العذراء مريم قديسة المصريين – الأستاذ أشرف أيوب معوض

كارت التعريف بالمقال


العذراء مريم قديسة المصريين

أشرف أيوب معوض.

العذراء مريم قديسة المصريين - الأستاذ أشرف أيوب معوض 8
.

يحتفل المسيحيون المصريون هذه الأيام بـ «صوم القديسة العذراء مريم» لخمسة عشر يوما، تبدأ في السابع من أغسطس وتنتهي 22 من الشهر الحالى، ويلقبها المسيحيون بـ «أم النور» و«أم المُخِّلص» وعديد من الألقاب ذات الدلالات العميقة لمكانتها لديهم.

وفي الكتاب المقدس بشارة الملاك للعذراء بميلاد السيد المسيح: «السلام لك أيتها الممتلئة نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء». فتقول مريم عندئذ: «لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَي اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَ ذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي». وتحوز «القديسة العذراء مريم» مكانة رفيعة في قلوب المصريين عموما، أقباطا ومسلمين، فالجميع يكرمها، وفي القرآن الكريم سورة كاملة اسمها «مريم»، وفي سورة «آل عمران» يقول القرآن الكريم: « وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَي نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»، ولفرط حُب المصريين لـ «مريم» يطلقون اسمها علي بناتهم، تبركا وتفاؤلاً بها، وأخذوا مشتقات اسمها عن اللغات الأجنبية ايضا، ويعشقون صورتها، وهي تحمل «الطفل يسوع» بحنو الأم، واختلطت هذه الصورة لدي المصريين بصورة «إيزيس» وهي تحمل ابنها «حورس» في العصور القديمة، ويرسم الفنانون العذراء مريم بملامح مصرية عادة. ويلجأ المسيحيون إلي العذراء عامة، وفي عيدها، طلبا للمعونة، وحل المشاكل، ولإشفاء مرضاهم، فهي الشفيعة المُكرَّمة عند المسيح، وينذرون لها النذور، ويقدمون العطايا، وينحرون الذبائح علي اسمها، وهي لا تتركهم حزاني، بل تسرع في نجدتهم، وتقبل طلباتهم، وتشفي أمراضهم، وتحل مشكلاتهم، وعندما يعجز البشر، فهي تقوم بالمعجزات، وكثيرا ما نسمع عن معجزات العذراء مع المسيحيين والمسلمين علي السواء، فهي تلبي لمن يعتقد فيها، وتمتلئ الكتب بمعجزات العذراء. ويحرص الأقباط علي «صوم العذراء» مع أنه من الدرجة الثانية، لأنه محبوب جدا لديهم، والبعض ينذر أسبوع صيام مقدما قبل الصيام الأساسي، فيصوم 21 يوما بدلا من 15، ويكون غذاء بعض الأقباط خلاله الخبز الناشف والملح، ويمتنع بعضهم عن أكل السمك، رغم التصريح بأكله، وبعضهم يأكل خبزا وعنبا فقط، ومعظم أقباط الصعيد يتناولون وجبة «شلولو» وهي «ملوخية ناشفة» وماء وملح وتوم وليمون، ولا يأكلونها إلا في صيام العذراء، ويتناقل البعض حكاية شفاهية عن هذه الوجبة، حيث أن العذراء أثناء «رحلة العائلة المقدسة» إلي مصر، لم تجد ما تأكله فأعطاها البعض قليلًا من الملوخية الناشفة، فوضعت عليها ماء وتناولتها، ويتندر البعض بأن «شلولو طبيخ الست علي الفرشة»، لسهولة إعدادها. وتصوم بعض النساء المسلمات صيام العذراء مريم، تبركا وحباً لها، وقديما كان الأقباط يعلقون صور العذراء علي واجهات منازلهم، وفي الشرفات، ويضعون أسفل الصورة مصباحا مضيئا، أو يثبتون حولها عقدا من النور، وفي التراث القبطي الشعبي يحتفظون دائما بصور القديسين، خاصة صور القديسة مريم، في