميل فينا إلى القبح.

أمّا هذه الوجوه المخيفة فمجرّد مواجهتها فقط يحتاج إلي معونة إلهية ونعمة خاصة، وأول من ينطبق عليهم هذا الوصف هم بنو إسرائيل أيام إرميا النبي إذ أنهم:

“صَلّبوا وجوههم أكثر من الصخر”  (إر3:5).

كانوا قساة جدًّا وقسوتهم تلك كانت بادية علي وجوههم، لدرجة أنه لولا تَدَخُّل الله نفسه ما كان ممكناً لإرميا أن يتجاوز الخوف منهم ليؤدي رسالته النبوية..

“فقال الرب لي.. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب.. لا ترتع من وجوههم”  (إر 17,8,9:1)

الأمر نفسه بالنسبة لحزقيال النبي الذي كلفه الرب بالمهمة ذاتها وأوصاه قائلاً:

“من كلامهم لا تخف ومن وجوههم لا ترتعب” (حز 6:2).

بل الأكثر من ذلك أن قسوتهم وصرامتهم لم تكن لتقابَل إلا بالمثل، و بحزم و صلابة من جانب حزقيال..

“الآن كل بيت إسرائيل صلاب الجباه وقساة القلوب، هأنذا قد جعلت وجهك صلباً مثل وجوههم وجبهتك صلبة مثل جباههم.. فلا تخفهم ولا ترتعب من وجوههم لأنهم بيت متمرد” (حز  3: 7-9).

من هذا نفهم أن تعبيرات الوجه القاسية قد تدفع بعض الناس -حتى الودعاء والبسطاء منهم- إلي مقابلتها بالمثل..

فإن كنت تريد أن يعاملك الناس بودًّ و بشاشة ومحبة دافئة، فافتح أنت كذلك قلبك لهم وأظهر محبتك للجميع..

فإن كان مضمون الخطاب يُستعلَن من عنوانه، فبالأكثر مشاعرنا الحقيقية تظهر في ملامح الوجه وتعبيراته.

لكن البعض ممن نتقابل معهم يكونون علي درجة عالية من الاحتراف بحيث يُظِهرون عكس ما يخفونه من مشاعر الحقد والضغينة.. هؤلاء أشبه بممثلي المسارح الذين يؤدون أدوارًا أو يتقمّصون شخصيات لا تَمُتّ للحقيقة بصلة، فمهما عَلت وجوههم الابتسامات المصطنعة أو ارتسمت عليها تعابير الودّ والامتنان المُفتعلة، يأتي يوم ينكشف فيه زيف مشاعرهم..

* منهم النفعيون وأرباب المصالح الذين يُغيَّرون تعبيراتهم حسبما تقتضي الحاجة، ووِفقاً لما تمليه عليهم مصالحهم الخاصة.. سلوك أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه نفاق.

هذا السلوك المُشين ينطبق تماماً علي بني إسرائيل الذين عُرفوا بقسوتهم وغلاظة قلوبهم، ليس في تعاملهم فيما بينهم أو حتي مع أنبيائهم لكن حتى في تعاملاتهم مع الله نفسه سلكوا وفقاً لمصالحهم!!.. هذا ما يعبر عنه قول الرب:

“لأنهم حولوا نحوى القفا لا الوجه وفي وقت بليتهم يقولون قم وخلصنا”  (إر 27:2)

* تعبيرات الوجه الزائفة تكون كذلك بمثابة قناع للتظاهر بالتقوى والورع، بينما القلب من الداخل مملوء خبثاً ومكراً وخالٍ من الفضيلة.

“ومتى صُمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فإنّهم يغيَّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين.. وأما أنت فمتى صُمت فادهن رأسك واغسل وجهك”   (مت 17,16:6).

استراتيجيه قديمة ومعروفة يستخدمها عدو الخير نفسه كما يستخدمها أعوانه جيل بعد جيل، فأصحاب النوايا السيّئة يتعمدون إخفاء حقيقتهم خلف قناع زائف.

“لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة، فعلة ماكرون مُغيّرون شكلهم إلي شبه رسل المسيح، ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغيّر شكله إلي شبه ملاك نور، فليس عظيماً إن كان خدامه أيضاً يغيّرون شكلهم كخدام للبِر..” (2كو 13:11- 15)

لكنّ الأقنعة تسقط حتماً والزّيف ينكشف، ويظل الوجه عنواناً للحقيقة، وما يبديه من تعبيرات وانفعالات ترجمة حية للحالة التي يكون عليها القلب من الداخل..

فالقلب الممتلئ بالحزن يُرسل إشارات لاشعورية للوجه والعينين بحيث يصعُب تجاهل هذه المشاعر أو إخفاؤها، يستوي في ذلك أن يكون الحزن لسبب مشروع ومقبول أو غير ذلك.

+ مثال حَنَّة أم صموئيل.. وقفت أمام الله تصلّي بمرارة نفس لأنها لم تُنجب نسلاً وكانت ضُرّتها تغيظها وتُعيّرها.. ولاحظ عالي الكاهن تعبيرات الحزن علي وجه حَنَّة فتعاطف معها وبشّرها باستجابة صلاتها..

“ثم مضت المرأة في طريقها وأكلت، ولم يكن وجهها بعد مُغيرًا” (1صم18:1).

و نفس الفكرة تكررت في (1مل4:21)..

“فدخل أخاب بيته مكتئباً مغموماً من أجل الكلام الذي كلمه به نابوت اليزرعيلي قائلاً لا أعطيك ميراث آبائي، وإضطجع علي سريره وحول وجهه ولم يأكل خبزاً”

+ ونحميا أيضًا، عندما سمع وهو في السبي بخبر أورشليم أن سورها مُنهدم وأبوابها محروقة حزن جداً وبكي ولم يستطِع أن يخفي مشاعره، رغم علمه بما يمكن أن يتعّرض له بسبب موقعه كساقي للملك..

“فقال ليَّ الملك لماذا وجهك مُكمد وأنت غير مريض، ما هذا إلا كآبة قلب”  (نح 2:2).

فكرة أن مشاعر الحزن تطبع آثارها علي الوجه والعينين واضحة جداً في الكتاب المقدس..

* أيوب الصديق في تجربته استبد به الحزن تاركاً آثاراً واضحة علي وجهه وعينيه.. لذلك يقول:  “احمَرّ وجهي من البكاء” (أي16:16).

ويقول أيضاً: ” كَلَّت عيني من الحزن ” (أي7:17).

* وإرميا النبي يُعبِّر عن حزنه بسبب حالة الفساد الروحي التي إتسم بها عصره فيقول: ” كَلَّت من الدموع عيناي” (مراثي 11:2)، وأيضًا: “من أجل هذه أظلمََت عيوننا ” (مراثي 17:5).

* نفس العبارات تتكرّر كثيراً في مزامير داود:

“عيني ذابت من الذُّل”  (مز9:88).

“ساخت من الغم عيني، شاخت من كل مضايقيَّ”  (مز7:6)

“قلبي خافق، قوّتي فارقتني ونور عيني أيضًا ليس معي” (مز1:38).

لذلك يتضرع داود إلي الله فى صلاته، قائلاً: “أنر عيني” (مز 3:13).

وتعبيرات الوجه كما تعكس مشاعر الحزن، تعكس أيضاً مشاعر الغضب وتُظهر العدائية التى يتّصف بها البعض..

* هذا المعني واضح فى ردّة فعل نبوخذ نَصَّر الملك بعدما رفض الثلاث فتية السجود لتمثال الذهب الذي صنعه..

“حينئذٍ امتلأ نبوخذ نَصَّر غيظاً، وتغيّر وجهه على شدرخ وميشخ وعبدنغو”  (دا 19:3).

* هذا المعني نفهمه أيضاً من قول أيوب الصديق:

“عدوي يُحدد عينيه عليَّ”  (أي9:16).

أَقَلّ ما يُقال أنّ تلك النظرة الحادّة تُعبِّر عن عدم الحب وفيها جرح لمشاعر الآخر، إن لم يكن القصد منها ايضاً إخافته وإرهابه.

لا شك أن هذا التصرف فيه عدوانية ولا يمكن أن يصدر عن شخص يحمل فى أعماقه حبًّا ومودّة للآخرين.

