التجريسة الشعبية ليهوذا فى أسبوع الآلام – الأستاذ أشرف أيوب معوض


التجريسة الشعبية ليهوذا فى أسبوع الآلام

أشرف أيوب معوض.

التجريسة الشعبية ليهوذا فى أسبوع الآلام - الأستاذ أشرف أيوب معوض 7
.

يحتفل المسيحيون كل عام بعيد القيامة (قيامة السيد المسيح من الأموات) بعد أن طالب اليهود بصلبه، وخيانة يهوذا للسيد المسيح وتسليمه لهم. ويسمى الأسبوع السابق لعيد القيامة بأسبوع الآلام، الذى يبدأ بـ «أحد السعف» وينتهى بـ «أحد القيامة»، وللكنيسة طقس فى هذا الأسبوع، حيث يتذكر المسيحيون الآلام التى لاقاها السيد المسيح، ويتعايشون مع أحداثها يوماً بيوم، وسُمّى بأسبوع الآلام منذ حوالى 1600سنة، وقبل هذا التاريخ كان يسمى «الأسبوع العظيم». وترجع احتفالية دراما يهوذا إلى حادثة خيانة يهوذا للسيد المسيح وتسليمه لليهود ليصلبوه، كما هو معروف فى الدين المسيحى، ويهوذا هو أحد تلاميذ المسيح الإثنى عشر................................................... هذا الحدث الإنجيلى التاريخى عاش وما زال فى وجدان الجماعة الشعبية القبطية، حتى إن اسم يهوذا ارتبط فى ذهنها بالخيانة، فصارت تقول (يهوذا الخائن) وعاش الاسم فى الذاكرة الشعبية حتى الآن حيث يمكن أن يصفوا به بعض الأشخاص الخائنين. وكما يوجد طقس داخل الكنيسة فى أسبوع الآلام لتذكر خيانة يهوذا، يوجد احتفال شعبى خارج الكنيسة، حيث كانوا يختارون شخصاً من أفراد الجماعة الشعبية ليقوم بدور يهوذا أو صنع دُمية تُمثله ويتم زفّه، وسبّه، وضربه، ويطوفون به القرية لتجريسه. طقس يهوذا داخل الكنيسة تبدأ الكنيسة استعدادها للاحتفال بعيد القيامة وتسبقه بأسبوع يسمى أسبوع الآلام، حيث تتذكر أحداث صلب المسيح يوماً بيوم وفى يوم الخميس الذى يسمى خميس العهد الذى يتم فيه قراءة فصول من الكتاب المقدس الخاصة بهذا اليوم، يقوم الكاهن والشمامسة بعمل زفة يهوذا، حيث يطوفون الكنيسة من اليسار إلى اليمين على عكس ما هو متبع فى الأيام العادية وهم يرددون لحن يهوذا (لحن حزايني): «يا يهوذا يا مخالف الناموس، بالفضة بعت سيدك المسيح لليهود مخالفى الناموس.. يوادس يا يهوذا». وصف الاحتفالية الشعبية فى عدة قرى (محافظة سوهاج): وبعد أن يتم هذا الطقس داخل الكنيسة أو أثنائه، يأتى دور الجماعة الشعبية والوجدان الشعبى الذى يعايش هذا الحدث بل ويستدعيه من ذاكرته ويجدد صراعه مع هذه الشخصية فى صورة احتفالية شعبية يغمرها كثير من مشاعر السخرية والغضب والسخط على يهوذا الخائن الذى أسلم سيده المسيح لليهود. فى خمسينيات القرن الماضى نرى البعض فى «أخميم» يأتون برجل فقير الحال أو مهمل غالباً من قبل الجماعة الشعبية، ليقوم بدور يهوذا ويلبسونه ملابس قديمة ممزقة تليق به، حيث يزفونه بداية من فناء الكنيسة ويخرجونه إلى الحارة المجاورة حيث يقوم الشباب والأطفال والرجال بسبه، ولعنه، وقد يصل الأمر إلى حد ضربه فى صورة تمثيلية، ويمسكون قطع الشقف (الجِرَار المحطمة) ويطرقونها ببعضها أو يطرقونها فوق قطع من الصفيح وهم يصيحون على يهوذا الذى ارتضى بهذا الدور أو لم يرض. (يوادس..... يوادس (يهوذا) متعوس