حافظة نقودهم أو يعلقونها في سياراتهم، وجميع الأقباط يزينون منازلهم وغرفهم بصور العذراء مريم، للتبرك بها، وتتحلي النساء بأيقونات صغيرة من الذهب، كما توضع بجانب الأطفال حديثي الولادة كتميمة لحفظ المولود. وأتذكر هنا ما رأيته قبل سنوات قليلة في قرية «دير النغاميش» بمحافظة سوهاج، يوم احتفال بعيد العذراء، حيث تجمع أهل القرية وهم يحملون أيقونة كبيرة للقديسة، في موكب احتفالي بالترانيم والألحان عبر مكبرات الصوت، والمدهش أن حاملي الأيقونة دخلوا بها جميع بيوت القرية، حيث يستقبل الأهالي الأيقونة بالزغاريد، ويعلقون عقودا من الورد والعملات النقدية عليها، ويستمر الاحتفال من العاشرة صباحا إلي الغروب. وتباركت مصر أكثر من مرة بظهور العذراء علي قباب كنائسها، وأشهرها ظهورها في كنيستها بالزيتون عام ١٩٦٨، وكان أول من رآها أحد العمال المسلمين وقتها، ثم ما لبث أن تدافع المصريون كلهم لرؤية هذا الظهور العجيب، وتجلت فيه بصورة نورانية عظيمة وهي تبارك مصر كلها، وصاحب ظهورها حمام أبيض نوراني مختلف الأحجام. وكان ظهورها يستمر لعدة ساعات، ولعدة أيام، بما لا يدع مجالا للشك، وفي ظهورها هذا، رسالة من السماء للحب والسلام وطمأنينة الشعب، وأنشد الشعب أثناء ذلك الظهور بعض الترانيم: العدرا معانا في الزيتون جيانا فرحت قلوبنا بوجودها ويانا يا عدرا يا أم النور إملينا هنا وسرور ياللا إظهري ياللا طلي بنورك طلَّة والموالد كظاهرة شعبية تصاحب الاحتفال بأعياد القديسين، وهي ظاهرة معروفة عند المصريين القدماء، حيث كان يتم الاحتفال بالآلهة المصرية القديمة، وتقديم القرابين والنذور والأضاحي والتضرع إليها، واستمرت الظاهرة رغم اختلاف المعتقد، وفي كل بلد فيها كنيسة أو دير باسم العذراء يقام مولد للاحتفال بالقديسة. وكانت مصر قد تباركت بمجيء العائلة المقدسة «القديسة مريم والطفل يسوع ويوسف النجار» إليها، وتوجد آثار باقية إلي الآن تشهد بمجيء العائلة المقدسة وبمباركتها لأرض مصر، إذ شيدت في هذه الأماكن كنائس تحمل اسم القديسة مريم، يفد إليها العالم كله لنيل البركة، وتُلقَّب الكنائس والأديرة بأسماء القديسين، لكن أكثرها باسم العذراء، وطيلة الخمسة عشر يوما، فترة الصيام، تكون هناك خدمة روحية ووعظ وترانيم. حجر العائلة المقدسة ويذكر أنه حين وصلت العذراء إلي بلبيس، وجدت فيها مغارة بها حجران أحدهما عال والآخر منخفض، فصلت علي الحجر المنخفض ووضعت يدها علي الحجر العالي ورضعت ابنها، فنزلت نقطتان علي الحجر فجعلته يفور وأخذ يصفو حتي أصبح بلور زجاج، وظل هذا الحجر في بلبيس إلي أن جاء نابليون مع الحملة الفرنسية وأخذه لمتحف اللوفر في باريس وكتب عليه «حجر باريس أو حجر العائلة المقدسة». شجرة العذراء مريم توجد الآن في أقصي شمال القاهرة بالقرب من مسلة سنوسرت، وتعتبر شجرة مريم من الآثار القبطية المعروفة، وقد ذكرها المؤرخ الإسلامي المقريزي الذي عاش منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، أن «العائلة المقدسة حطَّت بالقرب من عين شمس ناحية المطرية وهناك استراحت بجوار عين ماء، وغسلت مريم فيها ثياب المسيح وصبَّت ماء الغسيل بتلك الأراضي، فأنبت الله نبات البلسان ولا يعرف بمكان من الأراضي إلا هناك، وكان يسقي من ماء بئر تُعظّمها