* لكن تعبيرات الوجه قد تتخطّى هذه النظرة لتٌصبح أكثر قسوة وشراسة، كما يظهر في قول إرميا:

“يفتح عليك أفواههم كل أعدائك، يصفرون ويحرقون الأسنان”  (مراثي 16:2).

عبارة “يُحرقون الأسنان” عبارة صعبة.. من يحتمل أن يرى الآخر يَسنّ أسنانه عليه..

* نفس العبارة تتكرر في مزامير كثيرة ونبوات عن السيد المسيح.

“الشرير يرى فيغضب، يُحرق أسنانه ويذوب”  (مز10:112).

“الشرير يتفكّر ضد الصديق ويُحرق عليه أسنانه”  (مز12:37).

* هذه العبارة تجسّدت فى مشهد رجم استفانوس، هذا ما عبّر عنه الوحى الإلهي فى وصفه لسلوك اليهود قبل لحظات من ارتكابهم لهذه الجريمة.. فيقول الكتاب:

“فلما سمعوا حنقوا بقلوبهم وصرّوا بأسنانهم عليه” (أع 54:7).

5- تعبيرات الوجه مرآة الشخصية

إذا كانت تعبيرات الوجه ولغة العيون هى المِرآة العاكسة للمشاعر والانفعالات الداخلية، فإنها تتجاوز ذلك في كثير من الأحيان لتكشف المزيد من جوانب الشخصية وطباعها..

فلا عجب إذا توسَّم البعض في شخص ما أنه “وديع” من خلال تعبيرات وجهه أو نظراته، فالإنسان الوديع  “عيناه كالحمام”  (نش12:5) .

أو يتوسَّمون فى آخَر كونه “مُحبًا”.. ومن ينسى تلك النظرة المملؤة حُبًّا وحُنّواً فى قصة الشاب الغني الذي تقابل مع الرب يسوع؟.. لا شك أنها لم تكن نظرة عادية ومن غير الممكن أن تصدر عن شخص غير مُحب بطبيعته..

هذه الآية بالذات تحتاج مِنّا لوقفة تأمُّل..

“فنظر إليه يسوع وأحبّه” (مر21:10).

الشاب الغنيّ في هذه القصة يُمثل كلّ واحدٍ مِنّا بما له من ارتباطات أرضية ومشغوليات دنيوية جعلته ينصرف عن الاهتمام بخلاصه، ومع ذلك فهو موضوع محبة الله ومحور اهتمامه.

فالعِبرة إذن ليست في كون الآخر يستحق هذه النظرة أم لا، فالأمر إنّما يتوقّف على طبيعة العين التى تنظر هل هي عين مُحبة أم لا؟!

نفس النظرة نلمحها فى عيني يوسف عند لقائه بنيامين أخيه، إمتلأت عينا يوسف بالحبّ حتى فاضت بالدموع..

“فرفع (يوسف) عينيه ونظر بنيامين أخاه ابن أمه.. ثم قال الله يُنعم عليك يا ابني، واستعجل يوسف لأن أحشاءه حنت إلي أخيه.. فدخل المخدع وبكي هناك”  (تك 30,29:43).

وكما أن هناك عيون وديعة وأخرى مُحبة، هناك أيضاً “عيون مُتعالية”  (أم7:6)

الإنسان المتكبر حتى نظراته لا تخلو من التعالي.. نظرات فوقية فيها الكثير من التفخيم والتضخيم للذات على حساب الآخرين، مما يدفعهم إلى تحاشيه حفظاً لكرامتهم، فتنحل روابط الحب والتآخي ويسقط ذلك الإنسان في عزلة، ويصبح هو نفسه محل إزدراء الآخرين!

وعيون أخرى تعكس نظرتها “الكذب” الذى يحترفه البعض للمراوغة وخداع الآخرين، لكن الإنسان الكاذب تفضحه نظراته وإن حاول أن يخفي حقيقته..

“الرجل اللئيم الرجل الأثيم يسعى باعوجاج الفم، يغمِز بعينيه يقول برجله يشير بأصابعه، فى قلبه أكاذيب.. من يغمض عينيه ليفكر فى الأكاذيب، ومن يعضّ شفتيه فقد أكمل شرًّا” (أم 6: 13، 14 / 30:16).