موكوس من دون الناس باع سيده بتلاتين من الفضة صاروا نحاس) وفى قرية «أولاد على» يرفض أفراد الشعب القيام بدور يهوذا؛ لأن اسم يهوذا سوف يلصق بهم حتى بعد انتهاء التمثيلية، لذا يقوم بهذا الدور شخص ما، يعيش بصفة دائمة فى الكنيسة، مرغماً وهو القرابنى الذى يصنع قربان الكنيسة حيث يأتون به، ويلفه الأفراد بستر من أستار الكنيسة ويجعلونه يحمل فوق كتفه أو على ظهره صُرّة من القماش، وتمثل الثلاثين فضة (المبلغ الذى استلمه يهوذا مقابل تسليمه للسيد المسيح) ويسيرون به فى فناء الكنيسة وهم يزفونه على أنه خائن للمسيح. يا يهوذا يا يهوذا....... يا خائن المسيح يا يهوذا يا يهوذا........ يا خائن الناموس ويضربه الأطفال بالحصى الصغيرة، ويستهزئ به، ويلعنه الجميع، وتستمر الزفّة إلى نهاية اليوم، وتلحقه اللعنات وخيانة يهوذا. وفى قرية «إدفا» كانوا يأتون بأحد الأفراد، غالباً ما يكون طيباً ليقوم بدور يهوذا، ويرتدى ملابس تليق بيهوذا، ويتم اختياره ليلة الأربعاء ليكون جاهزاً يوم الخميس الذى تجرى فيه تمثيلية يهوذا فى فناء الكنيسة ويزفونه، ويستهزئون به، ويمثلون أنهم يضربونه وهم يصيحون. يا ما خاين يا يهوذا..... يا ما خاين يا يهوذا بعت سيدك بالمال..... والمال ده كله فان ثم جاء وقت رفضت فيه الجماعة الشعبية فى القرية القيام بدور يهوذا لخوفهم من أن تلاحقهم اللعنات ووصمة الخيانة، لكن لحبهم أداء هذه الدراما استعاضوا عن الشخص بدمية يصنعونها من الجريد ويلبسونها جلباباً أشبه بخيال المآتة، ويلقون به فى فناء الكنيسة وهم يلعنون ويسبونه كما كانوا يفعلون سابقا. وفى قرية «الكُشح» يتطوع أحد أفراد الشعب للقيام بدور يهوذا كل عام، وتعد له الجماعة الشعبية عقداً من أغطية زجاجات الكوكاكولا، ويكون عددها ثلاثين غطاء (دلالة على الثلاثين فضة الثمن الذى تقاضاه يهوذا مقابل تسليم السيد المسيح لليهود ليصلبوه) ويعلقونه فى صدره، كأنه وشاح العار والخزى، وحين يمشى وسط الناس تشخلل أغطية الكوكاكولا، فتكون أشبه بجُرسة ليهوذا، ويزفه الصغار والكبار ويمثلون ضربه، ويهتفون عليه بأنه خائن المسيح فى فناء الكنيسة أو فى حارتها. أما فى قرية «فرشوط» (قنا) فيحكى أحد الإخباريين: فى الثلاثينيات من القرن الماضى حيث كانوا يأتون بـبلاص، جرة ويرسمون عليها وجه إنسان ويكتبون أسفله يهوذا، ويقصدون بذلك الإشارة إلى وجه يهوذا، ويطوفون القرية كلها بزفة التجريس للجرة أى ليهوذا، وبعد ذلك يأتون أمام باب الكنيسة ويكسرونها وكأنهم بهذا كسروا يهوذا وأماتوه. وفى قرية «كفر عبده» فى المنوفية تقوم الجماعة الشعبية بعمل دمية على هيئة إنسان، تمثل شخص يهوذا ويتم ذلك بإحضار «أفرول» وهو الزى الخاص لعمال المصانع، يتم حشوه بقش السعف المتبقى من احتفال أحد السعف، لعمل دمية يهوذا وبعد إتمام حشو الدمية يتم حياكة البنطلون من أسفل الأرجل وكذلك أذرع الأفرول، وعند الرقبة يأتون برأس من خشب يتم تشكيلها لتمثل وجه يهوذا، ثم يغرسونها فى رقبة الدمية وبعد ذلك يأتون بحمار ويركبون الدمية فوقه ويسيرون فى القرية كلها وهم يزفون الدمية (يهوذا) بالصياح والسب والضرب