النصاري وتقصدها وتغتسل بمائها وتستشفي به». وذكر أيضا «أنه كان يستخرج من البلسان المذكور عطر البلسم، ويعتبر من الهدايا الثمينة التي ترسل إلي الملوك، وظلت حديقة المطرية لعدة قرون مشهورة كأحد الأماكن المقدسة في الشرق، وكانت مزاراً مرموقا لكثير من السياح والحجاج من جهات العالم المختلفة، ولا تزال الكنيسة القبطية المصرية تحتفل بذكري دخول المسيح أرض مصر المباركة أول شهر يونيو من كل عام والشجرة التي أدركها الوهن سقطت عام 1656م، فقام جماعة من الكهنة بأخذ فرع من فروع هذه الشجرة وقاموا بزرعها بالكنيسة المجاورة المسماة بكنيسة الشجرة مريم ونمت الشجرة وتفرعت، وقبل فترة قريبة تم أخذ فرع من الشجرة وزراعته بجوار الشجرة الأصلية العتيقة وهي عامرة بالأوراق، وثمار الجميز الآن، ويذكر أن الناس يذهبون إلي هذه الشجرة للتبرك بها، ولدي بعض المسيحيين اعتقاد بأن هذه الشجرة تعالج النساء العواقر. وفي المطرية أيضا طلبت العذراء الخبز من أناس يخبزون فقالوا لها «امشي من هنا» فقالت: «لا يخمر لكم عجين»، وفي المطرية إلي الآن شارع «شق التعبان» لا يوجد به أفران ولا يخبز فيه أحد لأن العجين لا يختمر هناك. وفي المعادي ركبت العائلة المقدسة المعدية حتي وصلوا إلي «جبل الطير»، وكانت هناك ساحرة تضع سلسلة في النيل لتوقع المراكب الناس وعندما كان الطفل يسوع في المركب أخذت تُشعوِّذ ليسقط المركب بالطفل يسوع وأمه، لكن بلا فائدة، وتساءلت فقالوا لها إن هناك سيدة معها طفل إلهي يبطل كل سحر وكان هناك مركب بجوار الصخرة فاخذت الساحرة تشعوذ حتي تسقط هذه الصخرة علي المركب وهنا مالت الصخرة بالفعل فخاف الناس وفجأة أشار الطفل الذي لم يتجاوز عمره سنتين للصخرة بكفه فثبتت مكانها وهي مفصولة عن الجبل، وعند نزولهم وجدوا كف الطفل مطبوعا علي الصخرة. ويروي المقريزي أنه أثناء رحلة العائلة المقدسة لأرض مصر أنه بعد البدرشين بـ 40 ميلا خرج عليهم رجل زنجي فوجد بنت جميلة معها طفل وشيخ، فقام الزنجي بإزاحة العذراء مريم من علي الدابة فصاحت صارخة فيه «الرب يوقف نمو عقلك ويديك»، وفي الحال بدأت يدا الزنجي في الانكماش، وصارت مثل يدي طفل ابن يوم وأصيب بنوبة بكاء حادة طوال عمره، وبقي ثماني عشرة سنة يبكي ليلاً ونهاراً في تلك المنطقة الخالية من السكان، وكانت مصر وقتها تتحدث لغة مصرية قديمة، وكلمة «عيَّاط» فيها تعني «بكاء» بالعربية، وسمي ذلك الزنجي بـ «الرجل العيَّاط»، أي «كثير البكاء» وتساءل الناس عبر السنين: «ما حال العيَّاط؟! هل تحسن العياط؟! هل مات العياط؟! هل مررت علي العياط؟ »، واستقرت بعض القبائل حول العياط وبمرور الوقت أصبحت المنطقة تعرف بـ«العياط». العذراء في الغناء الشعبي وفي مولد العذراء يفتتح الفنان الشعبي إنشاده بطلب مساعدة المواليا، أي الذين ينشدون الموال، في مديحه القديسة مريم: يا موالي ساعدوني في مدح مريم دعوني وأنشد الأوزان مغرم في البتول نور العيون أسمعوا يا أهل فني وأعزلوا العزال عني حب مريم قد فتني لا يقولوا دا جنوني مدحك كالشهد واحلاً للعلا قد صار أعلا قيل جوهر قلت أغلا ما يعادله بنون وتعكس الأغاني مكانة القديسة مريم العذراء العالية لدي الفنان الشعبي الذي يذوب عشقاً، وينظم الأشعار لها ويغنيها علي المزمار والربابة.