نوع آخر من التعبيرات المرفوضة التى تظهر في عيون البعض فتعكس تغربهم عن عمل نعمة الله، وسعيهم لتحقيق شهواتهم الخاصة..

هذه النوعية يجوز لنا ان نسميها بــ “عيون وقحة”، أو كما دعاها السيد المسيح نفسه “عيون شريرة” (مت23:6) .

أبرز الأمثلة التى يمكن أن تستدل منها على هذه النوعية ما جاء في (تك7,6:39):

“وكان يوسف حَسَن الصورة وحَسَن المنظر، وحدث بعد هذه الأمور أنّ إمرأة سيده رفعت عينيها إلي يوسف وقالت إضطجع معي”

تعبير “رفعت عينيها إليه” هو تعبير مُهذب جدًّا استخدمه الوحي الإلهي، لكنه فى الوقت نفسه يشير إلى حالة الإنحراف الداخلي والالتهاب بالشهوة الذي انعكس فى نظراتها له..

لكن التعبير الأكثر صراحة إستخدمه الوحي الإلهي على لسان سليمان الحكيم فى وصفه لسلوك مُشابه، فيقول عن المرأة أنها “أوقحت وجهها” (أم13:7)، تلك النظرة الشهوانية هى التي أشار إليها السيد المسيح فى  (مت 5: 28).

وكما نرفض نظرة التعالي وندينها، ونستنكر النظرة الشهوانية ونشمئز منها، نرفض أيضاً نظرات الاحتقار والاستهزاء التي تؤذي مشاعر الودعاء وتُخجلهم.

مـن بيـن الآلام التى تحملها السـيد المسيـح تلك الآلام النفـســية الـرهـيبــــة النـاجـمة عــن نـظـرات الازدراء والاحتقار..

نبوات كثيرة أشارت إلى تََعُّرض السيد المسيح لهذا الأمر، ومنها:

“لأني من أجلك احتملت العار، غطى الخجل وجهي”  (مز7:69)

وأيضًا: “وأنا صرت عاراً عندهم، ينظرون إليَّ وينغضون رؤوسهم”  (مز25:109).

وما رآه إشعياء بعين النبوة :

“مُحتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومُختبر الحزن، وكمُسَتَّرٍ عنه وجوهنا مُحتقر فلم نعتد به”  (إش 3:53)

عندما نتأمل فى كل هذه النبوات نُدرك الآثار النفسية العنيفة التي يتعرض لها إنسان يعاني من نظرات الإحتقار والإزدراء من قِبل الآخرين، أقلّ ما يُقال أن هذا التعبيرات القاسية تصبح سبب حزن ومرارة.. وهذا ما أعلنه الوحي الإلهي في سفر الأمثال:

“من يغمز بالعين يسبب حزناً”   (أم10:10).

أما العين المستهزئة فلا تفلت من العقاب..

“العين المستهزئة.. تقوّرها غربان الوادي وتأكلها فراخ النسر”    (أم17:30)

نظرة أخرى لا تختلف كثيراً عن نظرة الإحتقار والإزدراء، سواء من حيث تأثيرها السلبي على الآخرين أو من حيث اعتبارها سلوكاً شاذاً وغير أخلاقي، وهي “نظرة الشماتة”..

نظرات الشماتة كانت أيضاً جزءاً من الآلام النفسية الرهيبة التي إحتملها السيد المسيح أثناء المحاكمات وفي مواجهة الجنود والعامة وفي طريقه للجلجثة، وحتى وهو مُعلَّق على الصليب..

هذا ما عبَّر عنه الوحي الإلهي على لسان داود:

“اليوم كله خجلي أمامي وخزي وجهي قد غطاني من صوت المُعيَّر والشاتم، من وجه عدوٍ ومنتقم”   (مز16,15:44)

6- تعبيرات الوجه تُظهر الميول الداخلية

وكما تعكس لغة العيون وتعبيرات الوجه المشاعر والانفعالات الداخلية، وتكشف بعض جوانب الشخصية وطباعها على النحو الذي استوضحناه، فإنها كذلك تُظهر ما بداخل القلب من اشتياقات وتكشف نياته ومقاصده.

ولعلّ من أشهر الأمثلة تلك النظرة التى ظهرت في عينى إمرأة لوط عند خروجها من سدوم..

