أحسن ليلة فى مصر كما وصفها المسعودى.. – الأستاذ أشرف أيوب معوض

كارت التعريف بالمقال

أحسن ليلة فى مصر كما وصفها المسعودى.. «اللى ما ياكل قلقاس فى الغطاس يصبح من غير راس».

أشرف أيوب معوض.

أحسن ليلة فى مصر كما وصفها المسعودى.. - الأستاذ أشرف أيوب معوض 6
.

يحتفل الأقباط بعيد الغطاس يوم 11 طوبه الموافق 19 و20 يناير من كل عام، وهذا العيد هو تذكار المعمودية السيد المسيح على يد «يوحنا المعمدان» في نهر الأردن، وتقيم الكنيسة احتفالاً بهذه المناسبة فى ليلة العيد، حيث يُعد اللَّقّان بغسله جيداً ومَلئه بماء عذب، أو يوضع الماء في طبق كبير على مِنضدة وعن يمينه ويساره شمعتان. ثم تبدأ مراسم «صلاة اللَّقّان» أىْ »تبريك المياهب، يتبعها رش الحاضرين بالماء للبركة، ويُختتم بصلوات القداس الإلهىّ.

وذكر المؤرخون أن طقوس احتفال المسيحيِّين فى مِصر بعيد الغطاس كانت تقام على ضفاف النيل بحمل المشاعل، ثم يغطَّسون فى النهر بعد إتمام الصلوات وإلقاء الصليب المقدس فيه، ثم يعودون إلى الكنائس لإتمام بقية طقوس الاحتفال. واستقر إجراء طقس تقديس المياه فى عيد «الغطاس» داخل مبنى الكنيسة حيث تقام صلاة االلَّقّان» ليلة العيد. وذكر «المسعودي» أنه حضر سنة 930 م ليلة الغطاس بمصر، وكان «محمد بن طغج الأخشيدي» في داره المعروفة «بالمختارة» في الجزيرة، وقد أمر فأسرجت المشاعل على شاطئ الجزيرة ومصر، وفيه يخرج الناس إلى الشاطئ، وحضر هذا الاحتفال مائة ألف شخص من المسلمين والنصارى، بعضهم كان في النيل، وبعضهم في الدور أو على الشاطئ، وكلهم أتى بما يمكنه من المآكل والمشارب وآلات الذهب والفضة والجواهر. ووصفها «المسعودي» بأنها أحسن ليلة في مصر وأشملها سروراً ولا تغلق فيها الدروب ويغطس أكثرهم في النيل ويزعمون أن ذلك أمان من المرض والداء. ويقول «ابن المأمون»: «كان من رسوم الدولة أن يُفرَّق على سائر الدولة في ليلة الغطاس النارينج والليمون وأطنان القصب والسمك البوري برسوم مقررة لكل واحد من أرباب السيوف والأقلام». وقد أبطل هذا الحفل في عهد المماليك الشراكسة. ومن هنا نرى كيف أن التاريخ حفظ الفولكلور وسجَّله في ذاكرته ووجدان الأجيال وعاطفة الشعب، وبالمقابل صنع الفولكلور تاريخاً فأعطى للأحداث أبعادا شعبية، وضمن استمراريتها عبر الحكايات الشعبية والسير، والملاحم. وتجدر الإشارة إلى أن المصريين القدماء كان لديهم عيد يسمى «الانقلاب الشتوي» وكانوا يغطسون خلاله فى مياه النيل محتفلين بحرث الأرض ونثر البذور، وكان في ذات توقيت عيد الغطاس. ومن العادات الشعبية التي درج عليها الشعب في عيد الغطاس صناعة «فانوس الغطاس» من الخشب على هيئة صليب وفي جوانبه الأربعة توضع شموع مضيئة، وكانوا فى مدينة «أخميم» يضعون بدلا من الشموع خشب الصنوبر الذي يضيء وتفوح منه رائحة جميلة، ويطوف الأطفال بالفوانيس في الحواري والمنازل ويغنون: ليلتنا صيصة بقرتنا ولدت عجيلة وفي وشَّها نوَّارة تنور في كل حارة مسلمين ونصارى ومن العادات الطريفة