بالعصى، وتعلو الهتافات التى تندد بيهوذا وبخيانته، وما أشبه ذلك بمواكب الجُرسة فى العصر المملوكى، حيث كان يتم التشهير بالمتهمين وتجريسهم فى مواكب مثل هذه ويعلق أحد الإخباريين بما رآه قديماً فى الأربعينيات من القرن الماضي: أن المسيحيين والمسلمين كانوا يشتركون معاً فى زفه يهوذا الخائن، وبعد ذلك يعودون إلى فناء الكنيسة ويحرقون الدمية. ونجد أن هذه الدراما تعبر عن الوجدان الشعبى لدى الأقباط ونبذهم ليهوذا ونبذهم لكل رموز الخيانة فى المجتمع، والأقباط جزء من المجتمع المصرى الذى ينبذ الخيانة ورموزها لذا فهى تعبير عن الوجدان الشعبى المصرى ككل، مجهولة المبدع غير مدونة وإنما محفوظة فى الصدور متوارثة جيلاً بعد جيل عبر المشافهة. وهذه الدراما مستوحاة من العقيدة المسيحية المقروءة بصفه دائمة فى الكنيسة، وتعبر الطبقة الشعبية عن هذه الدراما بصورة فطرية، مرتجلة مستخدمة الكلمات وصور الغضب اليومية من سب وسخرية وضرب بالحصى فنجد أن هذا الاحتفال الشعبى يوازى الاحتفال الكنسى وإن كانت الكنيسة لا ترعاه بل سنجد فيما بعد أنها تمنعه ولكن الطبقة الشعبية تسعى بإبداعها أن تخلق لنفسها دراما خاصة تستمتع بها، وتعبر عن وجدانها بأدواتها الخاصة تنفيساً عن الكبت الذى تعانيه مثل هذه الطبقات. وظائف الاحتفالية: 1ـ وظيفة نفسية إن تجمهر الطبقة الشعبية وتجمعها لضرب وسب يهوذا ــــ حتى ولو بصورة تمثيلية ـــ هى محاولة لتنفيس الكبت الذى تعانيه الجماعة الذى له أسباب عديدة من ظلم وقهر وتهميش. وهذا التنفيس فى إطار شبه مشروع وارتباطه بالعقيدة من ناحية أخرى، يخفف التوترات النفسية لدى الجماعة الشعبية. والإسقاط حيلة لا شعورية تتلخص فى أن ينسب الشخص عيوبه ونقائصه ورغباته المكروهة ومخاوفه المكبوتة إلى غيره من الناس والأشياء، تنزيها لنفسه وتخففاً عما يشعر به من القلق والخجل أو النقص أو الذنب، ويأخذ الإسقاط هنا فى هذه الدراما صورتين: الأولى كره الطبقة الشعبية لبعض الرموز ودلالاتها كالقهر والظلم والتهميش والفقر. وفى كرهها هذا تحاول أن تسقطها فى صورة يهوذا والنيل منه. والثانية أن تنسب الطبقة الشعبية عيوبها ورغباتها ومخاوفها بل وخياناتها إلى شخصية يهوذا، ويؤدى الإسقاط إلى تخفيف الطبقة الشعبية مشاعرها ودوافعها البغيضة وتسقط رؤيته عليه فى الواقع ويجعلها فى حل من نقد الناس والمبادرة إلى لوم يهوذا قبل أن يلومهم. 2ـ وظيفة الإمتاع: تحقق الاحتفالية وظيفة الإمتاع والتسلية من خلال صنع (خيال المآتة) والدمية والرسم على الجرة والأغانى التى تردد، والموسيقى المصاحبة، وإلباس يهوذا ملابس متعددة وسبه بصورة تمثيلية, كمؤدين ومتفرجين وهى الصورة التى من خلالها تتحقق المتعة كأحد وظائف الفنون الشعبية. وهناك ملاحظة ينبغى أن توضع فى الاعتبار. وبالرغم من أن الاحتفال مستمد من العقيدة المسيحية ويحتفل به المسيحيون إلى أننا نرى فى بعض القرى زفة يهوذا كان يتجمع المسيحيون والمسلمون معاً ويطوفون بيهوذا ويُجرسونه ويقومون بإعداد الدمية وحرقها ليوضح ذلك مدى ترابط فئات الطبقة الشعبية فى احتفالاتها وكذلك أفراحها وأحزانها.