“ونظرت إمرأته من ورائه فصارت عمود ملح” (تك26:19).

كانت نظرة واحدة فقط تكفي لتُعلن عن إرتباطها بأرض سدوم -أرض الخطية- وتفضيلها للموت فى سدوم عن الحياة مع الله بعيدًا عن الغِنى واللذة الوقتيّة.

نفس هذه النظرة يمكن أن نلمحها فى أعين إخوة يوسف عند خروجهم من أرض كنعان ومجيئهم إلى مصر، لولا أن فرعون نفسه طمأنهم قائلاً:

“لا تحزن عيونكم على أثاثكم لأن خيرات جميع أرض مصر لكم”

(تك20:45).

على العكس تمامًا كانت نظرات السيد المسيح نحو أورشليم تُعبِّر عن حُبّه الجارف، حب العطاء والبذل الذي لا يتراجع أمام التضحيات..

“وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكي عليها”  (لو41:19).

كانت نظرات السيد المسيح لا تعكس محبته للمدينة المقدسة فحسب لكن أيضاً الإصرار على المبدأ ووضوح الهدف، هذا واضح من قول الكتاب:

وحين تمّت الأيام لارتفاعه ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم” (لو 51:9).

الذي يحدَّد لنفسه أهدافاً واضحة تصبح وجهته معلومة، فلا يلتفت يميناً أو يساراً.. هكذا الذين يضعون السماء هدفاً لهم تجدهم شاخصين إليها بإستمرار.. أنظر (أع 10: 1)  و(أع 55:7).

والسؤال الآن، هل بمقدور الإنسان أن يتحكّم ي تعبيراته ونظراته لتصبح إيجابية وتساعده على التواصل مع الآخرين بعيدًا عن الزيف والافتعال؟!

الواقع أن ذلك يمكن جدًّا تحقيقه، لكن من خلال تغيير حقيقي يمس القلب من الداخل..عندما تصبح مشاعرنا إيجابية تجاه الآخرين وأفكارنا منفتحة من نحوهم، فننبذ التعصب والكراهية وروح الحسد والإدانة والشماتة فى الآخرين.

إذن التغيير الحقيقي لابد وأن ينبع من الداخل، وهذا التغيير – بالضرورة- ستكون له انعكاساته الخارجية التي تظهر فى تعبيرات الوجه ونظرات العينين..

هذه حقيقة ألمح إليها بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية، فقال:

“تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم”   (رو2:12)

أمّا سليمان الحكيم فيقدّم نصيحته في سفر الأمثال قائلاً:

“انزع عنك التواء الفم وأبعد عنك انحراف الشفتين، لتنظر عيناك إلى قدامك وأجفانك إلى قدامك مستقيماً” (أم25,24:4).

وختاماً _عزيزي القارئ_أرجو أن تكون قد وجدتَ بين دفتي هذا البحث المتواضع بعض الفائدة لحياتك الروحية.. كما أرجو أن تكون اللحظة التى تنتهي فيها من هذه السطور، بداية لنهج جديد تسلك به فى حياتك، فيلمس كل إنسان فى ملامحك ونظراتك صِدقًا وهدوءًا يعكس سلامك الداخلى وصورة الله التي فيك.

وأثق أن كلمات الوحي الإلهي التى زخر بها هذا البحث المتواضع قد أضفت عليه قيمة، وستكون سبيلك لتحقيق هذه الغاية.

إلهي أسأل أن يتعهّد هذه البذرة لتنمو وتزهر وتأتي بثمار، بعض مئة وبعض ستين وبعض ثلاثين..

ولإلهنا المجد الدائم في كنيسته المقدسة. أمين

تأمُل

فى كل ما حولى أراك.. فى شمسك البديعة.. فى قمرك الخلاب.. فى فلك سماك.. فى حلاوة نجومك التى ليس لها عدد، فى كثرتها وجمالها وبريقها.. فى ورودك التى تتحدث عن روعة إبداعك.. فى إبداعك الذى يعطى لكل مِنا ما يناسبه من صفات .. أرى نورك .. أراك ..  أراك سيدى ، وجهًا لوجه

[1] كان المفهوم الراسخ في العقلية اليهودية أن رؤية الله معناها الموت الأكيد (قض 22:13،23 ).