أيضا في الغطاس، أن الأطفال كانوا يفرغون ثمرات «اليوسفي» من فصوصها عبر فتحة صغيرة، ويحافظون على قشرتها الخارجية سليمة ويضعون الشموع المضيئة بداخلها لتكون كالفانوس يُشعُّ ضوءا برتقاليا جميلا، ومع أعداد كبيرة منها في الشوارع تشيع البهجة في النفوس. وكذلك اعتاد الأقباط شراء القصب حيث يكون في عز موسمه، ويمصون أعواده باستمتاع كبير. وكان الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي قد تحدث عن ذكرياته في ليلة الغطاس بقريته «أبنود» بمحافظة قنا بقوله: كان كل أطفال القرية نصارى ومسلمين يرفعون صلبانهم المضيئة بالشموع والمغروسة فى أعواد القصب، تخيل نفسك تطل من فوق سطح البيت وترى الصلبان المضيئة تمر تحت دارك بالمئات، وأمهاتنا يرششن الفشار وقطع السكر والحمص ويزغردن، ويمر الموكب من درب إلى درب، بشموعه المتلألئة والزغاريد، ونحن نردد أغنية مهيبة لا نعرف معناها: يا بلابيصا بلبصى الجلبة يا على.. يا بنى جوم بنا بدرى دى السنة فاتت والمرا.. ماتت والجمل برطع كسر المدفع وحاول «الأبنودي» تفسير معاني الأغنية بأن السنة القديمة انقضت، وهى أشبه بامرأة ماتت، لتأتى بدلا منها سنة على هيئة فتاة شابة ستكبر بدورها وترحل مع بداية العام التالي. وكلمة بلابيص ومشتقاتها هنا تشير لتعرية المواليد الجُدد من الأقباط أثناء تعميدهم. وفي الأقصر وقنا كان الأطفال يخرجون إلى ضفاف النيل ويرددون بعض الأغاني الشعبية أشهرها: ليلتك يا بلابيصا ليلة هنا وزهور وفي ليلتك يا بلابيصا حنُّوا العصفور وفي الغطاس يتصدر القلقاس المائدة، ويقول المثل الشعبي «اللِّي ما ياكلش قلقاس فى الغطاس يصبح من غير راس»، وهذه ضمن اعتياد المصريين كلهم على تناول فواكه وخضار الموسم في احتفالهم بالأعياد. وهناك أمثال شعبية ترتبط بالغطاس ومنها: في الغطاس مصّ القصب وأكل قلقاس، ويغطس النصراني ويطلع البرد الحقاني، وتبين الأمثلة الشعبية مدى ارتباط الغطاس كعيد وتوقيت بالظروف الطبيعية والمناخية، والأهم هو ارتباط المسلم والمسيحي في طقس واحد، ومثل شعبي واحد، ووجدان متصل، وهذا يثبت أن التاريخ الحقيقي هو الذي ينتجه عامة الشعب، ويصوغه في فنونه الفطرية بحكمة وبراعة تفضل وعي النخبة في كثير من التجليات. واعتاد المسلمون مشاركة الأقباط منذ القدم الذهاب إلى نهر النيل، والغطس فيه احتفالاً بعماد السيد المسيح، ولاعتقادهم جميعاً أن الغطس في هذا اليوم يقيهم من الأمراض طوال العام، وكما ارتبطت الذكرى في فلسطين بالغطس في نهر الأردنّ، ارتبطت فى مِصر بمياه النيل، نبع الحياة للمصريين، وسر استقرارهم، ورمز التطهر والبركة ما يضفي على العيد الديني بُعداً وطنياً مبهجاً. ولم تكن الفوانيس المضيئة التي يدور بها الأطفال المصريون من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، سوى نور تاريخي يضئ حياتنا وقلوبنا جميعا، وليست الحارات فقط، وستبقى الأمثال والأغاني الشعبية تاجا لهذا العيد، وكل الأعياد التي وحدتها ثقافة الشعب بالسماحة المصرية.